في أيار 2018، توجه اللبنانيات واللبنانيون إلى صناديق الاقتراع من أجل اختيار مجلس نيابي جديد، على أساس قانون انتخابي هجين يجمع بين النظام النسبي والأكثري. بعيداً عن لعبة الأرقام وحسابات الربح والخسارة، يمكن اعتبار الانتخابات النيابية للعام 2018 انتخابات مؤسسة لمرحلة ما بعد الاستقطاب الحاد بين فريقي 8 آذار و14 آذار، مرحلة ما بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق حينها رفيق الحريري. وعلى عكس ما تميزت بها سابقاتها في مرحلة ما بعد الطائف (بين معادٍ لسوريا أو مؤيد لها، وبين معارض لسلاح حزب الله أو مدافع عنه)، غابت هذه المرة العناوين السياسية العريضة في انتخابات 2018. هذا الغياب ليس وليدة اللحظة، إنما نتيجة لتراكم سنوات من تفريغ الحياة السياسية من مضمونها ونجاح النخب الحاكمة في التحكم بالخطاب العام ومقومات السلطة.
أجريت الانتخابات الأخيرة بعد تمديد البرلمان لولايته )2013، 2014، 2017(، وبعد حراك صيف العام 2015 حيث وللمرة الأولى وجّه آلاف المحتجين أصابع الاتهام إلى النخب السياسية الحاكمة مباشرة وحمّلوها أسباب الوضع الذي وصل إليه لبنان، من دون إلقاء هذه المرة مسؤولية الأعطاب التي يعاني منها لبنان على السياسات والتدخلات الإقليمية. مقابل ذلك، اجتمع عدد كبير من قوى الاعتراض في لوائح انتخابية في جميع الدوائر انطلاقاً من قناعة مفادها أن التغيير ممكن وأن الفرصة سانحة.
بدا للوهلة الأولى، أن سياق الاستحقاق الانتخابي يشهد منافسة بين قوى الحكم من جهة، وقوى الاعتراض من جهة أخرى. الا أن نتائج الانتخابات جاءت لتعيد تشكّل نفس القوى الحاكمة، مع تثبيت لقواعد حكم راحت تترسخ في فترة ما بعد الطائف، منها تبلور نظام الأقطاب الذي يهمّش دور النائب ويكبله ويحوله بشكل تدريجي لمجرد عضو في كتلة نيابية أو تكتل سياسي، ونفي لفعل المعارضة والموالاة، إضافة إلى تبني معايير انتقائية لمبدأ المساءلة والمحاسبة. كل هذه القواعد تساهم في تأمين استمرارية النخب الحاكمة في الحكم، على حساب المؤسسات التمثيلية. فما الذي ميّز هذه الانتخابات ونتائجها من باب الممارسة السياسية، والنظام والدولة؟
السياسة والخطاب في لبنان: “الخجل الطائفي” و”الوقاحة” السياسية
في قراءة عامة للخطاب السياسي في السنوات الأخيرة، يمكن الاستنتاج بأن أعطاب الدولة ومؤسساتها الرسمية في لبنان لم تعد مسألة فساد ومحاصصة حصراً. في الواقع لقد تخطّتها لتشمل بعداً يكاد يصبح مكوناً أساسياً من مكونات الثقافة السياسية نسمّيه هنا بـ “الوقاحة السياسية وسياسة لوم الآخرين”. أما موضوع المحاصصة والفساد وعلى أهميته، فيصبح من النتائج المرئية والملموسة لهذه الظاهرة. في تحليل لتشكل النظام السياسي اللبناني وعلاقة الطوائف بالدولة، يقول المؤرّخ أحمد بيضون بأن الطوائف تميزت تاريخياً بنوع من “الخجل الطائفي”، بحيث وعلى نقيض ممارساتها السياسية، ارتضت بإزاحة جزءاً من هويتها، لتترك مكاناً من أجل وجود الدولة. الدولة هذه إذاً هي فسحة ممنوحة من قبل الطوائف، لكن أيضاَ “ممحوة” من قبلها.[1] أما اليوم، وإذا كان الخجل الطائفي ما زال موجوداً إلى حد ما، إلا أن غياب الحياء السياسي، أي الوقاحة، أصبح مكوناً من آليات حكم الدولة وإدارة الشأن العام. فالجميع يتبرّأ مما آلت إليه أوضاع البلاد في فترة ما بعد الحرب، اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً وسياسياً. في المقابل، وكمكمّل أساسي لهذه الوقاحة، يصار إلى لوم الآخرين وتحميلهم المسؤولية عن الوضع القائم. كل هذا والجميع يتشارك الحكم، غالباً على قاعدة التسويات والتفاهمات. إذاً، هكذا تحصن النخب الحاكمة موقعها في السلطة: لا أحد مسؤول عن الأزمات، والجميع إصلاحيون. وهذا ما انعكس وضوحاً في الانتخابات، حيث بلغت هذه الوقاحة ذروتها: تنافس الجميع، وفاز الجميع. لم يخسر أحد.
النظام انتصر و”المعارضة” لم تخسر…
إن أقل ما يفاجئ بهذه الانتخابات هو أن الجميع فاز. فمعادلة “لا غالب ولا مغلوب” التي سادت من خلال الممارسة السياسية في لبنان، لم تكن تنعكس انتخابياً بالضرورة، بحيث تاريخياً وخصوصاً في فترة ما قبل الحرب الأهلية، كانت الانتخابات تفرز نتائج تتشكّل على أساسها قوى سلطة ومعارضة. معادلة “لا غالب ولا مغلوب” كانت ملحقة بأزمة ما. أما بعد الطائف، فأصبحت هذه المعادلة مكوناً للحكم بمقوماته ومكوناته. وبالتالي، ظهرت انتخابات 2018 بشكل فاضح على أنها لعبة لتوزيع الأدوار وتوزيع الحصص مع احتمال ضئيل بالفوز أو بالخسارة بمقعد هنا أو هناك.
فعلياً، هذه الظاهرة لا تعكس إلا قدرة النخب الحاكمة بعد الحرب على التفاهم المعلن أو الضمني بين بعضها البعض. لم يسجل في انتخابات 2018 أي خرق ملفت للوائح من خارج النخب الحاكمة، والتي تستمد سلطتها من قدرتها على التحكم بعناصر ثلاثة: الأمن، الطائفية، والاقتصاد.
عوامل عدة في الواقع ساهمت في ذلك، منها تفريغ المقومات المطلوبة لقيام معارضة حقيقية في لبنان عملاً بمبدأ ترسخ “سلطوية ناعمة[2]“ (diffused authoritarianism) بحسب عبارة دكتور العلوم السياسية فريد الخازن. وفي هذا السياق، لا بد من استحضار انتخابات العام 2000، على أنها انتخابات شهدت سقوط رئيس الحكومة المشرف على الانتخابات (سليم الحص) أمام معارضة اتخذت طابعاً طائفياً (مممثلة بالرئيس الأسبق رفيق الحريري). كما فاز أيضاً كل من بيار الجميل (الكتائب) ونسيب لحود وألبير مخيبر والذين يحسبون معارضة سياسية ضد الوجود السوري في لبنان. انتخابات 2005 أدت أيضاً إلى سقوط أحد أبرز الموالين للنظام السوري، وهو سليمان فرنجية في الشمال. لكن في الوقت عينه، تميزت انتخابات 2005 والتي صوّرت على أنها انتخابات الاستقلال الثاني بالتحالف الرباعي بين أطراف سياسية كانت نفسها متخاصمة في السياسية (حزب الله وأمل مع الاشتراكي والمستقبل). بمعنى آخر، تحولت الانتخابات تدريجياً إلى مدخل أساسي ليؤكد غياب حياة سياسية متنوعة والتي من المفترض أن تتنافس فيها قوى مختلفة لتفرز لاحقاً قوى حكم وقوى معارضة. وبالتالي، أصبحت الانتخابات النيابية في لبنان آلية تتجه نحو فوز الجميع في مقابل اضمحلال مقلق لقوى يمكن لها أن تشكل قوى معارضة فعالة من داخل المجلس النيابي. وهنا ملاحظة مهمة إذ لم يكن في انتخابات 2018 من معارضة بالمعنى السياسي، بغض النظر عن صوابتيها أم لا، باستثناء بعض الأصوات المتفرقة ضد سلاح حزب الله والتدخل الإيراني في الشؤون اللبنانية، منهم مثلاً فارس سعيد في جبيل وأشرف ريفي في طرابلس. هؤلاء هم بشكل أو بآخر معارضة للممارسة السياسية للنظام وخيارات النخب الحاكمة، أكثر من كونهم معارضة سياسة للنظام، بشقيه الطائفي والاقتصادي. طبعاً إلى جانب قوى الاعتراض المدني والتي لم تستطع أن تكوّن لها هوية قائمة بحد ذاتها لا انتخاباً، كما أظهرت النتائج الرسمية، ولا سياسياً، إذ لم ينتج عنها قوة سياسية غداة الاستحقاق الانتخابي. لا بد من الإشارة إلى فوز النائب بوليت يعقوبيان، والذي ساهمت فيه عوامل عدة منها تركيبة القانون الانتخابي والدائرة التي ترشحت فيها والتي تتطلب حاصلاً انتخابياً صغيراً نوعاً ما. إلا أن النائب يعقوبيان دخلت إلى العمل السياسي من باب شهرتها التي أمنتها ليس من باب العمل السياسي الميداني أو “المدني – المعارض”، إنما من خلال الإعلام اللبناني المملوك أصلاً من النخب الحاكمة وهي التي تحدد شروطه وحدوده وأبعاده.
ما يدعو إلى التساؤل هنا، هو مقدرة النخب الحاكمة في السيطرة ليس فقط على موارد الدولة أو المجتمع من خلال آليات توزيعية-ريعية، إنما خصوصاً على الخطاب العام الذي على أساسه يصار إلى تحديد شروط التنافس السياسي وحدوده أو انعدامه أيضاً.
انتخابات 2018: هدنة المحاربين، “كلنا يعني كلنا”
لا بد من التشديد بأن انتخابات 2018، أتت بعد أزمة النفايات في صيف 2015. وهذه الأزمة التي مرّ بها النظام هي الأولى من نوعها في حكومات ما بعد الطائف. أبرز معالمها ليس فقط احتجاجات الشارع، إنما تزعزع قاعدة تقاسم المغانم التي ميزت إدارة شؤون الدولة والخدمات العامة.
لعل أبرز ما أتى به الحراك الشعبي هو شعار “كلّن يعني كلّن” شعار الذي رفع من أجل تحميل المسؤولية الكاملة لأركان النظام السياسي اللبناني. بالرغم من أن هذا الشعار هو الأهم في فترة ما بعد الطائف، لكنه الأخطر أيضاَ إذ شكّل في آن الحل والمأزق. الحل، لأنه ظهرت قوى اعتراضية تقول بأن أركان النظام يتشاركون آليات اشتغاله الأمنية، الطائفية والاقتصادية وهم من أوصل البلد إلى الأزمة المتراكمة. وهذا ما يذكرنا بالحراك المجتمعي والنقابي في أواخر سنيّ الحرب والذي طالب بإنهائها. المأزق، لأنه ساهم في إضعاف القوى الاعتراضية، والتي لا تتفق دائماً على تحميل المسؤولية بشكل متوازٍ للجميع. في الحقيقة، النتائج غير المقصودة لهذا الشعار تمثلت بقدرة أركان النظام على قلب الشعار لمصلحتهم والتصرف بمقولة “كلنا يعني كلنا”. تجلى هذا بالتنسيق غير المعلن في مقاربة أزمة النفايات، حيت بدا وكأن الجميع يتقاسم الأدوار من أجل الخروج من المأزق. ويبدو كذلك بأن “كلنا يعني كلنا” ظهرت جلياً في الانتخابات، بحيث اتفق الجميع على عدم الاختلاف، وتقطيع الاستحقاق بأقل خسائر ممكنة، ربما أيضاً بمواجهة قوى مدنية كادت أن تشكل خطراً، ولو نسبياً. ففي حين كانت الانتخابات سلسة جداً، إلا أن التنافس المرن انتهى واشتدّت مفاعيله في لحظة ما بعد الانتخابات أي لدى تشكيل الحكومة، حيث تنافس الجميع على الوزارات وحاربوا من أجلها. وهذا ما يدل على أهمية دور الدولة لهؤلاء من أجل السيطرة على الموارد.
قطوب دور النائب وابتهاج الأقطاب
تاريخياً، ترسخ دور النائب كوسيط بين الدولة ومؤسساتها من جهة و”زبائنه” على الصعيد المحلي من جهة أخرى. فالنائب، في التصور اللبناني وإلى جانب كونه نائباً عن مقعد طائفي، هو أيضاً نائب عن منطقة معينة. فالنخب البرلمانية ما قبل الحرب الأهلية كانت نخباً مركزية متصلة مباشرة برأس المال، ونخباً في الأطراف، عادة ما تمثل التقليد السياسي وملاكي الأراضي. بعد الحرب ومع دخول أمراء الحرب على السلطة ومعهم رؤساء الأموال الجدد، اتجهت الحياة السياسية في لبنان، خصوصاً في مرحلة ما بعد العام 2005، لتشهد تطوراً كبيراً لدور الأقطاب السياسية، أي ما يسمى بقيادات الصف الأول (ميشال عون، نبيه بري، سعد الحريري، سمير جعجع، وليد جنبلاط وحسن نصر الله)، وهم من يمثلون الطوائف، أو من يدعون تمثيلها. هذه القيادات تتمثل وزارياً ونيابياً من خلال ما يسمى بقيادة الصف الثاني، أي المقربين من الأقطاب بصفة الدم (أبناء، أو أصهار…)، أو بصفة الوفاء (أعضاء في الحزب، أصدقاء، زملاء…). يعكس هذا التطور إلى جانب احتكار تمثيل الطوائف بالأقطاب، تطوراً مجتمعياً بحيث تبخر الانشطار المجتمعي بين الريف والمدينة ولم يعد ظاهراً كما في السابق. هذه التركيبة تؤثر سلباً على دور النائب المنتخب. يظهر النائب حالياً وكأنه جزءٌ مكوّن من كتلة أكبر تتبع بدورها بطبيعة الحال لقطب سياسي معين. وهذا ما حدث مثلاً، حين ضم نائب بعلبك-الهرمل إميل رحمة إلى كتلة سليمان فرنجيه من أجل حجز مقعد لهذا الأخير على طاولة الحوار الوطني في العام 2009. غداة انتخابات 2018، كان يكفي أن يجتمع 6 نواب من الطائفة السنية لم يترشحوا على أساس أنهم من فريق واحد، من أجل نزع صفة ممثل السنة في لبنان عن الرئيس سعد الحريري، ويطالبون بمعقد وزاري.
أمثلة عديدة تشير إلى أفول دور النائب، منها مثلاً القرار المتخذ من قبل حزب الله بتجميد ليس عضوية نواف الموسوي في الحزب، لا بل نيابته، لسنة كاملة، وهو قد تغيب فعلياً عن الجلسات النيابية الأخيرة. وفي هذا مثل صارخ على ان النائب مرهون بقرار الأقطاب أكثر منه بوكالته عن الناس. مثل آخر، يظهر من خلال النشاط الكبير للنائب وليد جنبلاط أكان في المفاوضات لتشكيل الحكومة، مما يظهر نجله تيمور وهو نائب منتخب وكأن لا دور كبير له في تحديد التوجهات الكبيرة للكتلة النيابية التي يرأسها. أما المثل الصارخ الآخر، وهو الذي تمثل في أن بعض الوزراء قد وقعوا استقالاتهم فبل تسميتهم من قبل التكتل الذين يمثلونه. فكيف تمنح الثقة لوزير من قبل النواب المنتخبين، وهو أصلاً وضع نفسه بتصرف التكتل قبل أن يضع نفسه بتصرف المجلس؟
نظام الأقطاب هذا، وإلى جانب تآكل دور النائب، يهمش المؤسسات ويجعل اجتماعات وقرارات الكتل النيابية المرتبطة بها، أفعل وأهم من المناقشات في المجلس النيابي. وفي ذلك تهميش صريح للمجلس النيابي واختصار لدوره في إقرار القرارات المتخذة خارجه. ظهرت أول معالم هذا النظام من خلال “الترويكا” في التسعينيات، وهو الآن أخذ شكلاً متطوراً من خلال نظام الأقطاب. وبالتالي، فالحياة السياسية وتبعاً الحياة التشريعية مرهونة إلى حد كبير بمدى اتفاق الأقطاب على التسوية، أو اتفاقهم على الاختلاف.
معارضة سياسية أم معارضة آنية؟
في حين أن الانتخابات النيابية أنتجت برلماناً تمثل فيه الجميع، تشكلت الحكومة على أساس أنها تمثل الجميع أيضاً. بعد أقل من سنة على عمر البرلمان، يلاحظ بأن الأصوات المعارضة في المجلس يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع: صوت معارض يمثل إلى حد ما الخطاب العام للمجتمع المدني من خلال النائب بوليت يعقوبيان، ولكن أيضاً نواب الكتائب الثلاث (سامي الجميل، إلياس حنكش، نديم الجميل) والذين حجبوا الثقة عن الحكومة، إضافة إلى أسامه سعد. لكن هذه المعارضة لم تتبلور حتى الآن على أنها معارضة للنظام السياسي القائم بقدر ما هي احتجاج على الفساد والسرقات والمحارق. فمثلاً، لا نعرف رأي هؤلاء بالسياسات الاقتصادية ما بعد الحرب والتي كانت هندستها قائمة على أساس نيو-ليبرالي، يرسخ مفهوم الدولة الضعيفة لصالح الخصخصة. معارضة ثانية تتمثل بمعارضة جميل السيد والتي لا تنتج عن تكتل انما عن قرار شخصي حتى الآن يظهر بأنه معادٍ للحريرية السياسية، نظراً لخلافات مرتبطة بالمحكمة الدولية.
معارضة من نوع ثالث، ليس بجديدة على النظام السياسي اللبناني، يبدو إنها قررت محاكمة مرحلة الحريرية السياسية من خلال توجيه أصابع الاهتمام إلى الرئيس الأسبق فؤاد السنيورة. هذه المعارضة ليست إطلاقاً معارضة للنظام، أو الحكومة، إنما معارضة انتقائية، لأن من يقود هذه الحملة (حزب الله) يتمثل بالحكومة من خلال وزراء، لكن أيضاً قد أعطى الثقة لها وهي برئاسة سعد الحريري. ليس واضحاً حتى الآن إلى أين ستتجه هذه الحملة. لكن وعملاً بمقومات النظام المذكورة أعلاه، هنالك اعتقاد بأن هذه المعارضة إنما تهدف إلى وضع ضغط ما من أجل التوجه إلى مفاوضات معينة ينتج عنها تسويات من نوع جديد. إذاً، هي معارضة آنية أكثر منها سياسية، حتى إثبات العكس.
أما الآخرون ممن خسروا في الانتخابات من قوى اعتراضية مدنية، فلم يشكلوا جبهة سياسية يمكن أن تعارض المجلس النيابي وتساهم في تشكيل معارضة مجتمعية حقيقية. طبعاً هذا ما يتطلب تطوير ليس تحالفاً انتخابياً إنما تحالفاً سياسياً، لا مقومات لولادته حتى الآن.
خلاصة
يسود حالياً في لبنان جوٌّ عامّ يتمثل بانعطاف سياسي باتجاه مكافحة الفساد. ربما يأتي ذلك نتيجة لمؤتمر “سيدر” حيث وضعت الجهات الدولية المانحة شروطاً لوقف الهدر كشرط لتقديم المساعدة للحكومة اللبنانية. لكن هنالك محاذير كبيرة من هذا الانعطاف الذي ليس بجديد أصلاً في تاريخ لبنان. ففترة ما بعد الطائف لطالما شهدت خطاباً مكافحاً وفاضحاً للفساد، كان رائده في لحظة ما النائب الأسبق نجاح واكيم الذي نشر كتاب “الأيادي السود”، كذلك الأمر بالنسبة إلى الموجة التي أتت مع حكومة سليم الحص (1998-2000) والتي حاولت تبني سياسات التقشف الاقتصادي، والتطهير الإداري.
بيد أن نتائج انتخابات 2018 وتركيبة البرلمان التي أنتجتها لا تشكل بالضرورة أرضاً خصبة لمكافحة الفساد. السبب بسيط: ليس هنالك معارضة فعالة حتى الآن من خارج النظام. عملياً ما زالت النخب الحاكمة تحتكر الخطاب العام وتهيمين على عناوينه، في هذه الحالة مشروع مكافحة الفساد. فبالرغم من تقديم النواب للعديد من مشاريع قوانين ظاهرها إصلاحي منها مشاريع رفع السرية المصرفية، أو رفع السرية عن اجتماعات اللجان النيابية وتحوليها إلى علنية، أو مشروع قانون استقلال القضاء شفافيته، إلا أن التجربة اللبنانية في رسم السياسيات العامة وسنّ القوانين مليئة بالدروس حول قدرة النظام على تحوير القوانين وتفريغها من معناها ومن مضمونها. وهذا ما يتطلب جهداً كبيراً من قوى المجتمع من أجل عدم ترك المجلس النيابي من دون حسيب أو رقيب. فإذا خسرت قوى الاعتراض الانتخابات النيابية، لا يجب أن تخسر حيويتها في مراقبة البرلمان.
- نشر هذا المقال في العدد | 59 | نيسان 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
لمن القانون في لبنان؟
انتخابات 2018: عرسٌ على حطام الديمقراطية
[1] أحمد بيضون، الصراع على تاريخ لبنان: أو الهوية والزمن في أعمال مؤرخينا المعاصرين، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1989، ص: 253.
[2] “The Postwar Political Process: Authoritarianism by Diffusion”, in Theodor Hanf and Nawaf Salam (eds), Lebanon in Limbo, Postwar Society and State in an Uncertain Regional Environment. (Baden- Baden: Nomos Verlagsgesellschaft, 2003): 53-74.