بالعودة إلى كتاب الإصلاح (4): ثلاثة إصلاحات منسيّة وحاسمة


2025-02-15    |   

بالعودة إلى كتاب الإصلاح (4): ثلاثة إصلاحات منسيّة وحاسمة
رسم رائد شرف

هناك ثلاثة إصلاحات تناستها وثيقة الوفاق الوطني. وكثيراً ما يتناساها أيضاً العقل التغييريّ أو لا يقدّر أهميتها، فيما تشكل الأسس الضرورية لكي تقوى الدولة على الطوائف وكي تنبت بذرة الشعب اللبناني لتصبح قادرة على الدفاع عن هذه الدولة. لا بدّ من الإصرار عليها من موقع المعارضة الطموحة (لا التوفيقية فالترقيع لم يعد يرقّع شيئًا) وفي الوقت ذاته المعارضة المستعدة لمراعاة هواجس الطوائف ومعالجتها والتكيّف مع ما يعتبره المواطن حقاً مكتسباً له شرط عدم إضاعة البوصلة.

***

الإصلاح الأول هو الذي يسمح للدولة بأن تتعرّف على أولادها وعلى المقيمين على أرضها باعتيارها مسؤولة عن كل هؤلاء. كيف؟ ببساطة بالقيام بإحصاء وطني (لنقل كل خمس سنوات مثلاً). فقط للتذكير، إن آخر إحصاء أجراه الانتداب حصل في عام 1932. هذا أول مفترق طرق: البعض لا يريد إحصاء لئلا تُعدّ الطوائف (والبعض الآخر يريده للسبب العكسي). أما نحن فنريده لكلّ الأسباب الأخرى: للتعرّف على الأفراد وعلى العائلات، على الأجناس والأعمار، على المستوى التعليمي والمهنة والمداخيل، على مكان الإقامة الفعلية. هذه المعلومات وغيرها ضرورية لتكون الدولة دولة، ومواطنوها مواطنين. ليدفعوا لها ما عليهم أن يدفعوه، ولتدافع عنهم وعن حريّاتهم، ولتقدّم لهم الخدمات التي على كل دولة أن تقدّمها. عدم إحصاء اللبنانيّين منذ أكثر من تسعة عقود يعني كما هو معلوم عدم تعداد الطوائف ولكنه يعني أيضاً انكسار الدولة أمام الطوائف. سُئِل مرة رفيق الحريري عن رأيه بخلل عدم إمكانية الدولة من إحصاء مواطنيها، فأجاب “نحن ما منعدّ”. كان أجدى للبلد أن يجيب “نحن ما منعدّ الطوائف”، فنحن بحاجة إلى إحصاء المواطنين، دون تعداد الطوائف خصوصاً إذا كان الإصرار على تعدادها كفيلاً بتعطيل فكرة الإحصاء من أساسها.

***

الإصلاح الثاني لا يقلّ إشكالية عن الأول وقد يثير حتى ردّات فعل متهوّرة ولكن لا بدّ من التطرق إليه، إن كنا نريد دولة أفراد أيّ دولة عن جدّ. فهذه الأخيرة هي من يرعى الأحوال الشخصية وهي من يمنح القيّمين على الطوائف حقّ انتظامهم القانوني. سيُقال أن هذا هو الوضع القائم إذ أنّ الدولة هي التي تعترف بالطوائف. الواقع أكثر تعقيداً إذ أن الطوائف هي من يمنح بشكل من الأشكال تأشيرة الدخول إلى الجنسية كون الانتماء إلى طائفة أمرا ملازما للهوية اللبنانية وللتمتّع بالحقوق السياسية وبكمّ من الحقوق المدنية. ومن باب الواقعية، سيقول البعض: “فلتكن الأحوال الشخصيّة على الأقلّ اختيارية”. هذا لا يفي بالمطلوب إذ أنه لن يؤدِّ إلا إضافة “طائفة المدنيين” إلى الطوائف الأخرى. المطلوب أن ترعى الدولة الأحوال الشخصية لكل أفراد الشعب اللبناني، وبالتوازي، أن تمنح أيّ راشد حقّ اعتماد أحوال شخصية مذهبية اذا شاء. بالنسبة لحقوق الأفراد، هذا الانتظام الجديد لا يغيّر أي شيء ويحفظ لهم كل حقوقهم “المكتسبة”. أما بالنسبة لعلاقة الطوائف بالدولة فهو يغيّر كلّ شيء، إذ تتحوّل إلى دولة أفراد بدلاً من أن تكون دولة جماعات. نكرّر: بمجرّد أن يطلب الراشد نقل أحواله الشخصية من الخانة المدنية إلى الخانة المذهبية، على الدولة أن تنفّذ مطلبه هذا. والقاصرون؟ إداريّاً، تسجّلهم الدولة أسوة بأيّ مواطن. مجتمعيّاً، يتبعون الأهل حتى إدراكهم سنّ الرشد. عندئذ، لهم كلمة الفصل.  وهنا، من المفيد أن نلحظ أنّ دولتنا العتيدة ستكون قادرةً على منح مواطنيها حقوقًا عجزت عن منحها حتى الدولة العلمانية.

***

الإصلاح الثالث يعني الناخب. يتجاهله عادة خبراء الانتخابات الذين ينكبون على أمورٍ أخرى (حجم الدائرة، انتخاب نسبي أو أكثري، تمثيل طائفي أو خارج القيد الطائفي إلخ) فيما الأهمّ يكمن عندنا في مكان آخر. الاقتراب من صحة التمثيل يفترض في لبنان – أسوة بكل دول العالم – الاقتراع مكان الإقامة الحقيقية وليس مكان القيد. وكلما مرّ الوقت وابتعدت الإقامة الحقيقيّة عن مكان القيد، كلما تشوّهت صحة التمثيل. القيد “يقيّد”، ويرمز إلى مكان تواجد موتاك، لا إلى مكان حياتك وحياة أولادك. الانتخاب مكان القيد كان سنّارة رماها الانتداب لجلب الزعامات التقليدية للمشاركة بانتخاباته من خلال إعطائهم حصصًا نيابية “تليق” بهم و”فرض” على الناخبين إعادة انتخابهم. أحسن قانون انتخابي إذا تم فيه الانتخاب مكان القيد سيغلّب دائماً الاعتبارات العائلية والمذهبية والتقليدية على الاعتبارات الأخرى، وسيقلّص فرص التغيير. أما الانتخاب محل الإقامة فسيغلّب عند الناخب اعتبارات حياته الحقيقية، وقد يحثّه لكي ينظر للمستقبل. هنا أيضاً، حاجتنا لتغيير أساس القانون لا يجب أن تصطدم مع ما يعتبره الناخب حقّه المكتسب، ولا عجب كون الاقتراع مكان القيد هي القاعدة السائدة منذ تأسيس البلد. لذلك وبمجرد أن يطلب الناخب الاقتراع مكان القيد، على الدولة أن تلبي طلبه بنقل مكان اقتراعه. (يتبع)

***

لقراءة المقال الأوّل في هذه السلسلة: بالعودة الى كتاب الإصلاح (1): دولة أفراد أو دولة جماعات؟: الرجاء الضغط هنا.

لقراءة المقال الثاني في هذه السلسلة: بالعودة إلى كتاب الإصلاح (2): إلغاء مذهبيّة الرّئاسات مع عقد مواطنيّ: الرجاء الضغط هنا.

لقراءة المقال الثالث في هذه السلسلة : بالعودة الى كتاب الإصلاح (3): وثيقة الوفاق الوطني وروحيتها ما لها وما عليها: الرجاء الضغط هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني