بعد أن قدّمنا في الأجزاء السابقة من هذه السلسلة[1] فئات ملكيات الأراضي في لبنان مع تحوّل معانيها منذصدور قانونالأراضيالعثماني (1858) مروراً بإدارةالانتدابالفرنسيّ للملكيات وكيفيّة تدوينهاوترسيمها على الأرض بشكل عقارات، نفصّل في هذا الجزء تبعات تراكم تفسيرات المعاني القانونية والتدابير الإدارية لفئة ال”متروك مرفق” تحديداً، ونستكمل العرض بما يخصّ فئة “الأميري” في الجزء المقبل.
التعريف الأساس للأراضي المتروكة المرفقة حسب المشرّع العثماني هو أنّها أراضٍ تُركت وخُصِّصت لعموم أهالي قرية أو عدّة قرى (متروكة مخصّصة) خلافاً للأراضي المتروكة لعموم الناس والتي أصبح اسمها “متروكة محمية”. كنا قد عرضنا كيف ربط القانون العثماني نوع الحق على الأرض المتروكة باستعمالاتها دون ترسيمها، وضمّت الأحراج والغابات والبيادر والمراعي مع تنظيم حقوق التصرّف والانتفاع لأهالي القرى المحدّدة، على أن تكون رقبة هذه الأراضي للدولة. حدّد القانون العثماني أيضاً أن الأراضي المتروكة “لا تؤخذ ولا تباع” و “لا اعتبار لمرور الزمان عليها في الدعاوي” كما مَنَع تصرّف الأفراد بقسم منها لغايات خاصّة. عرّف قانون الملكية العقارية الحالي 3339/1930 في المادة السابعة، العقارات المتروكة المرفقة على أنّها “العقارات التي تخصّ الدولة ويكون عليها لإحدى الجماعات حقّ استعمال محدّدة ميزاته ومداه بالعادات المحلية والأنظمة الإدارية”، مستبدلاً كلمة رقبة بكلمة “تخصّ” وعبّر عن حق التصرّف كحقّ استعمال.
زاد الطّين بلّة تعديل هذه المادّة عام 1971 حيث أصبحت هذه الأراضي تُعتبر “ملكًا خاصًّا للبلدية إذا كانت داخلة في نطاقها، ولسلطات البلدية أن تلغي أو تعدّل حقّ الاستعمال على بعض أقسام العقارات المذكورة مع المحافظة على حقوق الغير”. بينما يذكر قانون “إدارة وبيع أملاك الدولة الخصوصيّة غير المنقولة” 275/1926 الأراضي المتروكة المرفقة ضمن أملاك الدولة كالتالي: “الأراضي المتروكة التي تدعى مرفقة[2] (الأراضي الموضوعة تحت تصرّف جماعات)”. لم يرد أي توضيح إذا ما كان اعتبار هذه الأراضي للبلدية فقط عند عمليات المسح الجديدة أو كان يجب أن يتم تعديل أنواع هذه العقارات جميعها من متروك مرفق إلى ملك على السجلات[3]، أضف إلى ذلك المناطق الممسوحة مسحاً تقريبياً ولم يتمّ اختتام الأعمال فيها منذ عقود. يمكن أيضاً تفسير هذه المادة كتعديل لحقوق التصرف وليس الملكية، لكن بالطريقة التي نُصَّت فيها، ألبست العقارات المتروكة المرفقة صفة “الملك” دون تعديل صريح لنوع الملكية، وفتحت باباً آخر للاجتهادات القانونية.
في ظل تراكم التعديلات القانونية والمعاني والممارسات، وربطاً “بالعادات المحلية أو الأنظمة الإدارية” غير المحدّدة، كيف تمّ ويتمّ مسح وتسجيل الأراضي المتروكة المرفقة؟ من يملكها؟ هل تتضمّن المشاعات؟ ما هي الحقوق عليها، من يحميها وكيف تتمّ إدارتها؟
أصحاب الصفة للدفاع عن المتروك والمشاع
ليس “متروك مرفق” تعبيراً يستخدمه عموم الناس. حتى بعض المسّاحين أصبحوا يعتبرونه باليًا. غالباً ما يستخدم اللبنانيون تعبير مشاع للكلام عن أراضي الدولة خارج المدن، أو ما تبقّى منها. وعند السؤال لمن هذه الأراضي؟ الجواب الأكثر تكراراً هو: ليست لأحد. في أحيان أخرى، يدلّ تعبير “ما زالت مشاعات” على الأراضي غير الممسوحة، وكأنها بالحالتين “رزق سائب” يشجّع الناس على “الحرام”. لا يرد المشاع كفئة ملكية في القانون، هو نمط حيازة جماعية للأرض، لكن يُستخدم التعبير في عدّة مواد في القوانين كما في تدوينات السجل العقاري.
من يدافع عن هذه الأراضي ولمن تعود ملكيّـتها؟ السؤال ليس بجديد. أرشيف الدعاوى القضائية في لبنان غنيّ بحالات الخلاف على المشاع، إن كان من ناحية الحقوق عليها، أو من ناحية حقيقة وجودها وتعريفها وتصنيفها كمتروك مرفق.
مثلاً، سنة 1961، أي قبل تعديل قانون الملكية العقارية الذي صنّف المتروك المرفق ملكاً للبلديات الواقع ضمنها، رفضت المحكمة[4] دعوى أهالي قرية في قضاء جبيل حول تعسّف أحد الأطراف في الانتفاع من المشاع مبرّرةً أن هذا المشاع موضوع الدعوى ليس “ملكهم”. علّلت المحكمة أن سكان القرية لا يتمتعون بصفة الشخص المعنوي وبالتالي لا يمكنهم التملّك، وتكون هذه الصفة فقط للبلدية في حال وجودها. بالإضافة، وبغياب البلدية، تمّ أيضاً رفض تمثيل المختار لأهل القرية للقيام بالدعوى. كما أردفت المحكمة أنّه، حسب القوانين المرعية أساساً، إنّ المشاعات في القرى ليست ملكاً للبلدية بجميع الأحوال، بل هي من أملاك الدولة العامّة ويعود لأهل القرية الانتفاع منها “وفقاً للعادات المحليّة والأنظمة الإدارية”.
بالمقابل، في دعوى أخرى مشابهة في قضاء جزين عام 1950[5]، تمّ قبول الدعوى لكن بصفة المختار الشخصية كأحد “المنتفعين” المتضررين، كونه صاحب مصلحة شخصية ومباشرة للادّعاء، عوضاً عن كونه ممثّلاً لسكان القرية. كما اعتبرت المحكمة المشاع من أملاك الدولة أيضاً، كالأراضي المتروكة المرفقة.
يجعلنا قرار المحكمة في الحالة الأولى نستنتج أنّ تسجيل أيّ أرض “متروكة مرفقة” أو “ملك” باسم عموم أهالي أو ملّاكي بلدة ما عوضاً عن لحظ حقوق انتفاع لهم عليها، هو مخالف للقانون، وهو حال أغلب الأراضي المتروكة المرفقة في لبنان. مع العلم أنّ المشرّع استخدم جملة “المشاعات التي تملكها القرى ملكية جماعية” في تعديل جرى عام 2004 على المادّة 255 من قانون الملكية العقارية يعدّد فيها الأراضي التي لا يسري عليها مرور الزمن ولا تكتسب ملكيتها بوضع اليد، من دون ذكر صفة الشخصية المعنوية في هذه الحالة.
تُظهر هذه العيّنة الصغيرة من تعامل القضاء اللبناني مع “المتروك المرفق” و”المشاع” ربطَ حق الدفاع عن هذه الأراضي بمن يملكها، ومن له حق تمثيل مجموعة من المواطنين. أصبح تحديد ملكية الأراضي موضع نزاع أعمق ليس فقط بين الأفراد، لكن بين السلطات المركزية والسلطات المحلية من بلديات ومخاتير. السبب الأساسي لذلك هو تغيّر مفهوم الأرض من رقبة وحق تصرّف، إلى ملكية يجب توضيح مالكها وإدارة الحقوق عليها بنصوص قانونية متراكمة، خاصّةً مع تعديل قانون الملكية العقارية عام 1971. بالتالي، حتى في حال وجود نيّة مشتركة للدفاع عن العامّ المسلوب من هذه الأراضي، يستحيل ذلك من دون إثبات المصلحة المباشرة والشخصية للادّعاء.
تلاوين المتروك المرفق اليوم
مع تسجيل ملكيّتها المتغير وغير الواضح، هل يمكن الجزم اليوم أن الأراضي المتروكة المرفقة هي ملك البلديات؟ وكيف يتمّ التعامل مع ازدواجية نوعها ك”ملك” و”متروك مرفق” في الوقت نفسه؟ وهل لا زالت تُعتبر جزءاً من أملاك الدولة؟ تختلف التفسيرات بين الحقوقيين والمساحين وأمناء السجل العقاري.
يجزم بعض الحقوقيين، على نحوٍ خاطئ، أنّ المشاع هو تسمية للمتروك المرفق ضمن جبل لبنان، لكنهم يؤكدّون وجود أراضٍ متروكة مرفقة ليست مشاعات خارج جبل لبنان.[6] كما يعتبرونها أصبحت جميعها ضمن أملاك الدولة الخاصة، عكس “المتروك المحمي” الذي هو ضمن أملاك الدولة العامّة. يعتبر بعض المساحين أن “المتروك المرفق” هو حق انتفاع عينيّ يرد على عقار ما وليس نوع ملكية، فاعتمدوا عدم تسجيل أي أرض كمتروكة مرفقة بغض النظر عن الأسباب الموجبة لذلك. هكذا، جعلوا من “المتروك المرفق”، كما كانت دوماً حال المشاع، مجرّد تعبير عن شكل حيازة يحدّد أنّ الانتفاع من الأرض هو ليس لأفراد. يوافق أحد أمناء السجل العقاري الحاليين على ذلك، ويصف فئات الملكية العثمانية بالبالية. يرى أن “المتروك المرفق” و”المتروك المحمي” هي اليوم تندرج ببساطة تحت فئة “ملك” الجمهورية، وفئة “الأميري” مربوطة بالمسافة عن القرية بغضّ النظر عن “مالكها”. أحد أمناء السجل العقاري السابقين يصف المشاع قانوناً ك”ملك” للبلدة، إنّما يلحظ كيف لا تُطبّق عليه جميع نظم الملكية الخاصة كالإرث. تبسيط فئات الملكية في القانون العقاري برأيه ضرورة.
تعني هذه التفسيرات أن هؤلاء الأشخاص من مواقع مسؤولياتهم قاموا أو يقومون عمليّاً بتعديل القانون بالممارسة وبطريقة عرضية لتسهيل عملهم، من دون أن يدركوا كلّ أبعاد هذه التعديلات. نتيجة لذلك، بين المناطق الممسوحة وغير الممسوحة، وحسب تاريخ مسحها، أصبحت جغرافيا ما يجب أن تكون أراضي متروكة مرفقة تحتوي تلاوين وتركيبات بين نوع الملكية واسم المالك لا يمكن تفسيرها جميعها بالقانون الحالي، حيث هي أساساً نتيجة تفسير غير دقيق و/أو تعديل للقانون عينه. ما كانت أراضي متروكة مرفقة رقبتها للدولة ويحق لجماعات محدّدة الانتفاع منها، أصبحت اليوم موزّعة حسب التركيبات أدناه تحت أنواع الملك والأميري والمتروك المرفق، وهذه فقط عيّنة. نلاحظ هنا كيف يتمّ أحياناً تدوين نمط حيازة أو نوع ملكية (مختلف عن النوع المدوّن للأرض نفسها) في خانة أسماء المالكين، عوضاً عن تعيين الجهة المالكة.
ارض متروكة مرفقة بيادر استعمالها حسب العرف والعادة
يصبح بذلك التمييز أصعب بين ما تملك البلدية من أراضٍ خاصّة استملكتها أو اشترتها، وأملاك البلدية التي كانت “متروكة مرفقة” وتمّ تسجيلها “ملك” باسمها بعد تعديل القانون. نجد أحياناً استطرادات في خانة أسماء المالكين تفصّل تاريخ العقار أو تُبقي له صفة المتروك المرفق رغم تعديل نوع ملكيته. لذلك، إنّ تعداد الأراضي “المتروكة المرفقة” بشكل عام في لبنان للحديث عن الأملاك العامّة[9] لا يعطينا الصورة الكاملة، حيث إنّ هناك أراضي “ملك” و”أميرية” مسجلة كمشاعات أو ملكيات عمومية لأهالي القرى، وعددها ليس بقليل. هل يوجد ضمن هذه المشاعات أراضٍ زراعية مزروعة مداورةً وبالتالي وجب أن تبقى أميرية قانوناً؟ أم هل هي أراضٍ بالأصل متروكة مرفقة، أي أراضي البلدة المشتركة، وتم تسجيلها “ملك” أو “أميري” بعد فتاوى المسّاحين وتعديلات القانون؟ لا يصحّ تناول هذه المسألة جملةً بطريقة تصيب آلاف العقارات لغاية تنظيف وترتيب السجل فقط. يستوجب العمل الدقيق لحلّ كل مسألة على حدة من حيث ظروفها وحالها. إنّما النقطة الأهم هنا هي أنّه لا يصحّ اقتصار النظر على نوع الملكية لفرز الأراضي العامة، بل يتوجّب أخذ ما يدّون في خانة أسماء المالكين بعين الاعتبار.
لم يعد الرابط بين نوع الأرض واستعمالها موجوداً، ولم يعد تدوينها في السجلات يحفظ ويفصّل حقوق رقبة وحقوق تصرّف. أمّا حقوق الانتفاع فبقيت مربوطة “بالعادات المحلية والأنظمة الإدارية” الغامضة. مع تبدّل كيفية التسجيل والتدوين، وخاصّة في عنوان خانة أسماء المالكين حيث لا يتم لحظ حقوق أخرى غير الملكية، كما شرحنا في الجزء السابق، أصبح المكتوب في هذه الخانة، مع كل التعقيدات والأخطاء القانونية والإملائية، هو الذي يطلعنا على نوع الملكية فعليًّا. وسنرى كيف هي الحال كذلك للأراضي الأميرية في الجزء القادم.
كيف نعرّف إذاً هذه الأملاك العامة والمشتركة ونحافظ عليها مع كل هذا التنويع في تعريفها وتسجيلها؟
مذكّرة علي حسن خليل
لقد حاول علي حسن خليل حلّ هذه المسألة عام 2015. أصدر خليل، كوزير مال حينها، مذكّرة إدارية في 31 كانون الأول 2015 يطلب فيها من مندوبي دائرة “أملاك الدولة الخاصّة” المكلّفين حضور عمليّات التحديد والتحرير، ومن المسّاح المكلّف تنفيذ الأعمال، تسجيل عقارات الدولة وفقاً للأنواع التالية:
1- تسجّل بصفة عقارات خاصّة من نوعي الملك والميري العقارات العائدة لمختلف الوزارات وتلك التي لم يجرِ تثبيتها كمتروكة مرفقة. 2- تكون ملكيّة العقارات المتروكة المرفقة (المشاعات) للجمهوريّة اللبنانيّة، ولكن ينتفع منها عموم أهالي البلدة، فعلى المندوب أن يدوّن النوع الشرعي للعقارات ك “متروك مرفق”، وملكيّتها “ملك الجمهوريّة اللبنانيّة”، وتضمّنت المذكّرة طلب الامتناع عن تدوين العبارات “الخاطئة” التي كانت ترد سابقاً في خانة المالك كملك عموم أهالي البلدة وغيرها.
وجب تبليغ هذه المذكرة إلى المحاكم العقارية، وزارة الداخلية والبلديات، المحافظين في كافة المحافظات، والمديرية العامة للشؤون العقارية.[10]
إذاً، حاول علي حسن خليل فصل حقوق الانتفاع عن خانة أسماء المالكين وإبقاء المتروك المرفق ملكاً للجمهورية اللبنانية، بما يتطابق مع قرار المحكمة عام 1950 الذي أتى قبل تعديل المادّة السابعة عام 1971. من اللافت أن يعتبر الوزير أيضاً أن فئة “الأميري” هي عقارات خاصّة، وأن يستخدم تعبير “المشاعات” كمرادف ل “متروك مرفق” بوضعه بين قوسين.
مرّت أشهر على صدور هذا النص من دون ردود فعل تُذكر، حتى أتى صيف 2016 عندما وصلت المذكّرة إلى مختار في بلدة العاقورة، فأيقظت مخاوف “متعهّدي الطوائف” من كسروان وجبيل إلى الشوف. اعتبر بعض المواطنين من قرى في جبل لبنان و”ممثّليهم” من التيار الوطني الحر كما الحزب التقدّمي الاشتراكي وجمعيّات سياسية أخرى أن هذه المذكّرة مخالفة للقانون حيث تسعى إلى سرقة المشاعات وتحويل ملكيات خاصّة إلى ملكيات عامّة، بحجة أنّ الدولة بنظرهم مخطوفة من قبل حزب واحد محدّد، فتمّت ترجمة هذه المذكّرة كمحاولة من هذا الحزب – مع التأكيد على “عدم التشكيك بنيّة الوزير خليل” – “لفرض واقعاً عقاريّاً جديداً في البلد”. وصف فارس سعيّد مثلاً، العملية ب “أخطر تدبير حصل منذ صدور مرسوم التجنيس عام 1994” وأكّد أن مضمونها يحتاج لقانون لكي يُنفّذ مع لحظ تعويضات للقرى والبلديات.
لنتوقّف عند هذه النقطة. بغضّ النظر عن قانونية هذه المذكرة من عدمها، لم يسعَ علي حسن خليل إلى تعديل نوع الملكية لأي عقار، إنّما حاول حصر ما يدوَّن تحت خانة أسماء المالكين. لكن “زعماء الطوائف” المحليين رأوا أن “الدولة”، كشيء خارجي، تسلبهم المشاعات التي يعتبرونها أراضيهم الخاصة، مطالبين بالتراجع عن المذكّرة ومهدّدين باللجوء إلى مجلس شورى الدولة. بالمقابل، وضمن قرارٍ قضائي صادر في نيسان 2024 بما يخص أراضي متروكة مرفقة ممسوحة عام 1950 في الناقورة، اعتبرت المحكمة أن العقارات هي “من النوع المتروك المرفَق كمرعى لأهالي قرية الناقورة، وهي بالتالي ملكية الدولة اللبنانية الخاصة، وقيدها باسمها في السجّل العقاري من النوع الشرعي المذكور”. إذاً، أكّدت المحكمة على إبقاء الأراضي مسجّلة كمتروك مرفق، مع تحديد الدولة اللبنانية كمالك لها في الخانة المرتبطة[11].
تتضح لنا النتائج الناجمة عن المفاهيم الخاطئة لتفسير معاني أنواع الملكيات وكيفية تدوينها، والحقوق المترتّبة عليها. تظهر الأهمية المعطاة لما هو مكتوب ضمن خانة أسماء المالكين بغض النظر عن نوع الملكية. ف”الأميري” و”الملك” في سلّة واحدة، و”المتروك المرفق”، طالما هو مسجّل باسم عموم الأهالي اعتبروه خاصّاً لهم، على الدولة تعويضهم في حال تغيير اسم مالكه. تتجلّى أيضاً خطوط التوتّر ليس فقط بين المكان العام والمكان الخاص، إنّما أيضاً بين المركزي والمحلّي بالطريقة التي أحكم فيها “زعماء الطوائف” المحلّيون تحقير الدولة كشيء خارجي، عام، سيئ وبعيد، مقابل تثبيت الخاصية المحلية وإشباعها بالطائفية والفوقية وادّعاء المظلومية، مع اعتبار الحقوق على الأرض مكتسبة وسرمديّة. من هذا الباب، يصبح أيّ نقاش عن المركزيّة واللا مركزيّة نقاشًا عن العام والخاص. فقد ضاع المجال العام بين فكرة الدولة المجرّدة مع إداراتها وموظفيها وأدواتها الفعلية، والزعماء المحلّيين الذين لا يختلفون وظيفيّاً عن مقاطعجيي القرن التاسع عشر.
إذا عدنا لقرار محكمة الاستئناف من عام 1961 المذكور آنفاً بعدم قبول تملّك مجموعة أهالي كونهم لا يتمتعون بصفة الشخص المعنوي، فالأغلب أن اللجوء لمجلس شورى الدولة اليوم لن يحفظ حقّاً مسجّلاً كملك، وليس متروك مرفق، باسم عموم أهالي قرية العاقورة، كونهم ليسوا أصحاب صفة الشخص المعنوي. لكن لم يكن هناك حاجة للجوء للقضاء بجميع الأحوال، فبعد هذه الهمرجة، ذكّر علي حسن خليل المستائين بأن لا أراضي متروكة مرفقة في جبل لبنان وأن المشاعات هناك كلّها ‘ملك’ وبالتالي لا تشملها مذكّرته. هكذا، دون اللجوء للقضاء، حيث لا صفة للمواطنين بدون المجالس البلديّة للادّعاء بما يختصّ بالأملاك العامّة، تبقى هذه الأراضي رهينة “زعماء الطوائف”، وهم أصحاب كل “الصفات” بحكم الأمر الواقع.
على نفس النحو، وبعد أحداث القرنة السوداء صيف 2023[12]، ألغى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قراراً بتشكيل لجنة لدرس مسألة النزاعات بين الحدود العقارية بعد يومين فقط من إصداره. فقد اعترض نوّاب منطقة بشرّي، و/أو حزب القوات اللبنانية، على هكذا قرار “يضرب مبدأ فصل السلطات”، حيث إنّ النزاعات العقارية هي من اختصاص السلطة القضائية. بغض النظر عن نوايا خليل وميقاتي، ليست هذه النصوص سوى مثال آخر عن التدابير التي تهدف ظاهريّاً إلى تسهيل الأمور لكن بالنهاية تزيد من تعقيد طرس القوانين وتعريف وإدارة المجال العام في لبنان.
خلاصات
أظهرنا تناقضات وعدم وضوح نصوص القوانين المرتبطة بالأراضي، وسعينا لتفكيك أسباب ومكامن هذا التعقيد من خلال متابعة تعديلات النصوص وكيفية تفسيرها وتطبيقها إداريّاً منذ عام 1858. لم يرافق تحوُّل الأراضي إلى ملكيات عامّة أو خاصّة إطارٌ قانوني وافٍ لتطوير حقوق الانتفاع كمّا كان قد فصّل قانون الأراضي العثماني (1858) وقانون الطابو (1859) حقوق التصرّف التي كانت أساس الوصول للأرض. أصبحت المشاعات والأراضي المتروكة رزقاً سائباً أو موضع تناتش ليس فقط بين الأفراد إنّما أيضاً بين السلطات العامّة/الخاصّة ل”زعماء الطوائف”. عدم وضوح طبيعة المجال العام القانونية يسهّل سلبه أو بيعه. جعلَ تعديل نص قانون الملكية العقارية (1930)، مع ما تلاه من ممارسات هي أشبه بفتاوٍ يعتمدها بعض المسّاحين، تدوينَ ملكيات الدولة في لبنان أكثر فوضى وواقعَها أكثر عرضة للسطو أو الهدر.
عام 2000، أضيفت فقرة إلى المادّة السابعة من قانون الملكية العقارية، تمنع البلديات البيع أو التصرف بالأملاك المتروكة المرفقة المعتبرة ملكاً لها إلّا بعد موافقة مجلس الوزراء، وذلك للحد من التفريط بهذه الأراضي على هوى بعض رؤساء البلديات والزعماء المحليّين. في حين تمتلك البلدية الصفة للدفاع عن هذه الأملاك إذا ما كانت هذه المجالس تمثّل فعلاً مصالح السكان وليس فقط ملّاكي الأراضي، من المفيد ألّا يبقى قرار التصرّف بهذه الأراضي للمجالس البلدية وحدها. في ظل النظام القائم، تبقى الأراضي المتروكة المرفقة بين مطرقة الزعماء المحلّيين وسندان السلطات المركزيّة المستولية على الدولة.
في تشرين 2019، تمّ التشديد على ضرورة تحديد وتحرير جميع أراضي الدولة ضمن الخطة “الإنقاذية” للحكومة فتكون أساساً للخروج من الأزمة، من خلال “تفعيل إدارة ومردود عقارات الدولة” [13]. المضحك المبكي، أنّه بغياب التمويل العام لإجراء المسح، لم يحصل تطوّر كبير على هذا الصعيد. رغم ذلك، ما زالت تجري ولو ببطء أعمال تحديد وتحرير في بعض المناطق. بغياب أي رابط بين استخدامات الأرض وحقوق الانتفاع عليها لتحديد ملكيتها، من المهم، عكس ما يحصل في عكار اليوم مثلاً، عدم إسقاط نوع “المتروك المرفق” من أنواع الملكية لاستبداله بالملك أو الأميري. عندها، أوّلاً، يبقى التخلّي عن هذه الأراضي أصعب من قبل الحكومة والبلديات، وثانياً، يخفّ نفوذ “زعماء الطوائف” المحلّيين عليها، حيث لا تكون “ملك” لهم. لطالما كان جوهر الخلافات على الأرض هو لما توفّره من ثروة ونفوذ، فلعلّ عبارة “متروك مرفق” ترفع عنها نفوذ “الزعامات الطائفية”، بصفتهم المقاطعجية المحلية، أو بصفتهم ساطين على مؤسسات الدولة.
[1] هذا المقال هو واحد من سلسلة بعدّة أجزاء، تحمل عنوان “بحثاً عن العام”، في محاولة لفهم التطور التاريخي، القانوني، الاجتماعي والسياسي للمجال العام في لبنان. إنّ التحاليل والنتائج الواردة في هذه السلسلة مبنية على بحث لأطروحة الدكتوراه التي أعدّها منذ 2020 في معهد باريس للعلوم السياسية Sciences Po.
[2] أتى تعبير “مرفقة” ليستبدل “مخصّصة”، لكن ليس واضحاً إذا كانت الكلمة مقصودة لأصل معناها باللغة العربيّة، أرفق أي أنفع، أو هي ترجمة لمفهوم فرنسي.
[3] ممّا يخالف مرسوم التحديد والتحرير الذي لا يسمح بتعديل ما تم تسجيله ضمن عمليات المسح بعد انقضاء المهل الاعتراضية
[4] القرارات النهائية للغرفة الثانية، قرار رقم 58، 11/12/1961
[5] محكمة استئناف لبنان الجنوبي، الغرفة المدنية، قرار رقم 493، 22/08/1950
[6] عيد، أ.، وعيد، ك. (2012). الحقوق العينية العقارية الأصلية—المجلّد الثاني. صادر، كما هو التفسير المعتمد من قبل بعض أساتذة المواد المرتبطة بالقانون العقاري في جامعة القديس يوسف
[13] كلّف رئيس الحكومة، سعد الحريري، وزيرَ المال حينها، علي حسن خليل، “إجراء جردة بكافة العقارات المملوكة من الدولة وإجراء تقييم لها وتقديم اقتراح للاستفادة منها خلال مهلة ثلاثة أشهر”. أُدرج ذلك لاحقاً تحت مسمّى الصندوق السيادي لرفع مداخيل الدولة من هذه الأصول من خلال بيعها أو ادارتها بشكل “أفضل”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.