في تاريخ 28 تموز 2022، أصدر مجلس شورى الدولة قراراً بوقف تنفيذ مرسوم بإشغال مساحة تبلغ 38164 متراً مربعاً من الأملاك البحرية في منطقة ذوق مكايل. وكان المرسوم قد صدر في تاريخ 11 شباط 2022 وقضى بالترخيص لشركة “ليكويغاز ش.م.ل” بإشغال أملاك عامة بحرية في منطقة ذوق مكايل (38164 م2) منها /11464/م2 أملاك عامة بحرية مردومة و/26700/م2 سطح مائي، علماً أنه نشر في الجريدة الرسمية من دون الخرائط المرفقة به والتي يفترض أن يظهر عليها طبيعة الإنشاءات المسموح بإقامتها على الأملاك العامة. والملفت أنّ المرسوم حدّد بدل الإشغال الذي يفترض أن تسدّده الشركة وفق الأسس المحدّدة في قانون الموازنة العامة لسنة 2018 بالليرة اللبنانية بحيث بلغ قرابة 252 مليون ليرة أي ما يقارب 10000 دولار أميركي عند إصدار المرسوم وحوالي 8120 دولاراً اليوم. وهذا يعني أن المرسوم منح الشركة حقّ إشغال أملاك بحريّة مقابل أقلّ من 20 سنتاً أميركياً للمتر الواحد سنوياً.
بهدف التصدّي لهذا المرسوم، طعنتْ الجمعيّة البيئيّة “الخطّ الأخضر” بالتعاون مع “المفكرة القانونية” به. وقد استند استدعاء الإبطال على مخالفات فادحة وردتْ فيه، مع حفظ الحق بإضافة أسباب إبطال جديدة بعد الاطلاع على الخرائط. وقد صدر القرار بوقف تنفيذ المرسوم في إطار هذا الطعن مع تكليف الإدارة العامة بإبراز الملف الإداري كاملاً. وقبل المضي في إبراز أهمية هذا القرار (الذي يشكل انتصاراً ثميناً للحراكيْن البيئي والحقوقي)، سنعرض بداية المخالفات التي تمّ إبرازها في الطعن والتي لم تلقَ أي جواب من ممثّلي الدّولة.
أسباب الطعن في مرسوم إشغال الأملاك العامة
إذ ارتكز الطّعن بمرسوم إشغال الأملاك العامة على مخالفات عدّة وردتْ فيه، فإنّ بعض هذه المخالفات باتتْ بمثابة مخالفات اعتيادية متكرّرة من شأنها أن تهدّد كلّ النظام القانوني الذي يخضع له إشغال الأملاك العامة البحرية. ومن الملفت في هذا الخصوص أنّ ممثلي الدولة لم يقدّموا أيّ جواب على الطعن سواء للتّسليم بوجود هذه المخالفات تمهيداً لإلغاء المرسوم، أو دحضها دفاعاً عن شرعيته، وذلك رغم خطورة المخالفات المدّعى بها وانقضاء ما يزيد عن 4 أشهر منذ تقديم الطعن. ومن شأن هذا الأمر أن يؤشر إما إلى انهيار إضافي في عمل المؤسسات وإما إلى استهتار بعمل القضاء وبما قد يسفر عنه.
– مخالفة حق الملكية والمساواة بين المواطنين سندا للمادتين 7 و15 من الدستور:
المخالفة الأولى التي وردتْ في الطعن تمثلت في البدل الزهيد المحدّد في مرسوم الإشغال والذي تمّ احْتسابه وفق ما جاء في المرسوم رقم 4217 تاريخ 28/12/2018 بالليرة اللبنانية قبل أيّ تعديل لهذه الرسوم تماشياً مع تدهور قيمة الليرة الفعلية. وهو الأمر الذي يؤدي إلى تمكين الجهة المستفيدة من إشغال قرابة 38 ألف متر مربع بتسديد بدل سنوي يقارب 8000 دولار أي عشرين سنتاً للمتر المربّع كما سبق بيانه. ومن المرجّح أن تهبط قيمة هذا البدل خلال مدّة العقد على ضوء استمرار انهيار العملة الوطنيّة. ولإدراك قيمته الزهيدة، يكفي مقارنته بما كانت قيمة بدل إشغال أملاك مماثلة قبل انهيار الليرة. فلو افترضنا أنّ هذا المرسوم المطعون فيه صدر في 2018 لكانت قيمة البدل معادلة لـ 166 ألف دولار على أساس سعر الصرف في حينه (1507 ليرات لكل دولار). وهذا ما أشارتْ إليه وسائل إعلامية عدة معتبرة أن السماح بإشغال مساحة شاسعة كهذه قبل تعديل الرسوم المتوجبة إنما يؤدي عملياً إلى التفريط بالأملاك العامة وهدر المال العام وتفويت مردود للخزينة العامة هي اليوم بأمس الحاجة إليه. وقد اعتبرتْ الجهة الطاعنة أنّ من شأن هذا الأمر أن يمسّ بحق الملكية للدولة (المادة 15 من الدستور) ومبدأ المساواة بين المواطنين في الموجبات والحقوق وأمام الأعباء العامة (المادة 7 من الدستور) فضلاً عن المسّ بمبدأ العدالة الاجتماعية وفق ما كرسته مقدمة الدستور وتحديداً الفقرة “ج” منه.
– مخالفة المدة القصوى للسماح بإشغال أملاك عامة بحرية:
فرضتْ المادة 17 من القرار رقم 144/س (الصادر في 10/6/1925 والخاص بالأملاك العمومية) ألّا تتجاوز مدة الإشغال المؤقت للأملاك البحرية سنة واحدة فقط. وفي حين أجاز القرار تجديد الرخصة بالرضى الضمني، فإنّه بالمقابل أتاح للإدارة العامة صراحة عدم تجديده بل أيضاً سحب الترخيص في أيّ حين حفظاً لسيادة الدولة على أملاكها العامة وتمكيناً لها من استعمالها بأفضل طريقة. فالتراخيص بإشغال الأملاك العمومية يحكمها مبدأ أساسي وهي الهشاشة أو عدم استقرار الأوضاع (précarite) وإن سبب ذلك يعود إلى الموجب الملقى على عاتق الإدارة والمتمثّل بالسعي الدائم لتأمين أفضل استعمال واستثمار ممكِنَيْن للملك العام من دون شرط أو قيد.
ورغم وضوح هذه المادة، نص المرسوم المطعون فيه على أنّ الرخصة أعطِيَتْ لمدّة سنة واحدة تُجدّد تلقائياً عند تسديد الرسم السنوي ورسم الطابع المالي خلال الشهر الأول من كلّ سنة. وعليه، يكون المرسوم قد منح الشركة المرخّص لها حقّاً مُكتسباً بالتجديد التلقائي بمعزل عن رضى الإدارة أو عدمه وذلك بمجرد دفع الرسوم المتوجبة خلافاً للقرار 144، بل أيضاً خلافاً للمادة 89 من الدستور اللبناني التي تمنع منح أيّ التزام أو امتياز لاستغلال موارد ثروة البلاد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامة إلا لزمن محدود. وما فاقم من خطورة هذا الأمر هو أن المرسوم قيّد سلطة الإدارة بإلغاء المرسوم بضرورات المصلحة العامة ناسِفاً بالتالي السّلطة الواسعة الممنوحة لها بسحب تراخيص الأملاك العامة.
ويُشار هنا إلى أنّ هذه المخالفة تكاد تصبح القاعدة في مراسيم الإشغال الصادرة في السنوات الأخيرة رغم خطورتها. وهذا ما سجّلته جمعيتا الخطّ الأخضر والمفكرة القانونية في الطعن المقدّم منهما ضدّ مرسومي إشغال مساحات تصل إلى 70 ألف متر مربع في كلّ من الذوق والناعمة في 2018. وهذا أيضاً ما سلّمت بخطورته المستشارة المقرّرة لمى ياغي في تقريرها الصادر في الطّعن المتّصل بإشغال مساحات الناعمة وأيضاً في المخالفة التي دوّنتها اعتراضاً على ما انتهت إليه أكثرية هيئة الحكم في هذا الخصوص.
– عدم ثبوت استشارة المجلس الأعلى للتنظيم المدني وغياب إفادة إيجابية عنه:
تشترط المادة الأولى من المرسوم رقم 4810 الصادر في 24/06/1966 لمنح رخصة بإشغال الأملاك العامة البحرية، صدور إفادة إيجابية عن المجلس الأعلى للتنظيم المدني بكون المشروع المنوي القيام به ذا صفة عامة وله مبررات سياحية أو صناعية. ويتأتى هذا الشرط من ضرورة أن يكون إشغال الأملاك البحرية استثنائياً ومبرراً بمصلحة عامّة وذلك تمكيناً لكل اللبنانيين من التمتّع بالشاطئ الذي هو ملكٌ عامّ بامتياز ومنعاً للتمييز فيما بينهم إلا بما يكون مبرّراً بالمصلحة العامّة. ورغم وضوح هذا الشّرط، فإنّ المرسوم عدّد ضمْن بناءاته الكتاب الصّادر عن المديرية العامة للتّنظيم المدنيّ من دون أن يحدّد مضمونه أو وجهة موقف المجلس الأعلى للتنظيم المدني، وتحديداً إذا وافق أو عارض المشروع المقترح.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه المخالفة هي أيضاً مخالفة متكرّرة من شأنها أن تؤثّر سلْباً على نظام إشغال الأملاك البحرية، في اتّجاه حصر الضوابط المؤسساتيّة والقانونية، وتحويله إلى مسألة تتحكّم بها المحاصصة السياسية من دون أي ضوابط. وهذا ما أشار إليه نقيب المهندسين السابق جاد تابت الذي كان حذر من خطورة تجاوز المجلس الأعلى للتنظيم المدني وتحويل دوره من دور مقرِّر إلى دور استشاري محض وذلك بمناسبة إقرار مجلس الوزراء مرسومي إشغال مساحات شاسعة في الذوق والناعمة، بخلاف ما ذهب إليه هذا المجلس.
– منح وزير الأشغال العامة صلاحيات واسعة:
من الثابت أنّ القرار رقم 144/س نصّ على أنّ تراخيص الإشغال تصدر بقرار رئاسي (المادة 16)، أي بمرسوم يتخذ بناء على اقتراح وزير الأشغال العامة والنقل. كما يتم إلغاء التراخيص بالشكل نفسه عملاً بنصّ المادة 18 من هذا القرار وعملاً بمبدأ توازي الصيغ أو الأشكال. وهذه القاعدة أيضاً تمّ خرقها بموجب المرسوم المطعون فيه، بحيث أعطيَ وزير الأشغال العامة صلاحيّة اتخاذ قرارات تتجاوز صلاحياته في إدارة الأشغال العامة، على نحو يشكّل تغوّلاً على صلاحية أعيان السلطة التنفيذية. ومن أخطرها: “إجراء أو زيادة أو تعديل الإنشاءات المُرخّص بها بموجب التصميم المقدم من قبلها”.
يُضاف إلى ذلك مجموعة أخرى من المخالفات، مثل عدم توضيح أصول وآليات التعاقد مع الإدارة عند بدء أعمال ترميم البحر ومنح المرخص له فترة طويلة لمباشرة تنفيذ الأشغال (وهي ستة أشهر) وإخلال المرسوم بواجب تأمين تواصل الشاطئ ووحدته ومخالفة مبدأ الدفع المسبق للرسم وأيضا خلوّه من التّعليل والأسباب الموجبة.
قرار لحماية الأملاك العامّة البحريّة
يشكل قرار وقف التنفيذ الصادر عن مجلس شورى الدولة قراراً مؤقتاً. إلا أنه رغم ذلك، وبانتظار صدور قرار نهائي بإبطال المرسوم برمته، يعكس توجّهات هامّة عدّة، أبرزها الآتيّة:
– إنّه يكرّس صفة الجمعيات البيئية بالطعن في القرارات المتصلة بإشغال الأملاك البحرية أو الاستيلاء عليها
أن يصدر قرار وقف تنفيذ في طعن مقدّم من جمعية بيئية، إنما يعني ضمناً أنّ مجلس شورى الدولة يرى أنّ الطعن يستند على أسباب جدّية وتالياً أن الجهة التي قدّمته هي جهة ذات صفة ومصلحة. ومن شأن هذا الأمر أن يعزز التوجّه داخل مجلس شورى الدولة في اتجاه الاعتراف بصفة الجمعيات البيئية ومصلحتها في الدفاع عن الأملاك العامة البحرية. ولعلّ أكثر المواقف تبلْوراً في هذا الخصوص تمثّل في المخالفة التي تمسّكت المستشارة المقرّرة لمى ياغي على تدوينها في أسفل قرار أكثرية الهيئة الحاكمة والذي انتهى إلى ردّ الطعن المقدم ضدّ مرسوم إشغال الأملاك البحرية في الناعمة بحجة انتفاء صفة “الخط الأخضر”. وقد أسهبتْ ياغي آنذاك في دحض موقف الأكثرية مبيّنة أنه يمنع المجلس من أداء دوره في حماية الأملاك العامة كما يخلّ بحقّ التقاضي ومبادئ المحاكمة العادلة. وكانت “المفكرة القانونية” اعتبرت في أكثر من مقال أنّها في صدد خوْض ما أسمتْه معركة اكتساب الصّفة في الطعن في القرارات الإداريّة. وعليه، أتى هذا القرار بمثابة انتصار مؤقّت لها في هذه المعركة، وهو انتصار يؤمل أن يصبح نهائياً.
– إنّه يكرّس دور القضاء الإداري في حماية الملك العام
الأهمية الثانية التي تتحصّل من هذا القرار هو أنّه يعكس توجّهاً من مجلس شورى الدولة في أداء دوره في حماية الملك العامّ. وهذا الأمر يتحصّل ليس فقط في اتخاذ قرار وقف تنفيذ منعاً للضرر الذي قد يتأتى عن تنفيذه، بل أيضاً في توسيع مفهوم مصلحة الجمعيّات البيئيّة في تقديم دعاوى مماثلة، بما يجعله قادراً على ممارسة دوره الرقابي على شرعية هذه المراسيم وتالياً على حماية الأملاك العامة ضدّ تجاوز القانون أو حدّ السلطة. ويتأكّد هذا الأمر من قبول طلب وقف التنفيذ في هذه القضية، خلافاً لما ذهب إليه المجلس من قبل في دعاوى مشابهة، استندت فيه الجهات الطاعنة على مخالفات بالخطورة نفسها.
– إنه يمهد لبدء ورشة استعادة الأملاك البحرية المستولى عليها
بقي أخيراً أن نأمل أن يكون هذا القرار بمثابة تنبيه لضرورة بدء ورشة لاستعادة ليس فقط الأملاك العامة البحرية المستولى عليها بل أيضاً لضرورة اتخاذ قرارات جدية في اتجاه تعزيز إيرادات الدولة في ظلّ ظروف الضائقة المالية فائقة الصعوبة. فلنراقِب.