الذين ينسون أحزانهم يبكون لأشياء لا يعرفونها. (محمود درويش)
لن ننسى أحزاننا. في 18 شباط تجدّد عرس الحريّة وزقزقت القلوب بحذر. انسحب جيش جرائم الحرب ودخل الجيش اللبناني قرى قضاء مرجعيون (يارون ومارون الراس وبليدا وميس الجبل وحولا ومركبا والعديسة وكفركلا والوزاني). وكشفت معارك الطائرات مع البيوت عن أهوال، وشرّعت هذه المعركة لنا بوابات الحزن، إلى آفاق جديدة من آيات الصمود.
تحدّد موعد التحرير عند الساعة العاشرة صباحًا. جهّزنا السيارة الساعة الثامنة بشيء من الماء والفطور وأناشيد الجنوب. وصلنا نحن والثورة والغضب وأمل الأجيال على الموعد المحدّد لكن هناك من سبقنا ودخل القرية باكرًا قبل أن تبدأ الجرافات بإزالة السواتر. “تبًا، لماذا لم نأتِ أبكر يا علي؟”…
نحو حولا المشاعر تتخبّط والحديث يطول… الطريق إلى الجنوب وحده قصّة، منازل حولا وحدها قصّة، لهفة الناس وألمها على المنازل المهدّمة قصّة، المزاح المختلط بالحرقة قصّة، وابتسامات الأهالي وسط الدمار غير المعقول قصّة كبيرة، وأهل حولا كل القصة… من أين أبدأ؟
أنقل لكم مجموعة مشاهدات الدّمار مع شيء من حواضر الذاكرة، علّها تكشف أسرار نسيج الروح المرحة دائمًا، روح حولا التي تواجه الأحزان بشجاعة وتحتفظ بالابتسامات على الوجوه، ولسان حالها يقول “لا شيء يكسرنا”… فهل أبدأ من وجوه الناس، أم من رسائل البارود في حوار القنبلة والبيت؟ أو ربما أعود إلى رحلة الطريق وتجليّات ذاكرة الطريق؟
لا فرق…
الضيعة القديمة
في الطريق إلى القلوب…
من لم يعتدْ المرور في إحدى الطرقات الثلاث أو الأربع الأساسيّة التي تؤدّي إلى حولا، سيقاربها كما يقاربها الـ GPS، فيراها مجرّد وجهة سير وإحداثيات. أمّا بالنسبة لنا نحن جيل حولا الشاب، فقد توارثنا تجارب طقوس العبور إلى حولا وكأنها احتفاء بولادة جديدة كل مرّة. الأمر موروث، بإمكانك أن تسأل فتتأكّد. ذلك أنّه غالبًا ما روى أهلنا أو الأكبر سنًا، عن ذكرياتهم في كل قرنة وزاوية من وادي السلوقي، ولو تغيّرت معالمه اليوم. الوادي كان غابة من الأشجار المعمّرة قبل أن تحرقه إسرائيل، كان يعبره نهر ماء عذب قبل أن يجفّ (يتجدّد أحيانًا بمنسوب قليلٍ في الشتاء). اغتيل عددٌ كبير من أشجاره العتيقة، لكن الوادي قاوم كما قاومنا، وجدّد شيئا من سنديانه وأحراجه، أمّا “الدحنون” (شقائق النعمان) فلا زال صامدًا على أطرافه، يرحّب بالقادمين قبل أن يتّجهوا صعودًا نحو القرية. يروي أهلنا تجارب الشقاء والسعادة حين كانوا أطفالًا يمشون مسافات طويلة إلى قريّة شقرا ليتعلّموا القراءة والكتابة عند آل الأمين. وذكرياتهم كثيرة لا تقتصر على الرحلات الطويلة سيرًا إلى ميس أو مركبا أو حتّى إلى سهل الحولة وإلى قرى فلسطين (أي حين كانت وجهة طبيعية لأهالينا قبل اصطناع الحدود). ذكرياتهم أبعد، اختلطت فيها ليالي الجوع والبرد بالمصائب وطلب العلم ومع ذكريات المرح والمزاح.
لكن بين كل أخبار الأهل، أكثر ما علق في ذهني، هو ما كانت ترويه أمّي حول هذه الطريق من حولا إلى شقرا، نزولًا فسهلًا فصعودًا، أنّها صنيعة أبناء البلدة. هذه الطريق لم تشقّها الدولة بل حفرها أبناء حولا بسواعدهم، ولم يستعينوا سوى بجرّافة صغيرة ومعدّات بسيطة، فكانوا يرصفون حجارة الطريق بأيديهم وقد أخذت هذه العملية أشهرًا من العمل المضني حتّى تمكّنوا من شقّ الطريق. وكان هاجس أبناء البلدة حينها في – الستينيات قبل الاحتلال – أنّه إذا ما مرض شخص ما أو أصيب أحد ما بالقصف الإسرائيلي، (أو ما يوصف اليوم بـ “العربدة” تبعًا لسرديّة توحي اليوم أنّ العربدة حدث استثنائي) فـ “نحن لا نريد للمريض أو المصاب أن يموت على الطريق قبل أن نتمكن من إيصاله إلى المستشفى”. بمعنى آخر فالطريق التي صنعها أهالي حولا بأيديهم كانت بجدارة طريق الحياة. وهذا أحد معانيها بالنسبة للأكبر سنًا.
لاحقًا فترة الاحتلال، أصبح هناك طريق واحدة تؤدّي إلى حولا هي طريق المعابر. وإذا ما كنت محظوظًا ستصل من بيروت إلى حولا بعد 8 ساعات في الحد الأدنى. وأكتفي بنقل مشهد واحد من طريق المعبر:
كان عمري لا يتجاوز الأربع سنوات. أبو رفيق، أحد ثلاثة أو أربعة سائقين يقلّون الناس إلى حولا، هو صاحب نكتة بإمكانه أن يغطّي على وحشة الانتظار على المعابر. أمّي وخالتي تبدوان قلقتين وهما تحاولان طمأنتي أننّا سنصل. وكلّ ما أفهمه أنّ هناك زحمة من السيّارات وأنّ الناس متوتّرة. يخرج أحد الأشخاص غاضبًا ويرمي بضع عبوات من المشروبات الغازية على الصخور، فتصبح مثل النوافير، ثم يصرخ ويشتم ويرمي أكياسًا كبيرة من البسكويت. عندها يترجّل أبو رفيق من السيارة ويباشر توزيع البسكويت على الأطفال والناس في سياراتهم، وكان لنا حصّة من البسكويت. ورغم أنني كنت صغيرًا حينها، لكني فهمت كلّ الموضوع، أبا رفيق يسيطر على الأوضاع هنا… لكن يبدو أنّ الابتسام ممنوع، فقد أخذ جنود الاحتلال أبو رفيق وطالت فترة انتظارنا أكثر، لكن حين عاد كان وجهه يضفي الطمأنينة، وعرفت أنّنا سنتخطّى فترة الانتظار ونعبر، وقد عبرنا بالفعل!
الدمار على مدّ العين
الطرقات إلى حولا مفرطة في المعنى
يوميّات الطريق في الاحتلال لا تنتهي قصصُها، ومصائبها وآلامها. أمّا بالنسبة لجيلنا الشابّ، فمعنى تجربة الطريق قد يكون أقلّ نضالًا أو شقاءً أو شاعريّة لأنّ أغلبنا لم يمشِ هذه الطريق كما فعل كبار السن، وكثيرون لم يعبروها فترة الاحتلال، وأكتفي بنقل ثلاثة مشاهد أخرى من فترة ما بعد الاحتلال (1976-2000)، وما قبل احتلال (2024-2025):
مشهد أوّل، في رحلة مع أصدقاء بالسيارة. نمرّ في قرى الجنوب. قرّر صديقي أن نلقي السلام على كلّ من يصادفنا على الطريق. كلّ من ألقينا عليه السلام مازحنا وعزمنا على شرب الشاي أو الغذاء.
مشهد ثانٍ، انقطعت سيارتنا ووقعت في قناة عند مفرق كفركلا، ولم نستطع تحريكها، وكانت الحركة على الطريق نادرة ليلًا، وخشينا أن ننتظر طويلًا قبل حلّ المشكلة. لكن في أقلّ من دقيقتين أتى شخص وقرّر أن يأتي بسيارته “البيك آب” ليرفع سيارتنا (من دون مقابل). أثناء الانتظار، مرّت نحو 8 سيارات، اثنتان منها لم يعرض من فيها مساعدتنا لكن السائقين اعتذرا لأنّ عائلتيهما معهما في السيارة (ويعلمان أنّه سيمرّ الكثير من الناس للمساعدة).
مشهد ثالث، نقف على الحدود في العديسة نتأمّل فلسطين المحتلّة، أحد الأصدقاء (ليس من الجنوب) يلحظ الفرق بين تطوّر الزراعة عند العدو، وشكلها الذي يبدو فوضاويًا من طرفنا. أفكّر أنّه محقّ ولكنّ تجربة قطاف الزيتون شيء آخر، لا أظنّ أنه سيتعاطف معها، بالطبع لا يتلقى مزارعو الجنوب مساعدة من الدولة في زراعتهم، ولكن يبقى أنّ قيمة الزيت والزيتون بالنسبة لهم ليست تجاريّة، إنّما هي أسلوب عيش. أنظر إلى والدي، وأظنّ أنني أعلم في ما يفكّر، تلك الأرض المقابلة هي فلسطين أصلًا، لا شركة زراعيّة لتصدير الخوخ والدرّاق، لطالما مشى أهلنا في هذه القرى، هي ليست للقادمين الجدد، أيًا كانت تنظيماتهم ومعارفهم الزراعيّة…
تبقى تجربة الطريق هذه خاصّة ربما، لكن لكلّ أبناء البلدة كبارًا وصغارًا تجاربهم الخاصة في بهجة الرحلة. ومختصر الكلام، أنّ الطرقات إلى حولا مفرطة في المعنى، لإفراطها في الذكريات وفي علاقات الألفة والمودّة مع الناس والطبيعة. وغالبًا ما يتردّد سؤال أيّ الطرقات إلى حولا أعزّ الى قلبك، وأنا أفضل طريق الوادي، لروعته وهدوئه وجماله وإن كان يؤخذ عليه أنّه كثير التعرّج، فهذا أمر جدلي… بأيّ حال، فضلنا هذه المرّة في يوم التحرير الثاني، القدوم من جهة ميس جنوباً، وهي أطول، لكن أردنا التعرّف على أحوال المنازل تلك الجهة، وهي التي أخذت نصيباً من الدمار. فكان توسّع الدمار كلما اقتربنا، بمثابة تمهيد لما سنراه في حولا. وقد أعلن “الدحنون” الذي كان في انتظارنا -صامداً بوجه القنابل-، أننا وصلنا إلى حولا.
خطاب التدمير السادي
لطالما فهمنا متلازمة جبن هؤلاء الجنود الأوكران والبولنديين أو أي من كانوا الذين أتوا من كلّ حدب وصوب. لطالما واجهنا حقدهم على أهل الأرض. نفهمهم. يحاولون اليوم مخاطبتنا بصوت طائرات أغلظ وبقنابل أكبر وأكثف وبالدمار الشامل، هذا مفهوم. يعتقدون أنّهم يخاطبوننا إذا ما غيّروا طعم الهواء من منعش إلى حامض، وإذا مسحوا معالم الأحياء وسلّطوا علينا رائحة البارود تلاحقنا أينما اتجهنا، وإذا هشّموا الطرقات ودمجوها بالحقول، أو إذا أقاموا السواتر الترابية والحفر العميقة لإعاقة سيرنا بقصف الطرقات ونسف البيوت، والأنكى بالجرف الذي يخلّف حفرًا أكبر. لكنّنا سنسير بمطلق الأحوال، ومن لا يمشي في قريته! ويلاحظ صديقي علي كيف أنّهم انتقوا أماكن إعاقة الطريق بعناية. ففي مدخل القرية لجهة وادي السلوقي صعودًا، اختاروا أن يقصفوا كوعًا قاسيًا، قد يفاجأ به السائق، كما قصفوا مداخل كل الحارات، وفي حي “المرج” مثلًا حرثوا بالجرافة تقاطعًا أسفل الوادي، الخ.. لكننا عبرنا حيث استطعنا، وساعة تلو أخرى كانت جرافات الجيش وجرافات الأهالي تزيل ساترًا هنا وتردم حفرة هناك، وأصبحت أغلب الطرقات سالكة نوعاً ما بعد الظهر.
هذه الأرض تألفنا ونألفها، وكان وجود الجيش اللبناني وتلاقينا مع أهالي القرية، يزيد من الألفة، نمازحهم تارةً ونسألهم أين يمكن أن تصل بنا السيارة تارة ثمّ نوجّه آخرين لنقل الخبر، ونمازحهم بطبيعة الحال. نسير لنتفقد بيوت الأصدقاء والأقارب. نحاول قياس الدمار لنعقله ونستوعبه. لا مبرّر عقلانيًا للدمار بل هو الحقد، وكيد أهل الأرض. ونفهم ذلك أكثر من الكتابات العبرية التي خلّفوها على بعض المجمّعات التجارية، أو التي كانت سلسلة من المحال التجارية، ودُمرت واجهاتها وأصبحت كأنّها جدران لإعلان الحقد. أمّا الدمار، فأغلب ما نسمعه من تعليقات أهالي البلدة أنّه “شي بيحرق البلد”. وقد لا تحترق قلوبنا على منازلنا، بقدر ما تحترق على دمار منازل الأحبّة. فعادة، ما يواسي المنكوب من أهالي البلدة معرفته أنّ هناك دائمًا من سيسنده. لكن الدمار كبير جدًا هذه المرّة. كيف لا تحترق قلوبنا على الأحبّة؟ لا بدّ أن نتجرّع كأس الحزن وندرك كيف ستكون عليه أوضاع سكّان القرية، وإلّا إذا أهملنا أحزاننا، كما يقول درويش، سنبكي لاحقًا لأشياء لا نعرفها.
لذا نعدّ آلامنا… وعمومًا في ما عدا حارتين في أوّل القرية (القدّام والقرقاف)، حيث الدمار أقلّ، فالبيوت في “حارة الدير”، و”التل”، أي قرب الحسينية، وفي “القرية القديمة”، وفي “الحمامير”، وفي “حارة الشماليات”، وفي “المرج”، وفي “الساحة” عند نصب شهداء 48، وفي حي “المعاقب” (حيث أتمّ العدو سلسلة تفجيرات بالعبوات الناسفة) وفي جوار “العباد”، في كلّ هذه الأحياء كنا نرى من بعيد أنّ قليلًا من البيوت غير مدمّر حتى نقترب منها أكثر لنجدها مقصوفة ومحترقة من الداخل. أمّا في النمرية، النقطة الأقرب للحدود، فالبيوت ليست مدمّرة فحسب بل ممسوحة المعالم، ويبدو أنّها مُسحت بالجرافات، بحيث لم أستطع التعرّف على حدود منازل أعمامي وأقاربي. وغالبًا ما نتوه عن مكان منزل ما نبحث عنه لأنّ الطرقات والحقول أصبحت واحدة. وتكرّر أمامنا مشهد أصحاب البيوت يجلسون فوق الركام يأكلون فطور الصباح أو يبحثون عمّا يمكن إنقاذه من أغراض لها قيمة ذاتية معنوية لهم. ونتكهّن إذا ما كان هذا المنزل أو ذاك صالحًا للترميم. ونفرح إذ وجدنا بالفعل عددًا قليلًا جدًا من بيوت الأصدقاء التي لم تتعرّض لأذى، وقد تلقى هؤلاء التوبيخ منّا على سبيل المزاح…
مشاهد من يوم التحرير
مشهد أوّل: امرأة مسنّة لا أعرفها نراها أوّل البلدة تبتسم وتحمل علم لبنان.
مشهد ثانٍ: اتجهنا نحو “المرج”، أردنا أن نرى بدايةً حال بيت صديقي، الذي جرى قصفه قبل أيّام قليلة، كاد لينجو البيت لولا تمديد الاحتلال. في منتصف المرج، لا زال الساتر الترابي قائمًا، لم تصل إليه الجرافات بعد. ونمضي سيرًا على الطريق التي فقدت معالمها، نقفز فوق صخور زحفتْ إلى الطريق حينًا، أو فوق أسلاك الكهرباء، بعد أن طأطأت عواميد الشبكة رؤوسها. معظم البيوت مدمّرة أو مقصوفة. نصل إلى المنزل وهو في مبنى من ثلاثة طوابق، كلّه قاتم أسود من الداخل والخارج. أكثر ما أسف عليه محمد، مكتبة أبيه وفيها كتب نادرة، ومجموعة تحف ومقتنيات كان جمعها. دخلنا المنزل، وجدنا نحو نصف متر من الرماد، هو المكتبة، وشكل أوراق الكتب لا زال مرسومًا، لكن من رماد. وقد تمكّن محمد أن يخرج من تحت الرماد إبريق فخار، ويقول ربما نتمكّن أن نجد شيئًا آخر تحت الرماد بعد أن نبدأ التنظيف. ونتوقّع أنه ربما يمكن إعادة ترميم المنزل إذا تبيّن أنّ أساساته لا زالت متينة.
جانب من حي المرج
جانب من حي المرج وتبدو الأبنية محترقة
مشهد ثالث: عدنا أدراجنا، لنسلك طريقًا أخرى بالسيّارة، علقنا نحو ربع ساعة عند إحدى الحفر، حيث ضاقت الطريق في السيارات ذهابًا وإيابًا. تطوّعنا وتطوّع بعض الناس لدفع إحدى السيارات وقد رستْ عجلتها في الوحل، ونظّمنا سير السيارات. ثمّ ذهبنا إلى حارة الشماليات. أوّل ما لفت نظرنا، مشهد أصحاب البيوت المهدّمة يأكلون فطورهم وهو جالسون فوق الركام. وقد تكرّر هذا المشهد في أماكن عدّة. وصلنا إلى مفرق منزل صديقي الآخر، لم نستطع الدخول بالسيارة، فعمود الكهرباء قد انحنى وقطع الطريق. يمازحنا علي، “هذه العواميد مثل آل أيوب، اتكاؤها دائمًا إلى ناحية اليسار” (طرفة لن يفهمها سوى أبناء القرية). نصل إلى البيت، كان صديقي على علم مسبق أنّه محترق بالكامل، وفق خبر وصله قبل يومين حين عبرت الناس السواتر عنوةً. نجد ورقتين من أوراق الشدّة عند المدخل (اعتدنا أن نلعب ورق الشدة في هذا المنزل). يقول محمد “يبدو أنّ الجنود كانوا يلعبون الورق في منزلك”. يجيبه علي ممازحًا، “نعم ربما أحدهم أكل الليخة لذا غضب وأحرق المنزل” (طرفة لن يفهمها حتى أبناء حولا). بأيّ حال، تمكّنت أم علي من إنقاذ إحدى التحف التي لم تطلها النيران. ونشتبه حين تفقدنا المنزل وحفر الرصاص على الجدران أنّ معركة طاحنة دارت هنا. وقد سمعنا خبرًا أنّ أوّل الداخلين إلى القرية وجدوا جثمان شهيد في هذا المنزل. وعمومًا، كانت الجرافات وعناصر فرق الدفاع المدني لا زالوا يبحثون عن جثامين شهداء في أماكن عدّة دارت فيها معارك ربما…
الدمار في حي الشماليات
مشهد رابع: في حي الدير، منازل الحجازيّة سوّيت أرضًا. كنّا على علم مسبق، لكن المشاهدة تختلف، حي الدير كله ممسوح. منزل الحجازيّة لم يكن بالنسبة لنا مجرّد وجهة للسهرات تحت التينة والمزاح. هذا المنزل هو لأساتذة مدرسة حولا الذين علّموا أبناء المنطقة، ولأساتذة المدرسة جولات من الاعتقالات والتعذيب بسبب وقفاتهم وصمودهم (لن نستطرد في الحديث عنها فقصصها لا تنتهي). طريق الدير ممتلئ بالحجارة، لكن استطاعت السيارة أن تعبر. والتقينا بصديقنا سلام على الطريق، يحمل العلم اللبناني، وكاميرته ودمية ابنه، ويحمل مكنسة لسبب ما. وبّخناه ووبَّخنا لا لشيء إلّا لأننا التقينا. لكن إذا ما أردت أن أكون صادقًا، كان منظره مطمئنًا ويعني أنّ أجواء المرح في حولا عادت إليها.
سلام وعلمه وكاميرتهما بقي من حي الدير
مشهد خامس: عدنا مجدّدًا إلى طريق المرج، وكانت الطريق فتحت. أكملنا نحو حي “المعاقب”، في هذه المنطقة جرت عملية تفخيخ المنازل وتفجيرها، في منظر الترهيب الذي عرضه الإسرائيليون خلال الحرب. لذا فالدمار هنا كان كبيرًا. وفي “المعاقب”، تفقّدنا منازل بعض الأصدقاء وكانت مدمّرة بالكامل، وعلى طول ما نسميه “الخط” في المعاقب، أو الطريق العام، تكمن أكثر المحال التجاريّة ومعظمها مدمّر بالكامل. وكأنّ المراد هو تدمير كلّ مقوّمات العيش في القرية. ثمّ وجدنا الطريق صعودًا نحو المدرسة ونحو العباد لا زالت مقطوعة، لم نستطع أن نمر لكن وصلتنا أخبار الدمار الكبير هناك أيضًا. ويبدو الدمار الأكبر في حي “النمرية” (على حدود قرية مركبا)، وقد نبّهنا من صادفناهم من أبناء حولا ألّا نتقدّم إلى آخر “النمرية” لأنّ العدو يمارس القنص من نقطته المحتلّة المستحدثة. كانت مشاهد الدمار في النمريّة تحرق القلب. لم أستطع تمييز البيوت بعضها عن الآخر رغم أنّها بيوت أقاربي وعمومتي، ولم أميّز حدود الحقول والأراضي. ممّا يحرق القلب أيضًا تدمير محال سهاد، وقد مسحت بالكامل أرضًا. يخبرنا سهاد إنّ هذه المصلحة كانت ثمرة 30 سنة من عمل والده في الخارج، وثمرة ما مجموعه 40 سنة من عمل أخوته في الخارج. أي أنّها 70 سنة عمل ذهبت بضربة واحدة. والمؤلم أكثر أنّ سهاد فقد والدته وأقرباءه في الغارة الإسرائيلية على بلدة المعيصرة. كيف يمكن أن نواسيه؟!
على أنقاض محال سهادحي المعاقب حيث تحوّلت البيوت إلى أكوام حجارة
مشهد سادس: “الحجّة” ذاتها التي تحمل العلم اللبناني، أصبحت في آخر القرية، لا بدّ أنّها قطعت كل المسافة سيرًا، وتحافظ على وجهها البشوش، وتنظر في عيون الناس كأنّها تريد مخاطبتهم. نحن نعلم ما تود قوله “لقد تحرّرت حولا وفرج همّها”.
مشهد سابع: عمومًا، تتكرّر الوجوه المتجهّمة بخاصّة لأشخاص يتلمّسون بيوتهم المدمّرة، لكن أغلب الناس تمازح بعضها لتروّح عن نفسها. نلتقي بصادق، ما السر أنه بشوش دائمًا؟ كان يساعد الناس خلال الحرب، والآن يواسيهم بابتسامته. نرجع نزولًا نحو ساحة القرية، نجد الأستاذ علي (أحد أساتذة مدرسة حولا) يحاول إنقاذ شيء من كتبه من تحت الركام، يطوي ظهره بصعوبة ليخرج كتابًا من هنا وآخر من هناك، يقف صديقي محمد حائرًا، لا يستطيع معاتبته في ألّا يتعب نفسه الآن، هو يفهم حسرة عمّه. تعابير ألم القلب على وجهه أشدّ من تعابير التعب من آلام الظهر.
مشهد ثامن: نخطف وجهنا، ونمضي نحو “التل”، منطقة الحسينيّة، ومنطقة الحمامير. جارتنا العزيزة سحر (في حي التل) توزّع أقراص الكعك بالتمر، تختلط على وجهها معالم الحزن والفرح. هنا قرب الحسينية الدمار سواء باتجاه “التل” أو نزولًا نحو الحمامير، الدمار هائلٌ لا يوصف، فقد تلقت هذه المنطقة أعنف الغارات، ووجدنا عمق بعض الحفر يصل الى 8 أو 12 مترًا. هنا في منطقة التلّ، منزل خالي واجهته مهشمة، ولم يعد الدرج قائمًا كي ندخل المنزل. نتكهن أنّ هناك إمكانية لترميم المنزل. هذا المنزل أيضًا ليس وجهة من وجهات سهراتنا فحسب، هو منزل أحد الأساتذة أصحاب الفضل بتعليم أبناء البلدة، وخالي علي رحمه الله، كان فقد نظره بسبب التعذيب داخل المعتقل. حقد “الغرينغو” على عيون المناضلين، لم يبدأ في الحرب الأخيرة… ويعزّينا أنّ منزل خالي الأستاذ محمد (أحد أساتذة مدرسة حولا القديمة أيضًا) لم يتضرّر كثيرًا على ما يبدو، لكن لم نستطع تفقّده، إذا تم وضع عبوة اسرائيلية مفخخة قربه، ويبدو أنّ الحي كلّه كان مفخخًا.
حفرة كبيرة أحدثها التدمير الإسرائيلي في حي التلما بقي من حي التل
مشهد تاسع: داخل الحمامير، في الحارات الضيقة نجا عدد من البيوت من الدمار الكامل. لا تكاد تمشي حتى تتعرقل بسلك للتفجير، أو سلك كهرباء من العواميد المنحنية، أو بالأحجار المتناثرة. دخلنا إلى بيوت بعض الأصدقاء المسافرين نتفقدها. وحمدًا لله اقتصرت الخسائر على بعض الشظايا في منزل أشرف، وعلى تخريب داخل منزل ماجد، وغالباً في بيوت ناجية للأقارب دخلناها يتكرر مشهد انقلاب البراد أو الخزانة أو “النمليّة” على الأرض وقد أطلقوا النار عليها. لكن أقلها لم يحرقوا كل المنازل. الأستاذ بسام، أحد أساتذة مدرسة، والد صديقي ماجد، يمازحنا، “أنظر البدلة لم تمسّ”. وما أدراك ما بدلة الأستاذ، وما أدراك من هم أساتذة حولا، الذين كانوا يلحقون الطالب إلى المنزل ليطمئنوا عليه إذا ما كان مريضًا أو بحاجة لمساعدة. الكثير من هؤلاء الطلاب أصبحوا أساتذة ومهندسين، الكثير منهم هجّرتهم الدولة ليصنعوا حياتهم في الخارج، وحتى نتفقد نحن اليوم منازلهم، والكثير منهم أصبحوا أطباء يعالجون الناس بلا مقابل…
لا أدري لماذا تمحورت رحلتنا على منازل الأساتذة، كان هذا صدفة…
الدمار في حي الحمامير
مشهد عاشر: خلف منطقة التل، في طرف القرية القديمة (أيضًا الدمار فيها واسع)، يقع منزلنا. ذهبنا لتفقده بعد أن أتممنا جولتنا في القرية، عبرنا على طرف الحفر الكبيرة، قهوة فؤاد، جامعة “السهيرة” هنا مدمّرة، وكذلك دكان أبو أكرم… نعبر فوق أحجار وأسلاك لنصل إلى المنازل متوخّين حذرنا، من أي ما يثير الشبهة، ونسأل أحد أبناء البلدة إذا ما كانت الطريقة الى البيت آمنة، فيطمئننا…
البيت لم يعد صالحًا
البيت أسود، إحدى زوايا المنزل مفتوحة، ولولا أنّ المنزل من الحجر الصخري لسقطت الغرفة بالكامل. الواجهة الأمامية، لا يوجد واجهة. لا ملامح لأغراض داخل المنزل. كل شيء أسود. البراد والغاز، أصبحا صفائح حديد مسطحة، الأرض ممتلئة بالرصاص. يمازحني محمد، إني إذا ما جمعتها قد أبيعها لمشتري النحاس، وسيكون مردود كبير. نحاول أن نفهم ما جرى هنا، يبدو من كثرة الأسلاك وشكل الجدران، أنّ المنزل نُسِف بالمتفجرات، لكن لا يمكننا التكهن بما جرى هنا.
كنت أعلم أنّ بيتنا احترق، أخبرني جارنا الودود حسن بالأمر يوم الأحد (16 شباط)، لكن صراحةً لم أتوقع الدمار الذي رأيته. وكان عددٌ من الأهالي دخلوا حولا في ذلك اليوم حيث سقطت شهيدة. اسمها خديجة. سبقها علي ونزار وحسن ليرووا حولا بدمائهم. وسبقهم عشرات الشهداء خلال الحرب المدمّرة، عُلّقت صورة لهم في مدخل القرية. ولسان حالنا، لسان حال كل أهالي حولا اليوم، أنّ دماء خديجة وعلي ونزار وحسن، ودماء كوكبة الشهداء الذي سقطوا دفاعًا عن أرضنا، هي أغلى ما نملك. وهي ستجعل “الدحنون” يزهر مجددًا على طريق القلوب. وهي التي ستعيد النبض إلى حولا.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.