
رسم رائد شرف
بداية بعض الأسئلة التوضيحية لنفهم على بعضنا: هل الناس تريد استرجاع ودائعها أم تريد حاكم مصرف مركزي مارونيّا؟ هل الناس تريد جامعة لبنانية بمستوى يضاهي الجامعات الخاصّة أم تريد رئيسا شيعيا لها؟ هل الناس تريد أن يستتبّ الأمن ليلاً نهاراً وأن يسود القانون أم تريد مدير قوى أمن سنّي؟ هذه أسئلة من غير المحتمل حتى أن نسألها في القرن الواحد والعشرين إن كنا نريد عن جدّ وطناً ودولة وشعباً. لو كانت الدول تدخل السجن، لوجب اعتقال لبنان بتهمة التمييز “المذهبي” بين مواطنيه. وماذا عسايَ أقول لهذا الشاب الأورثوذوكسي وهذه الصبية الدرزية، وهما يحبّان الوطن أكثر منّي بأشواط، وهما يعطيانني كل يوم دروساً في ولائهما له؟ هل أقول لهما: اعذروني يا أحبّائي، أقدر جهودكما ولكن هذه المراكز لا تعنيكما، والموضوع لا علاقة له بالكفاءة. وببساطة إنها محجوزة لغيركما.
***
موضوع مذهبيّة الرئاسات نموذج ساطع لطوائف ثلاث كبيرة أقوى من الدولة. أريدَ للبلد عند تأسيسه أن يكون المسيحيون أكثريته العددية، إلا أن الديموغرافيا شاءت غير ذلك. صاغ الانتداب معادلة ثلاثية سمّيت “عرفاً” قوامه تطييف بعض المناصب (رئاسة الجمهورية للموارنة، رئاسة الحكومة للسنّة)، على الأرجح بعد تمرّسه في إدارة البلد، وبغية “تجميد” رغبة تخطيها إن عند المعنيين أم عند الباقين. قبل الاستقلال، تقاسم مسيحيون من عدة مذاهب رئاسة الجمهورية. وعندما كاد أن يصل مسلم (أحمد الجسر) عام 1932 إلى سدّة الرئاسة، علّق الفرنسي الدستور. أيضاً، قبل الاستقلال، تقاسم رئاستي مجلسي الوزراء والنواب مسيحيون (من عدة مذاهب) وسنّة. أول مرّة ترأس سنّي الحكومة كانت عام 1934، ولم يترأّس أيّ شيعي أيّا من الرئاسات الثلاث قبل الاستقلال. بعد الاستقلال، ما سمّي “عرفا” توسع ليشمل رئاسة مجلس النواب للشيعة وقد اكتسى قوة فولاذية حيث لم يخرق إلا مرة واحدة عندما ترأّس الأورثوذكسي حبيب أبو شهلا ثاني مجلس نواب). الأهم أننا عندما صرنا “مستقلين” وبين بعضنا، ساد “عرف” مذهبية الرئاسات الذي هو ترجمة لغلبة الطوائف الثلاث الكبيرة على الدولة والبلد وباقي اللبنانيين… غلبة شكلية في البداية إذ كان المتحكّم بالكرسي الماروني يحرّك الرئاسات الأخرى بعد أن حوّلها إلى مجرد سنّادات له. أحداث عام 1958 وشخصية فؤاد شهاب أدخلت تعديلات في التعاطي والمناصفة في تشكيل الحكومات، ما أوحى أنّ المشكلة على طريق الحلّ. إلا أن حرب ال67 والردّة الداخليّة التي نتجت عنها والوجود الفلسطيني المسلح، كل ذلك أعاد عقارب الساعة إلى الوراء. ولم يكن الفراغ الحكومي الذي دام أشهرًا طويلة قبل اتفاق القاهرة (1969) إلا إنذاراً بعودة اشتعال المشكلة المؤسساتية التي فاقمتها المعضلة الفلسطينية. تلخيصاً، المشكلة هي التالية: يحكم البلد رئيس جمهورية مطلق الصلاحيات، وفي الوقت ذاته هو غير مسؤول أمام أيّ سلطة. هذا هو الوجه “المؤسساتي” للمشكلة التي وَجَدت وثيقة الوفاق الوطني حلاً لها بنقل السلطة التنفيذية من موقع غير مسؤول (رئاسة الجمهورية) إلى موقع رئاسة الحكومة، المسؤول أمام مجلس النواب. بكلمات أخرى، بعدها، انتقل لبنان نظرياً من نظام رئاسيّ متفلّت إلى نظام برلماني مضيوط.
***
كاد مؤتمر الطائف أن يتطرّق إلى مذهبية الرئاسات لإعطاء مضمون حقيقي للإصلاح المؤسساتي ولكنه لم يفعل (أو لم يجرؤ؟). توقف في نصف الطريق لعدم عرقلة إقرار الاتّفاق. أراد البعض أن يفهم من عدم التطرق هذا تثبيتاً ل “العرف”، وراج هذا التفسير مع أنه لم يكن كذلك. بدا الإصلاح وكأنه نقلٌ للصلاحيّات من الموارنة للسنّة، مع ما يعنيه هذا التفسير من تسخيف لمغزى الإصلاح المؤسساتي. وترسّخت الصورة مع الثنائي الهراوي – الحريري، بسبب تبعيّة الأول (بما فيها المالية) للثاني. واكتملت بما عرف من بعد ب “الترويكا”، (عربة روسية من ثلاثة أحصنة يقودها في ظروف لبنان سائق سوري). بادر إليها حسين الحسيني واستفاد منها نبيه بري. صار هدف الموارنة المعلن الإتيان برئيس “قويّ” لاستعادة الصلاحيات، ولذلك تعمّممت قاعدة انتخاب قائد الجيش (تحديداً بعدما منعها الدستور!). وبعد خروج القوات السوريّة من لبنان، تحوّلت “الترويكا” إلى ثلاثة إهرامات. هكذا تشوّه الإصلاح المؤسّساتي البرلماني الذي أراد إدخال “المسؤولية” في نظام دولة المؤسسات. نتج عن التلاقح بين الإصلاح و”العرف” ثلاثة إهرامات غير مسؤولة وبنيان مسخ تتراكم فيه مع مرور الوقت طبقات الهرطقات.
***
قبل الطائف، كانت رئاسة الجمهورية معقودة لسياسي من المذهب الماروني، ورئاسة مجلس النواب لسياسي من المذهب الشيعي، ورئاسة الحكومة لسياسي من المذهب السني. يعد الطائف، وللحقيقة بعد الحرب، “زحلت” الرئاسات لتصبح ملكاً للطوائف، ثم تدريجاً للرمز الأقوى داخل كل طائفة. وبربكم، ماذا تراني أقول للشاب الاورتوذوكسي والشابة الدرزية؟ هل أعيد ترنيمة “عفواً عمّو، هذه المناصب ليست لكما ولا لكثيرين مثلكما”. هذه المرة، إعذروني لن افعل، سأتجرأ واقول لهما: هذا “العرف” الذي نظّمه الانتداب بين السياسيين هو مجرد سطو على رئاسات البلد (ولا يمتّ بصلة حتى إلى الطائفية التي هي شيء آخر، فهي تمثيل المذاهب في البرلمان والحكومة والإدارة). وقد أدّى تقاعس السياسيين في الطائف عن معالجة هذا التشويه إلى تكليف البلد ثمناً غالياً ما برح يتعاظم. تعالوا ننفض الغبار عن الغرفة العفنة وندخل هواء نقيّاً إليها. تعالوا نتخطى “عرف” السياسيين البائس، ونستبدله ب”عقد” بيننا كمواطنين، وفحواه: بعد إلغاء مذهبية الرئاسات، إذا كان رئيس الجمهورية من المسلمين فليكن رئيس الحكومة من المسيحيين، والعكس بالعكس. هذا العقد يحترم روحيّة الطائف أكثر من “العرف” المشوّه ولا يحتاج الى تعديل دستوري، والأهم من هذا وذاك، يؤسّس لوضع نكون كلّنا متساوين فيه، الأمر الذي سيفتح أخيراً الطريق أمام ولادة الشعب اللبناني. (يتبع)
هذا العقد يحترم روحيّة الطائف أكثر من “العرف” المشوّه ولا يحتاج إلى تعديل دستوري، والأهم من هذا وذاك، يؤسّس لوضع نكون كلّنا فيه متساوين في تبوؤ أعلى المراكز، الأمر الذي سيفتح أخيراً الطريق أمام ولادة الشعب اللبناني.
***
لقراءة المقال الأوّل في هذه السلسلة: بالعودة الى كتاب الإصلاح (1): دولة أفراد أو دولة جماعات؟: الرجاء الضغط هنا.
متوفر من خلال: