بحثًا عن العام بين الأرض وملكيّتها في لبنان وفلسطين (6):لِمَن الأرض؟ ولأيّة دولة؟


2024-11-19    |   

بحثًا عن العام بين الأرض وملكيّتها في لبنان وفلسطين (6):لِمَن الأرض؟ ولأيّة دولة؟
مزارعون فلسطينيون

كان من المفترض أن نختم هذه السّلسلة بنبذة عن الأراضي المتروكة المحميّة والموات في لبنان. فقد شملنا أنواع الأراضي العامّة كافّة في الأجزاء الخمسة الأولى، مع خلاصات عن إدارة الدولة لهذه الأراضي وأملاكها تحديدًا، بخاصّة مع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة منذ 2019. ومع تزايد أهمية حماية الأملاك العامّة لمستقبل المجتمع ولملمته إذا ما تمّ الاستثمار فيها وإدارتها كمورد جامع، فقد ملأ من هجّرهم نظام الإبادة الصهيوني المساحات العامّة. في هذا الوقت، قرأنا في الصحف عن مقترح “الأملاك غير المكتملة[1]”، وبانتظار تفاصيل أدقّ عن هذه البدعة، سنسخّر هذا الجزء الأخير من السلسلة لعرض موجز لسياسات الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية بشأن ملكية أراضي فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر، بحكم أنّنا كنّا قد فصّلنا تعريفات فئات الأراضي في القانون العثماني في الأجزاء السابقة، وأوضحنا معانيها وأبعادها القانونية والاجتماعية. فقد استخدمت هذه الحركة قانون الأراضي العثماني نفسه، وقانون الطابو مع تعديلاته، لتثبّت ملكيات شاسعة لها في فلسطين قبل ومع الاحتلال البريطاني، ثمّ استكملت سياسات سلب الأراضي بطرق أعنف قُبيل وبعد إعلان إسرائيل استقلالها في عام 1948. سوف نُظهر في هذا الموجز دور الأراضي العامّة والصندوق الوطني الصهيوني في مأسسة الحركة الصهيونية منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومعها بدايات مآسٍ تعيشها بلدان المنطقة بدرجات مختلفة. لا يهدف هذا النص إلى تحليل مدى “قانونية” ما فعلته هذه الحركة وبعدها الكيان الصهيوني – فهو لا شرعي ولا مشروع أساسًا، كونه احتلالًا استبدل شعبًا بآخر، لكن من المفيد فهم آلياته، وذلك لتفادي نوعين من الحجج غير الدقيقة.

يعتمد النوع الأوّل من الحجج على تحليل ثغرات القانون العثماني ليشرح كيف أنّها أفسحت إمكانيات للمحتلّ باستغلالها، ولو لم يكن ذلك بهدف التبرير[2]. ينتج عن هذا التحليل افتراض تسلسل حتميّ للأحداث التاريخية ومفاعيل القوانين، فيما لو قارنّاه مع المسارات المختلفة لتحوّلات القانون العثماني وتطبيقاته في باقي المنطقة لوجدنا أنّها تتعارض معه. كما طرحنا في حالة لبنان، عجن المستعمرون نصوص القوانين وفسّروها وطبّقوها حسب مصالحهم. ففي حين أصبحت الأراضي الموات والأميرية خاصة أو شبه خاصة في لبنان، حرص الإسرائيليون على تثبيتها كأراضٍ عامّة. بذلك، نرى أن المسار الحتمي لتحوّل معاني وتعاريف هذه الفئات ومفاعيل القانون العثماني ليس حتميًّا.

أمّا النوع الثاني من الحجج، فينطلق أيضًا من تفسير القانون العثماني لاستخلاص أنّ الفئات المتروكة والموات والأميرية لم تكن “أراضي دولة”[3]، خلافًا لفئة “الأراضي الحكومية” التي استحدثها البريطانيون لاحقًا، وذلك لإظهار عدم قانونية استيلاء إسرائيل عليها بعد 1948.

عمليًّا، مثلما ميّع الفرنسيون القانون العثماني لخدمة مصالحهم في لبنان، كما فعلوا بصدد قوانين وأحكام الملكيّات في كامل نطاق استعمارهم[4]، أخذ البريطانيون القانون عينه باتجاه مختلف دعمًا لتطلّعات الحركة الصهيونية. ترجموا فئة “الأراضي الأميرية” في أول تقاريرهم كـ state lands، أي “أراضي دولة”. كما عمّموا استخدام “ميري” لكل أملاك الدولة، ووصفوا قانون الأراضي العثماني بأنّه قانون أملاك عامة[5] -على عكس الفرنسيين- مؤكّدين أنّ ليس هناك الكثير من الأملاك الخاصّة في فلسطين. ركّز البريطانيون على حاجة سيطرة الدولة على الأراضي بهدف إدارتها جيّدًا وتطويرها.

تلاقت مصالح الاستعمار البريطاني والمشروع الصهيوني بحيث دعم البريطانيون هجرة اليهود إلى أراضي فلسطين أقلّه حتى أواخر الثلاثينيات. لكن الإحلال بدأ قبل الاستعمار. سوف نعرض بإيجاز كيف بدأت الحركة الصهيونية بشراء الأراضي، ثم نركّز على تفسير فئات الأراضي وِفق القانون العثماني، ربطًا بالموضوع الأساس لسلسلة الأبحاث هذه. لا يشمل بحثنا هنا كل سياسات الأراضي تاريخيًّا في فلسطين ولا حتى جميع ما يتعلّق بفترة الاستعمار البريطاني

صندوق ووكالة واحتلال، عقود ما قبل 1948

فشلت أول محاولة استيطان (احتلال) زراعية واسعة في عام 1878 شمال شرق مدينة يافا من قِبل مجموعة يهود أرثوذكس على مساحة 3000 دنم، لأنّ أغلب المستوطنين لم يكونوا يعرفون عن الزراعة شيئًا.[6] رغم هذا الفشل، أسّست هذه المحاولة لما تلاها من إنشاء مستوطنات عدّة قبل بداية القرن العشرين. يظهر توزّع هذه المستوطنات كيف زرعت الحركة الصهيونيّة نفسها في أخصب أراضي فلسطين ولم تتمركز في مكان واحد. بلغ عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين حينها 30 ألفًا كحدّ أقصى، وغادر قسم كبير منهم بعد فترة وجيزة من وصولهم.[7] لم تكن تلك مبادرات فردية وقد تمّ اقتراح سبل عديدة لتمويل هذه المشاريع حتى تأسيس الصندوق الوطني اليهودي في عام 1901 خلال المؤتمر الصهيوني الخامس. ومن أبرز العمليات التي قام بها الصندوق كانت شراء مرج بن عامر الذي كان مسجّلًا باسم عائلة سرسق البيروتية وتهجير حوالي 15000 فلاح فلسطيني منه في عام 1910.[8] قبل ذلك، وبالرغم من عدم تسجيل حقوق الملكيّة باسمهم، لم يكن يؤثّر موضوع الملكيّة على الفلاحين الفلسطينيين كون وصولهم للأرض وزراعتها كان ممكنًا وكانت الحيازة (حق التصرّف) مستقرّة لهم لفترات طويلة خلت. حسب الباحث بدر الحاج، كانت العائلات التي باعت آلاف الدونمات من أراضيها الواقعة ضمن فلسطين المحتلة أغلبها من سوريا ولبنان، مثال الأسعد، تيّان، تويني، سرسق، مارديني، بزّي، شهاب، وغيرها، ومن الذين باعوا منهم كانوا رجال دين ووزراء.[9] حدث كل ذلك قبل تأسيس الوكالة اليهودية في عام 1929 أو “المؤسسة اليهودية لاستيطان فلسطين” (PICA-Palestine Jewish Colonization Association) في عام 1924 اللتين عملتا أيضًا على تعزيز هذه المشاريع[10] من خلال تجميع الصور والمعلومات المرتبطة بالملكيات والضرائب، بيانات استفادت منها أيضًا العصابات الصهيونية المسلّحة لاحقًا للاستيلاء على القرى وتدميرها.[11] بُنيت هذه المستوطنات، سواء من قِبل الصندوق، الوكالة أو العصابات، على العنف وهدم بيوت الفلسطينيين، وتهجيرهم، وترحيلهم القسري، ومقاطعة التعامل معهم اجتماعيًّا واقتصاديًّا. منذ الأيام الأولى للاستيطان، وقبل 1948 بعقود، اعتمد الاحتلال على إخلاء السكان والاستيلاء على الأرض ومحو الذاكرة ليتوسّع.

المستوطنات الصهيونية الأولى 1878 – وليد خالدي 1984    

 المستوطنات الصهيونية عند بداية الاستعمار البريطاني 1920 – وليد خالدي 1984

وقد رأى الاحتلال أهمية غنى مناطق الشمال بالمياه والأراضي الخصبة فركّزت الوكالة اليهودية أوّل عملياتها في هذه المناطق وليس فقط على الساحل لا سيّما حول بحيرة طبريّا.[12] في حين تفاوض البريطانيون والفرنسيون مرارًا على حدود مستعمراتهم بين سوريا (ولبنان) وفلسطين قبل 1920، مع إرساء “الانتداب” وتعيين أوّل مندوب سامي بريطاني، هربرت صمويل، اتّفق هذا الأخير مع الفرنسيين على الحدود النهائية بين الجهتين. حينها، تنازل الفرنسيون عمّا يُعرف بالقرى السبع وسهل الحولة للبريطانيين، وهي مناطق سوف يهبونها للصهاينة لاحقًا ليطردوا منها أيضًا حوالي 15000 فلّاح، فخسر لبنان بذلك موارد مائية وأراضي زراعية مهمّة. تجدر الإشارة إلى أنّه في الفترة نفسها كان المندوب الفرنسي يسعى لمنع بيع الأراضي في جنوب لبنان للحفاظ على ما اعتبره حق فرنسا من اتفاقية سايكس بيكو.[13]

“تسوية” الأراضي والبريطانيين

يشدّد الباحث منير فخر الدين على محدودية توسّع الاحتلال الصهيوني من خلال السوق، أي شراء الأراضي، وعلى الدور الأكبر للعنف والتهجير في التعجيل بالاستيلاء بخاصّة في العشرينيات.[14] ويؤكّد زريق أنّ الصندوق لم يستطع شراء الأراضي من الفلاحين، بل فقط من كبار المالكين الغائبين، ولم تتخطّ مساحة هذه الأراضي نسبة 9% من فلسطين.[15] بالفعل، كان تأسيس المستوطنات من خلال شراء الأراضي، وبالرغم من تهجير الفلاحين الفلسطينيين قسرًا منها، أبطأ ممّا كان يرغب الصهاينة في إنجازه. لكن بالإضافة إلى الأراضي التي كان عليها حقوق يمكن تبادلها في السوق، شكّلت الأراضي الموات والمتروكة والأميرية، أي أراضي الدولة، خزّانًا للاستيلاء على مساحات شاسعة إضافيّة بمجرّد إعلان دولة إسرائيل لاحقًا واعتبار هذه الأراضي ضمن أملاك الدولة وذلك بفضل كيفية تفسير وتطبيق الاستعمار البريطاني للقانون العثماني.

في عام 1922، أصدر البريطانيون قانونًا استحدثوا من خلاله فئة “أملاك الدولة” لتضمّ الأراضي التابعة للحكومة وحاجاتها الإدارية. يطرح رجا شحادة أنّ هذه الفئة لم تشمل الأميري والموات والمتروك. ورغم تأكيده على عدم شرعية ما قامت به إسرائيل بجميع الأحوال، يدعّم طرحه من خلال تفسير قانون الأراضي وكيفية تعامل البريطانيين معه، وينتهي إلى الاستنتاج بأنّ زعم الصهاينة خاطئ قانونًا. هكذا تفسير يشكّل منزلقًا خطرًا برأينا. فقد تمكّنت إسرائيل من ابتكار قوانين عديدة جعلت من ممارساتها “قانونية”، بالإضافة إلى كون أراضي المتروك والموات والميري هي فعلًا أراضي دولة، كما اعتبرها القانون العثماني وفسّرها البريطانيون أيضًا. وكمثال على ذلك، ارتأت لجنة تسوية الأراضي، وفق أرشيف عام 1920، أنّ إبقاء الأراضي تحت إدارتها وتأجيرها عوضًا عن بيعها هو أفضل للمصلحة العامّة.[16]

في تقرير صدر في عام 1927، أي قبل عام من بدء البريطانيين تسجيل الأراضي من خلال” قانون التسوية”، حاول رئيس محكمة الأراضي في القدس، المحامي البريطاني ريتشارد توت، شرح أحكام قانون “الأراضي الأميرية وأراضي الدولة الأخرى في فلسطين” للقضاة والمحامين المتحدّثين بالإنكليزية، كما يذكر في توطئة التقرير. يركّز توت على قانون الأراضي العثماني، واضعًا نصّ كلّ مادّة منه ملحقةً بشرح، فيذكر أنّ هناك ثلاث فئات أساسية للأرض: ملك، وقف، وأراضي الدولة؛ وتتضمّن أراضي الدولة ثلاثة تصنيفات هي الميري والمتروك والموات. يشرح توت أنّ هذا القانون أتى ليزيل أيّ سلطة لوساطة كانت موجودة بين المزارعين والدولة. في هذا السياق، يُظهر تفسيره لأنواع استعمالات الأراضي ربطًا بالفئات والتصنيفات (يلحظ مثلًا المساحات المزروعة شراكةً، بتسميتها كـ “مشاع”)، فهمًا مطابقًا أكثر لروحية النص العثماني مقارنةً بكاردون الفرنسي، الذي عرضنا تحليله في جزء سابق. يعرض توت أيضًا التعديلات العثمانية التي جرت عام 1911 والتي أثّرت على كيفية استخدام وتوزيع الحقوق على الأراضي الأميرية، بحيث أصبح البناء عليها ممكنًا ولم يعد إلغاء حق التصرّف (استحقاق الطابو) عليها تلقائيًّا عند عدم الاستخدام.

قبل ذلك، في العام 1921، كان الاستعمار قد ضمّ الأراضي المحلولة (أي أراضي الدولة الأميرية، المستحقّة الطابو) إلى أملاك الدولة وحصر إحياء الأراضي الموات، من خلال تعديل مادة في قانون الأراضي العثماني الذي كان لا زال ساري المفعول. لم يعد إحياء الأراضي الموات يعطي حقّ التصرّف بعد فترة إنّما أصبح حقّ إشغالها ممنوعًا من دون إذنٍ وبات اكتساب حقوق عليها غير ممكن. كما تمّ تصنيف جزء كبير من الأراضي الموات المباحة (أي التي كان يمكن للجماعات استخدامها من دون سند طابو)، من خلال قانون الغابات في عام 1926 كغابات تديرها الدولة ومنعت الاستعمالات التي كانت قائمة عليها حسب القانون العثماني. إذًا، رغم أنّ البريطانيين أبقوا على تعريف الموات والأميري والمتروك كأملاك دولة، لكنهم أتبعوها أيضًا لمفهوم الملكية الخاصّة للدولة. وهكذا فقد قلبوا مفهوم القانون العثماني ومبدأ التصرّف والرقبة، وجرّموا التصرّف فيها، فأصبح الفلاحون كأنّهم، بوصولهم للأرض وزراعتها واستعمالهم للمراعي، يحتلّون أملاك الدولة: تحت حجّة التطوير والمصلحة العامّة، مُنع الفلاحّون من التصرّف بالأرض. وصّف مأمورو التسجيل البريطانيون حينها هذا الحق كعادات محلّية تتعارض مع القانون، واضطرّوا على مضض للتعاطي مع آلاف الشكاوى والمطالبات بالحقوق التي أتت تؤكّد على حق التصرّف. بالنتيجة، جعل القانون من الفلاحين الفلسطينيين “محتلين” لأملاك الدولة منذ أوائل العشرينيات.

بدلًا من اكتساب الفلاحين حقوق تصرّف على أراضٍ رقبتها للدولة، أخضع البريطانيون هذه الأراضي إلى مفهوم الملكية الخاصة الغربي. في الحالتين، تبقى هذه الأراضي “أراضي دولة” وفق القانون، لكنّها أصبحت ضمن إطار ومفهوم مختلفين للملكية، يتقاطعان من هذه الناحية مع مقاربة الفرنسيين في لبنان، أي تحويل الأرض إلى ملكيّات.

بدأ البريطانيون تسجيل الأراضي في فلسطين من خلال قانون “تسوية الأراضي“ في عام 1928، أو تحديدًا تسوية المسائل والاختلافات المتعلّقة بحقوق ملكية الأراضي، وذلك بهدف تسجيلها بأسماء الأفراد مع توضيح الحقوق عليها والأهم تحديد أملاك الدولة، وتضمين الأميري والموات والمتروك ضمنها. كما عرضنا في جزء سابق عن تعديلات الفرنسيين للقانون في لبنان، هدف “قانون التسوية” إلى تسجيل الأراضي وتوضيح مالكيها بخاصّة بين العام والخاص. تفصيلًا، ركّز القانون على فرز المشاعات (المزروعة شراكةً) التي كانت تغطي مساحات شاسعة من فلسطين، فتصبح قطع أرضٍ ملكيّتها واضحة ومنفردة وتبادلها ممكن وسهل، والتي لم يستطع اليهود شراءها بإطارها الإداري والقانوني السابق. لم يعدّل القانون فئات الملكية العثمانية، ولم يكن بمثابة قانون أراضٍ جديد، لكن، من خلاله تمّ تسجيل الأراضي المتروكة كأملاك الدولة، أو باسم القرية إذا ما كانت متروكة مخصّصة. في أغلب القرى حيث لا بلديات فيها، تم تسجيل هذه الأملاك كأملاك دولة[17] أيضًا.

على غرار عمليّات المسح في لبنان، عمدت السلطة البريطانية إلى تحديد نطاق كلّ عملية تسوية سلفًا والإعلان عنها في القرى المعنيّة. استمرّ هذا الأمر حتى أواخر الثلاثينيات، من دون أن يتوصّلوا إلى شمل كل أراضي فلسطين. عمليًّا، واجه الموضوع تحدّيات عديدة منها أنّه لم يكن في علم البريطانيين أحوال تقسيم ومواقع الأراضي حسب فئاتها وأصحاب الحقوق عليها. كان المأمورون بحاجّة لاسترضاء الفلاحين لكي يستكملوا عملهم. لكنهم استنسبوا كثيرًا، عمدًا أو عن جهل، فغطّت الدعاوى والاعتراضات أكثر من نصف مساحة القرى والمدن في بعض المناطق، وذلك رغم رغبتهم بتوفير الحلول حبّيًا ومحليًّا من دون اللجوء إلى المحاكم.[18]

ورغم أنّ مساحة فلسطين أصغر من مساحة العراق، كانت عمليات التسوية أبطأ لأنّ الاستعمار اختلط مع الهدف الاستيطاني للحركة الصهيونية.[19] ركزت حكومة الانتداب في عمليات التسوية على المناطق الزراعية الخصبة والسهول الساحليّة بما يتناسب مع مصالح الحركة الصهيونيّة. على عكس نيّات الفرنسيّين المعلنة بتحديث القوانين في لبنان وسوريا، أبقى البريطانيون على قانون الأراضي العثماني، إلّا أنّهم عدّلوا فيه، واستفادوا من تفسير فضفاض له واستكملوه بأوامر ومراسيم تتناسب مع أهدافهم. تجدر الإشارة إلى أنّ ترجمة القوانين العثمانية وتفسيرها بالإنكليزية لم يحدث بوتيرة سريعة، بحيث كان يتطلًب وقتًا ومالًا وخبرة لم ترد الإدارة البريطانية استثمارها[20]، في حين كان يونغ قد ترجم مجموعة القوانين العثمانية إلى الفرنسية منذ عام 1905.

توزّع الملكيات بين الصهاينة والفلسطينيين والأملاك عامّة في عام 1945. خالدي، 1984

انتقال السلطة في عام 1948 وما بعدها

ورثت إسرائيل كلّ ما خلّفه البريطانيون في فلسطين من “مؤسّسات وأملاك عامّة” بفعل الأمر الواقع، علمًا أنّ هكذا تدبير ليس تلقائيًّا بالضرورة. إلّا أنّه أتى نتيجة انسحاب البريطانيين وتسليم الإسرائيليين كلّ شيء بالرغم من إعلانهم أنّهم يتركون للأمم المتحدة حلّ موضوع فلسطين. فالفرنسيون مثلًا، لم يسلّموا جميع أملاكهم (كسلطة) إلى الدولة اللبنانية الناشئة، بل أبقوا على أملاك “خاصّة” للدولة الفرنسية بعد رحيلهم من لبنان حسب ما يؤكّد أرشيفهم، بهدف الإبقاء على مصالح مستقبلية في المنطقة.

إذًا، حتى انتقال “العام” بين من يتولّون الحكم ليس تلقائيًّا أو بديهيًا. يبسط المتسلّط قوته ويأخذ ما يستطيع، مع شرعنة ذلك حسب الحاجة. استولت إسرائيل على ما عرّفته الدولة العثمانية “ميري وموات ومتروك” لكنّها طردت منه أصحاب التصرّف، في حين أنّه في لبنان، أصبح أصحاب التصرّف وجباة الضرائب ملّاكي الأرض. في جميع الحالات، يعود تحديد “لمن الأرض” إلى تعريف من هي الدولة ومن لديه السلطة ولأية أهداف.

بعد تهجير الفلسطينيين وتثبيت الملكيات الصهيونية وملئها بالمستوطنين، وبخاصّة بعد مجازر عام 1948، أتمّ النظام الصهيوني القبض على أراضي فلسطين بواسطة نظام قضائي وإداري محكم. وأكمل نهج التقسيم والتدمير بواسطة تخطيط المدن والطرق والبنى التحتية، وبإصدار التصاميم التوجيهية وقوانين أخرى لتعريف المواطنية ودرجاتها. وكذلك، نظّم تراخيص البناء ومنعها في معظم الحالات عن الفلسطينيين، فأخرجهم عنوة عن القانون وهدّم بيوتهم وجعلهم مخالفين.

في عام 1950، استولى الاحتلال على أملاك الفلسطينيين الذين هجّرهم من خلال قانون أملاك الغائبين. كما أنشأ هيئة تطوير وانتقال الملكيات التي سيطرت على تركة البريطانيين وضمّت إليها تباعًا كل الأراضي التي أعلنها الاحتلال مهجورة (abandoned، وكأنها هُجرت طوعًا) بما فيها الأوقاف، وتلك التي لم تشملها التسويات أيام البريطانيين، مسيطرًا على أغلب الأراضي الخاصّة والعامّة. إضافةً إلى ذلك، أتى الإطار القانوني الإسرائيلي ليسمح بإعلان أراضٍ للمنفعة العامّة لقيمتها الطبيعية أو الأثرية أو الأمنية وضمّها لأملاك الدولة استنسابيًّا، وإخلاء سكانها. استُخدم ذلك غالبًا لإنشاء مستوطنات جديدة ومنع الزراعة أو الرعي.[21] هكذا أصبح مثلًا رعاة النقب “مُعتدين” على أملاك الدولة التي لطالما كان لهم حقوق تصرّف عليها. طبّقت أيضًا هذه الأحكام في الضفّة[22] بعد عام 1967، وحتى اليوم لا تزال تستخدم الأساليب ذاتها. ففي عام 2018 مثلًا، بدأ الاحتلال بتسوية أراضٍ في القدس الشرقية أيضًا، سجّل من خلالها باسم الدولة أي قطعة أرض لا يُثبت مالكها ملكيّته، وفرض، للاعتراض على ذلك، إثبات الملكية على عاتق الفلسطيني، بينما يحدّد الاحتلال طبيعة الإثباتات المقبولة للملكية على هواه، ويعفي نفسه من إثبات ادّعاءاته بالملكية المزعومة للدولة.

يجدر الذكر أنّ الإسرائيليين أبقوا على قانون الأراضي العثماني حتى عام 1969 حين أصدروا قانونهم الخاص الذي أزال نهائيّاً فئات الأميري والمتروك والموات وجمعها كلها ضمن فئة أملاك الدولة واعتمد نظام الإيجارات طويلة الأمد لتوزيع التصرف على الأرض. في المقابل، ما زال الصندوق الوطني اليهودي يؤدّي دورًا أساسيًا في إدارة أملاك الدولة مع العلم أنّه ليس مؤسّسة عامّة. لم يحتج الاحتلال لقانون أراضٍ جديد قبل ذلك، وتمكّن من فبركة وفذلكة القوانين بطريقة تجعل ادّعاءات الإسرائيليين بعدم مخالفة القانون عند استيلائهم على الأراضي عمليًّا “غير باطلة”.

خلاصات

أظهر التحليل المعروض في الأجزاء السابقة من هذه السلسلة عالم الممكن الواسع لتعريف وإدارة المجال العام في لبنان. أدّت الاجتهادات المتتالية والقوانين المشوّهة إلى أنواع متعدّدة من الأراضي العامّة في الواقع، غالبًا ما تتناتشها في ما بينها الجهات التي تديرها وتستخدمها. في المقابل، عرّف وثبّت الاستعمار البريطاني وخلفه الكيان الصهيوني الأراضي العامّة في فلسطين، فطرد منها أهلها، وحصّنها بالعنف ثمّ بقوانينه.

بعد تعديل مضمون هذا الجزء السادس، لم أضطر إلى تغيير العنوان، فالسؤال الأساسي بعد تعريف “ما هو المجال العام”، من مكان وممارسات، يصبح “ما هو العام”. غالبًا ما يسأل الناس في لبنان “وينيي الدولة” للحظ غيابها، لكن السؤال الأجدى “ما هي الدولة” في إطار إدارة أراضيها؟ اتّخذ الملك العام معناه من سياسات الدول، والأصح القول من نمط السلطة. أخذت فئات الأراضي عينها في القانون العثماني مسارات مختلفة. تغيّر المعنى القانوني والاجتماعي لفئات الأراضي بشكل كبير مع القوانين الفرنسية وبعد ذلك مع ممارسات مسح الأراضي وترسيمها التي رسّخت هذه التفسيرات في لبنان. هكذا فعل البريطانيون ومن بعدهم الإسرائيليون، من دون إغفال مسألة شرعية الكيان. يُظهر الافتراق الذي حصل في تعريف الفئات ومصير الحقوق على هذه الأراضي في المنطقة أنّ الفئات نفسها لم تكن هفوات أو ثغرات قانونية ترتّب عليها نتائج حتمية، إنّما قرّر مآلاتها من في السلطة.

تبقى قوانين الأراضي في جوهرها كما وإطارها الأوسع أدوات سياسية تؤطّر وتؤثر على علاقات السلطة داخل المجتمع. يساعد تحليل هذه الأدوات أخذاَ بالاعتبار سياقها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على فهم الفروقات الدقيقة التي لا تزال تؤثّر على تفسير وتطبيق القانون ومعاني فئات الملكية، ولا سيما ما يشكّل منها “المجال العام”.

في لبنان اليوم حيث تتعرّض أملاك الدولة لتهديد الخصخصة المتزايد مع تمادي الأزمة الاقتصادية منذ عام 2019، يمكن الاستفادة إلى حدّ بعيد من التحليلات التي قدّمناها بخصوص فئات الملكية للأراضي وتأثرها بالسياقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. كذلك، يمكن النظر إلى المسارات المختلفة التي اتّخذتها دولٌ أخرى في المنطقة، ففي حين صدرت قوانين محددة للأراضي الأميرية في الأردن على سبيل المثال، لم يتغير التعريف القانوني لها في لبنان حتى اليوم، ولا ضمن أراضي فلسطين المحتلة مع الإسرائيليين حتى 1969 رغم افتراق المعنى بين خاص هنا وعام هناك.

إنّ التركيز على التحوّلات الرئيسية ضمن نصوص القوانين وتداعياتها العمليّة يسلط الضوء على الحالات التي من خلالها أصبحت الأرض ملكيةً (خاصّة أو عامّة)، ويساهم مساهمة حاسمة في فهمنا لهذا العنصر الحيويّ في المجال العام وإدارته والممارسات ضمنه، تاريخيًا واليوم. إنّ فهمنا للمجال العام هو أبرز أهداف هذه السلسلة، في مثال تفتته في لبنان أبعد من عزوه لفشل الدولة، وفي مثال اغتصابه في فلسطين كما رأينا في هذا الجزء، على أمل أن يوفر ذلك للباحثين والناشطين أدلة وطرق عمل أكثر وضوحًا وفاعليّة.


[1] لم نتأكّد من وجود مقترح مكتوب أو اقتراح قانون. ورد الموضوع في مقالات في عدّة الصحف، مثلًا: كارين عبد النور، قانون الملكية غير المكتملة’… واقع لبناني آتٍ أم خيال؟— جريدة الحرة. (6 تشرين الثاني 2024). تصبح “ملكية غير مكتملة” ملك النازحين المشاعات حيث تم بناء مساكن مؤقتة للنازحين في الشوف، الدامور، بعبدا، المتن، كسروان، جبيل، البترون، الكورة، زغرتا، بشري وعكار، بعد انقضاء 5 سنوات.

[2] مثال نورا بركات التي تصف في كتابها ثغرات القوانين العثمانية التي مكّنت إسرائيل من الاستيلاء على أراضي البدو التي كانت أراضي موات في فلسطين مقارنةً بقدرة بدو الداخل السوري على الحفاظ على أراضيهمBedouin Bureaucrats | Stanford University Press. (2023).

[3] مثال أبحاث رجا شحادة الذي حلّل كيفية تعامل الأردنيين مع فئات الأراضي في الضفّة وعرض أنّ الدولة كانت مسؤولة عن الميري والمتروك والموات ولكن لا يمكن تسميتها أو اعتبارها أراضي دولة (state lands) وأن قبل حكم البريطانيين لم تكن هذه الفئة من الأراضي موجودة: Shehadeh, R. (1982). The Land Law of Palestine: An Analysis of the Definition of State Lands. Journal of Palestine Studies, 11(2), 82–99. https://doi.org/10.2307/2536271

[4] أنظر مثلاً مقال كولينز ونام عن الهند الصينية: Collins, E., & Nam, S. (2022). Between the law and the actual situation: Failure as property formation in French colonial Indochina. Environment and Planning D: Society and Space, 40(2), 227–244. https://doi.org/10.1177/02637758221081142

[5] Bunton, M. (2007). Colonial Land Policies in Palestine 1917-1936 (1st edition). Oxford University Press.

[6] Lehn, W., & Davis, U. (1988). The Jewish National Fund. Kegan Paul International. 

[7] Lehn & Davis, The Jewish National Fund

[8] Fakher Eldin, M. (2014). British Framing of the Frontier in Palestine, 1918– 1923: Revisiting Colonial Sources on Tribal Insurrection, Land Tenure, and the Arab Intelligentsia. Institute for Palestine Studies, 60. و منصور، ج. (2020). الأراضي الفلسطينية من التنظيمات فالانتداب فالاحتلال. الدولة بين ملك أفراد وقضايا مجتمع. مواطنون ومواطنات في دولة.

[9] بدر الحاج، مقابلة مع جاد غصن، 23 آذار 2023، الحلقة 87  https://www.youtube.com/watch?v=I8JJiWZKVcs

[10] Lehn & Davis, The Jewish National Fund

[11] Pappe, I. (2007). The Ethnic Cleansing of Palestine. Oneworld Publications.

[12] Lehn & Davis, The Jewish National Fund

[13] بدر الحاج، مقابلة مع جاد غصن

[14]منير فخر الدين، السياق التاريخي لوعد بلفور. سبعون عاماً على نكبة فلسطين. ندوة في المركز العربي، حزيران 2018.

[15] Zureik, E. T. (1979). The Palestinians in Israel: A Study in Internal Colonialism. Routledge.

[16] Bunton, M. (2007). Colonial Land Policies in Palestine 1917-1936 (1st edition). Oxford University Press.

[17] باسم المفوض السامي، “in trust or on behalf of the Government of Palestine”

[18]  Bunton, Colonial Land Policies in Palestine

[19] Essaid, A. (n.d.). Zionism and Land Tenure in Mandate Palestine. Routledge.

[20] Bunton, Colonial Land Policies in Palestine 

[21] نور الدين مصالحة، طرد الفلسطينيين. مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيوني 1882-1948

[22] Shehadeh, R. (1988). Occupier’s Law: Israel and the West Bank. Institute for Palestine Studies.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أملاك عامة ، لبنان ، مقالات ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني