بالعودة الى كتاب الإصلاح (5): عقد اجتماعي جديد… ودولة أقوى من كل أصناف المافيات


2025-02-17    |   

بالعودة الى كتاب الإصلاح (5): عقد اجتماعي جديد… ودولة أقوى من كل أصناف المافيات
رسم رائد شرف

كلّ ما سيق لا قيمة له إن لم تقوى الدولة على الاحتكارات والمافيات التي هي “الترجمة المكمّلة” لدولة أقوى من الطوائف على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية. كما كانت الدولة اللبنانبة أضعف من الطوائف منذ تأسيسها، كانت دائماً هزيلة أمام الاحتكارات. للتذكير فقط ما حصل على سبيل المثال عام 1971 مع إميل بيطار والياس سابا عندما حاول الأول مواجهة مستوردي الدواء،  والثاني فرض رسوم جمركية على الكماليات أو الدفاع عن الصناعة الوطنية. مثل آخر، في دراسة وضعت بطلب من باسل فليحان بعد سنة من إدخال ضريبة القيمة المضافة، تبيّن أن أكثرية الأسواق القطاعية (70% من أصل 300 سوق قطاعيّ) تتحكم فيها ثلاث شركات على الأكثر. مثل أخير عن تنوّع أشكال الإحتكار: عشية الانهيار المالي، كانت 1% من الحسابات المصرفية تملك 50% من الودائع. التصدّي لهذه الحالات الاحتكارية هو المدخل السليم لاستعادة اقتصاد متعافى ومنتج. أيضاً، منذ أيام الاستقلال، الدولة ضعيفة في الدفاع عن أملاكها العامّة وكانت تتباهى قبل الحرب بأنها تؤجّر مسابح الأغنياء والغولف كلوب وغيرها بقيم رمزيّة. وعندما أتت الحرب، استباحت الميليشيات وتوابعها الأخضر واليابس من الأملاك العامة: فكّكوا المصافي واحتلّوا أساسات سكك الحديد، أشادوا مشاريعهم على الأملاك البحرية وردموا البحر، وقطّعت الكسّارات والمرامل الجبال شرائح ولوّثت الأنهر والوديان. وللمافيات شركاء داخل الدولة، ونصف قرن بعد الاستباحة، ما زالت الدولة تتكلم عن تسوية مخالفات وفرض عقوبات تافهة، فيما المطلوب أن تستعيد الدّولة هيبتها وأن تمتلك رزمةً من الأدوات تشمل الهدم والتملّك وفرض غرامات ماليّة رادعة وصولاً إلى اعتقال المعتدين. أيضاً، وبسبب الانهيار الشامل في واقع الدولة، لا بدّ من إعادة تأسيس شاملة تبدأ بتفعيل أجهزة الرقابة لمكافحة الفساد والحشو الزبائني، وتستمر بوضع خطط لإعادة تأسيس الإدارة والمؤسسات العامة وفرض روزنامة ممرحلة لتستعيد الدولة حصرية خدماتها على قطاعي الكهرباء والماء. أخيراً ليس آخراً، لم يخطئ  من لقّب الدولة ب “دولة المصارف”: حان الوقت لقطع العلاقات السامّة بين الدولة والقطاع المصرفيّ بدءاً بتعديل “قانون النقد والتسليف” وإلغاء السرّية المصرفية، مروراً بقيام المصرف المركزي ولجنة الرقابة ومفوّض الحكومة بالواجبات التي حدّدها لهم القانون والتي تنصّلوا منها بلا مسؤولية لا مثيل لها، وصولاً الى وضع خطط تنفيذية (أسوة بالدول التي تحترم نفسها) تستلم بموجبها الدولة المصارف المتعثّرة بدلاً من دور الوسيط المتواطئ الذي لعبته ما أدى إلى تدفيع المودعين كلفة الارتكابات والاختلاسات كافة.

***

لا دولة أقوى من الطوائف والمافيات من دون إصلاح ضرائبي تصاعدي، يشكّل أساس العقد الاجتماعي الذي يجب أن تضمنه هذه الدولة. هنا، على الحركة الإصلاحية أن تتدخل وتضغط في تحديد الأولويّات التي على هذا العهد توفيرها. في ظروف الناس الحاليّة، عليه أـن يتأسس حول ركيزتين: من جهة استعادة مستوى التعليم الرسمي الذي كان سائداً قبل الحرب في الابتدائي والتكميلي والثانوي والمهني وفي الجامعة اللبنانية (ووضع حدّ لفضيحة التعليم الخاصّ المجانيّ لمراعاة الطوائف وإعادة تقييم فضيحة تفقيس حوالي 50 جامعة خاصة). الركن الثاني هو توفير بطاقة صحية لكلّ مواطن ومقيم شرعي في لبنان. توفير تكاليف التعليم والصحة هو مفتاح أساسي لتحرير جمهور واسع من المواطنين وعائلاتِهم من التبعيّة المفروضة عليهم إن من قبل الطوائف و/ أو الزعماء، ولتأمين حاجات حياتهم الأساسية. هكذا فقط تخرج الحركة الإصلاحية من عالمها المنفصل عن الناس وتبدأ في التقاطع مع حاجات المواطنين. 

***

تكتفي هذه المحاولة المتواضعة والأولية بهذا القدر. غايتها المساهمة في إعادة فتح أبواب النقاش السياسي حول الإصلاح، حول الأفكار والخيارات، حول البرامج والأولويات… كل هذه الأشياء التي من دونها لا حياة سياسية، وقد دفنها النظام النيو-طائفي مع اندلاع الحرب عندما قضى على النظام الطائفي التقليدي، ثم استبدله بنظام كانتونات وزعماء طوائف استمرّ حتى بعد انتهائها. في هكذا نظام، تتصحّر الحياة السياسية والفكرية والمطلبية. في هكذا نظام، لِمَ صراع الأفكار أو البرامج إذا صارت غاية العمل السياسي حجز حصّة الجماعة والدفاع عنها؟ ولئلا نرمي المسؤولية فقط على الآخرين، لا بدّ من القول أنّ الأفكار والبرامج غائبة أيضاً من بيئة 17 تشرين. كم من هؤلاء يريدون حقيقة دولة أقوى من الطوائف والاحتكارات والمافيات على إختلافها؟ وكم منهم يعيدون عند كلّ محطة إنتاج الاصطفافات التقليدية العقيمة ببزة جديدة؟ من هنا يبدأ الوضوح ومن هنا يجب أن يبدأ العمل.

لقراءة المقال الأوّل في هذه السلسلة: بالعودة الى كتاب الإصلاح (1): دولة أفراد أو دولة جماعات؟: الرجاء الضغط هنا.

لقراءة المقال الثاني في هذه السلسلة: بالعودة إلى كتاب الإصلاح (2): إلغاء مذهبيّة الرّئاسات مع عقد مواطنيّ: الرجاء الضغط هنا.

لقراءة المقال الثالث في هذه السلسلة : بالعودة الى كتاب الإصلاح (3): وثيقة الوفاق الوطني وروحيتها ما لها وما عليها: الرجاء الضغط هنا

لقراءة المقال الرابع في هذه السلسلة: بالعودة إلى كتاب الإصلاح (4): ثلاثة إصلاحات منسية وحاسمة
الرجاء الضغط هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني