انتصار القضاء المصري عودة النائب العام الذي عزله الرئيس المعزول


2013-07-08    |   

انتصار القضاء المصري عودة النائب العام الذي عزله الرئيس المعزول

بتاريخ الثاني من يوليو 2013 أصدرت محكمة النقض المصرية (دائرة طلبات رجال القضاء) حكمها الفاصل في القضية الشهيرة المتعلقة بعزل النائب العام السابق المستشار الدكتور عبد المجيد محمود بالمخالفة لقانون السلطة القضائية.
بدأت أحداث هذه القضية بعد ثورة 25 يناير 2011 وتولى الرئيس محمد مرسى مسؤولية الحكم عندما أصدر الأخير قراراً بتعيين النائب العام المستشار عبد المجيد محمود سفيراً لمصر لدى دولة الفاتيكان، وذلك دون استشارة المعنى بالأمر، الذى اعتبر القرار الجمهوري بمثابة عزل له من وظيفته، يخالف المادة 119 من قانون السلطة القضائية التي لا تجيز عزل النائب العام – وهو ما تقرره صراحة المادة 67 من قانون السلطة القضائية بنصها على أن رجال القضاء والنيابة العامة غير قابلين للعزل-، بل تخوله الحق في طلب عودته إلى العمل بالقضاء وترك وظيفة النائب العام بناء على إرادته. كذلك تنتهي مهمة النائب العام بوصوله إلى سن التقاعد أو استقالته أو وفاته. لذلك اعتذر النائب العام عن قبول وظيفة سفير، رافضاً بذلك القرار الجمهوري، الذي كان القصد منه إبعاده عن منصبه تمهيداً لتعيين بديل له يكون أكثر مرونة واستجابة لرغبات النظام الجديد.
لكن ظل هذا النظام يتربص بالنائب العام المستشار عبد المجيد محمود ولم يغفر له عدم تنفيذ الإرادة الرئاسية السامية متحدياً بذلك رئيس الجمهورية. وكانت الرغبة في إبعاد النائب العام سبباً من الأسباب التي دفعت رئيس الجمهورية إلى إصدار الإعلان الدستوري المكمل في 21 نوفمبر 2012 الذى نص في مادته الثالثة على أن مدة شغل وظيفة النائب العام أربع سنوات تبدأ من تاريخ شغل المنصب، مقرراً صراحة أن "يسري هذا النص على من يشغل المنصب الحالي بأثر فورى"، وهو ما يعنى إقصاء النائب العام المستشار عبد المجيد محمود وتعيين من يحل محله، وهو ما حدث فعلاً في اليوم التالي حيث أصدر الرئيس مرسى قراراً بتعيين المستشار طلعت عبد الله إبراهيم نائباً عاماً لمدة أربع سنوات تطبيقاً لنص الإعلان الدستوري.
وقد قيل في تبرير إقصاء النائب العام بهذه الطريقة، التي انطوت على قدر كبير من التحايل والالتفاف على أحكام القانون وانتهاك لاستقلال القضاء، أن عزل النائب العام كان مطلباً لثوار 25 يناير 2011 بوصفه من أنصار النظام السابق، كما كان صدور حكم البراءة في القضية المعروفة " بموقعة الجمل " مناسبة استغلها أنصار تيار الإسلام السياسي للتدليل على عدم قيام النائب العام بواجبه وتقديم المتهمين في هذه القضية إلى القضاء بأدلة واهية لم تمكن القضاء من إدانتهم، على الرغم من أن هذه القضية لم تحققها النيابة العامة بل حققها قاضى تحقيق تم ندبه خصيصاً لتحقيقها. لكن السبب الحقيقي وراء رغبة النظام الجديد في إقصاء النائب العام هو حيازته لملفات هامة تتعلق برموز النظام الجديد في وقائع إحراق أقسام الشرطة والهروب من السجون أثناء أحداث ثورة 25 يناير 2011. يضاف إلى ذك أن النائب العام المعزول كان قد أحال بتاريخ 26/9/2012 إلى نيابة الأموال العامة بلاغاً يتهم الدكتور محمد مرسى العياط رئيس الجمهورية بالتربح من وظيفته لنفسه ورجال أعمال من جماعة الإخوان المسلمين لسداد تكلفة الدعاية الانتخابية.
فقد اتهم مؤسس جمعية المستقلين لمكافحة الفساد في بلاغه إلى النائب العام الرئيس محمد مرسى بالتربح من وظيفته لنفسه ولرجال الأعمال أعضاء الجماعة لسداد مبلغ ملياري جنيه أنفقها في الدعاية الانتخابية، مدللاً على اتهامه بأن الدكتور محمد مرسى كان رئيساً لحزب جديد، ولا يمكنه جمع كل أموال الدعاية بطريقة شرعية، ولم يعلن عن مصدر تمويله لحملته الانتخابية، ثم قام بعد نجاحه في انتخابات الرئاسة بتعيين حسن مالك رجل الأعمال الإخواني رئيساً لبعثة رجال الأعمال التي سافرت معه إلى الصين وضمت مائة وخمسين من رجال الأعمال. كما ادعى المحامي عصام سلطان أن النائب العام المستشار عبد المجيد محمود رفض طلباً للرئيس محمد مرسى باعتقال الكاتب الصحفي مصطفى بكري والدكتور محمد أبو حامد النائب السابق بمجلس الشعب وعدداً من الداعين لمظاهرات 24 أغسطس 2012، وهو ما أثار حفيظة رئيس الجمهورية ضد النائب العام.
وقد لقى عزل النائب العام بهذه الطريقة معارضة شديدة من رجال القضاء الذين اعتبروه مقدمة لمذبحة جديدة للقضاة وتهديداً حقيقياً لاستقلال القضاء، لا سيما وأنه اقترن بنص يكرس الاستبداد في الإعلان المكمل هو نص المادة الثانية التي حصنت الإعلانات الدستورية والقوانين والقرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة في 30 يونيه 2012 وحتى نفاذ الدستور وانتخاب مجلس شعب جديد من رقابة القضاء بنصه على أن تكون نهائية ونافذة بذاتها غير قابلة للطعن عليها بأي طريق وأمام أية جهة. كما لا يجوز التعرض لقراراته بوقف التنفيذ أو الإلغاء، وتنقضي جميع الدعاوى المتعلقة بها والمنظورة أمام أي جهة قضائية. وعلى الرغم من إلغاء هذا الإعلان الدستوري الفرعوني في 8 ديسمبر 2012، إلا أن الآثار التي ترتبت عليه ظلت نافذة، وأهمها عزل النائب العام وتعيين نائب عام بدلاً منه.
ولما كان النائب العام المعزول لم يقبل هذا العدوان الصارخ على استقلال السلطة القضائية، فقد طعن على القرار الجمهوري رقم 386 لسنة 2012، الصادر تطبيقاً للإعلان الدستوري المكمل في 21 نوفمبر 2012، بتعيين المستشار طلعت عبد الله نائباً عاماً مطالباً بإلغائه واعتباره كأنه لم يكن، مع ما يترتب على ذلك من آثار أهمها عودته إلى منصبه كنائب عام.
وبتاريخ 27 مارس 2013 أصدرت دائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة استئناف القاهرة حكمها في الدعوى المرفوعة من المستشار عبد المجيد محمود، وقضت للطاعن بطلباته مقررة بطلان القرار الجمهوري الصادر بتعيين المستشار طلعت عبد الله نائباً عاماً واعتباره كأن لم يكن مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها عودة المستشار عبد المجيد محمود إلى عمله كنائب عام.
وجاء في حيثيات حكم محكمة استئناف القاهرة أن النائب العام له حصانة قضائية مقررة قانوناً، تفرض استمراره في منصبه إلى أن يتقاعد ببلوغه السن القانونية، ولا يجوز عزله أو نقله للعمل بالقضاء أثناء مدة خدمته إلا بناء على طلبه. وقد ثبت للمحكمة أن المستشار عبد المجيد محمود يشغل منصب النائب العام منذ عام 2006 ولم يقدم طلباً بإبداء رغبته في العودة للعمل بالقضاء حتى صدور القرار الجمهوري بتعيين المستشار طلعت عبد الله نائباً عاماً بدلاً منه، استناداً إلى الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 21 نوفمبر 2012 الذي لم يتم استفتاء الشعب عليه ليكون في مرتبة تسمو على القانون المنظم لشؤون القضاة. وأوضحت محكمة الاستئناف في حكمها أن استقلال القضاء من المبادئ الأساسية التي تنهض بمقتضاها منظومة حقوق الإنسان، ويستقيم في ظلها نصاً وعملاً وتطبيقاً مبدأ الفصل بين السلطات الوطنية بالدولة الحديثة، والذي تقوم عليه بشكل حتمي وكامل أنظمة الحكم الديمقراطية ودولة سيادة القانون والحكم الرشيد، ومن ثم أصبح مبدأ عدم قابلية القضاة للعزل من الأركان الأساسية لمبدأ استقلال القضاء واستقلال القضاة في عملهم، وهو الأمر الذي نص عليه قانون السلطة القضائية وتعديلاته المتعاقبة.
وقد ثار نزاع فقهى حول قابلية حكم محكمة استئناف القاهرة للتنفيذ الفوري رغم قابليته للطعن عليه أمام محكمة النقض. فذهب رأي إلى أن الحكم واجب التنفيذ، ولا يغير من ذلك قابليته للطعن عليه استناداً إلى أن الحكم صادر من محكمة الاستئناف وأحكامها تكون نهائية واجبة النفاذ. لكن الصحيح قانوناً أن الحكم رغم صدوره من إحدى دوائر محكمة الاستئناف، إلا أنه حكم محكمة أول درجة لا ينفذ إلا إذا انقضت مواعيد الطعن فيه أو طعن عليه ورفض الطعن، تطبيقاً لنص المادة 83 من قانون السلطة القضائية بعد تعديلها بالقانون رقم 142 لسنة 2006. فقبل هذا التعديل كان حكم دائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة استئناف القاهرة حكماً نهائياً غير قابل للطعن عليه، لأن التقاضي في دعاوى رجال القضاء كان على درجة واحدة. أما بعد التعديل فقد أصبح التقاضي في دعاوى رجال القضاء على درجتين، وتلك ضمانة هامة لهم كانت مطلباً للقضاة حققها القانون 142 لسنة 2006، بحيث يكون حكم أول درجة غير قابل للتنفيذ بمجرد صدوره، ولو كان صادراً من محكمة استئناف لأنها تفصل بصفتها محكمة أول درجة.
وبالفعل فبعد صدور حكم محكمة استئناف القاهرة ببطلان تعيين المستشار طلعت عبد الله وعودة المستشار عبد المجيد محمود إلى منصبه نائباً عاماً، طعن المحكوم ضده المستشار طلعت عبد الله على هذا الحكم أمام دائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة النقض. واستند المحكوم ضده في طعنه إلى أن إجراءات تعيينه جاءت موافقة لصحيح الدستور، وأن حكم محكمة الاستئناف أخطأ في تطبيق القانون، لكون الإعلانات الدستورية من أعمال السيادة التي لا يجوز الطعن عليها، كما أن الحكم صدر مشوباً بقصور في التسبيب وانطوى على إخلال بحق الدفاع ولم يحترم مبدأ المواجهة بين الخصوم. كما تقدمت هيئة قضايا الدولة بطعن على الحكم ذاته بصفتها تمثل المختصمين في الدعوى بصفتهم، وهم رئيس الجمهورية ووزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى. واستند طعن هيئة قضايا الدولة إلى عدم اختصاص دائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة استئناف القاهرة ولائياً بنظر الدعوى وأن الحكم أخطأ في تطبيق القانون، وانطوى على فساد في الاستدلال وقصور في التسبيب وإخلال بحق الدفاع.
وأثناء نظر الطعن وفى سابقة تعد الأولى من نوعها، اتخذ الطاعن إجراءات رد الدائرة التي تنظر الطعن، وهو أمر غير مألوف أن يطلب قاض رد دائرة قضائية تنظر في دعواه. وقد رفض طلب الرد وحكم على الطاعن بغرامة قدرها 12 ألف جنيه، ونظرت محكمة النقض الطعن.
وبتاريخ 2/7/2013 أصدرت دائرة طلبات القضاء بمحكمة النقض حكماً نهائياً في الطعن على حكم محكمة الاستئناف رفضت فيه الطعن المقدم من المستشار طلعت عبد الله النائب العام الحالي وأيدت حكم محكمة استئناف القاهرة فيما قضى به من بطلان إقالة المستشار عبد المجيد محمود وتعيين المستشار طلعت عبد الله بدلاً منه، وهو ما يقتضي عودة المستشار عبد المجيد محمود النائب العام السابق إلى عمله نائباً عاماً.
واستندت المحكمة في حيثيات حكمها إلى أن رئيس الجمهورية لا يملك ولاية إصدار إعلانات دستورية بعد زوال الحالة الثورية وممارسته سلطة شرعية بعد انتخابه رئيساً للبلاد بصلاحيات محددة لا تمكنه من إصدار تلك الإعلانات. فالسلطة التي تتكون وفقاً للشرعية الدستورية لا يجوز لها أن تعمل خلافاً لها حتى لا تتنكر لأساس وجودها.
كما أن العودة إلى الشرعية الثورية بعد إتباع الشرعية الدستورية يهدر أي خطوة جرت في سبيل بلوغ هدف الثورة الجوهري المتعلق بفرض سيادة القانون. وقررت المحكمة أنه ما كان لرئيس السلطة التنفيذية أن يجترئ على سلطة الجمعية التأسيسية التي انعقدت لإعداد مشروع الدستور ويصدر ما أطلق عليه إعلاناً دستورياً، وأنه لا عاصم للقرارات الإدارية – وإن وصفت بأنها إعلانات دستورية – من البطلان متى كانت فاقدة لمكوناتها. 
ويترتب على حكم محكمة النقض، وهو نهائي واجب التنفيذ بمجرد وضع الصيغة التنفيذية عليه، بطلان قرارات النائب العام طلعت عبد الله التالية لصدور الحكم. أما القرارات السابقة على صيرورة الحكم نافذاً فتكون صحيحة تطبيقاً لنظرية الموظف الفعلي. وقد رحب القضاة وأعضاء النيابة العامة بحكم بطلان تعيين المستشار طلعت عبد الله نائباً عاماً وعودة المستشار عبد المجيد محمود إلى منصبه، واعتبر نادى قضاة الإسكندرية الحكم " تصحيحاً للمسار القانوني". وقد ساعدت ظروف ثورة 30 يونيو 2013 على تسريع تنفيذ الحكم دون جدل أو مقاومة من أي سلطة أو شخص.
ففي يوم 3/7/2013 تم وضع الصيغة التنفيذية على حكم محكمة النقض، وهو ذات اليوم الذى عزل فيه الشعب المصري رئيس الجمهورية الذى سبق له عزل المستشار عبد المجيد محمود، وتسلم مجلس القضاء الأعلى الصيغة التنفيذية للحكم يوم 3/7/2013، واجتمع المجلس وقرر الموافقة على عودة المستشار عبد المجيد محمود إلى منصبه نائباً عاماً. وبعد الموافقة على عودته، حضر المستشار عبد المجيد محمود اليوم 4/7/2013 جلسة مجلس القضاء الأعلى الذي هو عضو فيه بصفته، كما عاد المستشار عادل السعيد لعمله نائباً عاماً مساعداً في ذات اليوم. وكان أول تصريح للمستشار عبد المجيد محمود بعد عودته إلى عمله قوله " لن نقصر في حقوق الشهداء ولن يفلت مجرم من العقاب". وكذلك وافق مجلس القضاء الأعلى على عودة النائب العام السابق طلعت عبد الله إلى عمله بالقضاء.
وبهذا يسدل الستار على حلقة من حلقات تغول السلطة التنفيذية على السلطة القضائية التي قاومت بشرف محاولات نظام الحكم الراحل هدم أركان السلطة القضائية، فانهدم النظام بأكمله وبقيت السلطة القضائية. ويحدونا الأمل بعد ثورة 30 يونية 2013 أن يكون مسلسل الاعتداء على استقلال القضاء قد انتهى إلى غير رجعة.
" بعد الانتهاء من كتابة هذا المقال، صرح المستشار عبد المجيد محمود النائب العام أنه قرر عدم الاستمرار فى منصبه ، وسوف يتقدم بطلب إلى مجلس القضاء الأعلى للعودة إلى منصة القضاء، مبرراً ذلك باستشعاره الحرج من اتخاذ إجراءات  ضرورية ضد من قاموا بعزله من منصبه. "

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني