من وقفة احتجاجية على الانتهاكات ضد الصحافيين بدعوة من تجمّع نقابة الصحافة البديلة في عام 2020
أعاد تصاعد وتيرة الانتهاكات المحلّية ضدّ الفرق الإعلامية خلال الأشهر الماضية، السؤال عن حماية الصحافيين وحقّهم في ممارسة عملهم من دون ترهيب. وقد رصد تجمّع نقابة الصحافة البديلة في شهر تشرين الثاني الماضي وحده 13 انتهاكًا على الأقلّ، تراوح بين منع من التغطية وكسر معدّات أو مصادرتها مرورًا طبعًا باعتداءات جسديّة ولفظيّة، هذا عدا عن حملات التحريض ضدّ صحافيين ومؤسّسات إعلاميّة.
كلّ هذه الانتهاكات تحصل ضدّ صحافيين يقومون بمهامهم الصحافيّة في مناطق خطرة كانت تشهد حربًا واليوم تشهد اعتداءات إسرائيليّة مُتكرّرة. وقد طالت الحرب الإسرائيلية الصحافيين أيضًا في استهدافات مباشرة وغير مباشرة، ورصد تجمّع نقابة الصحافة البديلة أكثر من 12 استهدافا مباشرا لهؤلاء قتل فيها 6 وأصيب العشرات منهم بجروح. آخر هذه الاستهدافات الغارة على مقر إقامة الصحافيين في حاصبيا. واستمرّ استهداف إسرائيل للصحافيين حتّى بعد إعلان وقف إطلاق النار وكان آخرها استهداف فريق قناة “الميادين” بشكل مباشر مرتين الأحد الماضي أثناء أداء مهامه الصحافيّة جنوبًا.
وعلى الرغم من حصول معظم الانتهاكات المحلّية مؤخّرًا في الضاحية الجنوبيّة لبيروت وفي جنوب لبنان وفي مناطق أخرى حيث يتمتّع “حزب الله” و”حركة أمل” بنفوذ قويّ، إلّا أنّ “المضايقات تحصل في مختلف المناطق، فمعظم الأحزاب الأخرى لديها نفوذ وسلطة، وإن لم يكن المصوّر أو المؤسّسة على قياس هذا الحزب أو هذا الشارع فلن يكون مرحبًّا به، ولكن اليوم لأنّ الحدث في الجنوب والضاحية، تركّزت الانتهاكات هناك”، بحسب نقيب المصوّرين علي علوش.
غالبًا ما تتسبّب هذه الانتهاكات بأذى نفسي وجسدي للصحافيين، فالاعتداء على فريق المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال، على سبيل المثال لا الحصر مؤخرًا، تسبّب بدخول المصوّر طوني كيرلوس إلى المستشفى وبتوقّفه عن العمل أسبوعًا كاملًا بسبب الإصابة. كما تتسبّب هذه الانتهاكات في بعض الأحيان بأضرار ماديّة كبيرة لاسيّما للمصوّرين، إذ إنّ عددًا كبيرًا منهم يعمل بعقد حر لا يخضع لتأمين صحيّ ويتكفّل هو بالمعدّات، ما يعني أنّ كسرها أو مصادرتها خسارة كبيرة له، وفي بعض الأحيان تؤدّي إلى توقّفه عن العمل.
ومن المخاطر الأساسيّة التي يجب التنبّه إليها، الدور الذي قد تؤدّيه هذه الانتهاكات في دفع بعض الصحافيين وحتّى المؤسّسات الإعلاميّة إلى الامتناع عن التغطية في هذه المناطق التي تشهد ولا يزال بعضها يشهد شتّى أنواع الجرائم على يد إسرائيل. وهو ما يؤدّي إلى إعاقة توثيق هذه الجرائم وتبعاتها على الناس والمناطق. وهذا الأمر يستدعي ملاحظتين أوّلًا أنّ عمل الصحافيين، أينما كان وليس فقط في هذه المناطق يجب أن يكون مُصانًا في كلّ الأوقات من منطلق حقوقي تماشيًا مع القوانين والاتفاقيات والأعراف الراعية لهذه المهنة ولحريّة التعبير والتنقل. الملاحظة الثانية هي أنّ تواجد الصحافيين كلّ الصحافيين في هذه المناطق في الوقت الحالي ضروري لتوثيق الجرائم من باب مواجهة سرديّات العدو الإسرائيلي التي اعتمدها لتشويه الحقائق وطمسها.
ورغم الانتهاكات التي تعرّضوا وقد يتعرّضون لها، وفي ظلّ انعدام محاسبة المرتكبين، يصرّ بعض الصحافيين والصحافيات الذين تواصلنا معهم على استكمال التغطية من منطلق الواجب المهني في هذه المرحلة الحسّاسة، ويفضّل بعضهم السكوت عنها من المنطلق نفسه. “لا أريد أن أتحدّث بالموضوع، سيعرّضني الأمر لمزيد من الانتهاكات، ثمّ أنّني أريد أن أكمل عملي، لو كنت مقتنعة بأنّ الحديث عن الانتهاكات سيوقفها كنت أوّل المتحدثين، ولكن لا جهات تُحاسب ولا أمل بالمحاسبة”، تقول إحدى الصحافيات التي تعرّضت لمضايقات خلال تغطية في جنوب لبنان.
وبما أنّ الحرب الأخيرة على لبنان طرحت إشكاليّة الخطاب الإعلامي الذي تتبنّاه المؤسّسات الإعلاميّة تمامًا كما طرحت موضوع حماية الصحافيين وأمنهم وحقّهم في التعبير عن آرائهم داخل مؤسّساتهم وخارجها من دون التعرّض لمضايقات، وبما أنّ بعض الأصوات برّرت عن قصد أو من غير قصد الانتهاكات ضدّ صحافيين بحجّة خطاب مؤسّساتهم الإعلاميّة، أصبح من الضروري التذكير، وحسب ما كرّر غير صحافي، بأنّ الرّد على الخطاب الإعلامي لمحطّة لا يكون بالعنف والمنع لا ضدّ المحطّة ولا ضدّ فرقها على الأرض. “يمكن أن يمتنع الناس من إعطاء مقابلات للمحطّة تعبيرًا عن رفضهم لموقفها، يمكن أن يعبّروا عن هذا الامتعاض، ولكن ليس بالاعتداء والقمع” كرّر أكثر من مراسل.
وفي هذا الإطار قد يكون من المفيد التذكير بأنّه في لبنان لا يوجد ميثاق للأخلاقيات الإعلامية يُحدّد عناوين عريضة متعلّقة بالتغطية وأساليبها، وأنّه على الرغم من وجود ميثاق الشرف الإعلامي لتعزيز السلم الأهلي في لبنان (2013) الذي أخرج حالة العداء بين إسرائيل ولبنان من معيار الحياد، ووجود ميثاق الشرف الإعلامي الإلكتروني (2016) الذي ينصّ على ضرورة الالتزام بالموقف الرسمي للدولة اللبنانية في ما يتعلق بالصراع مع العدو الإسرائيلي والخطر الإرهابي، إلّا أنّه لا توجد جهات وآليات واضحة لمتابعة الالتزام بهما، علمًا أنّ دور المجلس الوطني للإعلام استشاريّ.
وفي الإطار نفسه، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تبرير هذه الانتهاكات بأنّها نتيجة غضب الجمهور من دون محاسبة المعتدين وإدانة واضحة من الأحزاب التي “تمون” عليهم، في بيان رسمي يشجب مثل هذه الأعمال، قد يكون عاملًا إضافيًا في تشجيع هذه الممارسات وانتقالها من منطقة إلى أخرى. إذ لا يكفي على سبيل المثال أن يتواصل معنيّون من “حزب الله” و”حركة أمل” مع إدارة القنوات التي تعرّض فريقها للاعتداء وإدانة الفعل (كما حصل في حالة LBC)، من دون إصدار بيان واضح يشجب هذه الأفعال ومن دون محاسبة المعتدين، لأنّ ذلك يساهم في استمرارها.
وتواصلت “المفكرة” مع العلاقات الإعلاميّة لـ “حزب الله” للحصول على تعليقٍ من الحزب حول هذه الانتهاكات في مناطق نفوذها، إلّا أنّنا لم نحصل على ردٍ حتّى تاريخ نشر هذه المادة.
كان آخر هذه الانتهاكات ما تعرّض له فريق المؤسسة اللبنانية للإرسال LBC يوم الاثنين الماضي في 27 كانون الثاني، حين قامت مجموعة من الشبّان في بلدة دير ميماس بالاعتداء على الفريق ومنعه من القيام بعمله بالقوّة. وأصيب في الاعتداء المصوّر طوني كيرلوس برضوض استدعت نقله إلى المستشفى، كما أصيب التقني روبير غصن بكدمات.
وبات المصوّر ليلته في المستشفى وأوصى التقرير الطبي للمستشفى براحته أسبوعًا بسبب الإصابة في إحدى رجليه فضلًا عن الرضوض والإصابة في ظهره الذي لا يزال يعاني من آلام فيه نتيجة إصابة في اعتداء سابق عليه من شبّان أيضًا خلال مهمّة صحافيّة أخرى قبل سنوات.
يروي طوني لـ “المفكرة” أنّ فريق LBC وصل عند الخامسة والنصف بعد الظهر إلى بلدة دير ميماس (قضاء مرجعيون) بعد نهار طويل في قرى جنوبيّة أخرى لمواكبة عودة الأهالي وانتشار الجيش اللبناني. وعندما بدأ بأخذ اللقطات بينما يتمّ تجهيز النقل المباشر، اقترب شاب منه وسأله عن هويّة المحطّة، وما أن أجابه حتّى طلب منه المغادرة. “قال لي بروم وفل، أنتم غير مرغوب فيكم، وأنّنا حضرنا متأخرين ونريد سبقًا صحافيًا على حسابهم”، يقول طوني، مضيفًا: “حاولت أن أخبره أنّنا كنّا في قرى أخرى، ولكنّه أصرّ على عدم السماح لنا بالتصوير”.
أطفأ طوني، كما يُخبرنا، الكاميرا ووضعها في سيّارة النقل المباشر ومن ثمّ عاد واقترب من لارا التي كانت تحاول استيضاح سبب عدم السماح لهم بالتغطيّة. إلّا أنّ محاولتها باءت بالفشل تحت حجّة أنّ قناة LBC لا تطلق توصيف شهيد على من تقتلهم إسرائيل، “وهذا غير صحيح فالقناة التي واكبت عبر مراسليها الحرب الإسرائيلية ولاسيّما جنوبًا خلال أكثر من عام، لم تستخدم إلّا كلمة شهيد للدلالة على الأشخاص الذين قتلتهم إسرائيل”، بحسب طوني.
لم يتمكّن الفريق من إقناع الشبّان الغاضبين بأنّ سبب غضبهم لا يمتّ للحقيقة بصلة، إذ بدأ هؤلاء بكيل الشتائم للمراسلة والمحطّة. وبينما كان طوني يتوجّه إلى سيارة النقل المباشر بهدف ترك المنطقة نزولًا عند رغبة الشبّان الغاضبين، باغته الشبّان بضربة على ظهره رمته أرضًا، وما أن وقف حتّى ركلوه ورموه على الأرض مرّة أخرى، بينما كان يُشاهد الشبّان يضربون سيّارة النقل المباشر ويأخذون منها الكاميرا ويرمونها في قناة للري، الكاميرا التي لم يستعدْها حتّى اللحظة.
وبينما كان الشبّان يركلون سيّارة النقل المباشر، كانت لارا داخلها. “كنت أسمع أصوات ضرب وتكسير، أخذوا الكاميرا والمولّد من داخل السيّارة ورموهما أرضًا”، تقول لارا مضيفة: “كلّ هذا مع سيل من الشتائم وقيام أحدهم بشتمي شخصيًا والبصق في وجهي”.
المصور طوني كيرلوس الذي تعرض لرضوض استدعت نقله إلى المستشفى للعلاج
وتروي لارا في اتصال مع “المفكرة” أنّه أثناء تحضير الفريق للنقل المباشر لانتشار الجيش في قرية دير ميماس واعتصام أهالي كفركلا فيها وفي محيطها، توجّه عدد من الشبّان المعتصمين ضمن “مجوعة قرية كفركلا” إليهم طالبين منهم التراجع وموجّهين إليهم إهانات. ورغم التزام الفريق بوقف التصوير، لم يتوقّف الهجوم إذ تحوّل من الشتم إلى الدفع والضرب.
“في جميع كلّ الأحوال، لا يمكن تبرير الاعتداء على الطواقم الإعلاميّة، ولكن فعليًا لم يقم الفريق بأي أمر ممكن أن يوضع في إطار الاستفزاز، كان الشبّان يُكرّرون أنّ المحطّة لا تستخدم عبارة شهيد وتعتبر الشهداء قتلى، وهذا غير صحيح، أوضحت الأمر أكثر من مرّة ولكنّهم كانوا مصرّين على اتهامنا بأمور غير صحيحة ومحاسبتنا ميدانيًا عليها، بالضرب والاعتداء” تقول لارا. وتلفت إلى أنّ الأمر بدأ قبل يوم، حين واجهتها مجموعة من الشبّان الذين اتهموا المحطّة بأنّها لا تستخدم كلمة “شهيد” أيضًا.
توضح لارا أنّها لم تتعرّض للضرب المباشر إذ إنّ أحد الشبّان صرخ “ما حدا يمدّ إيده على بنت” وأنّ الجيش أدخلها إلى سيارة النقل المباشر التي هجم عليها الشبّان وبدأوا بضربها من الخارج.
بعد خروج الفريق من دير ميماس، اعترضت طريقه سيّاراتان بالقرب من حاجز الخردلي (بين مرجعيون والنبطيّة). ترجّل منهما شبّان طلبوا من لارا الاعتذار وإلّا لن يسمحوا لها بإكمال طريقها. “رفضت الاعتذار، لأنّني لم أقل شيئًا واعتذاري يعني أنّني أخطأت، ويثبّت ما يقولون. بعدها أجرينا سلسلة اتصالات وكذلك فعلت المحطة مع معنيين حزبيين وأمنيين، حتى سُمح لنا بالمغادرة”. لم ينته الأمر عند هذا الحد إذ ما أن بدأ الفريق بالتحرّك حتّى اعترضت سيارته سيارة أخرى وأعادت التهديدات السابقة والحديث عن موضوع الشهداء.
لا توجّه لارا كما طوني أصابع الاتهام إلى أيّ جهة أو حزب، كما أنّهما يؤكّدان أنّ أهالي القرى التي دخلها فريق Lbc طوال فترة تغطيته الاعتداءات الإسرائليّة منذ السابع من أكتوبر، كانوا مرحّبين ومتعاونين، وأنّ مثل هذه التصرّفات تُسيء إلى أهالي هذه القرى الذين يدينوها.
وفي حين تُشير لارا إلى أنّ معنيين من “حزب الله” و “حركة أمل” تواصلوا مع إدارة القناة واستنكروا ما حصل من اعتداء، اعتبرت أنّ هذا الأمر غير كاف إذ يجب أن يكون هناك موقف واضح على العلن يُدين الاعتداء على أيّ صحافي، كما هناك ضرورة بمحاسبة المعتدين المعروفة وجوههم للأجهزة الأمنيّة ولاسيّما الجيش الذي كان حاضرًا.
تواصلت “المفكرة” مع عددٍ آخر من الصحافيين الذين سبق وتعرّضوا لانتهاكات خلال فترة الحرب، بعضهم فضّل عدم الحديث طالما أنّ المحاسبة، من خلال تجربتهم، لا تزال بعيدة المنال. وقالت إحدى المراسلات التي تعرّضت لمضايقات أثناء عملها جنوبًا إنّها بالعادة تفضّل عدم الحديث عن الموضوع في الإعلام “أريد أن أكمل عملي بأقلّ خسائر وأضرار ممكنة، حُلّ الموضوع بأرضه، والحديث عنه قد يضعني تحت المجهر”. وتقول هذه المراسلة إنّها أبلغت مخابرات الجيش بما حصل وذلك لأنّ المُعتدين كسروا الكاميرا، وأنّها كانت لتكون أوّل المتحدثين عمّا تعرّضت له لو كان هناك محاسبة.
اعتداءات سابقة بحجج مختلفة
يؤكّد مراسل قناة “العربيّة” محمد البابا لـ “المفكّرة” أنّه واجه الكثير من المضايقات أثناء قيامه بمهامه الصحافية خلال الحرب. ويروي كيف هاجمه يوم الأحد 17 تشرين الثاني الماضي مجموعة شبّان بينما كان يستعدّ لرسالة على الهواء مباشرة من كورنيش صيدا البحري، مشيرًا إلى أنّ الشبّان ترجّلوا فجأة من سيّارة وبدأوا بكيل الشتائم له وللمحطّة ومن ثمّ أخذ أحدهم الميكرفون ورماه أرضًا ثمّ داس عليه، كما رموا هاتفه وكسروه.
تقدّم محمّد بشكوى في مخفر صيدا الذي استدعى أحد الشبّان الذين كانوا في السيّارة وتمّ التعهّد بعدم التعرّض له مجدّدًا، إلّا أنّ الأمر توقّف عند هذا الحدّ ولم يكن هناك محاسبة فعليّة على حدّ قوله.
قبل هذه الحادثة بأيّام تعرّض لمحمد شبّان في منطقة جون حيث كان توجّه لتغطيّة المجزرةالتي ارتكبها العدو باستهدافه مبنى سكنيًّا في المنطقة في 12 تشرين الثاني 2024. يقول محمد إنّه ما أن ترجّل من السيارة ولم يكن يحمل كاميرا، حتى صاح أحد الأشخاص ‘هذا مراسل العربيّة’. لم تكد تمرّ لحظات حتى وصل 3 شبّان وانهالوا عليه بالشتائم وطلبوا منه مغادرته المكان. وبينما كان متوجهًا إلى سيّارته اقتربت نحوه مجموعة أخرى من الشبّان على درّاجات ناريّة، عرّفوا عن أنفسهم بأنّهم أمن حزب الله وأخبروه بأنّ كاميرته تُعطي إحداثيّات للعدو، وذلك في وقت هناك قنوات تنقل مباشرة، وعندما سأل عن الفرق بين الاثنين قيل له إنّ تلك القناة “حاصلة على ضوء أخضر من العلاقات العامة في حزب الله”.
بعدما تدخّل أعضاء من بلديّة جون، حضر رابط الحزب في البلدة: “كان لطيفًا معي، أخبرني انّ هناك حساسيّة تسبّبها قناة العربيّة وأنّه غير مرغوب فيها لأنّها تستفزّ الناس”، يقول محمد. ويضيف: “حُلّت المشكلة بهدوء وسُمح لي أن أخرج برسالتي للقناة من البلدة ولكن من مكان بعيد من المبنى المستهدف”.
يعتبر محمد أنّ ما يحصل مع الفرق الإعلاميّة ليس صدفة ولا ردّة فعل عفويّة إنما هي أمور ناتجة عن تعميم أسماء بعض الأشخاص أو القنوات كأشخاص غير مرغوب فيهم ويجب أن يمنعوا من التغطية، وأنّ هذا ما تبلّغه شخصيًا “أخبروني في العلاقات الإعلاميّة في حزب الله أنّه غير مرغوب بي ووجودي يجب ألّا يتجاوز نهر الأوّلي” يقول.
جاسنت عنتر مراسلة قناة “الجديد” أيضًا كانت من الصحافيات اللواتي تعرّضن للاعتداء أثناء أداء مهامهنّ الصحافيّة في متابعة استهداف العدو الإسرائيليمنطقتي النويري والبسطة وسط بيروت في 10 تشرين الأوّل الماضي.
تقول جاسنت لـ “المفكرة” إنّها وصلت إلى منطقة النويري بعد دقائق من الاستهداف ليخبرها أحد الشبّان أنّ هناك ضربة أخرى في البسطة وأنّ الأضرار هناك كبيرة جدًا لتنتقل على الفور إلى البسطة. وما أن وصلت هي والمصوّر هادي درويش حتّى تهجّمت عليهما مجموعة كبيرة من الناس طالبين عدم التصوير.
“حاول المصوّر معرفة السبب، ولكنّهم أصرّوا على عدم التصوير وابتعادنا. لم نكن على الهواء مباشرة، ولكننا كنّا نصوّر، قرّرنا أن نبتعد أمتارًا من مكان الاستهداف وأنّ ننقل من هناك، ولكن قبل أن نصل تعرّضنا للضرب من الخلف، وكانت إصابة المصوّر بليغة في رقبته تطلّب علاجها أسبوعًا”.
لم يتوقّف الاعتداء على جاسنت وهادي حتّى تدخّلت مجموعة من أهالي المنطقة وأبعدت المجموعة المهاجمة. وفي هذا السياق تقول جاسنت: “لم يكن هناك أيّ إشارة حزبيّة، أهالٍ من المتجمّعين في المنطقة هاجمونا، ومن أنقذنا أهالٍ أيضًا”.
أخبرها بعض الأشخاص من المنطقة أنّهم ظنّوها مراسلة قناة أخرى كما أخبرها آخرون أنّهم خافوا من أن تصوّر الشهداء “أنا صحافيّة وأحترم معايير مهنتي، لم أكن لأصوّر الشهداء بطبيعة الحال، والاعتداء عليّ مرفوض”.
على الرغم من توثيق الاعتداء مباشرة على الهواء، فضّلت جاسنت عدم إثارة الموضوع برسالتها التي تلت الاعتداء “لم أثر الموضوع، أولًا احترامًا للشهداء ولمشاعر الناس ولمهنتي التي تحتّم ألّا أكون الحدث، وأيضًا بطبيعة الحال حتّى لا أتعرّض للمزيد من الاعتداء وأضمن خروجي من المنطقة”، تقول.
الصحافي “مش مكسر عصا”
بينما تُخبرنا لارا عن تفاصيل ما حصل معها تُشدّد على أنّها كانت ومن بداية الاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان حريصة على اعتماد المعايير المهنيّة التي تليق بها كصحافيّة وأيضًا وبطبيعة الحال تتماشى مع سياسة القناة التحريريّة التي اعتمدت خلال الحرب “المعركة هي معركة لبنان، وهي قضيّة وطنيّة، وأنا أنقل الحدث والخبر بأمانة، لا أُحلّل أصلًا، وهذا كان توجّهي وتوجّه القناة” تقول. وتضيف: “وبالتالي لا يوجد مبرّر لغضب الشبّان مع الإشارة إلى أنّه حتّى لو لم يكن هذا هو الخط التحريري بالنسبة لقنوات أخرى لا شيء يُبرّر الاعتداء على المراسل أو المصوّر، فليسا هما من يضعان السياسة التحريريّة”.
ما تتحدّث عنه لارا يلتقي مع ما تقوله الصحافية أليسار قبيسي عضو تجمّع نقابة الصحافة البديلة، بأنّه “لا يمكن أن يكون السماح للتغطية أو عدمه مرتبطًا بشروط الأهالي أو أيّ كان، بل هناك شروط ومعايير مهنيّة تحكم التغطية، وفي المقابل هناك سياسة تحريريّة المراسل غير مسؤول عنها” تقول. وتضيف: “غضب الجمهور (من المحطّة) لا يمكن أن يُبرّر الاعتداء، يمكنهم مقاطعة القناة، عدم إعطائها تصريحًا، أو التعبير عبر منبرها عن الاستياء، وموضوع المهنيّة والخطاب الإعلامي خلال الحرب يحتاج بطبيعة الحال إلى نقاش، وهو نقاش آخر”.
ويضيف نقيب المصوّرين علي علوش بدوره “أنّنا نعيش في بلد دائم الانقسام حول قضايا أساسيّة وذلك في وقت كلّنا يعرف أنّ المحطات تُدار من سياسيين وأصحاب الأموال ما يعني اصطفاف المحطة في مكان ما، ليدفع بعدها المصوّر والصحافي الثمن وكأنّه هو المسؤول عن رأي المحطة السياسي أو عن سياستها التحريرية”. ويصف في حديثه إلى “المفكرة” ما يحصل بأنّه “فشفشة بالصحافيين” أي “فشّ خلق في الصحافيين” وهو أمر مرفوض.
وفي حين يُشير كلّ من علّوش وقبيسي إلى أنّ لا شيء يبرّر الاعتداء، لا ينكران بأنّ بعض القنوات تخوض معارك سياسية لمصلحتها الشخصيّة يتحمّل ضريبتها المراسل أو المصوّر على الأرض.
وليس ربما أدلّ على ذلك من أن نرى المراسل أو المصوّر نفسه يتعرّض للاعتداء من جهات مختلفة حسب القناة التي يعمل لصالحها، وهنا يُمكننا أن نذكر مثلًا تعرّض الصحافية لارا الهاشم حين كانت مراسلة لقناة OTV في العام 2020 للاعتداء في إحدى ساحات الثورة من أشخاص من خلفية سياسية تختلف عمّن اعتدوا عليها في الجنوب الأسبوع الماضي، لارا هي ذاتها ولكنّ القناة اختلفت.
ومن العوامل الأساسيّة التي يضعها الصحافيون والمراسلون الذين تواصلنا معهم، كعامل أساسي يساهم في تكرار مثل هذه الانتهاكات هو غياب المحاسبة إذ نادرًا ما يتمّ توقيف هؤلاء الأشخاص من الجهات الأمنيّة المعنيّة ومحاكمتهم أمام القضاء.
ويقول محمد البابا: “يجب أن يكون هناك محاسبة، يجب تطبيق القانون وغلق الباب أمام التدخّلات السياسيّة لحماية المعتدين، لن تقف الاعتداءات من دون محاسبة”.
الأمر نفسه يُكرّره علّوش عن دور المحاسبة من الجهات المعنيّة مُشيرًا أيضًا إلى أنّ الجيش لم يوقف المعتدين ولا حتّى أصدر بيان استنكار، علمًا أنّه الجهة المسؤولة عن إعطاء الإذن بالتصوير جنوبًا.
وتُشير قبيسي إلى أنّ المؤسّسات أيضًا يمكن أن تؤدّي دورًا للوصول إلى المحاسبة، عبر سلوك المسارات القانونية، وكذلك ترفض التغطية، على سبيل الضغط، إلى حين التأكّد من أنّ المعتدين سيُحاسبون. كما أنّ للصحافيين أنفسهم دورًا في التضامن مع بعضهم البعض بعيدًا عن مؤسّساتهم وتوجّهاتها وعلاقاتها بالمؤسّسات الأخرى.
وفي إطار غياب المحاسبة، تُشير قبيسي إلى خطورة تبرير الاعتداءات بـ “غضب الناس” أي وضع المواطنين في وجه الصحافيين، ما يثير فوضى مقصودة، بمعنى تغييب جهة معنيّة مباشرة يُمكن الرجوع إليها لمعالجة الموضوع أو تحميلها المسؤوليّة ومحاسبتها، والفوضى تجرّ فوضى حتّى تصبح الترجمة العادية لغضب الناس تعني الاعتداء على الصحافيين.
وتعتبر قبيسي أنّ الاعتداءات الأخيرة على الصحافيين ليست عشوائيّة وخير دليل على ذلك انتقالها من منطقة إلى أخرى بشكل منظّم، ما يعني أنّ هناك من يُريد أن يقول “نحن من نُحدّد من يُغطّي في مناطقنا، ونحن من نُحدّد شكل التغطية”.
ما ذُكر سابقًا لا يعني أبدًا أنّ هذه الانتهاكات تقتصر طبعًا على حزب معيّن أو منطقة معيّنة وهذا ما يؤكّده معظم الصحافيين الذين تواصلنا معهم، “فالأحزاب عندها سلطة على المناطق والأحياء، وإذا لم تكن القناة على قياس المنطقة، سيكون غير مرحّب فينا نحن الصحافيون، أجزم أنّ الانتهاكات تحصل في مختلف المناطق، واليوم لأنّ الحدث في الجنوب والضاحية ظهرت هناك، وهذا لا يمثل أبدًا أخلاقيات أهل الجنوب والضاحية” يقول علوش.
بينما كنّا نسأل طوني عن طبيعة إصابته، يُجيبنا قائلًا: “أنا موجوع على كرامتي، عمري 50 عامًا، اُضرب وأهان على شيء لم أفعله، وجع الجسد سيزول، ولكن من يُعيد لي كرامتي”. يقول طوني قوله هذا ليضع بعدها يده على صلب الموضوع “نحن المصوّرين تحديدًا في وجه المدفع، ومكسر عصا، نُضرب في أيّ مكان يرى فيه صاحب السيطرة أنّنا لسنا على قياسه، هناك جهل، حتّى لو اعتبرنا أنّ هناك موقفا من المؤسّسة، نحن المصوّرين لا نضع السياسات التحريريّة، نحن موظفون، فمن يحمينا؟”.
وهذا ما يُركّز عليه أيضًا علوش معتبرًا أنّ “الاعتداءات على الصحافيين ومنهم المصوّرون وصل إلى حدّ ما عاد ينفع معه بيانات واستنكار فقط إذ هناك حاجة ملحّة إلى ورش عمل ومؤتمر على صعيد الوطن، يبحث في سبل مكافحة ثقافة الفشفشة بالإعلام التي باتت منتشرة، وثقافة رفض “الصحافي الآخر” مشيرًا إلى أنّ هذا يحتاج إلى تضافر جهود مؤسّسات عدّة منها وزارتي الإعلام والتربية.
يطرح ما يحصل بطبيعة الحال سؤالًا عن دور وزارة الإعلام، وهو ما دفعنا إلى التواصل مع وزير الإعلام زياد مكاري الذي قال إنّ الوزارة تقوم بمعالجة هذه الأمور عبر القضاء والأجهزة الأمنيّة والمتابعة مع أصحاب المؤسّسات، وأنّ الوزارة تضع نفسها في تصرّف القنوات ولاسيّما في حال القرار باللجوء إلى القضاء.
ويعتبر مكاري أنّ الموضوع له علاقة مباشرة بالأزمة الوطنيّة التي يعيشها لبنان والتي تقسّم بالتالي المناطق سياسيًا، ولكن هذا لا يُبرّر الاعتداءات التي تدينها الوزارة وتتابعها.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.