صورة من الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية التونسية، للقاء الرئيس قيس سعيد بالرئيس الصيني شي جينبينغ، على هامش القمة العربية الصينية في الرياض
لم تكُن الشعارات التي رفعها أنصار الرئيس التونسيّ قيس سعيّد يوم عيد الاستقلال الماضي، في علاقة بالتوجهات الخارجيّة والاقتراب من روسيا بالتحديد لتلقى اهتماما إعلاميّا لافتا أو حتى أن تتم قراءتها كرسالة سياسيّة. فمثل هذه الآراء لطالما عُبّر عنها في عدد من المنابر الإعلاميّة وحتى على وسائل التواصل الاجتماعيّ على مدى سنوات، وهي بالأساس تعبير عن مزاج إيديولوجي أو ديماغوجيّ أكثر من كونها تجسيدا لفكر سياسيّ عمليّ يضع تصوّرا علميّا متينا لطبيعة العلاقات التي يمكن لتونس أن تبنيها مع مختلف القوى الاقتصاديّة الصاعدة، ومن بينها القوى المنضوية تحت مشروع “بريكس”. إلا أنّ الجديد في هذا الموضوع، ما أثاره سعيّد في تصريحاته على هامش إحياء ذكرى وفاة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في المنستير، من إمكانيّة التوجّه نحو بدائل أخرى عن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي معتبرا أنّ “الإملاءات التي تأتي من الخارج وتؤدي إلى مزيد التفقير مرفوضة”. هذا التصريح الذي لم يكُن مشفوعا بتفاصيل عن طبيعة هذه البدائل أو تصوّرات نحو تنفيذها، كان وفيّا جدا لتقاليد “اللاسياسة” الاتصاليّة للدولة في حجب المعلومة وترك الباب مفتوحا أمام مختلف أشكال التأويلات المنطقيّة منها أو الاعتباطيّة، حتى بلغ بعضُها حدّ الإقرار بعزم تونس الانضمام إلى تحالف “البريكس”، كما عبّر عن ذلك المتحدّث باسم “مسار 25 جويلية” الموالي للرئيس، رغم أن شروط استيفاء الانضمام إلى المنظمة غير مطروحة البتّة في الحالة التونسيّة.
البريكس: إطار اقتصاديّ غير مكتمل
يعود مصطلح BRIC إلى تقرير نشره الاقتصاديّ البريطاني “جيم أونيل” في نوفمبر 2001 تحدّث فيه عن مراكز اقتصاديّة عالميّة جديدة توقّع لها سُرعة نموّ تتجاوز ما هو متوقّع لدول مجموعة السبع في أفق سنة 2050. وتشمل هذه القوى الاقتصاديّة المنضوية ضمن هذا المصطلح كلّا من البرازيل وروسيا والهند والصين. ثمّ تحوّل هذا المفهوم على أرض الواقع من خلال منظمة تحمل نفس الإسم، بدأت المشاورات في تركيزها منذ سبتمبر 2006 حتى تاريخ انعقاد أوّل مؤتمر لها في جوان 2009، لتنضمّ إليها جنوب أفريقيا في 24 ديسمبر 2010 ويتحوّل بالتالي اسم المجموعة إلى BRICS.
ورغم حجم دول المنظمة اليوم من الناحية الديمغرافية (حوالي 3،3 مليار نسمة) ووزنها الاقتصادي إذ تضمّ أربعة من أكبر الاقتصادات العالميّة، لا تزال “البريكس” غير خاضعة من الناحية التنظيمية إلى ميثاق واضح يُنظّم عمل المجموعة، وهي غير مُتماسكة كذلك من الناحية القيمية، ولا يوجد بين دولها رابط ثقافيّ مؤسّس. إلا أن التحالف يسعى من خلال مؤسساته بشكل طموح إلى نسج بديل عن المؤسسات المالية الدولية بالنسبة للدول النامية. ومن أهم هذه الخطوات إنشاء “بنك التنمية الجديد” الذي بلغ رأس مال الاكتتاب الأوليّ فيه 50 مليار دولار، حيث شهد هذا البنك الذي يسعى إلى منافسة البنك الدولي، مساهمة بعض الدول من خارج التحالف في أسهمه على غرار الأوروغواي والإمارات وبنغلاديش، وهناك أيضا مشروع “ترتيبات الاحتياطي الاحتماليّ لبريكس” (BRICS Contingent reserve Arrangement) وهي مؤسسة منافسة لصندوق النقد الدولي وإطار بين الدول الأعضاء للمنظمة لتوفير الحماية ضد ضغوط السيولة العالميّة على المدى القصير. وقد بدأ كلا المشروعين في اجتذاب عدد من الاقتصادات النامية والناشئة، بلغ حدّ التفكير في وضع معايير خاصّة للاقتراض ستتمّ مناقشتها على جدول أعمال قمة البريكس القادمة خلال شهر أوت المقبل في جنوب أفريقيا. إلى جانب ذلك، يمتلك البريكس عديد المشاريع الطموحة الأخرى كنظام الدفع لدول البريكس، وهو مشروع لاستبدال نظام “السويفت” طُرح منذ سنة 2019، واقترحت روسيا تطويره خلال القمة 14 للبريكس في جوان 2022 كسلاح اقتصادي مستقبلي لمواجهة العقوبات الغربية عليها في مجال التبادل التجاري والمالي إثر العملية العسكرية في أوكرانيا. كما اقتُرحت كذلك فكرة العملة الموحّدة الجديدة لدول البريكس للحدّ من هيمنة العملة الأمريكية على التجارة العالميّة.
لكن هل يمكن الجزم بأن البريكس قد بلغ من التماسك مرحلة تُخوّله بلوغ منزلة البديل الحقيقي للمؤسسات الدوليّة القائمة بالنسبة للدول النامية على وجه التحديد؟ من الواضح أن هذا الأمر غير قائم تماما اليوم، فالبريكس كتجمّع دوليّ لا يزال في مراحله الأولى، حيث لم يتّخذ عمله بعد صيغة التنسيق الدائم ولا يمتلك شخصيّة قانونية أو ميثاقا ينظّمه، ولا يزال أقرب في شكله إلى المنتدى أو التحالف. ويعوق هذا المشروع عدد من التحديات، ومنها التنافس الاقتصادي والسياسي بين القوّتين الديمغرافيتين الرئيسيتين فيه، الصين والهند. إذ تُشكّل الهند طرفا فاعلا في تحالف “كواد” الرباعي الذي تقوده الولايات المتّحدة لمُحاصرة النفوذ الصيني في جنوب شرق آسيا، كما أنّ للهند توجّسا من هيمنة الصين على وسائل العمل داخل تحالف البريكس، خاصّة في الجانب الاقتصاديّ، وإمكانية اعتماد الصين للبريكس كإطار لتدعيم عملتها الوطنيّة على المستوى العالمي (بعض التقارير تفيد سعي بكين لشراء النفط السعودي باليوان الصيني عوض الدولار ورغبتها في تحويل اليوان إلى عملة احتياط دوليّ). يُضاف إلى كلّ هذه التحديات، المشاريع الاستراتيجيّة الجديدة للدول السبع كمشروع البرنامج العالمي للبنية التحتيّة للدول الناميّة الذي يستهدف تقييد المشاريع الاستراتيجيّة الصينية في عدّة مناطق من العالم.
تونس و”البريكس”: بيع الوهم
تداول انضمام تونس إلى تحالف البريكس وتصويره بمثابة “الوصفة السحرية” التي يُمكن لها انتشال الاقتصاد التونسيّ من الشروط المُجحفة للمؤسسات الماليّة الدولية، لم يكن قائما على مؤشرات جديّة بل كان بالأساس نتيجة تصريح إعلامي لمحمود بن مبروك، إحدى الشخصيات الموالية للرئيس على إذاعة موزاييك يوم 8 أفريل الماضي. ولا يُعرف عن بن مبروك تأثير أو دور كبير في مُحيط أو دائرة سعيّد، إلا أنّه برز في الآونة الأخيرة بقيادته لانشقاق داخل “حراك 25 جويلية” الذي كان يشغل سابقا خطّة المتحدّث الرسمي باسمه، ليؤسس في أواخر شهر مارس الماضي مجموعة تُعرف باسم “مسار 25 جويلية الوطني” في تمايز عن مجموعة “ثامر بديدة” داخل الحراك. وقد برّر بن مبروك تأسيس هذه المجموعة بالموقف من ترشيح قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسيّة القادمة، كما اعتبر “المسار” بمثابة “الحزام السياسي لرئيس الجمهوريّة ورئيس مجلس النواب”.
وبغضّ النظر عن الهدف من هذا التصريح، سواء كان نوعا من إثارة الانتباه من قبل فصيل سياسيّ جديد أو من طرف داعم له، أوحتى التفكير في محاولة توجيه رسالة غير مباشرة من قبل السلطة حول توفّر بدائل عن المؤسّسات الماليّة الدوليّة، فإنّ هنالك إجماعا واضحا على مدى “سرياليّة” هذا الطرح الذي وصفه بن مبروك في تصريحه السابق بـ “البديل السياسي والاقتصادي والماليّ الذي سيُمكن تونس من الانفتاح على العالم الجديد”. إذ تقتصر مطالب الانضمام الجديّة إلى تحالف “البريكس” بالنسبة للدول العربية في ثلاث دول هي مصر والجزائر والمملكة العربيّة السعوديّة، ولكلّ من هذه الدول أهدافها الخاصّة في ذلك. فمصر، التي شاركت بصفة مراقب منذ قمة البريكس التاسعة بالصين في سبتمبر 2019 تسعى إلى الانضواء ضمن خطة “بريكس بلاس” بعد دخولها كعضو في بنك التنمية الجديد لبريكس في 29 ديسمبر 2021 وتطوير التبادل التجاري مع الصين والهند خاصّة. أما السعوديّة فتسعى من خلال انضمامها للتحالف إلى تدعيم مكانتها الدوليّة وفتح أسواق جديدة لصادراتها النفطية والاستفادة من تطوير التبادلات التجاريّة مع دول البريكس لتعزيز خطط السعودية التنمويّة مُستقبلا ودعم مكانة البلاد كلاعب دوليّ يتمتّع بقدر من الاستقلاليّة. في حين أشار الرئيس الجزائريّ في تصريح إعلاميّ له عن موافقة كل من روسيا وجنوب أفريقيا والصين، مع موافقة برازيلية متوقعة لانضمام الجزائر إلى التحالف. وتكمن أهداف انضمام الجزائر إلى مجموعة البريكس في تطوير البنية التحتية (ومنها مشروع ميناء بجاية الذي اقترحت الصين تطويره) فضلا عن تمكين عدد من المشاريع الصناعية والزراعية من الاستفادة من التقنيات المتوفرة في عدد من البلدان الأعضاء، ناهيك عن الجانب السياسي المُتمثل في رهان الجزائر على تحولات جديدة في النظام العالميّ قد تدفع به إلى عالم متعدّد القطبيّة.
ومن هنا يمكن الاستنتاج بأن مقترح انضمام تونس إلى تحالف البريكس لا يقوم على أي مؤشر موضوعي. إذ أن أضعف الاقتصادات الموجودة في التحالف حاليا وهي جنوب أفريقيا، تمتلك ناتجا محليا إجماليا يفوق نظيره التونسي بعشرة أضعاف (أكثر من 420 مليار دولار). وتنبني عملية التوسع التي قد تقوم بها المجموعة تجاه عدد من الدول التي قدمت ملفاتها سابقا على مجموعة من الشروط الاقتصادية التي لا تُعد هيّنة بكافة المقاييس، فالجزائر مثلا، وهي من المرشحين الجديين للالتحاق بالمجموعة تسعى إلى زيادة ناتجها المحلي الإجمالي إلى 200 مليار دولار وتطوير مداخيلها من الخدمات والانتقال إلى مستويات أعلى من التصدير لتعزيز حظوظها في الانضمام، الذي يبقى مع ذلك غير محسوم تماما على المدى القريب. من جهة أخرى عبّرت الصين، وهي أكبر قوى التحالف على لسان سفيرها في تونس عن طموحها لتحقيق تقدم في المفاوضات بين صندوق النقد الدولي والجانب التونسي، مما ينفي أية صبغة واقعيّة عن الخيارات الأخرى البديلة، ومنها أساسا الانضمام إلى دول البريكس. فضلا عن أن انخراط تونس اليوم في عدد من التحالفات المتمايزة عن “البريكس” ومنها تواجدها كحليف رئيسي خارج الناتو ومساهمتها في مبادرة الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي المدعومة أمريكيا وغربيا، تحول كذلك دون توجّهها إلى التحالف. لكن من الواضح عموما أن موضوع الالتجاء إلى البريكس، قد يتم التفكير فيه كورقة من أوراق المناورة الدبلوماسية للحصول على القرض المبدئي مع صندوق النقد الدولي قبل توقيع الاتفاق النهائي. وكانت مديرة الصندوق “كريستالينا جورجيفا” قد عبّرت في تصريحاتها الأخيرة على هامش “اجتماعات الربيع”، عن أملها في تجاوز الاختلاف مع السلطات التونسية حول “برنامج معقول للإصلاحات يمكن تطبيقه”، مع تأكيدها بشكل غير مباشر على شرط الالتزام الرسمي به من قبل رأس السلطة باعتباره “الخطوة المتبقية الوحيدة”.
في المجمل، يعكس النقاش حول تغيير البوصلة الديبلوماسية لتونس عديد العناصر المستجدّة، إذ من الجديّ اليوم تأسيس العلاقات الخارجية على أسس عقلانية، تأخذ في الاعتبار مختلف المتغيّرات الاستراتيجية على المستويين الإقليمي والعالمي. غير أنه لا يمكن بناء مثل هذا التمشي العقلاني عبر فوضى من التصريحات الرسميّة أو شبه الرسمية، بل عبر سياسة واضحة ومتكاملة، تنسجم لتحقيقها كافة مؤسسات الدولة عبر استراتيجية طويلة المدى يتم فيها تغليب المصالح العليا للدولة ولا تخضع فقط للتطورات الظرفية، ويكون فيها احترام السيادة الوطنية حقيقة لا شعارا.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.