مع انطلاق كلّ سنة دراسية، يعود النقاش ذاته تقريبا، بين الأزمة والغلاء وسؤال الإصلاح والبرامج مع توتر العلاقة بين الوزارات المعنية بقطاع التعليم والهياكل النقابية. حاول أحد تقارير التلفزة الوطنية التغطية على ذلك بالإحالة، كما أصبح معهودا في الخط التحريري الجديد للتلفزة الوطنية، على “خيارات المربي والمواطن” كبديل عن “لهفة المواطن”، العبارة القديمة لتحميل المواطن المسؤولية إزاء أزمة فقدان الموادّ الغذائيّة. فاللاعقلاني هو المواطن، أما العقلانية كلها ففي صفّ السلطة، التي تحتكر التشخيص والحلّ. ولا تحتاج إلى محاورة غيرها، فقد أغلقت سلطة 25 جويلية المجال التفاوضي في كلّ القطاعات، بما فيها التعليم. فلا شيء يمكن التفاوض معها فيه. ضبطت السلطة هذا المجال وفق رهاناتها وحسب سرعة تفاعلها ورؤيتها للأمور ووعودها المستقبليّة. تلك الوعود التي تتكئ بدورها على وعود “عصا سليمان” البناء القاعدي، الذي بدأ بالإنهيار بمجرد انتشار سوس واقع ممارسة السلطة فيه. عصا تصورها أصحابها قادرة على شق كلّ الأزمات وعبورها بل ستمحوها من جذورها.
في محاولة لقراءة الوضع الراهن خارج المجال الذي تسعى السلطة لفرضه اليوم، يبدو مُهمّا تناول أزمة القطاع التربوي في حدّ ذاتها بصورة أكثر عقلانية، في اتجاه مساءلة الوعود، التي لا تكفي المواطن عناء شراء الأدوات المدرسية ولا توفر طريقا مُعبدا في منطقة ريفية. أزمة تعليم شاملة ومعقدة بدأت منذ وقت ليس بالقصير وازدادت بحجم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
سياق الأزمة: الجذور والواقع
أزمة القطاع التربوي معقدة ومركبة ولها جذورها السياسية، ولا خلاف اليوم في أنّه عجز تدريجيا عن التفاعل مع محيطه والاستجابة لحاجيّاته، كما يُفترض منه. مثّل التعليم رهانا ذا أولوية للدولة منذ الاستقلال، وعنصرا من عناصر مقاومة الاستعمار قبله. لاحقا تحوّل إلى محور في سردية الدولة البورقيبية التي استهلكتها الأنظمة السياسية وصولا إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي. لكن الخلاصة العامة هي أن مبادئه وغاياته، كما تبلورت في النصوص المنظمة والاستراتيجية الوطنية المتعلقة به، أصبحت بعيدة تماما عن واقع القطاع وحاجات المجتمع. وممارسة السلطة اليوم وتصوراتها تُثير أسئلة مهمة عن قدرتها على إيجاد حلول فعلية.
تاريخ السياسات التعليميّة: تكلفة غياب الديمقراطية
لم تكن محاور التعريب واللغة الفرنسية وتدريس الفلسفة بفروعها والتربية الإسلامية والتربية المدنية إلا مؤشرات على طبيعة المرجعيات المؤطرة والمؤسّسة للسياسة العمومية في هذا القطاع. لم يكن الترجيح بين خيار وآخر إلا نتيجة لطبيعة التوازن الموجود داخل السلطة خصوصا في المرحلة البورقيبية بين نموذجي محمود المسعدي ومحمد مزالي في مرحلة أولى. رجّح قانون 1958 النموذج الأول، وانطلقت معه قاطرة وضع البنية التحتيّة المناسبة التي تطوّرت بشكل استثنائي إلى حدود الثمانينات. ليعود بعدها محمد مزالي وزيرا للتربية مُندفعا في خيار التعريب الذي استجاب لحاجة السلطة أمام سياق تميّز بصعود اليسار، بحيث أصبحت المدرسة عبر التعريب وقيم الهوية الإسلامية رافعة لصدّ امتداد اليسار في الجامعة. بينما مثل صعود التيار الإسلامي متغيرا آخر أثّر على الإصلاحات اللاحقة، خصوصا في مرحلة المرور من النظام البورقيبي إلى النظام النوفمبري حين أصبحت محاولة السيطرة على روافد الحراك الديني في المجتمع مسألة ذات أولوية للسلطة، في ظل الصراع مع حركة النهضة الإسلامية منذ انتخابات 1989. مثّلت حينها المناهج التربوية ساحة خلفية لتجفيف منابع الإسلام السياسي.
رغم أن الانتقال الديمقراطي دفع بتصوّر عامّ للمجال السياسيّ يضع الديمقراطية كقيمة عليا، ليس فقط إجرائية ومؤسسية بل كقيمة مجتمعية تتطلب استيعابا لها واستبطانا خارج المجال الرسمي للممارسة السياسية عبر توسيع المشاركة والانخراط المواطني، إلاّ أن عقدة التاريخ السياسي لم تُحلّ بما أثر على محاولات الإصلاح الجديدة. فالجيل السياسي الأول، بين الإسلامي والعلماني المُتكوّن في الفترة الأولى للدولة الوطنية، استعاد إحداثيات الصراع ذاتها وحوّل الجدال حول إصلاح التعليم إلى إعادة تأويل لتاريخ الإصلاحات مع تراشق للاتهامات والهواجس نفسها. لم يرَ الطرفان في الإصلاحات فرصة لنقاش مفتوح يسمح بوضع أسس مشتركة متفق عليها، وإنّما ظلّ البعد الأيديولوجي طاغيا على الصراع بين خيارات مجتمعيّة متعارضة وغير قابلة للتوفيق كما كان الحال حين اختار كل طرف أن يفرض تصوراته عبر اللعب على توازنات السلطة الدكتاتورية في نهاية الأمر. إلاّ أن محصّلة اللعبة، بفعل الشروط الموضوعة من السلطة، جعلت من كل خيار ينتهي عند رهانات السلطة نفسها. أنهى الرئيس الحبيب بورقيبة سياسة الوزير محمد مزالي بقوله “عرّبت ياسر“ (أي عرّبت كثيرا)،[1] واستغل نظام بن علي إصلاحات محمد الشرفي في صراعه السياسي ضد حركة النهضة.
يمثّل غياب المُتغيّر الديمقراطي، بما يفترضه من شروط تنافس وصراع مُؤطر في الساحة السياسية، وعلاقة تفاوضية مفتوحة وتشاركية للمنظومة السياسية مع بقية المجالات، سببا في فشل الإصلاحات نفسها للوصول إلى غاياتها. فلا التعريب مثلا ساهم في تعريب المعرفة بحيث تكون سياسة لغوية ناقلة للمعرفة وعنصرا لإدراكِها ضمن خزّان ثقافي خاصّ، ولا الانفتاح اللغوي كان عنصرا في امتلاك المعرفة محليا، مع حفظ بعض الإيجابيات بطبيعة الحال باعتبار أنّ كل خيار قدّم إضافة نوعية ولو محدودة. لذلك بقي الانطباع عن كل خيار مرتبطًا بتقييم أيديولوجي، تستغلّه السلطة في لعبة توازن مع المعارضة. صُبغت المعرفة باللغة العربية بطابع تقليدي ماضوي، والانفتاح اللغوي بطابع منبتّ (منفصل عن أصله وجذوره) عزل النخبة الناطقة بها عن بقية المجتمع. ما جعل جوهر النظام التربوي منحازا نحو رهانات سلطوية على حساب دوره المنوط به في كل مرحلة بحيث يحقق أهدافه بتوازن يستجيب لسياقات المجتمع وحاجاته الحقيقية.
تضيق لذلك مرجعيات السياسة العمومية في القطاع التربوي نحو تأويلية سلطوية، فالتحديث وتعزيز الانتماء الوطني والمتوسطي والعربي الإسلامي، جميعها تمرّ بمرجعيات النظام السياسي نفسه. فلا غرابة أن المعطى الديني في المجتمع لم يتغيّر وانفجر في الساحة السياسية بعد الثورة، فيما تفاجأ الجميع بأن القيم الحديثة لم تستبطن فعلا ليعود النقاش ذاته حول النموذج المجتمعي، الذي يلعب فيه التعليم دورا محوريا، في سياق أكثر تعقيدا.
منذ 3 سنوات، طرحت المفكرة القانونية في عددها المخصّص للتعليم، السؤال: “هل أن الحسابات والتوازنات السياسية، بعد أن حكمت معظم الإصلاحات التعليمية في الجمهورية الأولى، أصبحت تعطّل فتح هذا الملف الحساس في تونس الديمقراطية؟”. يحمل ما سبق جزءًا من الإجابة حول المسألة الديمقراطية وأهميتها، من حيث أنها كانت غائبة في الإصلاحات السابقة، ولم تنجح في فرض أجندتها خلال فترة الانتقال الديمقراطي. فالفاعل السياسي حمل تاريخه معه ضمن توازنات وعلاقات لم تتغيّر جذريا، وتجاهل أن الديمقراطية في صدد كتابة تاريخها الخاص. لم ينطلق الفاعل السياسي من الديمقراطية بحيث يتبناها ويدمجها في الصراع على الشأن العام، منشغلا في صراعات ضيقة أدّت إلى غلق قوس الانتقال الديمقراطي تماما، وفشلت ضمنه كل محاولة لإصلاح القطاع التربوي. السؤال اليوم أصبح كالتالي: هل سنعود في ظلّ حكم الفرد الشعبوي إلى عهد الإصلاحات التعليمية الفوقيّة التي تعبّر عن خيارات من في السلطة؟
أدى غياب المتغير الديمقراطي وعدم الالتزام به إلى الفشل في إطلاق إصلاح شامل يأخذ بعين الإعتبار سياقاته الاقتصادية والاجتماعية، وما يطرحه من إشكاليات جديدة تماما. يبقى أن لفترة الانتقال الديمقراطي فضل الوصول سنة 2015 إلى تقرير ختامي بعد حوار وطني قادته وزارة التربية والاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان. عكس التقرير على الأقل السّمة التفاوضية المهمة في وضع التصورات الإصلاحية، وتوجه مباشرة إلى إشكاليات واقعية تتمحور حول جودة التعليم.[2] لكن انتهى التقرير كغيره إلى عدم التحوّل إلى سياسة عمومية واستراتيجية شاملة بسبب طبيعة الفترة الانتقالية وتوازناتها المرحلية والتاريخ الذي أعادت انتاجه حول هذه المسألة. أكد التقرير على أن الأزمة عميقة جدا وتتطلب تشخيصا ومعالجة متقاطعة للقطاع التربوي والسياق الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، لعله من المهم استعراض جوانب منها وكيفية تعامل السلطة معها.
مؤشرات الأزمة من يوميات المتعلم والمعلّم والعائلة
أكد رئيس المنظمة التونسيّة لإرشاد المستهلك، لطفي الرّياحي أنّ كلفة العودة المدرسية للسنة الدراسية 2023-2024 قد شهدت ارتفاعا، حيث تبلغ بالنسبة لتلميذ في المرحلة الابتدائية 600 دينار، السنة الماضية، فيما قدّرت كلفة العودة لتلميذ في المرحلة الثانوية 700 دينار، حسب المصدر ذاته. في المقابل، يبلغ الأجر الأدنى، بعد الزيادة الأخيرة في أكتوبر 2022، في نظام عمل 48 ساعة في الأسبوع 459 دينارًا. وفي نظام عمل 40 ساعة في الأسبوع يبلغ بالكاد 390 دينارًا. وعليه، من الممكن تصوّر حجم الضغط الذي تمثّله العودة المدرسيّة على ميزانية العائلة التونسية في سياق ارتفاع الأسعار والتضخّم. تُعتبر العودة المدرسية فترة ضغط تواصل فيها العائلة التونسية صراعها اليومي في توفير الحاجيات اليومية والشهرية، التي أصبحت أكثر فأكثر صعوبة. تعيش العائلة التونسية ضغطا نفسيا رهيبا لا يستثني الأبناء في الوقت الذي يُقدمون فيه على سنة دراسية جديدة في مؤسسات تربوية، في جميع المراحل، تعاني من أزمة تمويل ونقص في التجهيزات والصيانة وانتشار للعنف، بما يؤثر على العملية التروبية ككل. وتزداد هذه الوضعية سوءًا كلما انتقلنا في خريطة التهميش والتمييز الاقتصادي والاجتماعي نحو المناطق الداخلية للبلاد.[3]
لكنّ الإشكال أنّ التربية النظامية (المدرسية) تواجه معوقات أكثر تعقيدا تنضاف للانهيار الداخلي للمنظومة التربوية. فالتربية اللانظامية، المرتبطة بالعائلة والمحيط الاجتماعي سواء الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والشارع والجمعيات والمساجد، تحوّلت كلها إلى منافس حقيقي على صناعة القيم والتزود بالمعرفة والمعلومة. فالعائلة على سبيل المثال تواجه ارتفاعا في نسبة العنف الموجّه ضدّ الطفل والمرأة، بشكل يجعلها تعيد إنتاج العنف وتعيشه. ما يعني أن دور العائلة النواة التي دافع عنها النموذج المجتمعي في الدولة يواجه عوامل تفكيك وانهيار داخلي تضرب دورها في دعم التربية النظامية، التي مثلت أساس المصعد الاجتماعي، والذي آمنت العائلة التونسية به. كما أنها غير قادرة على أداء دورها في توفير محيط تربويّ بديل أمام تحولات المجتمع ككل، حيث تفتقر التنشئة الأسريّة عموما للوعي المناسب لتوجيه ومراقبة تدفق المعلومات وطبيعة الأفكار والقيم التي يتلقاها أبناؤها خارجها، خصوصا في محيط الأقران وفي وسائل التواصل الاجتماعي.
بالتوازي مع ذلك، تبدو وسائل الإعلام في حالة استقالة تامة في المسألة التربوية. فالقناة التعليمية الوطنية ضعيفة المحتوى. فيما يعيش الإعلام الخاص حالة التشابك مع وسائل التواصل الاجتماعي لزيادة نسب المشاهدة لمحتوى “ترفيهي” بالأساس أو إشهار وبيع المواد الاستهلاكية، إلى جانب غياب أو تعمّد تغييب قواعد المهنيّة والضوابط الأخلاقية في المادة الإعلامية إنتاجا واستهلاكا، تأثيرا وتأثّرا من الجماهير العريضة وبخاصة جماهير الناشئة من الأطفال والشباب.[4]
مشروع إصلاح التعليم لا ينفصل إذًا عن ضرورة تشخيص متقاطع للمنظومة التربوية ومحيطها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، أثبتت إزاءه السلطة أن لها رهاناتها الخاصة في كل قطاع، مع نزوع لصبغ كلّ أزمة بتصوّراتها الخاصة ذات الطابع الشعبوي. من هنا كانت الإشارة أعلاه إلى المُتغيّر الديمقراطي وتاريخه، حيث لا يمكن لأي إصلاح جدّي إلا أن يكون منفتحا بصورة حقيقية على جميع الفاعلين في قطاع يُفترض فيه ترسيخ الديمقراطية والمواطنة. وهو ما يطرح تساؤلا مهما عن الوعود المُستأنفة حول إصلاح التعليم من قبل السلطة اليوم.
الوعود المُستأنفة لإصلاح التعليم: طعم السياسة الشعبوية
استأنفت السلطة سؤال الإصلاح وفي تصوّرها تحقيق تغيير جذري في كل المجالات. هذا النفس الشعبوي يطرح أسئلة كثيرة جدا ويدعو للتساؤل حول مرجعيات السياسيات في قطاع حساس ومحوري، له تاريخه الخاص، تُضيف له السلطة اليوم دسترة لمجلس قطاعي يُعنى به.
المجلس الأعلى للتربية والتعليم: مركزة السياسة العمومية القطاعية
لم تخلُ تونس منذ ما قبل الاستقلال وبعده من فكرة المجالس العليا في قطاعات الصحة والتعليم والرياضة. وهي هياكل تتولى الإشراف على قطاع ما لتوحيد توجهات السياسة العامة وتنفيذها وتقييمها وتنظيمها. فمنذ 1888 إلى اليوم، يمكن إحصاء 8 مجالس على الأقل كان دورها الرئيسي الإشراف على قطاع التربية والتعليم. خلال هذه الفترة، عملت الأنظمة المتعاقبة على التغيير والتعديل بشكل متواصل لتنظيمها ومشمولاتها وتركيبتها.[5] وينضاف لتاريخ هذا الهيكل، الذي يجب تقييم أدواره ونجاعته، ما نصّ الرئيس قيس سعيّد عليه في دستوره بخصوص المجلس الأعلى للتربية والتعليم، وذلك في الفصل 135 من الباب الثامن. حسب هذا الفصل، للمجلس دور استشاريّ يتولى فقه إبداء الرّأي في الخطط الوطنيّة الكبرى في مجال التّربـية والتّعليم والبحث العلميّ والتّكوين المهنيّ وآفاق التّشغيل. وهو، خلافا لدستور 2014، لم ينص على ضمانات استقلالية كما كانت عليه الحال بالنسبة للهيئات المستقلة.
منه يمكن البدء في استقراء طبيعة السياسة العمومية في قطاع التربية والتعليم، حسب الدور المفترض للمجلس. تعمل هذه الهياكل في العادة على ضمان تناسق الاستراتيجيات القطاعية بتوفير قاعدة تشخيص وتقييم للمشاكل والحاجيات لضمان وجهة الفعل العمومي من التصور وإصدار القرار إلى التنفيذ. ولضمان حسن سير عملها، يتطلب الأمر توفير الضمانات المالية والمؤسساتية واللوجستية لاستقلاليّتها للعمل في إطار الاستراتيجية التي يؤطرها القانون ساري المفعول في القطاع، إن لم يتم تغييره. يبقى كل ذلك معلقا على القانون المنظم للمجلس، حسب دستور الرئيس. إلا أن الدستور نفسه، بالإضافة إلى سياسات السلطة اليوم، يوفران ما يكفي لاستشراف مرجعيات السياسة العمومية التي يحددها رئيس الجمهورية.
التربية والتعليم: مرجعيات الفاعل العمومي في السياق الشعبوي
يمكن للإطار القانوني المنظّم لقطاع التربية والتعليم اليوم أن يوفر وفقا للغايات والمبادئ والإطار المؤسساتي المختص بعضا من مرجعيات السياسة العمومية. إلا أنها تبدو جميعها برسم التغيير. ففي خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيّد بمناسبة يوم العلم، لم يفُته أن يشير إلى تاريخ الإصلاحات التي “لم تكن بريئة”. ما يحمل الملاحظ على القول على أن للرئيس وجهة “بريئة” انطلاقا من موقف خاص من الإصلاحات السابقة. طبعا وضع التوجه العام للإصلاح المزمع إجراؤه في إطار الخطاب الاحتفائي بالعلم والشباب باعتبارهم الثروة الحقيقية، في صدى يُذكرنا بخطابات الرئيس الحبيب بورقيبة والأنظمة المتعاقبة. لكن التوجه الخاص بالسلطة يتسرّب من خطابات الرئيس وممارساته.
فإزاء النشاط النقابي، ردد سعيّد مرة أخرى رفضه لـ”تحويل التلاميذ لرهائن” عبر الامتناع عن تسليم الأعداد (علامات التلاميذ في الامتحانات) إلى الإدارة وتسجيلها بالمنظومة الإعلامية، مؤكدا، من ناحية قانونية حسب تكييفه، أنّ ورقة الامتحان ملك للمؤسسة التعليمية. ومؤكدا في النهاية على أنّ النقابات جزء من القطاع التربوي ويجب عليها أن تنخرط في “حرب التحرير الوطني”. أعاد رئيس الدولة الموقف ذاته إزاء النقابات، مقدما مؤشرات لطبيعة المجال التفاوضي الذي ترسمه السلطة مع بقية الفاعلين. وهو مجال يتأسّس اليوم وفق متغيرات مرحلية مرتبطة بمسار “25 جويلية” نفسه. ويشي تاريخ السياسات العمومية بما يمكن أن يسمح بقراءة المستقبل. فالمرجعيّات المؤطرة للسياسات العمومية، مهما كانت قيمتها وعُمقها، تتأثر بسياق تكريسها. وليس أفضل كمثال مما تمّ تكريسه كمرجعيات وطنية وتنموية لدولة الاستقلال في بداياتها، التي رغم أثرها الإيجابي جزئيا، انتهت إلى الانفصال عن واقع القطاع والمجتمع بصورة عامة، متأثرة بطبيعة النظام السياسي. تبدو السياسة التربوية مشدودة إلى توجهات السلطة دون تفاوضية تسمح بتصورات مختلفة، فالكلمة الأخيرة لها، حتى مع الإعلان عن استشارة وطنية في الغرض تنطلق يوم 15 سبتمبر 2023. ولنا في تعامل السلطة مع الاستشارة الإلكترونية والاستفتاء مثال على دور هذه الإجراءات. ينضاف إلى ذلك، حسب تصريحات وزير التربية محمد علي البوغديري أخيرا، إشراف رئيس الجمهورية على المجلس القادم. ما يتناسق مع الأطر المؤسسية وفلسفة “دستور 2022” الذي لم ينصّ، خلافا لدستور 2014، على ضمانات استقلالية للسلط المضادّة.
سيكون المجلس الأعلى المرتقب جزءًا من نظام سياسي يتحكّم فيه تماما رئيس الدولة. فيما “التصعيد من القاعدة” شرعنة جانبية للتوجهات التي يحددها مركز السلطة. ثمة أسئلة معلقة كثيرة تستحق المتابعة منها القانون المنظم للقطاع التربوي: هل سيتمّ تنقيحه أو استبداله؟ وما هو أثر فصول الدستور، خصوصا الفصل الخامس فيما يتعلق بمقاصد الإسلام، عليه؟ وما الذي ينشأ عن هذه المقاصد من تصوّرات لمواد كالفلسفة والتربية الإسلامية وموقع اللغة العربية؟ بذلك تعود تونس مجدّدا إلى عهد الإصلاحات المفروضة من فوق، بأبويّة مفرطة، وفق تصوّرات القائد ونزعاته، باسم البناء القاعدي و”الديمقراطيّة الحقيقيّة”.
[1] مهدي العشّ، “الإصلاحات التعليمية في تونس: تاريخ سياسي بامتياز”، مجلة المفكرة القانونية تونس، العدد 18، جوان 2020، ص ص 4-5. تاريخ الإطلاع 09/09/2023. الرابط: https://bit.ly/3Z8oU3P
[2] Maria Lucenti, La nouvelle réforme scolaire en tunisie: le défi démocratique entre analyse des manuels et didactique, Foro de Educación, Vol. 15, Núm. 23, 2017. Date de consultation: 09/09/2023. Lien: https://bit.ly/44Lx2s0
[3] رحاب مبروكي، تهميش وانهيار المدرسة العمومية في تونس: هل أصبحنا في مواجهة تعليم طبقي يكرّس التفاوت بين أبناء مختلف الطبقات الاجتماعية ؟، المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية، 05/11/2021. الرابط: https://bit.ly/3Px80Zn
[4] صابر فريحه، رهانات التربية على الميديا في البيئة العربية: تونس مثالا، مؤمنون بلا حدود، يناير 2022، تاريخ الإطلاع: 09/092023. الرابط: https://bit.ly/3LfJitO
[5] محمد الحداد، المجلس الأعلى للتربية والتعليم: القديم المتجدد، مجلة تونس الفتاة، 06/03/2023، تاريخ الإطلاع: 10/09/2023. الرابط: https://bit.ly/44Nzgr0