بحثًا عن العام في لبنان بين الأرض وملكيّتها (3):”التحديد والتحرير” وخرائط المساحة، غاية أم وسيلة؟


2024-05-20    |   

بحثًا عن العام في لبنان بين الأرض وملكيّتها (3):”التحديد والتحرير” وخرائط المساحة، غاية أم وسيلة؟
التقدّم بأعمال التحديد والتحرير، الخريطة من أطلس لبنان 2012

كنا قد عرضنا في الجزء الأول من هذه السلسلة[1] قانون الأراضي العثماني (1858)، ثم فصّلنا في الجزء الثاني تبعات مقاربة الانتداب الفرنسي (1920-1943) لإدارة الأراضي وتحويل الخاص والعام منها إلى ملكيّات مع تشويه القانون. في هذا الجزء، نستكمل الموضوع مع التركيز على مسح الأراضي وتسجيلها – أي العملية المسمّاة بالتحديد والتحرير – والأعمال التي تم تنفيذها منذ تأسيس الإدارات المعنية في عشرينيات القرن الماضي وتبعات ذلك على أحوال مسح الأراضي منذ سنة 1943 وحتى اليوم.

إنّ القوانين التي ترعى عمليّات التحديد والتحرير وإدارة الأراضي بشكل عامّ، هي القوانين التي وُضعت في عشرينيات وثلاثينيات القرن السابق. إذ أنّ الدولة اللبنانية لم تسائل إرث الاستعمار، بل على العكس. يرى بعض المسّاحين والموظّفين العامين في دوائر المساحة والسجل العقاري، حاليين وسابقين، أن الدولة اللبنانية فشلت في مجاراة “التطور” الذي بدأه الفرنسيون. تعديلات طفيفة أُجريت ومراسيم قليلة أُضيفت على مرّ السنين بما يخص القوانين المتعلّقة بالأرض، وبالتالي ما زال الإطار المؤسسي الذي ثبّته الفرنسيون يحكم إدارة الأراضي اليوم في لبنان بشكل كبير. وكانت معظم الملكيّات التي تم تسجيلها في ذلك الوقت إما قد حذفت نهائيّاً حقوقاً سابقة للمزارعين أو للدولة أو ثبّتت -للوجهاء أوّلاً – ومؤبّداً حقوقاً سابقة كانت أم طارئة على الأرض، الأمر الذي ما زال واضحاً في توزع ومساحات ملكية الأراضي في لبنان.

لقد أدّت تصنيفات الملكية في قانون الملكية العقارية (3339/1930) إلى التباس في عمليات تسجيل الأراضي بحيث أصبحت التعريفات والمعاني التي تحملها فئات الميري والملك والمتروك كما المشاع مشوّشة وغير متناسقة كما أسلفنا. سوف نعرض أمثلة عن هذه الحالات في الجزء القادم، فنرى عمليّاً ما هي التحدّيات في عمليات التحديد والتحرير التي تنتج بطبيعتها بسبب طرس القوانين وكيف تعامل المعنيون معها. تمهيداً لذلك، سنسرد في هذا الجزء موجزاً تاريخياً عن أعمال التحديد والتحرير وحالها اليوم.

مسح وتسجيل الأراضي مع العثمانيين

مع التطوّر الحاصل في تنظيم ونشر الأرشيف العثماني في تركيا، ظهر مزيد من خرائط المساحة لبعض مدن بلاد الشام وفلسطين في ظلّ الحكم العثماني. وقد أدى هذا الأمر إلى دحض ما كان يتردد سابقا لجهة إن هذه الخرائط لم تكن موجودة لأطراف السلطنة. وهذه فرصة للتشديد على ضرورة تكريس المزيد من الوقت والموارد لدراسة ما يمكن أن يقدّمه هذا الأرشيف من معرفة عن تاريخنا.

كما أنّ المشايخ وملتزمو المقاطعات (“المقاطعجيين”) في جبل لبنان مثلاً عطّلوا محاولات بعض ولاة السلطنة مسح الأراضي حتى قبل عام 1860 كونه يضرّ بمصالحهم وملكياتهم. المسح كان ليخفّض من قيمة الضرائب التي كانوا يفرضونها على السكان. في جميع الأحوال، بالنسبة للدولة حينها، كانت المحاصيل أساساً هي التي تحدد الضريبة على الأرض من دون ارتباط مباشر بمعرفة المساحة العقارية والحدود. بالتالي، غياب الخرائط لم يكن بالضرورة حاجزاً لضمان عائدات الخزينة.

مع قانون الأراضي وما تبعه من قوانين للطابو والتقسيمات الإدارية وتنظيم سجلات الأراضي، الدفترخانة، كان ينتج عن مسح الأراضي تدوينها في السجلّ مع ذكر ما يحدّها من علامات طبيعية كسبيل مياه أو شجرة معيّنة، من دون أيّة خرائط. وكان انتقال حقّ التصرف على الأرض من شخص إلى آخر يدوّن بالتسلسل الزمني عند حصوله. كانت هذه السجلات معنية فقط بالأراضي الأميرية في البداية ثم شملتْ الملك والوقف[2]، أي هدفت لتنظيم الحقوق الفردية على الأرض. ومن هذه الناحية، تلقي مارثا موندي الضوء على تأثير ذلك على باقي أنواع الأراضي، أي المتروكة، التي أضحت الوحيدة دون سجلات، والصعوبة الناتجة لتحديدها بغياب الخرائط، وكأنها فضلات.[3]

أعمال التحديد والتحرير في عهد الانتداب الفرنسي: إنشاء وتثبيت (بعض) الحقوق

مع المقاربة المختلفة لدور الأرض التي أرسيت مع الفرنسيين، أصبحت الخرائط ضرورية لقياس الموارد المتاحة للانتداب من مزروعات وضرائب وخدمات مالية كالقروض، كما لتوضيح الملكيات ولحصر حركة العشائر والرعاة، بخاصة في سوريا، والحدّ من الممارسات المشاعية في أنحاء بلاد الشام. يشرح بايغنت وكاين[4] عن كيفية استعمال الحكومات لخرائط المساحة لأهداف استعمارية وتوضيح الملكيات وتخمين الأراضي وإعادة توزيع الضرائب وذلك لتثبيت السلطة السياسة والاقتصادية والاجتماعية. تجعل خرائط المساحة التحوّل في المكان مرئياً وقابلاً للقياس، وهي بالظاهر أداة تقنية. لكنها، خاصة مع اعتماد بعدها القانوني المثبّت لحق الملكية في لبنان، وليس لتخمين الضرائب، أصبحت ذات أهمية سياسية اجتماعية تساهم في توزيع وترسيم وتثبيت الحقوق على الأرض بطريقة “واضحة وآمنة”.

وفي سنة 1926، أصدر المفوض السامي الفرنسي قرارات إنشاء النظام العقاري وسجل المساحة وهي تباعا القرارات 186 (نظام التحديد والتحرير)، 187 (لآليات التحديد)، 188 (إنشاء السجل العقاري) و189 (لتفاصيل التسجيل)، كل ذلك قبل إصدار النسخة الأخيرة لقانون الملكية العقارية 3339 سنة 1930. كان الغرض الرئيسي من هذه القوانين هو “تكوين” ملكية الأرض، التي تصبح منشأة بسند ملكية “تضمنه” الدولة و”تحافظ” عليه.[5] وكان قد تسلّم كميل دورافور[6] منذ عام 1923 مهمّة إدارة أعمال التحديد والتحرير في بلاد الشام. واستناداً إلى توجيهات مندوب المفوضية جيناردي عام 1921 والقوانين التي صدرت تباعاً كقانون إلغاء المشاعات وتسهيل القروض واستكمالا لها، أولى دورافور ضمن عمليات المسح أهمية لفرز الأراضي الأميرية والمشاعات الكبيرة والتحسين الزراعي من خلال ضمّ الأراضي عند الحاجة واحتساب الضرائب. لم يذكر دورافور ضمن اللائحة أولاً أهمية للتنظيم المديني أو تنظيم البناء. اتّسمت تقاريره المنشورة حينها بالتعابير التقنية الهندسية. بالمقابل، أظهرتْ مراسلاته الشخصية التّحديات السياسية والمالية التي كانت تواجهها إدارته لاستكمال الأعمال كما الأسباب الحقيقية لإعطاء الأولوية لمناطق على أخرى، بخاصّة تلك التي حاول فيها إقناع البلديات بتوظيف زميله رينيه دانجيه للعمل على مخططات للمدن، وبالتالي ضرورة الشروع بمسحها، كلّ ذلك على نفقاتها.

 وتجدر الإشارة هنا إلى أن مسح الأراضي كان بدأ قبل صدور هذه القرارات في المناطق الأكثر انتاجاً للثروة، أي السهول الزراعية حينها. وعليه، نرى اليوم أن سهل البقاع مكتمل المسح تقريباً، بعد أن كان قد تمّ مسح 84% منه قبل عام [7]1954. وكان معظم سهل عكار قد أنجز عام 1925. أمّا المناطق التي اعتبروها ثانوية إمّا تم تأجيل مسحها أو الاكتفاء باعتماد صور جوّية لها مع خرائط تقريبية. أعطيت أهمية لطرابلس أيضاً كونها ستكون منفذ أنابيب النفط العراقي. كما أنّه كان من المفترض الشروع بمسح وتسجيل جميع أملاك الدولة حتى المناطق التي لم تُباشر فيها أعمال التحديد والتحرير حسب القرار 275. وتشير الأرقام إلى أن المشاعات في جبل لبنان كانت تغطي نصف مساحة مجمل الأراضي الزراعية في المتصرفية سنة 1860 لتصبح فقط 10% سنة 1930. ويُعزى ذلك عموما إلى دور مدراء “المقاطعجيين” أيام العثمانيين في الخصخصة وليس فقط عمليات “التحسين الزراعي”، بحيث كانت المتصرفية مستثناة من تطبيق قانون الأراضي العثماني.

لم تكتمل أعمال التحديد والتحرير حينها ولا حتى اليوم. ويقدَّر أنه تمّ مسح 23% من مساحة لبنان[8] بحلول عام 1943، بينما كانت قد وصلت النسبة إلى 17% عام 1936[9]، ممّا يشير إلى التحدّيات السياسية والاقتصادية والمالية التي واجهتها فرنسا والتي أبطأت عمليات المسح. عند انتهاء الانتداب، بقيت الملكيات الزراعية الكبيرة في لبنان سائدة[10]، وإحصاءات وزارة الزراعة الأحدث تؤكّد ذلك أيضاً.

ورغم بلورة سبل الاعتراض على محاضر التحديد والتحرير ضمن مهلة ثلاثين يوماً من إنجازها، ومهلة سنتين بعد إتمام العمليات والتسجيل، وردتْ آلاف الدعاوى الاعتراضية من المزارعين على التحديد والتحرير لم يتم البت فيها كلها، فتمّ تثبيت الملكيات الكبيرة دون رجوع[11]. بذلك، لم يتمّ سلب حقّ تصرّف المزارعين فحسب، إنّما أيضاً حق رقبة الدولة على كل الأراضي الأميرية التي تمّ تسجيلها كملك، زوراً أم بحجة “التحسين الزراعي”.

أعمال المساحة بعد 1943: تقدّم وتراجع مع تهجين مستمر 

تقدّمت أعمال المسح نسبيّاً منذ عام 1943 بحيث وصلت نسبة مساحة لبنان الممسوحة 49% في عام 1995. لكن استكمالها أو عدمه ليس بهذه البساطة، فقد رأينا كم هي عملية التحديد والتحرير محفوفة بالتدخّلات ومحاولات التزوير منها الفاشلة ومنها الناجحة. كما إن إتمام أعمال المساحة في ما يقارب نصف الأراضي اللبنانية، لا يعني ببساطة أن النصف الآخر غير ممسوح. إذ هناك 20% من مساحة لبنان لا محدّدة ولا ممسوحة و31% محدّدة لكن غير ممسوحة، ما معناه أن خرائط المساحة لم تنفّذ مباشرةً بعد التحديد، غالباً بسبب اعتراضات على محاضر المسح. هذه الاعتراضات هي بين أفراد أو بين مناطق وبلديات.

إن عملية المسح نفسها ما زالت معتمدة منذ العشرينات ويلعب فيها المختار دوراً أساسيّاً. هو يتولى تبليغ جميع أصحاب الحقوق ببدء العمليات والتأكد من حضورهم يوم التحديد. طبعاً استفاد ويستفيد مخاتير عدّة من هذه السلطة لتبليغ من شاؤوا من المعنيين. كما تكون إفادتهم ضرورية لتثبيت الحقوق خاصّةً بغياب أصحابها (المتعمّد أحياناً إذاً). ويبقى محضر العملية متاحاً للاعتراض ضمن مهلة ثلاثين يوماً ويتضمّن لكل عقار وصف الأرض (بعل، شجر، مرعى، الخ…)، تحديد اسم صاحب الحق وعمره ووظيفته وجنسيته وتفاصيل ونوع الحقوق العينية (انتفاع، تصرّف، الخ…) وبموجب ماذا يتم تأكيدها (إفادة مختار، منذ القديم، ورثة، الخ…). كما يتم تدوين جميع الاعتراضات إذا ما وردت فيبتّ فيها القاضي العقاري لاحقاً بحسب الرسم التقريبي المرفق ويعلن اختتام عملية التحديد الأولية في المنطقة ليتم إنشاء خرائط المساحة من بعدها. وما يسمّى المناطق العقارية اليوم كانت قد أنشئت حينها لتنظيم عمليات المسح والسجلات الناتجة عنها.

لكن، وفي حالات متكرّرة، لم يتمّ بتّ الاعتراضات ضمن المهل، رغم تشديد القانون على ذلك، فبقيت الكثير من المناطق اللبنانية “قيد المسح” أو “قيد التحديد” فترات طويلة بحيث علق إنجازها بعدم قدرة القضاة على البتّ بالخلافات التي وصلتْ أحيانًا إلى جرائم قتل. وعموما، يصبح حلّ النزاع أصعب مع مرور الزمن وتبدّل الأجيال والأحوال وضياع الأدلّة. لذلك، هناك اليوم ستّ فئات لمراحل التقدّم في أعمال التحديد والتحرير، تتبدّل قليلاً رغم مرّ العقود: ممسوحة، غير ممسوحة، قيد المسح، قيد التحديد، مناطق نزاع\خلاف، غير معروف. كما أنه يصعب مجاراة تطوّر النِسب بينها بحيث لم يتم الإعلان عن افتتاح و\أو اختتام الأعمال دوماً بشكل منهجي من خلال مراسيم كما يجب.

نتيجة لذلك، نرى في الأحكام القضائية خاصّةً في الأربعينيات والخمسينيات أنه تمّ إخضاع الأراضي غير الممسوحة لقانون الأراضي العثماني أو العرف والعادة بحكم عدم مسحها، بعدما اعتُبرت خارج الإطار الذي وضعه الفرنسيون. بحسب القرارين 188 و189، لجهة إن السند المحفوظ في السجل العقاري هو ما ينشئ الحق في ملكية الأرض. بمعنى أن القضاء اعتبر أن المناطق غير الممسوحة لا تخضع لنظام السجل العقاري من حيث إثبات الحقوق. وبذلك، وإذ اكتملت عملية تحويل نسبة من الأراضي إلى عقارات مسجّلة ومُحيَ عنها كل تاريخها والحيازات السابقة المختلفة عليها واستعمالاتها لتُختصر بسند ملكية، بقيت الأجزاء الكبيرة من الأراضي اللبنانية التي اعتُبرت خارج هذا النظام، عرضة أكثر للخلافات والتزوير، وضمنها طبعاً الأراضي العامّة. وكلما مرّ الوقت، كلما تراكمت المطالبات عليها وأصبحت أكثر تعقيدًا، وبات حلّها أكثر صعوبة وبخاصّةً في ضوء إطار إدارة الأراضي الحالي الذي سبق وعرضنا جزئياً كيف أصبح مشوهاً. أضف إلى ذلك ارتفاع قيمة الأراضي واستخدامها في لبنان كأداة إنتاج للثروة[12]، الأمر الذي يجعل الخلاف على التحديد والمسح موضوع نتش ومراكمة ثروة محتملة افتراضياً للمستقبل وليس محاولة إرساء وتثبيت حقوق سابقة فحسب.

حتى أراضي الدولة الخاصة إذا لم تكن محدّدة أو ممسوحة لا يمكن التأكد من حدودها أو مساحتها. من هنا، وبعد أن كثر الحديث عن الصندوق السيادي وبيع أو “تشغيل” أصول الدولة للخروج من الأزمة سنة 2019، ظهرت التقديرات لمساحة هذه الأراضي وبالتالي تخمين قيمة بيعها أو الحفاظ عليها. وبالرغم من أن المصدر المعلن لهذه الأرقام في الدراسات المتعدّدة[13] هو واحد، وزارة المالية، فإن أعداد الأراضي ومساحاتها تختلف بينها، ممّا يُظهر فهماً وتفسيراً مختلفاً لما تحتويه أراضي الدولة يتفاقم مع كيفية تدوينها في السجلات.[U1]  قبل التفصيل عن موضوع السجلّات، يجدر القول إن عدم إحراز تقدم في المسح ليس سببه نقص الخبرة الفنية أو الموارد بشكل عام، بل إنه ميل لتجنّب وتأجيل النزاعات، أو العجز عن البت فيها. في أحيان أخرى، هو متعمّد للاستفادة من الفراغ والمرونة التي توفرها هذه الفجوة لتمرير الممارسات غير القانونية كالخصخصة تحت الطاولة أو فوقها، وبدرجات مختلفة، بين النخب المستقوية والأقل قوة منها بين الملّاكين، من الناقورة إلى المينا طرابلس فعين داره. بمزيج من العجز وقلّة إدراك بُعد التحدّيات، وبعد الأحداث الأخيرة في القرنة السوداء صيف 2023، أصدر نجيب ميقاتي الذي ما زال رئيس حكومة تصريف أعمال، قراراً بتشكيل لجنة تدرس النزاعات العقارية في مناطق تتكرر فيها الصراعات حدّدها في القرار، ثمّ تراجع عنه بعد يومين بحكم الاعتراضات على شكله ومضمونه.  

إثبات الحق: مفارقات في الزمان والمكان بين الحجة، الإفادة والسند

تختلف اليوم طريقة إثبات الحقوق حسب موضع الأرض ضمن تقدّم أعمال المساحة. في المناطق المحدّدة والممسوحة، يحصل مالك الأرض، كما “المتصرّف” بالمبدأ على الأرض الأميرية، على سند مسجّل ومحفوظ في السجلات العقارية كما في دوائر المساحة ويبرز عليه مساحة الأرض النهائية. إنّ ذلك غير متاح في المناطق غير الممسوحة. وإذا كانت المنطقة محدّدة، يمكن الحصول على إفادة تسجيل الملكية من السجلات العقارية دون ذكر لمساحة الأرض كون الخرائط الموجودة هي تقريبية، لكن يتم ذكر الحقوق العينية الواردة على العقار بالتفصيل. إذا كانت المنطقة محدّدة من دون خرائط، يصدر القاضي العقاري إفادة تؤكّد الملكية. أمّا إذا كانت غير محدّدة، فما زال المختار هو من يعطي إفادة “علم وخبر” تأكيداً على الحقوق الواردة على الأرض.

سند لأرض أميرية في القبيات التي هي محدّدة سنة 1958 مع مسح تقريبي. بحكم أن السند صادر عام 1951 أي قبل افتتاح أعمال التحديد والتحرير، إن الرقم 52 ليس رقم العقار الحالي إنما رقم الويركو السابق للأرض منذ العثمانيين، ونرى حق الانتفاع ملحوظاً.

نرى في الإفادة أعلاه أنه رغم نوع الأرض الأميرية، عنوان السند هو سند تمليك وليس تصرّف. ولكن يُدوّن نوع الحق على أنّه “تصرّف” وليس ملكيّة، كما تُلحظ في الجزء الثاني من السند الحقوق الممكنة على الأرض، رغم عدم ورود “تصرّف” على رأس الصفحة ضمن الاحتمالات (كما نرى في الصورة: الملكية، الانتفاع، الارتفاق، الضم والتجزئة)، كان يتم لحظ كلمة “التصرّف” وتحديد بموجب ماذا تم تثبيت هذا الحق، وكلمة “المتصرّف” قبل تدوين اسم صاحب السند.

سند تمليك من لأرض أميرية في القبيات من عام 1947

أمّا في نسخ الصحيفة العقارية في الثلاثينيات، فكان لا يزال يرد على رأس النموذج حقوق التصرف جانب الملكية، الوقف، والانتفاع. مقابلها في خانة الأسماء نجد: مالكين، ترجمةً لكلمة propriétaires الفرنسية، متولين (للوقف) ومنتفعين، دون كلمة متصرّفين لموازاة حق التصرّف.

قسم من نموذج صحيفة أرض ممسوحة عام 1936 في عكار

بالمقابل، كان سند الطابو العثماني قاطعاً في التفريق بين الملك والأميري والحقوق عليها، فنرى خانة ل “صاحب” الأرض إذا كانت “ملك”، وأخرى منفصلة للمتصرّف إذا كانت أميرية. كما إن محاضر التحديد التي منها تُنقل أنواع الحقوق لتُدوّن نهائيًّا على هذه السندات تعنون خانة الاسم ك “صاحب الحق”، ليس المتولّي ولا المالك ولا صاحب الأرض. اذاً نرى أن ترجمة ذلك على السند يزيل التفرقة بين أصحاب الحقوق وأصحاب الأرض فيما يخصّ الأراضي الأميرية تحديداً. وبذلك، أصبح نوع الحقّ على الأرض وكأنّه سابق وليس نتيجة لنوع الأرض وأصبح المتصرّف بحكم المالك على الورق أيضاً. بعد أن تمت رقمنة سجلّات الدوائر العقارية في التسعينيات، يكتفي نموذج الإفادة العقارية الأخير بعنونة هذه الخانة، أسماء المالكين، لجميع أنواع الأراضي: ملك، ميري (أو أميري)، موات ومتروك مرفق.

حتى أواخر الأربعينيات، كانت نماذج السندات لا زالت تحتوي على اللغتين الفرنسية والعربية. مع الوقت، ليست لغة المستعمر وحدها التي سقطت عن الأوراق، إنّما أيضاً تدوين التصرّف كحقّ مختلف عن الملكيّة. هذا الأمر، زاد وثبّت التماهي أكثر فأكثر بين الأميري والملك اليوم. عند سؤال بعض المسّاحين عن فارق تسجيل الأرض كأميرية طالما برأيهم أن المتصرّف أصبح مالكاً في الواقع وعلى الورق، الجواب غالباً لا يولي أهمية للموضوع. يقتبسون من القانون ويحاولون إيجاد تفسيرات لسبب بقاء هذه التعابير “القديمة” في الممارسة وفي النصوص ولمعانيها وكيفية مطابقتها مع توجيهات المساحة والتسجيل، رغم تعارض نصوص القوانين بين بعضها وتشويهها السابق. يملؤون خانات النموذج حسب تفسيرهم ومحاولات تبسيطهم لما تعنيه تعابير أميري ومتروك ونوع الحق والتقادم ومرور الزمن المكسب للملكية والرقبة وغيرها من الجمل التي أصبحت مردّدة بطريقة ميكانيكية من دون فهم معناها أو تفكيك بعدها القانوني والتاريخي. هنا يتمظهر طرس القوانين ومن هنا تنتج تركيبات أنواع الأراضي المختلفة حسب اجتهادات القضاة والمحامين والمسّاحين وأمناء السجل في كل حقبة. بالرغم من اعتبارهم أن إنجازات الفرنسيين ساهمت جدّاً في تطور أعمال المساحة في لبنان لا بل أسّست لها، وضمنت “توضيح” الملكيات، نرى أن أسئلة بسيطة عن القانون تجعلهم يطلقون اجتهادات وتفسيرات لفهم منطقه الذي رغم محاولة الفرنسيين تبسيطه، انتهى إلى مزيد من التعقيد.

خلاصات

تؤدي مكامن التعقيد التي سعينا إلى تسطيرها في سجلات الأراضي لفهم الطرق التي يتّبعها المعنيون في تفسير القوانين والتي من خلالها تتم إدارة الأراضي العامة في لبنان. وبما أن التحليل هنا انطلق منذ الجزء الأول من الفئات المحلية العثمانية لأنواع المجال العام، فإن إلقاء نظرة دقيقة على أحوال وعيّنات من سجلات المساحة والدوائر العقارية، وفهم الطريقة التي تدوّن ويشار بها إلى حقوق الملكية والتصرّف على السندات من شأنه أن يُظهر طرس المعاني القانونية المختلفة التي أُعطيت للأرض على مرّ العقود. تُبيّن هذه التدوينات كيف فسّر المعنيون هذه المعاني وكتبوها وحرّروها. بصرف النظر عن أيّ مجال لتحوير وخرق متعمّد للقانون، فإن العملية البروتوكولية العادية التي يقوم بها المساح وفقًا للقانون تحتاج لهذه التفسيرات والممارسات لتصبح ممكنة. من هنا، يلاقي المسّاح المختار كلاعب أساسي يساهم في تقرير مصير أرض وناس، عن معرفة أو عن جهل، عن حسن نية أو عن رغبة بالتزوير. أعرض في الجزء القادم التفسيرات المختلفة والتركيبات الهجينة لأنواع الأراضي التي تبدّلت مع كل جيل مسّاحين ومشرّعين ومحامين، والمشاكل الناتجة عن هذه التفسيرات.


[1] هذا المقال هو واحد من سلسلة بعدّة أجزاء، تحمل عنوان “بحثاً عن العام”، محاولة لفهم التطور التاريخي، القانوني، الاجتماعي والسياسي للمجال العام في لبنان. إنّ التحاليل والنتائج الواردة في هذه السلسلة مبنية على بحث لأطروحة الدكتوراه التي أعدّها منذ 2020 في معهد باريس للعلوم السياسية Sciences Po.

[2] Mundy, M., & Smith, R. S. (2007). Governing Property, Making the Modern State: Law, Administration and Production in Ottoman Syria. Bloomsbury Academic.

[3] في ورقة بحثية عنوانها: “علاقات الملكية في بلاد الشام في عهد التنظيمات: القضايا المحورية” عرضتها موندي ضمن ندوة “الدولة، بين ملك أفراد وقضايا مجتمع” التي نظّمتها حركة مواطنون ومواطنات في دولة سنة 2017

[4] Kain, R. J. P., & Baigent, E. (1992). The Cadastral Map in the Service of the State: A History of Property Mapping. University of Chicago Press.

[5] Kilzi, J. (2002). Le Cadastre, le registre foncier et les propriétés foncières au Liban. Chemaly & Chemaly.

[6] يعتبر المسّاحون في لبنان أن دورافور هو أب المساحة في لبنان، فنجد له صورة مثلاً في مكتب نقيب الطوبوغرافيين.

[7] Gabriel, A. (1954). L’établissement du cadastre et le remembrement des propriétés rurales au Liban. s.n.

[8] Kilzi, J. (1995). Le cadastre et les services fonciers au Liban.

[9] Tabet, A. (1936). La réforme foncière en Syrie et au Liban. Banque de Syrie et du Liban.

[10] Hourani, A. H. (1946). Syria and Lebanon. A Political Essay. Oxford University Press.

[11] عون، م. (1982). تاريخ ملكية الأرض في لبنان. دار المصير.

[12] Samaha, P. (2022). Land as a Cash Machine: The case of Lebanon. GLTN’s Arab Land Initiative. https://arabstates.gltn.net/download/land-as-a-cash-machine-the-case-of-lebanon/

[13] نذكر منها على سبيل المثال دراسة ألبير كوستانيان لمعهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية 2021، منشور استوديو أشغال عامّة 2022 ومقالات في جريدة الأخبار 2020.

[14] فرداي, إ., فاعور, غ., & فيلو, س. (2012). أطلس لبنان: الأرض والمجتمع. منشورات المعهد الفرنسي للشرق الأدنى


انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، أملاك عامة ، لبنان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني