نصت الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (السيداو) فى مادتها التاسعة بند 2 على ما يأتي: "تمنح الدول الأطراف المرأة حقا مساويا لحق الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالهما". وعند التصديق على هذه الاتفاقية تحفظت مصر على النص الدولى، لأن قانون الجنسية المصرى كان يقصر الجنسية المصرية على من ولد لأب مصرى دون من ولد لأم مصرية. وأمام مطالبة المنظمات الحقوقية والنسائية، صدر القانون رقم 154 لسنة 2004 لتعديل قانون الجنسية رقم 26 لسنة 1975، بغرض منح أبناء المصريات من آباء غير مصريين الجنسية المصرية. لكن الثقافة الذكورية الغالبة فى وزارة الداخلية تمكنت من الالتفاف على المساواة بين المصرى والمصرية فيما يتعلق بإجراءات منح الجنسية لأبنائهما، فأطلقت الحق للأب المصرى وقيدته بالنسبة للأم المصرية، بما يخالف صريح نص القانون. فما هو الوضع القانونى لجنسية أبناء المصرية، وكيف حصل الالتفاف على المساواة التى قصدها القانون بين الرجل والمرأة عند التطبيق؟
أولا: النصوص الخاصة بجنسية الأبناء فى القانون المصري:
كانت المادة الثانية من قانون الجنسية لسنة 1975 تنص على أن "يكون مصريا: 1-من ولد لأب مصرى، 2-من ولد فى مصر من أبوين مجهولين. ويعتبر اللقيط فى مصر مولودا فيها ما لم يثبت العكس". هذا النص كان يقرر تفرقة تحكمية لا سند لها من الدستور الذي ينص على مساواة المصريين أمام القانون، دون تفرقة بينهم بسبب الجنس أو غيره من الاعتبارات. لذلك كان نص قانون الجنسية مثارا للنقد من بعض رجال القانون ومن النشطاء الحقوقيين والمنظمات المعنية بأمور المرأة والطفل لسنوات عديدة، دون استجابة من المشرع المصرى، لعدم توافر الإرادة السياسية لإعمال مقتضى النص الدستورى. وكان من المفارقات أن من ولد فى مصر من أبوين مجهولين يكون مصريا، أما من ولد من أبوين معلومين فلا يكون مصريا، ولو كانت أمه مصرية، إذا كان والده غير مصرى.
وفى 14 يوليو 2004 صدر القانون رقم 154، معدلا أحكام كسب الجنسية المصرية الواردة بقانون الجنسية. ونصت المادة الأولى من قانون 2004 على أن يستبدل بنص المادة 2 من قانون الجنسية نصا جديدا يقرر: "يكون مصريا من ولد لأب مصرى أو لأم مصرية…".
ونصت المادة الثانية من القانون الجديد على إلغاء نص المادة الثالثة من قانون الجنسية لسنة 1975، والتي كانت تعتبر "مصريا من ولد فى الخارج من أم مصرية ومن أب مجهول أو لا جنسية له أو مجهول الجنسية". فلم يعد لهذا الحكم مبرر أو مقتضى بعد تعديل المادة الثانية من قانون الجنسية التى اعترفت بالجنسية المصرية لكل طفل ولد لأم مصرية، سواء ولد فى مصر أو فى الخارج، وبصرف النظر عن حالة الأب، هل هو مجهول أو معلوم، يحمل جنسية واحدة أو أكثر أو حتى كان الأب عديم الجنسية.
وأخيرا نصت المادة الثالثة من القانون الجديد على كيفية إكتساب أبناء المصرية من أب غير مصرى الذين ولدوا قبل العمل به الجنسية المصرية إذا رغبوا فى ذلك. فقررت الفقرة الأولى من هذه المادة ما يأتي: "يكون لمن ولد لأم مصرية وأب غير مصرى قبل تاريخ العمل بهذا القانون، أن يعلن وزير الداخلية برغبته فى التمتع بالجنسية المصرية، ويعتبر مصريا بصدور قرار بذلك من الوزير، أو بانقضاء مدة سنة من تاريخ الإعلان دون صدور قرار مسبب منه بالرفض".
ثانيا: المساواة القانونية بين المصرى والمصرية فى حق منح الجنسية لأبنائهما:
على الرغم من وضوح النصوص السابقة، وكونها قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، إلا أننا نزيدها إيضاحا حتى نستطيع أن نفهم بعد ذلك كيف تحولت هذه النصوص الواضحة عند التطبيق إلى أدوات للتمييز بين الأب المصري والأم المصرية في مجال منح الجنسية لأطفالهما.
سوى القانون بين الأم والأب المصريين فى إمكان منح الجنسية لأبنائهما المولودين من الزواج، تحقيقا لمبدأ المساواة بين المصرى والمصرية، فكلاهما يتمتع أطفاله بجنسية أصلية، تثبت للطفل بمجرد مولده بناء على "حق الدم". فالطفل الذي ولد لأم مصرية بعد تاريخ العمل بالقانون تثبت له الجنسية المصرية بقوة القانون، دون حاجة لأي إجراء شكلى آخر، فتكون جنسيته أصلية، مثل الجنسية التى تثبت للطفل الذي ولد لأب مصرى من أم مصرية أو غير مصرية، فلا عبرة بجنسية الأم بالنسبة لأبناء المصرى، سواء ولدوا داخل مصر أو خارجها. وقد قصد قانون 2004 أن يكون الوضع القانونى لأبناء المصرية مماثلا تماما للوضع القانونى لأبناء المصرى، فتكون الجنسية التى تثبت لهم بحق الدم جنسية أصلية، سواء ولدوا لأب مصرى أو لأب غير مصرى، فالعبرة بجنسية الأم المصرية، وسواء ولدوا داخل مصر أو خارجها، متى كانت أمهم تتمتع بالجنسية المصرية.
فالشرط الوحيد الذي تطلبه القانون لتمتع أبناء المصرية بالجنسية المصرية بناء على حق الدم بموجب تعديل 2004، أن تكون واقعة ميلاد هؤلاء الأبناء قد حدثت بعد 15 يوليو 2004. أما من ولدوا لأم مصرية وأب غير مصرى قبل هذا التاريخ، فإن القانون قد قرر لهم حق اكتساب الجنسية الطارئة، إذا توافرت الشروط التى قررها القانون وقرار وزير الداخلية الصادر تنفيذا لهذا القانون.
هذه المساواة القانونية بين أبناء المصرى والمصرية الذين يولدون بعد تاريخ 15 يوليو 2004 لا تثير شكا ولا تقبل تأويلا أو اجتهادا أمام صراحة ووضوح نص المادة الثانية من قانون الجنسية بعد تعديلها. فمصدر التمتع بالجنسية المصرية هو واقعة الميلاد لأب مصرى الجنسية أو لأم مصرية الجنسية وقت ميلاد الطفل، ولا شئ غير ذلك، ولا يجوز لقرار صادر من السلطة التنفيذية، تطبيقا لهذا النص، أن يقرر غير ذلك، وإن قرره بالمخالفة للقانون، فالفرض أنه يشمل أبناء المصرى وأبناء المصرية دون تفرقة أو تمييز، فالمساواة فى الظلم أولى من التفرقة فيه.
لذلك فقصد المشرع كان المساواة الكاملة بين الأب المصرى والأم المصرية من دون تمييز فى حق منح الجنسية المصرية لأطفالهما، مواكبة للاتجاهات الحديثة فى التسوية بين الأب والأم فى هذا المجال، ووفاء بالتزامات مصر الدولية، وإعمالا لنصوص الدستور المصرى ذاته. لكن التطبيق العملى لم يلتزم قصد المشرع.
ثالثاً: التمييز غير القانوني بين المصري والمصرية في حق منح الجنسية المصرية لأبنائهما:
رحب الفقه ونشطاء حقوق الإنسان بهذا التطور التشريعي، الذي سبقتنا إليه دول عربية وغير عربية. وهو تطور محمود يضيف كسباً جديداً لحقوق المرأة، ويقضي على مظهر من مظاهر التمييز ضد المرأة المصرية، لأن هذا التمييز كان يخالف كل القواعد الدستورية التي تقرر المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات دون تفرقة بينهم بسبب الجنس أو أي إعتبار آخر. لكن المساواة التي قصدها المشرع لم تتحقق كاملة على الرغم من صدور القانون الذي قررها.
فقد صدر قرار وزير الداخلية رقم 2025 لسنة 2004، بشأن بعض الأحكام المنفذة للقانون رقم 154 لسنة 2004، ووضع شروطاً لكسب الجنسية المصرية، قضت على العديد من المزايا التي أراد المشرع تحقيقها لأبناء الأم المصرية من أب غير مصري. فالقانون ميز بين الأبناء الذين ولدوا بعد تاريخ العمل بالقانون وأولئك الذين ولدوا قبل تاريخ العمل بهذا القانون، ووضع شروطاً لإكتساب الجنسية المصرية بالنسبة لأولاد المصرية الذين ولدوا <<قبل>> تاريخ العمل بالقانون، فقد علق حصول هؤلاء على الجنسية المصرية على إعلان وزير الداخلية برغبتهم في التمتع بالجنسية المصرية، وصدور قرار منه بذلك أو إنقضاء مدة سنة دون صدور قرار مسبب منه بالرفض.
أما بالنسبة للأبناء المولودين بعد تاريخ العمل بالقانون، فلا يشترط، إن كانت أمهم مصرية، تقدمهم بطلب للحصول على الجنسية أو إعلان وزير الداخلية برغبتهم فى ذلك أو صدور قرار منه لإعتبارهم مصريين. لكن ظاهر نص المادة الأولى من قرار وزير الداخلية يوحي بغير ذلك. فهذا النص يقرر مايلي: "يتبع في التمتع بالجنسية المصرية لأولاد المصرية المولودين من أب غير مصري الإجراءات التالية:
(أولاً): تقديم طلبات التمتع بالجنسية المصرية لهؤلاء الأولاد المولودين "بعد" العمل بالقانون المشار إليه.. إما إلى مصلحة الجوازات والهجرة و الجنسية… وإما إلى مكاتب السجل المدني…
(ثانياً): يعلن أولاد الأم المصرية من أب غير مصري المولودين "قبل" تاريخ العمل بالقانون المشار إليه برغبة كل منهم في التمتع بالجنسية، ويعتبر كل منهم مصرياً بعد صدور قرار وزير الداخلية بذلك أو بانقضاء مدة سنة من تاريخ إعلان الرغبة دون صدور قرار مسبب بالرفض."
ويلاحظ على القرار في صياغته ومحتواه ما يأتي:
1- أنه يخالف القانون رقم 154 لسنة 2004، لأن صياغته تعني شمول الإجراءات الواردة فيه للتمتع بالجنسية المصرية الأبناء المولودين لأم مصرية من أب غير مصري قبل أو بعد تاريخ العمل بالقانون، وهو ما يخالف صريح نص القانون، الذي لم يقيد التمتع بالجنسية المصرية لأبناء المصرية المولودين بعد تاريخ العمل به بأي قيد، شأنهم في ذلك شأن أبناء المصري الذين لم يتغير وضعهم منذ ظهرت في مصر قوانين لتنظيم الجنسية. فإبن المصري يولد مصرياً ويكون كذلك، دون تقديم طلب إلى أي جهة، بينما القرار الوزاري يتطلب بالنسبة لأبناء المصرية المولودين "بعد" العمل بالقانون تقديم طلبات للتمتع بالجنسية المصرية، وتلك تفرقة لا سند لها من القانون وتوصم القرار الوزاري بعدم المشروعية.
2- أنه يعدل القانون بإضافة شروط لتمتع أبناء المصرية من أب أجنبي بجنسيتها المصرية، وهي شروط غير متطلبة بالنسبة لأبناء المصري ولو كانوا من أم غير مصرية، فهؤلاء يتمتعون بالجنسية المصرية بمجرد الميلاد، وتكون جنسيتهم أصلية بقوة القانون. وتلك التفرقة بين أبناء المصري وأبناء المصرية تخالف القانون نصاً وروحاً، وتكرس وجهاً من أوجه التمييز ضد المرأة المصرية وأبنائها بسبب جنسية أبيهم غير المصري، وهي التفرقة التي أراد المشرع القضاء عليها كلية وبصفة نهائية.
3- أن تطلب صدور قرار من وزير الداخلية أو إنقضاء مدة سنة من تاريخ تقديم طلب التمتع بالجنسية لأبناء الأم المصرية من أب غير مصري، يعني أن هؤلاء الأبناء لن يكونوا مصريين إلا في تاريخ لاحق على واقعة ميلادهم، وهو ما يخالف أحكام الجنسية الأصلية التي تثبت للمولود منذ لحظة ميلاده دون حاجة لأي إجراء على الميلاد. وتلك تفرقة غير قانونية في وقت التمتع بالجنسية المصرية بين أبناء المصري وأبناء المصرية، وهي تفرقة لا تستند إلى أي أساس قانوني. فإبن المصرية يتعين عليه انتظار صدور قرار من الوزير أو انقضاء سنة حتى يتمتع بالجنسية المصرية، بينما إبن المصري يكون مصرياً منذ اليوم الأول لميلاده وليس في عيد ميلاده الأول. لذلك قد يكون من الملائم إعادة النظر فى قرار وزير الداخلية المشار إليه، بغرض تحقيق توافقه مع القانون، وإن كنا نعتقد مع ذلك أن الظروف الراهنة لن تدفع فى هذا الإتجاه.
رابعاً: جنسية أبناء المصرية المولودين قبل تاريخ العمل بقانون 2004:
نص القانون في مادته الثالثة مقتضاه إمكان اكتساب أبناء المصرية المولودين لأب غير مصري قبل تاريخ العمل بالقانون الجنسية الطارئة، بإعلان رغبتهم إلى وزير الداخلية في التمتع بالجنسية المصرية. ويكتسب إبن المصرية الجنسية، إما بصدور قرار بذلك من وزير الداخلية، الذي تكون له سلطة تقديرية في قبول منح الجنسية أو رفضها تحت رقابة القضاء الإداري، أو بانقضاء مدة سنة من تاريخ الإعلان دون صدور قرار مسبب من الوزير بالرفض.
لكن اكتساب المولود لأم مصرية وأب غير مصري قبل تاريخ العمل بالقانون للجنسية، يتطلب توافر شروط كسب الجنسية المصرية وأهمها:
1- أن يكون سليم العقل غير مصاب بعاهة تجعله عالة على المجتمع. وهذا الشرط يخالف الإتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي صدقت عليها مصر، كما أنه يميز بين أبناء المصري وأبناء المصرية في هذا الخصوص، فالمولود لأب مصري لا يحرم من الجنسية المصرية بسبب إعاقته أيا كانت جسامتها.
2- أن يكون حسن السير محمود السمعة، ولم يسبق الحكم عليه بعقوبة جناية أو عقوبة سالبة للحرية في جريمة مخلة بالشرف مالم يكن قد رد إليه اعتباره.
3- أن يكون له وسيلة مشروعة للكسب.
4- أن يكون ملماً باللغة العربية.
5- أن يكون لديه محل إقامة في مصر.
ومنذ صدور القانون 154 لسنة 2004، صدرت وتصدر قرارات من وزير الداخلية بالموافقة على منح الجنسية المصرية لأبناء المصريات من أب غير مصري الذين ولدوا قبل تاريخ العمل بالقانون المذكور. وكان وزير الداخلية يرفض منح الجنسية لأبناء المصريات من أب فلسطيني، التزاما بقرار لجامعة الدول العربية صدر سنة 1959 للحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية. لكن القضاء الإداري حكم بأحقية أبناء المصريات في اكتساب الجنسية المصرية دون تفرقة بحسب جنسية الأب غير المصري، تحقيقاً للمساواة بين المصريات. وفى فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسى، صدرت توجيهات منه لوزارة الداخلية بمنح الجنسية المصرية لأبناء المصريات من أباء فلسطينيين، ويقال إنه بناء على هذه التوجيهات تم منح الجنسية لأكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني مولودين من أمهات مصرية. لكن الظروف الأمنية بعد ثورة 30 يونيو قد تدفع السلطات الأمنية إلى إعادة النظر فى قرارات منح الجنسية لهؤلاء الأبناء من أصل فلسطينى، بغرض سحبها من بعض الذين يثبت تورطهم فى أنشطة معادية للدولة المصرية، وهكذا قد يدفع أبناء الأم المصرية، خصوصا من أب فلسطيني، من جديد جزءا من فاتورة الاضطرابات التى تشهدها مصر فى المرحلة الحالية من تاريخها.
والحقيقة أن القانون المصري قد حقق تقدماً كبيراً في مجال المساواة بين المصري والمصرية في حق نقل جنسيتهما المصرية لأبنائهما، فالتفرقة بينهما لم تكن متوافقة مع الدستور المصري، ولا مع المواثيق الدولية. ونأمل في زوال أوجه التفرقة الأخرى في قانون الجنسية بين المصري والمصرية، ونعتقد أن النص الدستوري على المساواة بين المصريين جميعاً كفيل بالقضاء على أوجه التمييز في مجال الجنسية بين الرجل والمرأة. لذلك يكون من الضروري أن تسحب مصر تحفظها على المادة 9/2 من الإتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، بعد أن قضت من الناحية القانونية على هذا التمييز. كما أننا نأمل أن تحذو الدول العربية التي لا تزال تفرق بين الرجل والمرأة في مجال الجنسية حذو القانون المصري، فتزيل هذه التفرقة وتقر المساواة التامة بين المواطن والمواطنة في حق منح الجنسية لأبنائهما من دون قيد أو شرط، ومن دون تفرقة في شروط التمتع بالجنسية، فيكون للمرأة حق مساو لحق الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالهما.