جاءت انتخابات 17 ديسمبر في صيغة امتحان فلسفة سياسية مكرّر وممل ومكلف: هل يمكن لفعل المتسلّط أن يصبح مشروعاً، وهل يمكن للمتسلّط أن يبقى شرعياً؟ وهو سؤال مكرّر أجاب عليه تاريخ تونس ما بعد الاستقلال في محطتين: سنة 1987 و2011 وما بينهما. وهو سؤال مملّ لا يمتّ للفلسفة – أي حب الحكمة – بصلة، بل هو خانق لها وللحياة السياسية ومعطّل لزخمها. وهو سؤال مكلف، تدفع ثمنه الشعوب من أزمنتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحقوقية. ويأبى قيس سعيّد، رئيس تونس المنتخب ذات ديسمبر سنة 2019، إلا وأن يعيد طرح السؤال، كأستاذ عجز عن التجديد، لتأتي ملامح الإجابات في زوايا المجال السياسي، مبعثرة ولكن واضحة: لا تعوّض شرعية تاريخية أو سابقة مشروعية مفقودة.
ثنائية المشروعية والشرعية حقّ أريد به باطل سياسي تبلور يوم 25 جويلية من سنة 2021، عندما لجأ قيس سعيد إلى الفصل 80 من دستور 2014 في خرق واضح لإجراءات النص القانوني ومقاصد المعنى السياسي. وعزّز ذلك نشره للأمر الرئاسي عدد 117 في ذات السنة، والذي كان تعليقاً صريحاً للدستور الذي أقسم على إعلائه واحترامه، إلى أن أعلن عن خارطة طريقه بتاريخ 13 ديسمبر، في محاولة لرأب الصدع القانوني. لا يخفي الاختلاف اللغوي في استعمال الكلمتين الاختلاف الاصطلاحي بينهما، وأقصد هنا، على عكس الاستعمال الدارج للمصطلحين في تونس، خصوصا في حقل العلوم القانونيّة، الفصل بين السند السياسي (ويشار لها في هذا المقال بمصطلح “الشرعية”)، والسند القانوني أو الإجرائي (“المشروعية”). تمكّن قيس سعيد من استغلال شعبيته (أي شرعيته السياسية إن صحّ التعبير)، لتغذية مشروعية قراراته حتى في أكثرها عبثية. وسوّقت خارطة الطريق على أنّها خطوات عملية تخرج بالدولة من اتكائها على شرعية قيس سعيد، وتدخل بها مجدداً إلى مجال سياسي مشروع تعود به الشرعية السياسية إلى أسسها المشروعة، أي ما يضبطه القانون من عملية سياسية سواء بالانتخابات أو ممارسة الوظائف المختلفة، كما يصفها نصّ سعيّد.
وجب التساؤل إن كان الانتقال من شرعية شعبية حصّنت انفراد سعيّد بالسلطة إلى ممارسة مشروعة للسلطة تقتضي بالأساس الرجوع إلى تعددية في التنافس السياسي وأخذ القرار، غاية يسعى إليها رئيس الدولة حقيقةً، أم أنه يمنّي بها من يبحث عن دعمه. ويؤكّد هذا التساؤل فصلُ داعمي سعيّد، وخاصة من انضوى منهم في أحزاب أو ائتلافات، بين قراراته وما سمّي بمسار 25 جويلية. وكأن للأخير جسد يمكنه التحرك دون عقل سعيّد المدبّر. فأضحى سعيّد رمز الشرعية، وخارطة طريقه وعد المشروعية. ويجسد الفصل بين الاثنين رغبة في بثّ شرعية سياسية لا ترتبط عضوياً بشرعية قيس سعيد الشعبية، بل لها حياتها المنفصلة، فتسمح للفاعلين بالتماهي أو التمايز عنها، وهو ما لم يجدوه في سعيّد المنغلق المتسلّط المنفرد. فإن استمرت شعبية سعيّد ساووا بينه وبين “المسار”، وإن تآكلت نزّهوا المسار.
وتطوّر الاستعمال السياسي لثنائيّة الشرعية والمشروعية إلى فصل بين تقييم الأداء السياسي والاقتصادي لسعيّد. فبوركت محطات خارطة الطريق على أنها تحقيق لالتزامات سعيّد السياسي، وعلا النقد اللاذع لأدائه الاقتصادي، واستعمل كدليل على اهتراء شرعيته لما للأزمة الاقتصادية من أثر مباشر على شعبيته. وقد استند فاعلون عدّة على الفصل بين الأدائيْن، لما في ذلك من فرصة سانحة للتفاوض مع سعيّد، في غياب تامّ لفضاءات التشريك التقليدية. لوحظ هذا بالأساس في مفاوضات الحكومة التونسية من أجل الحصول على قرض صندوق النقد الدولي، والذي أكّد كعادته على ضرورة مشاركة الاتحاد العام التونسي للشغل في الحوار المتعلق بأسس الإتفاق من نقاش حول كتلة الأجور ورفع الدعم وغيرها. ووجد بقية الفاعلين السياسيين، من مؤيدين لانقلاب 25 جويلية ومناوئين، فرصة في الفصل بين السياسي والاقتصادي أيضاً. فتمادى الداعمون في دعمهم للمسار السياسي (وهو مسار 25 جويلية) ونقدهم للحكومة وأدائها الاقتصادي، واستعمل المعارضون التأزم الاجتماعي الناتج عن العامل الاقتصادي الخانق كدليل على انتفاء شرعية قيس سعيد، أي شعبيته. وإن كان في الفصل بين الأداء السياسي والاقتصادي عودة خطيرة إلى اعتقادات رجعية مورست على الشعوب المقموعة – مساومة الحرية والكرامة والديمقراطية من أجل الغذاء – فقد مهّد لمعترك سياسي ممكن بين الجميع: قيس سعيّد، والداعمين، والمعارضين، والمواطنين كافة.
الشعب لا يريد مشروع الرئيس
في هذا السياق، انتظمت انتخابات 17 ديسمبر التشريعية، والتي تعد بإرساء الغرفة الأولى من المجلس التشريعي، أي مجلس نواب الشعب. وهي انتخابات أتت في ظاهرها كإجابة لمعضلة مشروعية استمرار الحكم المنفرد لقيس سعيد، فضربت أداءه السياسي في مقتل. دعا الناخبون إلى التصويت في تاريخ اندلاع الثورة في مسار خطّه سعيّد وحيداً. فهو الذي غيّر أعضاء مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فسمّى مجلساً يأتمر بإمرته. وهو الذي غيّر الإطار القانوني المنظّم للانتخابات ولم يلق بالاً لمن دعمه، حتى لوّح البعض بالمقاطعة. وهو الذي محقالهويةالحزبيةللعرضالسياسي، وألغى التمويل العمومي للترشح الانتخابي، وقسّم الخيار التمثيلي إلى دوائرانتخابيةهجينة تهيّج الانتماء المحلي في غير إطاره الوطني. وهو الذي لوّث بوادر التنافس السياسي النادرة بخطابه العنيف القاذف على منابر الدولة الرسمية. ففشل في إقناع الأغلبية الساحقة من الناخبين – الذين أصر على تسجيلهم رغماً عن إدبارهم عن العملية الانتخابية – من أن صندوق الاقتراع ترجمة لآمالهم وأداة تغيير. أدلى 11,22% فقط من الناخبين بأصواتهم، وأحدث صمت البقية ضجة هي الأعلى والأوضح منذ البدء بتطبيق محطات خارطة طريق قيس سعيّد.
قد تختلف العملية الانتخابية بعد تعليق دستور 2014 باختلاف خراجها، وهذا بديهي لما نتج عن الاستفتاء من “نص دستوري”، وعمّا سينتج عن الانتخابات التشريعية من تمثيلية للشعب في غرف نيابية. إلا أن تقارب المحطات الانتخابية لا يؤثر بشكل مباشر على الجسم الانتخابي، في تركيبته الديموغرافية أو مزاجه السياسي خاصة في انتفاء منافس جدّي في الطرح السياسي ضمن الأطر التي وضعها قيس سعيد. إن صوِّر استفتاء 25 جويلية كمبايعة لقيس سعيد وتجديد ثقة فيه، فانتخابات 17 ديسمبر التشريعية هي مبايعة لمشروعه السياسي. وإن فشلت محاولات تقزيم نسبالمشاركةفيالاستفتاء (أغلبية الثلث تبقى أقليّة!) في تغيير المسار السياسي للأحداث أو وضع حد لخارطة طريق سعيّد، فإن ضآلة نسب المشاركة في الانتخابات التشريعية لا لبس فيها. ليس التنابز بالأرقام دخيلاً على الصراع حول الشرعية السياسية للمنتخب، أفرادا أو مجالس. فنسبة مشاركة الناخبين في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 كانت ركيزة استمرارية سردية شعبية قيس سعيد مثلاً، وكانت المقارنة بينها وبين نسب المشاركة في الانتخابات التشريعية لذات السنة من مداخل تبرير استيلاء سعيّد على السلطة التشريعية. في تآكل منطقي ومتوقّع لشعبية سعيد نتيجة فشل اقتصادي فادح، أكّدت نتائج الدور الأول لانتخابات 17 ديسمبر أن تآكلا سياسيّا يلاصق الاقتصادي. أي أن انتقال سعيّد من شرعية شعبية إلى مشروعية انتخابية لبرنامجه السياسي لم يحدث.
إلا أن فشل الانتخابات التشريعية في دورتها الأولى لم يقابله اعتراف بهذا الفشل من قبل قيس سعيد، بل تفسيرمخاتل يدّعي أن نسبة المشاركة لا يمكن قراءتها دون أرقامها في الدور الثاني. وبرّرت هيئة الانتخابات هذا الفشل بعدة عوامل منها خيارات الإطار القانوني (كالتزكيات والانتخاب على الأفراد)، وغياب المال السياسي و”نزاهة العملية السياسية” كما ادّعى رئيسها فاروق بوعسكر. أما الأطراف المقابلة المعارضة لجلّ أو جزء من تسلّط سعيّد ومساره المقترح، فهي متفقة في تقييمها بأن النسبة ضئيلة لا ترتقي لمنح شرعية انتخابية لأي هيكل قادم. إلا أن مطالب الفاعلين السياسيين اختلفت باختلاف محركات فعلها السياسي وأدوات تقييمها للفرص. فمن دعا لرحيل قيس سعيد وتنظيم انتخابات رئاسية مبكّرة يقدّر أن نسب المشاركة في الانتخابات مرآة لشرعية قيس سعيد السياسية، وأن التنافس في سياق انتخابات رئاسية قد يؤدي إلى مصير سياسي مختلف. أما من طالب بتعليق الانتخابات أو إلغاء نتائجها وعدم المرور إلى الدور الثاني فيرى فرصة سانحة للتفاوض مع السلطة القائمة، بتزامن تآكل الشرعية السياسية والاقتصادية، إما لتغيير المسار السياسي بما يشبه مرحلة انتقالية تقتضي إعلان انتهاء مرحلة حكم قيس سعيد المنفرد، أو لغاية مشابهة لما اقترحته مجموعة ثالثة، وهو حوار وطني يهتم بالجانب الاقتصادي والاجتماعي في ظل هدنة سياسية تغضّ البصر عن أي شرعية سياسية.
رغم الاختلاف، يجمع كلّ الفاعلين اعتقاد راسخ بأن نسبة المشاركة الضئيلة مدخل جدّي للفعل السياسي لم يُفتح منذ احتكار سعيّد للسلطة. بل يمكن القول أن في سقوط شرعية سعيّد إمكانية صعود لشرعية من يمكن أن يعوّضه. إلا أن تعويض سعيّد في مساره وخارطة طريقه عملية مركّبة، تماما كشرعيّة سعيّد، ويقتضي طرحاً يساوي بين السياسي والاقتصادي، ويمرّ من الكمّ الشعبي المتمثّل في استياء اجتماعي واقتصادي عام، إلى الخيار المواطني، أي انتخابات تضفي مشروعية على الفاعل السياسي الجديد. ليس للمعارضة رفاهية اختيار زاوية وحيدة للفعل السياسي إن رغبت حقاً في وضع حدّ لتسلّط سعيّد، ولها رفاهية التكامل رغم التمايز.
تبدو ملامح الإجابة التونسية نموذجية مرة أخرى، وأسرع مما مضى: لا يمكن لفعل المتسلّط أن يصبح مشروعاً إن فشل في إقناع الفاعلين السياسيين المهيكلين، أي أحزاب ونقابات ومنظمات وجمعيات، وإقناع الجسم السياسي الأعظم، أي المواطنين كافة. ولا يمكن للمتسلط أن يبقى شرعياً، لأن التفرّد في أخذ القرار لا يمكن أن يؤدي إلى حكم سويّ يحافظ على الرصيد السياسي في حالة الاستقرار، أو ينمّي الرصيد الاقتصادي في حالة التأزم. من يرسم الطريق منفرداً ينتهجها وحيداً.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.