
رسم رائد شرف
صرنا نعيش في أطر دوليّة وإقليمية خرجت من كل “الضوابط” التقليديّة التي اعتدْنا عليها من قبل وتحت إشراف رجليْن (ترامب ونتنياهو) تتأرجح تصرفاتهما الذهنية بين التشبّث بالسلطة و/أو تحاشي السجن، ما يحررهما من أي تماسك منطقي قابل لتقاسمه مع الآخرين. يواكب ويحفّز ذاك النمط من اللا-حوكمة استمرار المشرق العربي في ثقب أسود يبدو من دون قعر فيما يترسّخ في المقابل اندماج الخليج العربي في التقسيم العالمي المتجدّد لرأسمالية متفلّتة من أيّة قيود. إذا كان من المحبط حتى الآن عدم جدوى اختلاط الدم بالصمود في غزة وباقي بلدها، من المنعش في المقابل كيفية سقوط النظام الاستبدادي في سورية وخصوصًا أنّه حصل من دون حمامات دمّ كان يخشى حصولها. بالرغم من ذلك، لا يفوت أي عقلاني صعوبة ملء الفراغ الذي تركه “الاستقرار” المتوحّش لنظام الأسد خلال 55 سنة. أيضًا، لا أحد يستطيع أن ينكر أنّ المنحى المؤسّساتي الذي ستأخذه سورية (بعد “لبننة” العراق و”عرقنة” لبنان) سيكون حاسمًا لمتابعة قصة منطقة ما زالت تنزف من “تغييب” أي شكل دولتي لفلسطين، ومن التآكل والتفكّك الحاصلين داخل دولِها بسبب آليات تحاصص تؤدّي لا محالة إلى تعميق السطوة الإسرائيلية عليها.
***
في هذه الظروف العصيبة، وبعد اغتيال حسن نصرالله (ومن قبله رفيق الحريري وبشير الجميل من قبل)، يبدو وكأنّ الكوكب اللبنانيّ أنهى دورة كاملة على نفسه وتوقّف أمام مرآة قد تعكس له – إذا أراد الالتفات إليها – عورات بنيوية فاق عمرها مائة سنة وعِبر تتخطى إشكالية الاغتيالات / الاستشهادات التي استحقّتها تباعًا “المارونية السياسية” ثم “السنّية السياسية” والآن “الشيعية السياسية”. أبعد من صدمة الموت، تطال هذه العِبر ما ينطوي على مآزق كل هذه المشاريع وفشلها. وإن كان من فرصة أمامنا بعد “انتخاب” ثم “اختيار” الثنائي جوزاف عون/ نواف سلام، فهي بقدر تعمّقنا بجذور مشاكلنا المزمنة و”تشخيص” حالتنا كبلد. إنّها فرصة للإمساك بكتاب الإصلاح وإعادة فتحه على مصراعيه لتحديد أيّ شعب وأيّة دولة صارت البلد بحاجة إليهما لتملأ “محلّها” في المشرق العربي وعلى ضفاف المتوسّط. في الحقيقة، لا أحد يحجز هذا الذي نسمّيه “المحلّ” في الحياة الحقيقية: فقط طبيعة الدولة وإرادة شعب عارف طريقه هما من يحدد معالم هذا “المحلّ” وصلابته وقدرته على الصمود أمام الرياح الهائجة. هنا يفترض من الدولة أن يكون طموحها احتضان وطن، ثم أن يلاقيها شعبٌ أجمع على بناء ما يعتبره بلحظة ما، حلمه الواقعي. عندئذ – بعد الفرصة السانحة والعِبر المستخلصة – يأتي دور المتابعة الدقيقة والهادفة. أبعد من اللعبة التقليدية ومن قيمة الأشخاص كأشخاص، لا تستطيع هذه المتابعة أن تكون (إذا كلّ ما سيق صحيح) إلّا من موقع المعارضة الطموحة والمتطلّبة التي يحتاجها البلد والتي وحدها تليق بـ “كتاب” الدستور (والطائف) وبكتب نواف سلام.
***
يقول من كَتَبَ خطاب القَسَم لجوزاف عون أن “عهدي (…) أن أعمل (…) للدفاع عن المصلحة العامة وعن حقوق اللبنانييّن أفراداً وجماعات”. ومن هنا يبدأ المشكل: إما حقوق الأفراد وإما حقوق الجماعات. حقوق الأفراد والجماعات معاً لا تتطايق إلا يالخطابات. إما دولة تدافع عن حقوق الجماعات – التي تمنح الشرعية للدولة – وبهذه الحالة الأفراد هم حتماً معطى ملحق حتى لو كُرّموا باحتضانهم. وإما دولة تستمدّ شرعيتها من الأفراد/ المواطنين وتدافع عن حقوقهم، وفي هذه الحالة الجماعات/ الطوائف هنّ في المشهد الخلفيّ حتى لو أخذت الدولة العاقلة على عاتقها معالجة ما قد يكون لديها من هواجس. ولكلّ نموذج من النّموذجين دولته. في لبنان عام 1920 كانت (وما زالت) الطوائف أقوى من الدولة، وإحدى الدلائل أنك لا تستطيع أن تكون لبنانياً إلا إذا أعطتك طائفةٌ ما تأشيرة الدّخول إلى “المواطنة” والأدقّ إلى الجنسية، ثم تبلّغ الجماعات الدولة (التي “اعترفت” بها!!!) لتأخذ علماً… هذا هو النموذج الذي أسّس البلد والذي قضى عليها بعد أن استغلته مراراً وتكراراً الجماعات بالتوافق بينها أو الواحدة تلو الأخرى… حتى وصل البلد إلى ما وصل إليه. عطفاً على الجملة الأخيرة – وبعد تجربة معيوشة تفوق القرن – يصبح السؤال: هل حان وقت السير في الاتجاه المعاكس؟ ما المقصود؟ المقصود: هل حان الوقت لكي تأخذ الدولة شرعيتها (وسيادتها) من مواطنيها الأفراد فتكون أقوى من الطوائف/ الجماعات، وليس ألعوبة بين أياديها؟… وفي الوقت ذاته تلتزم هذه الدولة حماية الجماعات مما يخيفها ويشغل بالها، وهذا تصرّف مسؤول لدى أي دولة تحترم نفسها.
***
شكراً لعدم استخلاص مما سبق – وتحديداً في هذه الأيام العصيبة – ومن عبارة “دولة أقوى من الطوائف” بأننا نعني حصرًا دولة أقوى من حزب الله أو من الثنائي الشيعي، مع أنها إن كانت حقاً أقوى من الطوائف فلديها حتماً خطّة أمنيّة على كامل الأراضي اللبنانية وحتماً حصرية اقتناء السلاح على هذه الأراضي، وهي بالتالي حتماً أقوى من حزب الله ومن الثنائي وأيضاً من كافة الأحزاب والطوائف الأخرى. وللحقيقة، الدولة التي نتحدث عن الحاجة إليها سابقة لحزب الله ولإسرائيل وللثورة الإيرانية وللمملكة السعودية ولدونالد ترامب. إنها دعوة للعودة لجذور إشكالية الدولة اللبنانية. إذا كان الهدف من الدولة المنوي (إعادة) بناؤها لجم حزب الله فقط، نكون نعالج (من حيث ندري أو لا ندري) نتائج “حقبة حزب الله” ونكون نؤسس لا محالة لإنفجار أزمة جديدة بعد فترة. أما إذا كانت الدولة المنوي إنشاؤها اقوى من الطوائف، فنكون نؤسس لدولة لن تهتزّ مع كل إرتجاج في حياتنا السياسيّة. نكون إستخلصنا العِير المطلوب استخلاصها من انهيار الدولة التي أنشئت عام 1920 وعرفت إنتكاسات متتالية حتى انهارت نهائياً يعد قرن ما أدّى إلى إنهيار البلد. (يتبع)
متوفر من خلال: