“الإصرار على استكشاف ما تَعنِيه الحياة على الحَقيقة، لا يُمكن أن يَخرج بطائل، إذا لم يتمّ ربط مسارها بسرديّة تتجَاوزها، وهوما تَشفّ عنه تجاربنا الجَوّانيّة العميقة، التي يصنعها المتخيّل، فيما يُشبه مادة صخريّة سائلة قابلة للنّحت والتشذيب، بمجرّد خروجها من باطن الأرض إلى سطحها”.[1]
رُبَّمَا تَصلح هذه الفقرة لتقديم كتاب المؤرخ التونسي لطفي عيسى “انعكاس الظلّ”؛ فالكاتب يُقدّم مادته على أنّها تأريخ للذات، وهو أوّل كتاب في جنسه تونسيا، ويُعرّفه المؤلف كالتالي: “التأريخ للذات ليس ترجمة ذاتيّة، ولا اعترافات شخصيّة حميمة، أو عَرضًا فكريّا مجرّدا، أو محاولة للتحليل النفسي، فماهيته تتمثّل أساسا في توضيح العلاقة القائمة بين ما أنجزناه من بحوثٍ معرفيّة أو تواريخ، والسياقات الزمنيّة التي حَصل ضمنها إتمام ذلك”[2].
وبحسب “بيير نورا” فإنّ التّأريخ للذات هو فُرصة تسمح للمؤرخين بـ”فكّ رموز التوجّهات الإيديولوجيّة التي قادت تحوّلات أمزجتهم المعرفيّة”[3]. وقد أرّخَ لطفي عيسى في كتابه للنسيج الذّي صَنعَه كمؤرخ اختار أن يَنحت مادته البحثية من مواد من غير المنوال السائد (الأرشيفات)، أخرَجها من غيب التاريخ والذاكرة إلى السطح؛ سطح الوعي الحاضر “فما لا نسلّط عليه نور وعينا لا يمكن أن ينعكس في حياتنا، إلاّ على شاكلة قدر لا فكاك منه”[4]. كلّ هذا المسار كان يتقصّى “الظلال” و”الأعطاب”، بحثا عمّا يسمّيه في المستوى الجماعي “الحداثات الذاتيّة”، وفي المستوى الفردي عمّا يسميّه يونغ بـ”التحقّق الذاتي”.
مسار للتحقّق أو بين الصّومعة و”الزّرْبيّة”
على المستوى الشخصي يرسم الكاتب مسار تحقّقه الفردي بين “مقامات الشّغف وأحوال التردّد” في “أزمنة الدهشة والاصطدام بتراث قيروان النشأة الأولى المادي، بمِعيارها المُربك، الذي استحَالَ بالتقادم إلى متحف للهواء الطلق”[5]، كما يرسم مسيرة “نصف قرن من الإقبال على المعرفة الجدلي ونقلها” دارِسًا ومُدرّسا للتاريخ الثقافي في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس (كلية 9 أفريل).
لم يُترجِم لطفي عيسى لذاته أو كَتَبَ سيرتها، بل كان وفيّا للجنس الذي افتَتَحه كأوّل جامعي تونسي يكتب فيه، أي التأريخ للذات، وكان سَخيّا بالتزامه. قارئ لطفي عيسى والعارف بمُنجزهِ ومعجمه خصوصا، ربّما يَرِدُ على خاطره أنّ الكتاب في ثلثه الأول هو رسم للأحداث التي “علّمَت” شخصيته، أي شكّلت مجموعة من العَلامات: الولادة في رَبضٍ قصيّ، طفولة في مقابل الجامع الكبير حيث مزار أبي عبد اللّه الرمّاح (ت 749ه – 1349م)، جَدّه البعيد من جهة الأمّ كان بمثابة بيت ثَان حمِيم، مُصاحبة الأخوال إلى الجامع الكبير حيث ينهمكون بهِمّة في ترميم أخشاب المنبر والسقف ومداواتها من التسوّس صحبة خبراء أجانب. كان يُتابع ذلك بشغف وبِخطورة من يَحدس في “لا وعيه” أنّ هذه “المدينة المِصْر التي كانت ناظمة لتاريخ المغارب” تحتوي على شيءٍ مقدّس جليل؛ أساطير تأسيس المدينة التي كانت تتسرّب إلى وعي ساكنتها، ومن بينهم الكاتب، ثمّ الإفاقة على وضعها التراجيدي في مرحلة ما بعد الاستقلال، خصوصا زمن حصول الفيضانات المروعّة لنهاية ستينات القرن الماضي (أكثر من ثلاثة أشهر والمطر لا يكفّ عن الهطول). المدينة عبارة عن متحف في الهواء الطلق، ولكن ثمَّة حياة جديدة تسري فيها.
يُقدّم تردّد لطفي عيسى بين أرجاء مدينة ميلاده مثالا عن حياة يحكمها ما يسميّه “مقامات الشغف وأحوال التردّد”. المقام بما هو إمساك وثبات على معنى ما، وليس أدقّ من كلمة “الشغف” لوصف النفس: شَغَفٌ بالمعرفة والاكتشاف ستظلّ بذرته معه ولن تنطفئ أبدا، فلا يزال لطفي عيسى سواء مدرّسا أو متدخّلا في الشأن العام بنفس الابتسامة و”الفضول الجامح” وبنفس النّار الموقدة. والتردّد بما هو إحالة على “الهشاشات” و”الأعطاب” -نستلف هنا من معجَمه- وكلّ ما يَدور في فلك “الذهول”، وهو يُطلّ على هشاشات النساء خلف الأسوار ويكتشف أسرار جسده، وعلى أزمات انتماء ساكنة الأرباض وتْرُومَا من يَعتبرون أنفسهم وجهاء وأشراف داخل الأسوار، وقَدِمُوا لفتح مدينة دَمّرَها أعراب بنو هلال.
مدهشة استعادته تفاصيل تليق أن تكون في واحد من أفلام المخرج الإيطالي فيديريكو فليني، لذلك لا يخفي الكاتب إعجابه به، بل يقول أنّ هناك تفاصيل تتماثل بين ضفتي المتوسط. وجوه “فَقِيرَات” القيروان ومغنّياته تذّكره بوجوه من فلم فليني “تذكّر”.
يُضيف لطفي عيسى لهذا الإيقاع المتوسطي للحياة نبرة تونسية ولحنا قيروانيا يُحيل على طقوس دفن الليل، وبحّة ترتيل المقرئ “علي البرّاق” وترنيمَه، لكأن الآجر القديم الذي يبتني به أهل القيروان بيوتهم ويُسوُون به رموس مقابرهم لبِنَة تجمع بين برزخي الوجود؛ الحياة والموت. وقد أنجز لطفي عيسى لمّا كان منتسبًا لجامعة السينمائيين الهواة شريطا عن هؤلاء الحرفيين وعن صناعتهم تَخيّرَ له اسم: “ماء وطين”. وللقيروانيين رابطة مخصوصة بـ”البَرَّاح” الذي يُعلن عن الموت بكلماته التي لا تسمعها إلا هناك: “سبحان من لا ينقضي دوامه، سبحان من يملك مفاتيح الغيب وهو علاّمه…”. هذه “اللّبنات” هي ما صَنعَ شخصية المؤرخ بمركّباتها الأربع بحسب عالم النفس السويسري غوستاف “يونغ”: القناع والظل ولعبة البروز والاختفاء بين الذكورة والأنوثة.
القيروان بروحيتها وطبقات تاريخها هي ذاكرة وتاريخ؛ صوامع وزَرَابي مبثوثة أثَمرَ نسغها في نفس لطفي عيسى، ودَلّه إلى الغوص في تاريخ التصوّف من منظور جديد يَعصِم الباحث عن تحقير سِيَر الصّلحَاء أو الإسراف في الافتتان بها عكسيًّا. وَسّعَ المجال إلى حدوده الطبيعية: المغرب الكبير. وَفتحَ قوسا عظيما وورشَة بدأها المؤرخ المغربي عبد الله العروي حول تقاطع التواريخ المحلية لأقطار المغارب مع بعضها البعض، فالامتداد الجغرافيّ يَعضده امتداد تاريخي وروحي لما يسمّيه هشام جعيط “الغرب الإسلامي”. لم يكتف لطفي عيسى بذلك، بل وسّعَ المجال المغاربي ليطلّ على امتداده المتوسطي، مُدرجا ضمن دروسه وسِمينارَاتِه تاريخ الصلاح والصّلحاء على الجانب الشّمَالي المقابل للمتوّسط. ويفاجئك ما “أثمَرَه” من أبحاث في هذه الموضوعات بنظرة جديدة تَشدّ التصوّف إلى الأرض لا إلى السماء والمطلقات، فلقد كان أرباب الصّلاَح وسادته الكبار معنيين بإرساء “العافية”، تلك التي يُقدّم لنا لطفي عيسى بخصوصها تعريفا بديعا يحيل على “سلامة الكل من إيذاء الكلّ”، فهؤلاء هم من أمّن الأسواق وقرّب ما بين الشريعة والعُرف، وكَفّ أذى الحكّام عن الرعيّة (الفحش في الضرائب) وأذى الرعيّة وتنمرّهم بالدولة المخزنيّة التي كانت تبحث عن ثوب حداثتها المثلوم الرثّ. وقد وجد الصلحاء بلسما لذلك استنبطوه من التقليد الديني، وأكسوه نجاعة وفعاليّة بردّه إلى مفهوم “التوبة”.
يَقرأ لطفي عيسى هذا التاريخ في ظلّ غياب المصادر ووثائق الأرشيف، سَاعيًا إلى تحويل مادة المناقب والسّيَر الأدبية للصّلَحَاء إلى وثائق يُعتدّ بخطابها، واستنطاقها بأدوات المؤرّخ وبحسّ العارف بالمتون الأدبيّة والأعمال الفنية. يتّكئ على مشاغل الراهن ليَنقل الفضيلة من الفضاء الديني إلى الفضاء المدني، مُحدّثا عن ضرورة إثمار الفضيلة الدينيّة لمزيد فهم نقاط الظّل العديدة التي يتضمّنها تاريخ تونس وتاريخ المَغارب سواء بسواء. لكأنّه يكسر جدَار المعهود من الدراسات ليَفتحَ نافذة في جدار أصمّ. كأنّه لم يغادر بيت الطفولة الرّحب؛ في تلك الغرفة التي لم تَحُز على كوّة، والتي كان يسكنها مع أخته، وهو بيت أصابته لوثة تاريخ البلاد الاستعماري، فقد غادره ساكنه الوجيه بعد أن تَجنّسَ وانقلَب فرنسيّا، وقابَله رفض الأهالي وصَدّهم، فاشترته أمّه بما ادّخرَت من حرّ مالها.
بقدر ما يُطلّ على التاريخ من أسفل ومن منظور انقلابي يظلّ لطفي عيسى متّصلا بوشائج عميقة مع التربة الأولى التي أنبتت كلّ هذا النبات الحضاري، حتّى أنّه وبقدر ما اعتنق الحداثة تمثّلا ومشروعا ومعرفة، يكاد يُشْبِه موضوعات أبحاثه، فله خُلُق راهب في صومعة اعتكافه بين معارف كتبه ودواة أقلامه، أو حذق صانع وحِرفي ماهر. وثمّة في الكتاب فقرة بديعة تتحدث عن إطلالته من كوّة بسطح البيت على أمّه وهي تَفرش في وسط الدار زَرْبِيَّتها (البساط) وتُشذّب زوائدها، كذلك الفقرات التي يتحّدّث فيها عن خاله وهو يبرئ أخشاب مسجد المدينة الكبير من التسوّس. ولكن كيف نبرأ من أزمتنا الحضاريّة وكيف نخرج -وهنا نستَلف من معجمه- من “الذّهول” إلى “الإثمار” الذي يَعني عند لطفي عيسى “جماليّة الحضور” في العالم؟
من “الذّهول” إلى “الإثمار”، أو في مدلول “الحداثة الذاتية”
يُحِيلنا مصطلح “الحداثات الذاتية” على التساؤل بخصوص إمكانية حصول ذلك من عدمه بالنسبة للمَغارب، وفي مجال حضاري إسلامي وعربي لا يزال “ذاهلا” عن “أعطابِه”، وعن رَحى التاريخ؟ وبمراجعة ما حَوته فقرات الكتاب نفهم أنّ الحداثة الذاتيّة، هي مفهوم أو منوال يتجاوز مفهوم “الإصلاح”، أي “عمليّة انسلاخ عصيّة لم يكتب لها الاكتمال بعْدُ”[6] لقُصوره ووهنه. كما يتجاوز معضلات “الانتقال التقني” أو الحداثة أو “الحرج الذيّ يطرحه تباين مسارات التحديث بين ضفّتي المتوسّط”[7]، بالتعويل على “ملكات الذات”، دون أن تنتظر مصادقة الماضي على الحاضر، بل العكس. وهي مشروع حضاري يُخلّصنا من هذه التراجيديا الكئيبة لنصل إلى “معافاة” ما، وتنخرط فيه “أقليّة خلاّقة” على حدّ عبارة توينبي. وهذه الأقليّة، وكما ينبؤنا الكتاب موجودة. يكفي فقط الانتباه لمُنجز عبد الله العروي، ومحمد الهادي الشريف، وهشام جعيط، وكذلك ما راكمه المؤلف نفسه -تمثيلا لا حصرا- حتّى نتجاوز ما اعتبره هشام جعيّط: “شِرك تاريخ يصنع المآزق من دون أن يقدّم الوسائل لتجاوزها”.[8]
يُكّرر لطفي عيسى عبارة صندوق أدوات المؤرخ، ويُلحّ على ضرورة الوعي بالأداة والموضوع الذي تَدرسه (مثلا ما يسميّه بروديل ” المفتاح الملحمي”)، مُقّدما إضاءات عن هواجس المؤرخين الكبار تونسيين وأجانب، من توينبي وعبد الله العروي، إلى محمد الهادي شريف وهشام جعيط الذين درس عنهما وصار صاحبهما في النظر إلى التاريخ ومعضلاته.
انقلَبَ عن معلّمه محمد الهادي شريف واختار أن يَدرس “مغرب المتصوفة” بالتعويل على مادة طالَها الترميق، فتخيّر تَعقّب خطابها زاهدا فيما يمكن أن تَمنحه وثائق الأرشيف. فقد بدا له أن تعقّب خطى جاك برك في دراسته الموسومة بـ”دواخل المغرب” أحرى بالاتباع، وأمضى وقْعا في التعرّف على تاريخ المَغارب الثقافي. كان مُوقنًا أنّ عليه البحث في مظان التواريخ وغيبه عن “عزيز الثمرات”. فالإثمار والثمرات في شِرعته إنضاج للمعرفة بالذات والتاريخ الثقافي، وبتاريخ الذهنيات والمجتمع أيضا، حتى نُحقق حداثة ذاتيّة لا تذهل عن تدبير “المجال” وفهم علاقة “الذاكرة بالتاريخ” ومعضلات “الأزمة والانتماء”، وصولا إلى ما يسميّه بـ”جماليّة الحضور”.
وقد سَمحَ له اختصاصه في تاريخ الذهنيات والتاريخ الثقافي بالخروج من مآزق الكتابة التاريخيّة التونسيّة حول الفترة الحديثة التي غلب عليها “الصدور عن تصوّرات تقع بين التمّثلات الراديكاليّة اليعقوبيّة وشظايا الفكر اليساري”، حيث “تمّ التركيز وفي المقام الأوّل على دور الدولة، من دون إيلاء علاقة ذلك الجهاز بمختلف الفئات الاجتماعيّة ما تستحقّه من تفّحص”.[9] وسواء كان النظر إلى التاريخ من أعلى؛ تَشكّل الدولة وأدوارها وعلاقتها بالمجال الداخلي أو الخارجي، الالتحام بين الأجهزة المركزية لما وُسم بالمدينة- الدولة وبين السلطة الموروثة عن الفترة الوسيطة حيث هيمنت الرئاسات القبليّة وإعادة العمل بتقاليد الخروج الموسمي للمحلّة، الجهاز الجبائي والعسكري المتحرّك، وعسكرة السلطة واستنبات التشكيلة الاجتماعيّة الأجنبيّة الحاكمة في التربة المحليّة المعزولة عن عالم متوسطي أوروبي تملّك حداثته، أو من أسفل؛ الهامش والهامشيين و البنى المقاومة والمناهضة للدولة، تظلّ القراءة التركيبية، وهي قراءة يُلحّ عليها لطفي عيسى منقوصة ما لم تذهب إلى “انعكاس الظلّ” والتعرّف على ما حدث حقيقة أو مُتخيّلا في الأعماق الجوّانيّة التي تُكيّف تدبير فاعلي التاريخ للقيم والتصوّرات التي يحملونها حول أنفسهم وحول عالمهم. وبحسب بروديل فإنّ الوقائع التاريخيّة الكبرى هي رجع صدى لمسارات خفيّة يجب الانتباه إليها[10]، في حين يعتقد لطفي عيسى أنّ “وَقائع التاريخ لا تُحرّكها الأحداث التي ثَبتَ حصولها بالفعل فحسب، وإنّما تصنعها أيضا الخيالات والأحلام والأوهام التي تصحب تلك الوقائع، أو تسبقها أو تأتي بعدها”[11]. وقد ظلّت قراءة تاريخ تونس حبيسة هذه الرؤية التجميعية الخطيّة التي أغفَلَت المسك بالنبض الحي، لذلك ينبغي التعويل على تركيب “أخبار التونسيين” حتى نُدركَ ماهيّة تاريخ تونس.
يعتقد لطفي عيسى أنّ “مأزق الكتابة التاريخيّة التونسيّة” يتمثّل في “المراوحة بين الشموليّة والجزئيّة، مع العفو كلّيا على التاريخ التركيبي المقارن للأقاليم المُشكّلة للمجال العربي (الجزيرة، والشام، ووادي النيل، والمغرب)، تواصلا مع أو نقدًا لما سبق لعبد الله العروي في بداية سبعينات القرن الماضي أن أنجزه ضمن مُوجزه التركيبي البديع حول “تاريخ المغارب”.[12].
كما أنّ المأزق الحضاري لـ”مجال المغارب” مُضاعَف، في علاقته بالمجال العربي الإسلامي، بعد أن أيقظه الإسلام على ذاته وعلى التاريخ، بحسب هشام جعيّط، فوَرِثَ إشراقاته وأزماته، وفي علاقته خاصّة بالمتوّسط، بحسب لطفي عيسى الذّي يرى أنّنا معنيّون بـ”إعادة زيارة تاريخ تلك البحيرة، وفق شروط تسمح بتوضيح مستوى مدركات سكّان جنوب المتوسّط، أولئك الذين كلّما حلموا باكتمال إنساني ما، اتّجهت أنظارهم صوب الضفّة الشماليّة لهذا المسطّح المائي. فمتوسّط الفقراء الذي يعكس حنين الاستشراق فطرته السعيدة، لا ينبغي أن يلهينا عن عذابات سكّانه وحرمانهم وغضبهم المكتوم، وليد قرون مديدة من الاستبداد والجور”.[13].
ثمّة انعكاس للظلّ؛ ثمة غائب ما، شمس ما، مَاهيةٌ ما، لعلّه “الأنوار”، أو لعلّه “حكمة المغارب”: إشراقات التونسي المغربي الذّي لا يزال يُواجه العنت في الدخول إلى التاريخ العالمي مرتبكا ما بين الذهول والرغبة في إثمار جماليّة ما للحضور في الوجود وفي العالم.
ولا تتأتّى هذه الجماليّة إلا بالانتباه إلى أنّ الأفراد الذين يَصنعون التاريخ يتحرّكون ضمن مثّلث البطولة والأعطاب، أو الأمراض والبصمة الواسمة لكلّ مسار على حدة[14]. من هذا المنظور الثلاثي، ومن تاريخ الذهنيات، يُطلّ لطفي عيسى على إشكاليات، ويَفكّ معضلات تاريخنا الوسيط والحديث، من داخل ومن خارج الأسوار؛ أسوار الحداثة ومنجز الإسلام الصوفي. كما يُطلّ في هذا الكتاب على نفسه وعلى الآفاق، آفاق المعرفة الجذلى.
ولعلّه في عبوره كمؤرخ كان سعيدًا، على معنى عبارة الصوفي التونسي محمد الظريف (ت. 1387 م)، وقد كنّا نتجوّل في الضاحية التي يوجد بها مرقده حين حدّثني عنه: “مبتدأ السعادة سؤالٌ، ومنتهاها عثورٌ على العبارة”.
[1] لطفي عيسى. انعكاس الظل، ط1، تونس: منشورات سوتيميديا، 2024، ص: 229.
[2] المصدر نفسه ص: 12.
[3] م.ن. ص: 14.
[4] م. ن. ص: 19.
[5] م.ن. ص: 21.
[6] م.ن. ص: 192.
[7] م. ن. ص: 179.
[8] م.ن. ص: 172.
[9] م.ن ص: 188.
[10] م.ن. ص: 176.
[11] م.ن. ص: 87.
[12]م.ن. ص: 81.
[13] م.ن. ص: 178.
[14] م.ن. ص: 11.