“استغرق الأمر حوالي 2350 عامًا، لكن ربما حان الوقت أخيرًا لنُزيل السدّ الذي بناه الإسكندر الكبير أثناء حصاره لمدينة صور، ونعيدها جزيرة صغيرة ولطيفة كما كانت”. والاقتباس هو تغريدة نشرها مستخدم إسرائيليّ على تطبيق x صباح اليوم، تعليقًا على التهديد الإسرائيليّ الموجّه ضدّ معظم الأحياء السكنيّة لمدينة صور.
والمستخدم هنا اسمه ديفيد كوهين، وهو إسرائيليّ يعرّف عن نفسه كفنّان مهتم بالتراث اليهوديّ والأركيّولوجيا والتاريخ، يعيش في مدينة القدس المحتلّة، وولد في مدينة “معالوت – ترشيحا”، التي أسّست من خلال الدمج بين مستوطنة معالوت ومدينة ترشيحا الفلسطينيّة المهجّرة، على بعد بضعة كيلومترات عن لبنان.
وقد نفخ التهديد الإسرائيليّ الذي نشر صباح اليوم موجة من الخطاب الإباديّ لدى مستخدمي وسائل التواصل الإجتماعي الإسرائيليّين. وهو خطاب كان يركّز على تاريخ مدينة صور، حاملًا دعوة لتدميرها، ومسحها عن وجه الأرض.
تهديد صور: تدمير الحجر بعد تهجير البشر
ومدينة صور اليوم هي شبه جزيرة تحمل تاريخًا عريقًا. في التاريخ القديم، كانت صور جزيرة محصنة تفصلها المياه عن البرّ الرئيسي. في عام 332 قبل الميلاد، قام الإسكندر المقدوني بربط جزيرة صور بالبرّ الرئيسي عن طريق بناء سدّ (جسر برّي) خلال حصار دام 7 أشهر، وذلك لإخضاع المدينة. هذا الجسر تحوّل مع مرور الزمن إلى شريط أرضي دائم نتيجة الترسبات الطبيعية. لاحقًا، غرقت أجزاء كبيرة من المدينة القديمة بسبب زلازل متعاقبة، لكن هذا الشريط الأرضي الذي بناه الإسكندر يشكّل الجزءً الأكبر من المدينة الحديثة التي نشأت فوقه منذ أكثر من 2300 سنة.
وقد نشر الجيش الإسرائيليّ تهديدًا ضدّ ثلثي الأحياء السكنيّة في مدينة صور اليوم، أو معظم المنطقة الواقعة بين الحدود الشرقيّة للمدينة شبه الجزيرة، وحاراتها القديمة. وأعقب التهديد بسلسلة غارات عنيفة دمّرت مباني سكنيّة في قلب المدينة، إضافة إلى دور تقليديّة يعود تاريخ بعضها إلى الربع الأوّل من القرن الحالي، وتمتاز بعناصر معمارية متميزة من شرفات وعقود وأعمدة رشيقة.
وقد شمل التهديد الإسرائيليّ 190 ألف متر مربّع من الوحدات السكنيّة المتراصّة، التي تشكّل كامل التمدّد العمراني للمدينة خلال القرن الأخير. وقد تسبّب التهديد، ومن ثمّ القصف العنيف، بنزوح معظم السكّان من أهالي المدينة والنازحين إليها.
عيّنات من الخطاب الإسرائيليّ
“مشاعر” ديفيد كوهين، شاركها معه الكثير من المستخدمين. علّق حساب إسرائيليّ يتابعه 15 آلاف شخص على التهديد الإسرائيليّ ضدّ المدينة بالقول: “نبدأ بتسوية صور بالأرض”، فيما علّق آخر على مقطع مصوّر للتهديد على لسان المتحدّث باسم الجيش الإسرائيليّ للجمهور العربيّ، فقال: “لا أفهم العربيّة لكنّني أستمتع بكلّ كلمة من هذا الحبيب”.
ونقل التهديد الإسرائيليّ ضدّ المدينة، شخص يدعى أور فيالكوف، داعيًا الجنوبيّين إلى “الهرب والعيش في الخيم”. وقد تفاعل الأخير مع مستخدم دعا إلى تدمير ما أسماه “الاتّصال المصطنع” بين صور التاريخيّة والبرّ اللبناني، وتحويل المدينة إلى جزيرة بإزالة معظم مساحتها الحاليّة. وقد وافقه المدعو فيالكوف بالقول: “اتركها على (المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي) أدرعي”.
وفيالكوف هو مالك شركة بيالكوف الرقمية الإسرائيليّة، وهو شخص قدّمته مجلّة “الأنظمة” التابعة للجيش الإسرائيلي سابقًا على أنّه “خبير في حروب إسرائيل والإرهاب”، ونشرت مقابلة معه في صحيفة معاريف في شباط 2024 عن لبنان وحزب الله تحت عنوان: “الحل الوحيد – الإبادة”. وقد اعتبر فيها أن “الحلّ الوحيد هو غزو لبنان وتدمير القوة العسكرية لحزب الله، حتى النهاية أو في كل لبنان”.
وقد احتفل هذا المستخدم بصور التدمير في مدينة صور قائلًا “المزيد من الصور الجميلة تأتي… مما كان سابقًا موناكو الشرق الأوسط”.
بدوره دعا مستخدم إسرائيليّ آخر إلى تسمية حرب الإبادة الجماعيّة في غزّة “تحرير غزّة، بما أنّ غزة يهودية، والأمر نفسه ينطبق على (مدينة) صور”.
وقال حساب إسرائيليّ يتابعه أكثر من 9000 شخص إن المنطقة المستهدفة بالتهديد الإسرائيليّ “هي أرض مصطنعة” داعيًا إلى تدميرها “من أجل إعادة مجد كنعان”. وأضاف حساب آخر: “كم هو رائع أن تكون صور تابعة لإسرائيل. سيكون لمدينة حيفا منافس”.
تحليل الخطاب الإسرائيلي
يظهر الخطاب الإسرائيلي في تهديداته ضد مدينة صور بشكل واضح ومنظّم اليوم على شبكات التواصل الاجتماعيّة، حيث يتبنى خطابًا يستند إلى تاريخ المدينة، لكن يتم تحويل هذا التاريخ إلى أداة للتحريض والتبرير للعنف الاستعماريّ. الكلمات التي تستخدمها الشخصيات العامة والمستخدمون على وسائل التواصل الاجتماعي تشير إلى رغبة في إزالة المدينة من الوجود، مما يكشف عن طبيعة الإبادة التي يروج لها الخطاب الإسرائيلي.
وتضم المنطقة المهدّدة بالقصف المباشر الحصن المبني على العين القديمة للمدينة والتي تذهب بعض الروايات إلى أن السيّد المسيح توقّف عندها وقيل أنّ إحدى عجائبه حدثت عندها، وكانت مقصداً لحجاج الأراضي المقدسة لفترة متأخرة، وقبالته موقع حفريات أثريّة آخر.
كما يقع موقع أثري آخر في قلب المنطقة المستهدفة، والذي يضم آثار كاتدرائية بعد فترة تنقيب محدودة أعادت مديرية الآثار تغطيتها بالرمال حفاظاً عليها. وفيها مكتبات عامة، أهمها مكتبة العلامة الراحل الشيخ موسى عزالدين، ومراكز إدارية عدة.
ولعلّ استخدام تعبيرات مثل “استعادة الجزيرة” أو “تسوية صور بالأرض” و”إصلاح ما فعله الإسكندر” يعكس رؤية شوفينية تتجاوز مجرد العمليات العسكرية، لتصبح دعوة لاستئصال المدينة من الجغرافيا والتاريخ، وإزالة كلّ ما بني على مدى 2300 عام.
هذا التوجه لا يقتصر على التهديدات المباشرة، بل يعبر عن رؤية أوسع تتضمن تدمير المعالم الثقافية والتاريخية للمدينة، وهو ما يتجلى في الهجوم على المباني ذات القيمة التاريخية والمعمارية.
علاوة على ذلك، يُلاحظ أن هذا الخطاب ينطوي على عناصر من الاستعلاء الثقافي، حيث يسعى المتحدثون الإسرائيليون إلى تصوير أنفسهم كحماة للتاريخ، بينما هم في الحقيقة ينقلبون على التاريخ، وينتهكون حقوق سكان المدينة الأصليين. يستحضر الخطاب كذلك مفاهيم مثل “التحرير” و”الإبادة” بصورة متناقضة، حيث يتم تقديم الأعمال الوحشية كجزء من عملية إنسانية أو تاريخية.
يشير هذا التحليل إلى أن الخطاب الإسرائيلي، خاصة في سياق تهديد مدينة صور، لا يعكس فقط تطلعات عسكرية، بل يعبر عن مزاج إباديّ عامّ يهدف إلى تقويض الوجود التاريخي والثقافي لأهل الأرض.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.