التعليم في المناطق الآمنة
انطلق التعليم في المدارس الرسميّة الواقعة في المناطق الآمنة، بشكل طبيعي تقريبًا، إذ انتقلت المدارس والثانويّات الرسميّة التي يشغلها نازحون إلى مبانٍ جديدة، تعود ملكيّتها لوزارة التربية أو للبلديّات الموجودة ضمن نطاقها أو لأوقاف دينيّة. وفتحت بعض المدارس التي تأوي نازحين صفوفًا في الغرف الشاغرة عندها، لكنّها للمفارقة العجيبة لم تستقبل الأولاد النازحين في المبنى نفسه بناء على قرار وزارة التربية. فتفصِلُ طاولاتٌ متراكمةٌ في الممر بين الطلاب الذين يتعلّمون حضوريًا في جلّ الديب على سبيل المثال والأولاد النازحين إليها الذين يتابعون في غرف أخرى بعض الدروس من بعد. فهل تتخيّلون ما يشعر به هؤلاء الأطفال وأهاليهم؟ إنّهم يدفعون أثمانًا باهظة من حيواتهم وبيوتهم ومستقبلهم، ثمّ لا تفسح المجال لهم مدرسة رسميّة نزحوا إليها في وطنهم أن يتعلّموا على مقاعدها.
لا يبدو أنّ في خطط وزارة التربية أي محاولة للدمج وتعليم المواطنيّة والتعاطف واحترام الاختلاف. ربّما لا يحتاج لبنان هذا النوع من المبادرات برأيها.
وبالرغم من النواقص الكثيرة التي تبدأ من الألواح والأقلام ولا تنتهي بالكراسي والطاولات التي احتاجتها الثانويّات المنتقلة إلى مبانٍ جديدة، إلّا أنّ تلامذتها التحقوا بها، ولم يمنعهم بعدُ المسافات أحيانًا بين المبنى القديم والمبنى الجديد، لا بل أنّ مناطق تعيش حالة حرب حقيقيّة مثل عرمون في الضواحي الجنوبيّة لبيروت وبلدة رأس بعلبك في محافظة بعلبك الهرمل فتحت مدارسها حضوريًا، والتلامذة من البلدات المحيطة مثل الجديدة التي تعرّضت لغارة قويّة خلال الأسبوع الماضي والفاكهة والقاع ينتقلون إلى رأس بعلبك ليتعلّموا حضوريًا في ثانويّتها. يسمع طلاب هذه الثانويّات الغارات اليوميّة التي تحدث حولهم، ويتنفّسون روائح غبارها، فيتوقفون للحظة ليبتلعوا الهلع الذي تصيبهم به الانفجارات المتوحشّة، ثمّ يسدلون قناع التأقلم اللبناني العظيم، ويتابعون يومهم. البعض الآخر أكثر قلقًا، يهرع إلى هاتفه عند سماع أصوات الانفجارات، يعجز عن مقاومة الحاجة إلى التواصل مع أحبائه، فتقول آية “بليزز مدام خليني ردّ على يلي عم يحكيني، هن بمنطقة خطرة، بدي اطمن عليهم”، وتقول “ريم” طالبة في مدرسة رسميّة في منطقة سنّ الفيل “أنا هون ولكن رأسي مش معي، عدت لأنّ المدرسة فتحت ومحل ما عايشين أهلي حاليًا تحصل غارات أحيانًا، أشعر أنّي خائفة عليهم دائمًا”، ويتساءلون “هل يفهم الآخرون ما نعيشه ونشعر به؟”
التعليم في المدارس التي تقع في المناطق التي تتعرّض للعدوان
تواصلت الثانويّات الواقعة في المناطق التي تتعرّض للقصف والعدوانيّة الإسرائيليّة مع تلامذتها، وفتحت لهم باب التسجيل من بعد، بعض هذه الثانويات بدأ جزئيًا التدريس من بعد، والبعض الآخر لا يزال ينظّم أموره لينطلق في بداية الأسبوع المقبل في 18/11/2024. تواجه هذه المدارس تحديّات كثيرة، فبعض أساتذتها استشهد، وبعضهم الآخر يعيش حالة النزوح القاسية، وبعضهم الآخر أصبح خارج لبنان، وبالرغم من كلّ ذلك يفضّل مديروها وأساتذتها، أن يبادروا إلى إطلاق التعليم من بعد لتلامذتهم على أن يلتحقوا وتلامذتهم بمدارس جديدة.
ولكنّ الصعوبات هنا أكبر وأكثر تعقيدًا لأنّ وزارة التربية لم تنفّذ أي خطوة من الخطوات التي نصّت عليها خطتها حتّى الآن. إذ قدّمت الوزارة للأساتذة المفاتيح ( user name & passwords) الضروريّة لاستعمال منصّة teams حيث يجدون زاوية لـ”مدرستي” ويمكنهم تنزيل الموارد عنها من دون إنترنت offline، لكنّها لم تقدّم للمتعلّمين بعد أي أدوات شبيهة بما حصل عليه الأساتذة ولم تقدّم لكلا الطرفين، المعلّمين والمتعلّمين، إنترنت مجانيا ولا أجهزة خاصّة بالتعلّم ولا أمّنت المساحات الضروريّة المجهّزة القريبة من مراكز الإيواء التي تسهّل لهم التركيز على التعليم. تقول المعلّمة ” ل.م” أنّها تضطر للذهاب إلى حديقة أو أي مكان عام قريب من مكان نزوحها مرتين يوميًا لتتابع عملها كناظرة في مدرسة رسميّة. وقد صرّح المدير “خ.ه” أنّه لم يضغط على أساتذته الذين استنزفتهم الحرب، بل طلب ممن يستطيع أن يسجّل دروسًا أو يحضّر عرضًا لدرس، على أن يرسله المدير بنفسه للطلاب. أمّا الأستاذة “هنا فواز” التي نزحت إلى بيت شقيقتها فتقول أنّها تفاجأت بتلبية الطلاب السريعة للالتحاق بالتعلّم من بعد رغم عدم توفّر الإنترنت المجاني لهم، تقول “كانوا متلهفين للعودة للتعليم”. وهي تعود إلى الأدوات التي استخدمتها خلال فترة الإغلاق بسبب انتشار الوباء، فتستعملها لتسجّل دروسًا لتلامذتها، وتصوّر نفسها أحيانًا وهي تشرح ثمّ ترسل الفيلم للمتعلّمين وتضيف “يعني أي شي، المهم ما يقعدوا بلا ما يتعلّموا، كلّ طلّاب لبنان عم تتعلّم، حرام طلابنا يبقوا من دون تعليم، وحرام أوّل ما قلنا بكرا في مدرسة، كلهم كانوا حاضرين، ناطرينا مناطرة نفتح ولو واتساب”.
وبسبب كلّ هذه الصعوبات ترى التربويّة “إ. ق” أنّ ما يحصل في هذه المدارس لا يمكن تسميته تعليمًا. هو تمضية للوقت وإشغال للأولاد وطُعمٌ تستعمله وزارة التربية لتحصل على أموال المساعدات الخاصّة بالتربية. ويبدو أنّ وزارة التربية تختبر الخطوات وتنتقل ببطء شديد من مرحلة إلى أخرى، ولا يزال أمامها بالإضافة إلى إيجاد الحلول لتفعيل تعليم النازحين اللبنانيين وتأمين حاجاتهم، إيجاد حلول لتعليم أولاد اللاجئين السوريين، وهو شرط تفرضه الدول المانحة لتمويل خطّة وزارة التربية لتعليم النازحين اللبنانيين.
المتعلّمون في مراكز الإيواء أو في منازل خاصّة
تسجّل الأولاد النازحون بحسب طلب وزارة التربية في أقرب مدرسة لمكان سكنهم الحالي، لكنّ وزارة التربية لم تسمح لهم حتّى الآن بالالتحاق بهذه المدارس، قليلون منهم بادروا بصورة شخصيّة واعتمادًا على علاقات خاصّة للالتحاق حضوريًا بمدارس قريبة. ويتحمّل هؤلاء نفقات التنقّل وتأمين الكتب والقرطاسيّة، ما دفع بعض الأهالي إلى إلحاق من هم في صفوف الترمينال وعدم إلحاق باقي أولادهم. وأطلقت مدارسهم الأساسيّة الواقعة في المناطق التي تتعرّض للعدوان، تعليمًا من بعد، يقتصر في معظم الأحيان على إرسال مواد تعليميّة، من دون صفوف منتظمة. وينطبق الوضع نفسه تقريبًا على الأولاد النازحين المسجّلين في المدارس الخاصّة، مع فارق أنّ هذه المدارس بدأت بتنظيم صفوف تعليم متزامن من بعد، أي يحضر الأولاد صفوفًا من بعد، تشرح فيها المعلّمة الدرس مباشرة ولا يقتصر تعليمهم على عروض بوير بوينت أو فيديو يرسلها لهم المعلّمون. كما في حالة المبرّات على سبيل المثال التي بدأت التعليم حضوريًا في بعض الفروع، كما في خلدة مثلًا، ومن بعد في فروع أخرى. أقلَمَت هذه المدارس مناهجها لتتناسب مع ظروف التعلّم الجديدة ويبدو بوضوح أنّها بالرغم من ظروفها الخطرة سبقت وزارة التربية من حيث التواصل والتنظيم وإعادة النظر بالمناهج وتقديم الدعم النفسي الاجتماعي.
ويعاني المتعلّمون النازحون الذي يدرسون من بعد، سواء في المدارس الخاصّة أو الرسميّة، بصورة أساسيّة من عدم توفّر المساحات المناسبة للمتعلّمين والمعلّمين ليتابعوا التعليم من بعد. ففي مراكز الإيواء، تقيم عائلتان أو أكثر في غرفة واحدة، وفي معظم البيوت التي لجأ إليها النازحون يجتمع عدد مرتفع من الأقارب والأصدقاء في بيت واحد، ما يجعل فرص الهدوء والتركيز صعبة للجميع. وبعض المتعلّمين في المدارس الخاصّة لا تتوفّر لهم الأجهزة الضروريّة، ويعجز أهاليهم عن توفير كلف الاشتراك بشبكة الإنترنت بسبب توقّف أعمالهم أو تراجعها بسبب الحرب، أو تحمّلهم أعباء إضافيّة مثل الإيجارات المرتفعة، ما يجعل تأخّر وزارة التربية في توفير مقوّمات العودة ضربة قاسمة تمنع تقديم تعليم فاعل للأولاد النازحين خصوصًا الفقراء منهم المسجّلين في الخاص والرسمي على حدٍّ سواء.
تراجع روابط التعليم الرسمي عن الامتناع عن التعليم
تراجعت روابط التعليم الرسمي عن دعوتها لعدم الالتحاق بالتعليم في بيان أصدرته في 10/11/2024، أي بعد أقلّ من أسبوع من بدء العام الدراسيّ. وفي الواقع لم يلبِ معظم الأساتذة دعوتها لعدم الالتزام بإطلاق العام الدراسيّ، البعض منهم اعتبر موقفها “مسيّسًا” ولا علاقة له بحقوق الأساتذة، والبعض الآخر فقد ثقته بها ورفض إعطاءها شرعيّة جديدة تحت ضغط الحرب واعتبر أنّها ستعود سريعًا عن موقفها وهو ما حصل فعلًا. إذ اعتبرت الروابط في بيانها أنّها طلبت من الأساتذة الامتناع عن الالتحاق ضغطًا على المعنيين لرفع بدل الإنتاجيّة، لكنّها تعطي وزارة التربية مهلة حتّى الأسبوع الأوّل من كانون الأول لإصدار جداول بدلات الإنتاجيّة، وبناء عليه تدعو الأساتذة للالتحاق فورًا بالتعليم، لكنّها تحذّر وزارة التربية من حسم أي مبلغ من رواتب الأساتذة النازحين إذا لم يلتحقوا بالتعليم.
وتجاهلت الروابط في بيانها الانتقادات اللاذعة التي كانت قد وجهتها سابقًا لخطّة وزارة التربية، فلم تأتِ على ذكر توفّر أي معالجة لها ما استدعى العودة عن الامتناع. لذلك يرى العديد من الأساتذة أنّ تراجع الروابط بسرعة عن موقفها، ومن دون تحقيق أيّ من مطالبها دليل جديد على ضعف مصداقيّتها، وأنّ دعوتها للامتناع عن التعليم كانت مجرّد مزايدات لتظهر بصورة المدافع عن الحقوق، خصوصًا تلك المتعلّقة بالأساتذة النازحين.
أي منهج للعام الدراسيّ 2024-2025؟
المتأخّر الأساسي في كلّ هذه الورشة هو المركز التربويّ للبحوث والإنماء الذي لم يصدر عنه حتّى الآن أي نسخة من المنهاج اللبناني ستُعتمد خلال هذا العام الدراسيّ. ومن المستغرب أن ينقضي كلّ هذا الوقت على بدء التعليم في الخاص بداية ثمّ في الرسمي، من دون صدور أي توجيهات عن المركز، خصوصًا أنّه عمل على تقليص المنهاج مرات عديدة في السنوات السابقة، أي أنّ المطلوب منه ليس مهمّة جديدة يصعُب عليه تنفيذها. كما يتعاقد المركز التربويّ مع عدد من المستشارين منذ سنوات طويلة مثل د. ريمون أبي نادر، ليقوم بمهام تتعلّق بالإحصاءات، والدكتور هشام خوري، وهو مستشار لتكنولوجيا التعليم، ما يعني أنّ المركز يبذل الموارد اللازمة ويجب أن يكون سبّاقًا في تقديم خدمات رقميّة للمدرسة الرسميّة في مثل الظروف الحاليّة، لكنّ الواقع مختلف تمامًا للأسف، إذ تَبيَّن أنّ الموارد المحمّلة على منصّة “مدرستي” غير مناسبة للاستعمال الواسع، فالعديد من هذه الموارد اعتمد ميزات features وخطوط font، لا تُقرأ ولا يمكن تنزيلها على عدد كبير من الأجهزة، ما استدعى سحب هذه الموارد والعمل على تعديلها، ما أخّر جهوزيّة المنصّة للاستعمال، هذا عدا عن أنّ عددًا من ميزاتها مثل التمارين والأنشطة التفاعليّة لا تعمل بعد. ولم يقدّم المركز حتّى الآن أية استراتيجيّة للدعم النفسي الاجتماعي، رغم بذله مع الجمعيّات الشريكة له موارد طائلة خلال سنوات لإنتاج أدوات دعم نفسي اجتماعي. ومن مهام المركز التربوي إصدار الإحصاءات التربويّة، لكنّ المركز لم يُصدر حتّى اليوم النشرة الإحصائيّة عن العام الدراسيّ الماضي 2023-2024، ولم يَنشر بطبيعة الحال أي إحصاءات عن أعداد الملتحقين بالتعليم خلال العام الجاري أو أي مؤشرات أخرى ضروريّة للتخطيط التربوي، ولاتخاذ قرارات سريعة وفاعلة لمعالجة الأزمات التربويّة الناتجة عن الحرب.
حقوق الأساتذة
نال الأساتذة في بداية العام الدراسيّ الحالي زيادة تساوي 4 رواتب، فأصبح مجموع ما يتقاضونه 11 راتبا. أي إذا كان معدّل راتب الأساتذة الثانوي تقريبًا 3 مليون ليرة لبنانيّة، أصبح بعد الزيادة الأخيرة مضروبًا بـ 11، أي ما قيمته 370$، بالإضافة إلى بدل الإنتاجيّة وقيمته 300$ شهريًا، فيما كانت مطالب المعلّمين الوصول إلى 70% من قيمة رواتبهم عند اندلاع الأزمة أي إلى معدّل قيمته 1400$. إنّ الفارق الشاسع بين مطالب الأساتذة وما يتقاضونه اليوم، وانخفاض القيمة الشرائيّة لرواتبهم بالإضافة إلى تحمّل العديد منهم عبء النزوح، فيما يعاني آخرون من انقطاع مصادر دخلهم الإضافيّة، ينشر جوًا من الإحباط الشديد واليأس بينهم.
العلاقة مع الخاص
كانت وزارة التربية قد ضمّنت خطّتها اقتراح تعاون مع 169 مدرسة خاصة ستستضيف تلامذة المدارس الرسميّة النازحين أو من شغَلَ النازحون مدارسهم. وفي ظلّ عدم مخاطبة وزارة التربية للبنانيين، ولا نشرها لخطتها ولا أي أرقام واضحة عن واقع النزوح وأثره التربويّ، وعن نسب التجاوب مع خطّتها التربويّة، لا نعلم إن كان هذا التعاون قد بدأ. وقد سمع اللبنانيون السيمفونية الطائفيّة المعتادة حول تشريع استخدام المدارس الخاصّة أو مخاطر ذلك على الملكيّة المقدّسة في لبنان خصوصًا إن كانت ملكيّة طائفيّة أو مصرفيّة.
انطلق العام الدراسي إذًا من دون تعليم فاعل للنازحين، ولا يبدو في الأفق متى ستتوفر شروط تحسين نوعيّة التعليم من بعد. قد يكون الحلّ بسيطًا كما حصل في نقل المدارس إلى مبانٍ جديدة، فالبلد مليء بالأبنية الفارغة، والأولاد يستحقّون أن تخصص لهم هذه المساحات ليشعروا بالاحتضان، وبشيء من الأمان الذي يفتقدونه. وقد يكون جيدا أن يُدمج الأولاد في صفوف مدارس المناطق الآمنة، الرسميّة والخاصّة، وأن تستقبل المدارس الخاصّة وغيرها من المساحات غير المستعملة المتعلّمين اللبنانيين النازحين وغير النازحين. وعند ذلك قد لا يكون هناك حاجة لكلّ الاقتراحات “المتفزلكة” التي كانت قد وردت في خطّة وزارة التربية والتي لم تنجح حتى الآن في وضع أي منها موضع التنفيذ.