من أبشع ما ورثناه عن حرب 1975-1990، ملف التعديات على الأملاك العامة البحرية، حيث أحصت وزارة الإشغال العامة أكثر من1068 مخالفة طالت ما يقارب خمسة ملايين مترا مربعا من الشاطئ اللبناني[1]. وكما حصل مع العديد من ملفات الحرب، أغفلت السلطة في مختلف أوجهها هذا الملف بشكل كامل لسنوات طويلة، مما سمح للمعتدين استثمار هذه المساحات من دون تسديد أي بدل للدولة.
وفيما أحالت وزارة النقل والأشغال العامة إلى النيابة العامة ملفّ المخالفات، فإن النيابة العامة لم تقم بأي جهد لاستردادها. ولم تقتصر المخالفات على مخلفات الحرب وحسب، بل أن الكثير منها حصل في فترة لاحقة لانتهائها، في ظل الحمايات والحصانات الفعلية والتراخي في فرض النظام العام والقوانين.
في 2017، تدخّلت الدولة لتمنح المعتدين (ما قبل 1994) امكانية تسوية أوضاعهم خلال مهلة قصيرة (ثلاثة أشهر) تحت طائلة “تطبيق تدابير الإخلاء بحقهم ووضع اليد” مع الاحتفاظ بحق الدولة بالغرامات السنوية المتوجبة عليه عن السنوات السابقة لتنفيذ الإخلاء.
وقد تشعبت المهلة الممنوحة إلى مهل ما برحت تتمدّد مذّاك، في مشهد سريالي يظهر الدولة المعتدى عليها في موقع المتوسّل أو المترجّي لحثّ المعتدين منذ عقود على الاستفادة من تنازلات الدولة لهم.
هكذا توسّلت الدولة من اعتدى عليها
بتاريخ 30/10/2019، انتهت مهلة معالجة المخالفات المرتكبة على الأملاك العامة البحرية قبل 1994. وللتذكير، كان مجلس النواب أقرّ ضمن قانون تمويل سلسلة الرتب والرواتب قانونا صدر في21/8/2017 تضمن مادة تتيح معالجة مخالفات الأملاك البحرية لقاء تسديد غرامات زهيدة نسبيا عن الفترة الممتدة من 1994 حتى 2017 ورسوم عن الفترة اللاحقة للتسوية. وقد حُدّدت آنذاك مهلة ثلاثة أشهر لمعالجة المخالفات، كان من المتوقع أن تنتهي في 21/11/2017. وقد انبنى هذا القانون على أربعة أفكار أساسية: (1) التمييز بين المخالفات الحاصلة قبل 1994 ومن بعدها بحيث تكون فقط المخالفات الحاصلة قبل ذلك التاريخ قابلة للتسوية، (2) إعفاء كلّي عن تسديد أي غرامة عن فترة ما قبل 1994 وتحديد غرامات زهيدة عن الفترة اللاحقة، (3) إعطاء مهلة للتسوية أي لاختبار حسن النية لدى مغتصبي الأملاك العامة، بحيث يكون للدولة أن تطبّق تدابير الإخلاء ووضع اليد على المساحات المشغولة من هذه الأملاك بعد ذلك، مع الاحتفاظ بحقها بالغرامات المتوجبة على الشاغل عن فترة الإشغال السابقة لتنفيذ الإخلاء. ومن هذا المنطلق، بدا واضحا من القانون أن أي تخلف عن التسوية خلال المهلة يؤدي عمليا إلى و(4) تخيير المعتدين بين تسديد الغرامة فورا والاستفادة من 20% تخفيض أو طلب تقسيطها. وقد استغلّت “المفكرة” حصول طعن أمام المجلس الدستوري في القانون، لتقدم له مذكرة تضمنت أسبابها للقول بعدم دستورية هذه التسوية، وبخاصة لجهة مسّها بالمادة 15 من الدستور. وقد تمّ إبطال هذا القانون بقرار للمجلس الدستوري صدر بتاريخ 22/9/2017، علما أنه تضمن حيثية خاصة لإبطال المادة المتصلة بتسوية الأملاك البحرية. وقد ورد في هذه الحيثية: “جاءت (المادة) في ست صفحات وتضمنت ثماني عشرة فقرة، وكل فقرة تضمنت عدة أقسام، ما يتعارض مع الأصول المعتمدة في نص القوانين، وبما أن الغموض … في النص يفسح في المجال أمام تطبيقه بشكل استنسابي، وبطرق ملتوية، تسيء إلى العدالة والمساواة بين المواطنين أو تنحرف عن النية غير الواضحة أساسا للمشترع، عليه تعتبر المادة الحادية عشرة من القانون المطعون فيه مخالفة للدستور بسبب إفتقارها للوضوح.”
تبعا لذلك، عاد المجلس النيابي ليقر قانونا جديدا بعد إدخال تعديلات شكلية (ترقيم الفقرات التي كانت تتضمنها المادة) وهو القانون رقم 64 وقد صدر بتاريخ 20/10/2017 وقد باتت المهلة تنتهي من جراء ذلك في أواخر كانون الثاني 2018 وقد علمنا أن 227 من اصحاب المخالفات فقط قدموا طلبات تسوية خلال هذه الفترة، علما أن العدد الأكبر منهم لم يسدّد أي مبلغ من الغرامة المتوجبة، بل طلب تقسيطها.
وفيما ارتقبنا أن تضرب الدولة بيد من حديد بهدف استرداد جميع الأملاك غير المسوّاة، عاد المجلس النيابي بعد سنة وثلاثة أشهر من انقضاء مهلة التسوية ليناقش اقتراح قانون معجل مكرر قدّمه كل من النواب محمّد الحجّار، نزيه نجم، وجوزيف اسحق، بإعطاء مهلة إضافية للمعالجة هي 4 أشهر. وقد انتهى المجلس النيابي إلى إعطاء مهلة أطول (ستة أشهر) تعادل ضعفي المهلة الواردة في القانون الأساسي فضلا عن أنها تزيد شهرين عن المهلة الواردة في الاقتراح المقدم من النواب. وقد صدر هذا القانون رقم 132/2019 فعليا بتاريخ 30 نيسان 2019، لتنتهي المهلة الجديدة في آخر تشرين الأول من هذه السنة. وقد نما إلى علمنا أن عدد الذين قدموا ملفات تسوية ارتفع تبعا لذلك من 227 إلى 358، علما أن غالبيتهم الساحقة هنا أيضا طلبت تقسيط الغرامات والرسوم، من دون أن تسدد أيا منها.
ورغم تخلف العديد من هؤلاء عن الاستفادة من الباب المفتوح قانونا، عمدت مجموعة أخرى من النواب (جهاد الصمد، نزيه نجم، طارق المرعبي وحكمت ديب) إلى تقديم اقتراح قانون معجل مكرر للتمديد بتاريخ 3/09/2019 من أجل تمديد مهلة الدفع للمرة الثانية. ويخشى أن يتم تمرير هذا الاقتراح مجددا أمام أي جلسة تشريعية قد تعقد للمجلس النيابي.
انتفاضة الناس ضمانة لاسترداد الأملاك البحرية؟
كان من المصادفة أن تنتهي مهلة تسوية مخالفات الأملاك البحرية مع انطلاقة انتفاضة اجتماعية هي الأكبر بتاريخ لبنان. وبدل أن تستفيد الحكومة من هذه الانتفاضة لإعلان نيتها باسترداد الأملاك العامة تطبيقا للقانون، فإنها تحدثت في ورقتها الإصلاحية (والتي هي بحقيقتها ليست كذلك) بشكل مبهم عن استرداد الأموال المنهوبة (وهي تقصد الرساميل) فيما عادت لتدعو “الوزراء المعنيين اتخاذ ما يلزم من اجراءات وتدابير بحق الذين تخلفوا عن معالجة أوضاعهم تطبيقاً لقانون معالجة مخالفات الأملاك البحرية الوارد في قانون موازنة العام 2018 (القانون رقم 79)، وإعداد مشروع قانون لرفع الرسوم المنصوص عنها في القانون”، من دون أي إشارة لوجوب وضع اليد على الأملاك المعتدى عليها بعدما تخلف المعتدون عن تسوية أوضاعهم ضمن المهلة القانونية أكثر من مرة.
أما لناحية الأملاك النهرية، فقد تحدثت الورقة عن ـ”تكليف وزارة الطاقة والمياه إعداد مشروع قانون يرمي إلى معالجة المخالفات الواقعة على الأملاك النهرية بمهلة أقصاها نهاية العام الجاري”، في محاولة واضحة لتعميم منطق التسوية في معالجة المخالفات، هنا أيضا من دون الإشارة إلى استرداد أي منها. وقد نما إلى “المفكرة” أن الوزارة اتخذت خطوات عمليا لبدء صياغة اقتراح مماثل.
ويثبت اجتماع المؤشرات السابقة كلها، عدم جدّية السلطة في التحرّك ضد المعتدين، بل تماهيها مع مصالحهم.
خلاصة
مما تقدم، يظهر بوضوح أن السلطات العامة تصرفت حتى الآن من موقع المتوسل والمترجي والمتخلي، بفعل التداخل بين القيمين على هذه السلطات والجهات المعتدية على الأملاك البحرية وما استتبعها من حصانات فعلية. وقد مكّن ذلك مئات الشركات والأفراد من استثمار الأملاك العامة لعقود من دون يسددوا للدولة أي بدل؛ كما ضربوا حقوق المواطنين بالتمتع بالبيئة والشاطئ والشمس في الصميم. فارتكبت أخطاء جسيمة سواء في عدم تطبيق القوانين أو وضع تشريعات مخالفة للصالح العام، أو أيضا مكافأة المعتدي من خلال منحه المهلة تلو المهلة لتسوية وضعه، من دون أن تستخدم في أي لحظة أسلوب الزجر أو الردع. والسؤال الأكبر الذي يفرض الآن وقد انتهت آخر مهل التسوية: هل ستؤدي الانتفاضة إلى تغيير التعامل مع هذه الاعتداءات، في اتجاه تقوية الدولة وحثها على استرداد أملاكها المنهوبة والمعتدى عليها، فضلا عن تحصيل الغرامات والرسوم المتوجبة من دون تأخير؟ بكلمة أخرى، هل تنجح صحوة الشعب في وضع حد لآثار حرب 1975-1990 وفي الآن نفسه، في تعرية نظام الزعماء وما فرضه من تفتيت وإضعاف للدولة؟ فلنتابع…