“طريقة اختيار القضاة يجب أن يكون لها هدف وحيد هو أن يكون للدولة قضاء مكون من قضاة كُفء ومستقلين“.
في 2-6-2021، أعلن مجلس الهيئات القضائية برئاسة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السّيسي عن بدء تعيين النساء في مجلس الدولة والنيابة العامة بدايةً من العام القضائي القادم (أكتوبر 2021)، وذلك ضمن حزمة قرارات أخرى متعلّقة بالتنظيم القضائي الداخلي. ويُعدّ هذا الخبر خطوةً مهمةً في سبيل تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في اعتلاء منصة القضاء بعد عقود من التمييز ضد المرأة، ويكلل عمل كل النساء الذين حاربوا في سبيل ذلك، منذ عائشة راتب، بالنجاح. وكانت المفكرة تابعت هذه القضية الهامة على مدار السنوات الماضية بنشر عدة مقالات تغطي إشكاليات القضية وتطورها.
ومع التأكيد على أهمية هذا القرار، وكونه خطوة في الاتجاه الصحيح، تشير المفكرة هنا إلى عدة أمور يجب التنبّه إليها فيه.
وقبل المضي في ذلك، يجدر التذكير بأن المجلس الأعلى للهيئات القضائيّة هو مجلس أنشأه الرئيس الأسبق حسني مبارك في 2008 ويتكوّن من رؤساء الهيئات القضائية ووزير العدل ورئيس الجمهورية الذي يرأسه. وقد توقّف عمله بعد اعتراضات القضاة عليه خاصة الجمعية العمومية لنادي القضاة له، واعتبارها بأنه “يفرغ استقلالية القضاء من مضمونها”. في 2018، قرر الرئيس السيسي إعادة إحياء هذا المجلس برئاسته.
لماذا قرار من المجلس الأعلى للهيئات القضائية؟
منذ إصدار دستور 2014 والذي التزمت بموجب مادته 11 بشكل صريح “بتحقيق المساواة بين المرأة والرجل، وكفالة حق المرأة في تولي الوظائف القضائية”، أصبحت هذه القضية مثار جدل واسع في الأوساط القضائية والقانونية. فقد ظلّ مجلس القضاء الأعلى كما مجلس الدولة متمسكين رغم النص الدستوري الواضح برفض تعيين النساء، فكانت إعلانات التقديم تقصره بشكل واضح على الرجال من جهة. ومن جهة أخرى، ظل مجلس الدولة يصدر أحكاما تتمسك بحق المجلس الخاص وحده بتغيير سياسة التعيين تحت مسمى “استقلال القضاء”. وفي 8 مارس الماضي، تزامناً مع يوم المرأة العالمي، أصدر الرئيس السيسي بياناً حثّ فيه النيابة العامة ومجلس الدولة الاستعانة بالنساء في تعييناتها. لحقه بيانٌ من مجلس الدولة أقرّ فيه بالاستعانة بالنساء من خلال تعيين ونقل نساء يشغلن مناصب قضائية في هيئات قضائية أخرى (مثل النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة).
ثم اختتمت الرئاسة هذه السلسلة من البيانات حول القضية من خلال البيان الصادر حول قرارات المجلس الأعلى للهيئات القضائية موضوع هذا التعليق.
وهنا نشير أنه منذ عهد مبارك، ظل تعيين النساء في القضاء في يد السلطة التنفيذية، أي أن النساء اللاتي تم تعيينهن سابقاً على المنصة تم تعيينهن بناءً على قرارات جمهورية بنقلهن من هيئات قضائية أخرى، ومع تحفظ القضاء وتمسكه بعدم إقرار المساواة بشكل صريح من أول خطوة في التعيين، حتى بعد النص الدستوري، تم ترسيخ فكرة أن حل مشكلة تعيين النساء في القضاء لن تمرّ إلا عبر رئاسة الجمهورية.
وصدور القرار من المجلس الأعلى للهيئات القضائية، برئاسة رئيس الجمهورية وبعد البيانات والتصريحات الأخيرة الصادرة عنه، تؤكد على أن هذا القرار تمّ بناءً على ضغط من مؤسسة الرئاسة، وهو الأمر الذي يحسب على المؤسسة القضائية التي ظلت رافضة لتطبيق الدستور، ومتمسكة بمفهومها الخاص عن استقلال القضاء دون الالتفات إلى المفهوم الحقيقيّ لهذا الاستقلال وعلاقة التعيينات به، حتى أتى القرار “من فوق”.
تعيين النساء كمكوّن من مكونات استقلال القضاء
كما أشرنا في بداية المقال، طريقة اختيار القضاة متعلقة تعلقا وثيقا باستقلاله. فاستقلال القضاء لا يعني حالياً “استقلاله عن السلطة التنفيذية”، أو “عدم تدخل السلطة التنفيذية في شؤونه”. فالعلاقة بين السلطتين تخضع لمعايير الاستقلال المنصوص عليها في عدد من الاتفاقات والإعلانات الدولية والإقليمية. ولكن يتخطى مفهوم الاستقلالية هذا الأمر ليتضمن عدة ركائز في مقدمتها آلية اختيار القضاة.
طريقة اختيار/ تعيين القضاة تعكس الكثير حول عمل هذه المؤسسة، استقلالها وحيادتيها. بالتالي، لابد أن تخضع التعيينات لمعايير عدة منها أن تكون واضحة تتسم بالشفافية والموضوعية، وألا تقوم على التمييز (سواء بناءً على الجنس، اللون، المستوى الاجتماعي…الخ). إذاً، تتعلق مسألة إنهاء التمييز ضد النساء في صلب القضية الأكبر “استقلال القضاء”.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن القرار الصادر لم يتطرق إلى آليات تعيين النساء. فهل سيكفل لهن التقديم إلى الوظائف القضائية ويتم اختيارهن على أساس كفاءتهن؟ أم سيتم الاستعانة بالنساء المعينات بالهيئات القضائية الأخرى، كما خطط مجلس الدولة في بيانه الأخير، الذي أشرنا إليه؟ هل ستحدّد نسبة تعيينات نسائية كل سنة كنوع من التمييز الإيجابي؟
إجابات هذه الأسئلة التي لم يشِرْ إليها القرار من قريب أو بعيد قادرة أن تفرغ القرار من مضمونه تماما، أو أن تكرس الحق الدستوري.
لكيلا نعيد إنتاج التمييز بصور مختلفة: ضرورة إقرار آلية عادلة للتعيين في القضاء
كما أشرنا فتعيين النساء هو جزء من معايير استقلال السلطة القضائية، ويتعلق بمعيار آلية التعيين.
وهنا يجدر التذكير أن القضاء المصري يعاني منذ سنوات طويلة مما يطلق عليه “التوريث“، فالتعيينات القضائية تقتصر نسبة كبيرة منها على تعيين أبناء وأقارب القضاة، كما يتم التمييز بشكل واضح ضد المتقدمين من مستوى اجتماعي “متدني”، أو على أساس عمل الآباء، أو على أساس آرائهم السياسية…الخ. وهنا نشير أن هذا الأمر ينطبق على النساء اللاتي تم تعيينهن في القضاء سابقاً. فنسبة كبيرة منهن أقارب لقضاة أو يتمتعن بنفس المعايير الاجتماعية الأخرى التي يتم بها اختيار أقرانهن من الرجال.
كما نذكر أنه لا يوجد مسابقة حقيقية للتعيين في النيابة العامة على سبيل المثال (باب الدخول إلى القضاء العادي). فالاكتفاء بالدرجات التي حصل عليه المتقدم في ليسانس الحقوق، مع مقابلة مع أعضاء مجلس القضاء الأعلى والتحريات الأمنية، لا يمكن أن يطلق عليها بأي حال من الأحول مسابقة عادلة تضمن كفاءة الأشخاص الذين يقع عليهم الاختيار.
وقد تعالت الأصوات، منها صوت المفكرة القانونية، خلال السنوات الأخيرة مطالبة بإقرار آلية تعيين واضحة تكفل المساواة، وتضمن كفاءة القضاة واستقلالهم. ولكن حارب القضاة حتى الآن مشاريع القوانين التي تم تقديمها بعد الثورة لتعديل قانون السلطة القضائية ولإنشاء أكاديمية القضاء.
وفي ظل غياب آلية عادلة واضحة تحقق العدالة والمساواة بين المتقدّمين، و(وهذا لا يقل أهمية) تكفل للمواطن قضاة أكفاء، يتمتعون بالاستقلالية والحيادية، للنظر في قضاياه، يصبح التمييز قائما وبقوة في تعيينات القضاء المصري، رغم إقرار تعيين النساء.
فتعيين النساء ليس هدفا أو غاية في حد ذاته، ولكنه مكون من مكونات آلية تعيين قائمة على المساواة، وخطوة في هذا الاتجاه، وهي خطوة لا بدّ أن تكتمل بإقرار آلية واضحة وعادلة وشفافة في سبيل تحقيق استقلال القضاء بمعناه الحقيقي، والذي يعد بدوره حجر أساس في عدالة المحاكمة وحسن سير العدالة. ففي النهاية، استقلال القضاء ليس حقّا للقضاة أو ميزة يتمتعون بها، ولكنه حق للمتقاضي.