“امتيازات” التدمير


2024-07-16    |   

“امتيازات” التدمير
رسم رائد شرف

في الفصل الأوّل من هذه السّنة، برزتْ مُجدّدًا إرادة تسليع الدّولة مع تخصيص عائدات التسليع لإيفاء الودائع العالقة في المصارف، وهو هدفٌ مُغرٍ لجزءٍ هامّ من اللبنانيين. وعليه، شهرت “المفكرة القانونية” في عددها السابق الأعلام الحمراء، محذّرة من “تسليع لبنان” وعواقب ذلك على احتمالات بناء الدولة القادرة والعادلة. ولم تنقضِ أسابيع حتى كشفت القوى السياسية عن فهمها الحقيقيّ لـ “تسليع لبنان” وذلك من خلال القرار الحكومي الصّادر في تاريخ 28 أيار بمنح شركات التّرابة امتيازًا باستثمار المقالع والكسّارات خلافًا للقانون ومن دون أيّ ضوابط ولمدّة سنةٍ كاملة. وطبعًا لم تنسَ الحكومة تبرير قرارها بـ “حاجات السوق”. وقد كشف هذا القرار بالفعل الحقائق الآتية: 

  • أنّ تسليع لبنان لا يتوقّف عند أيّ اعتبارات بيئيّة أو قيمية أو قانونيّة. فعدا عن أنّ القرار أدّى إلى انتهاك مرسوم تنظيم المقالع والكسّارات الذي يُخضع الترخيص لاستثمار مقالع، لشروط بيئية وصحّية ويمنع قطعًا حصوله خارج المناطق المحدّدة ضمن التخطيط التوجيهي للمقالع (وهي المناطق التي تبعد عن التجمّعات السكنية وتنحصر بشكل عامّ في سلسلة جبال لبنان الشرقية)، فهو يخالف عنوةً 4 قراراتٍ قضائيّة صدرتْ تباعًا عن مجلس شورى الدولة بإبطال قرارات مماثلة. وبذلك، بات بإمكان هذه الشركات أن تكسّر ما تريده من جبال وأن تلوّث ما تريده من مياه جوفية وأن تجتاح رئات سكّان أي منطقة تريدها وعمليًا أن ترتكب جرائم جزائيّة بالمفرّق والجملة، كلّ ذلك بتغطية ومباركة كاملة منها.
  • أنّ تسليع لبنان ليس إلّا عمليّة محاصصة ريعيّة جديدة لاحتكارات مجزيّة تطال هذه المرّة جبال لبنان وقممه. وليس أكثر دلالة على ذلك من تمكين شركات الترابة من مراكمة احتكار استثمار المقالع مع احتكار سوق الإسمنت الناجم عن منع استيراده. ومؤدّى هذا الاحتكار هو رفع أسعار الترابة في السوق المحلية لتصل إلى 95 دولارًا أميركيًا أي ضعف سعر استيراده من الخارج أو توريده إليه، كلّ ذلك على حساب الوطن والمواطن. وبذلك، يفتح هذا القرار الباب واسعًا أمام تحقيق ثروات طائلة، ثروات لم يكن من الممكن تحقيقها إلّا بإرادة حكومية وتاليًا من دون صرف نفوذ، مع ما يستتبع ذلك من باب للابتزاز السياسي والمحاصصة الاعتيادية. فمن سيستفيد من هذه الثروات؟ وما هي علاقة رئيس الحكومة أو أي من الوزراء أو القوى السياسية معهم؟ هذا ما كان عبّر عنه مجلس شورى الدولة في بعض قراراته حيث أعاب على الحكومة أنّها تنتهي من خلال اتخاذ قرارات مماثلة إلى تشجيع الشركات على ارتكاب الجرائم، وعمليًا إلى الاشتراك معها في هذه الجرائم التي ما كانت لترتكب لولا تحوير ما لديها من سلطة ونفوذ. وهذا ما يعيد إلى الواجهة مشهدية يصحّ وصفها بمشهديّة باتت متكرّرة، مشهدية “جمعية الأشرار”، هذه الجمعية التي نلقاها في قطاع المصارف كما نلقاها اليوم في قطاع الإسمنت والمقالع.  
  • أنّ تسليع لبنان يحصل مقابل لا شيء. فقد غضّت الحكومة الطرف عن التقرير الذي كانت نشرتْه وزارة البيئة قبل أشهر وبيّنت فيه حجم الأضرار البيئية الناجمة عن المقالع والكسارات المخالفة للقانون، وقد بلغ عددها 1237 مقلعًا منتشرًا على طول لبنان وعرضه. وقد تمّ وضع هذا التقرير بالتعاون مع وكالة الأمم المتحدة للتنمية وبناءً على مسح الجيش. وأهمّ ما ورد في هذا التقرير هو أنّ أصحاب المقالع أضاعُوا على الدولة مستحقّات تقارب 4 مليارات دولار، جزء منه ضاع إلى الأبد كالرسوم والغرامات بفعل انهيار العملة الوطنية. وجزء آخر لم يضِع بعد طالما أنّه تعويض عن الضرر البيئي المتوجّب عليها والذي يقدّر يوم استيفائه. هذا التعويض المتوجّب بلغ حسب أرقام الوزارة الأخيرة مبلغ 2561 مليون دولار منها منها 1973 (إعادة تأهيل) و588 (ضرر بيئي). وبنتيجة ذلك، تكون الحكومة قد سمحتْ لشركات الترابة أن تضاعف الأضرار البيئية المرتكبة منها، قبل حتى أن تنتزع منها أيّ اعتراف بالأضرار التي تسبّبت بها أو التزام بالتعويض عنها. وهنا نصل إلى قمة التخلّي وعدم المسؤوليّة. فبأيّ منطقٍ نسلّم شركاتٍ مياهنا وجبالنا ورئاتنا بعدما فعلت فيها ما فعلته، تمكينًا لها من مضاعفة ضررها من دون ضوابط بل حتى من دون أن تلتزم أو تقوم بأيّ جهد لإصلاح هذه الأضرار وتسديد تعويض عنها أو المبالغ المتوجّبة لإعادة تأهيلها؟ فإذا لم تصلح الشركات أيًا من الأضرار التي تسبّبت بها في الماضي، ما الذي يضمن أنّها ستصلح أضرار المستقبل، وبخاصّة في ظلّ ضياع موارد الدولة وأموالها؟ فكأنّنا لسنا فقط في نظام إفلات من المحاسبة عن جرائم الماضي فقط بل في نظام يمنح تراخيص (كارت بلانش) لارتكاب مزيد من الجرائم، كلّ ذلك تحت غطاء إيحاءات بمحاسبة لا تحصل أبدًا. 

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ القرار الحكوميّ تلاقى في عمقه مع اقتراحيْ قانون تمّ تقديمُهما مؤخّرًا بشأن تنظيم المقالع والكسارات. الاقتراح الأوّل قدمته كتلة القوّات اللبنانية (الجمهورية القويّة) هدف إلى استعادة أحكام المرسوم الناظم للمقالع والكسارات مع إدخال تعديل جوهريّ كشف هنا أيضًا عن النوايا الكامنة خلف الاقتراح وقوامه إلغاء حصر استثمار المقالع في مناطق جغرافية محدّدة أغلبها في السلسلة الشرقية ليفتح بذلك الباب أمام تشريع استثمارها على طول لبنان وعرضه. أمّا الاقتراح الثاني فقد هدف إلى التطبيع مع المخالفات تحت غطاء التشدّد في معاقبتها. يتأتى عن ذلك فرض غرامات على كلّ مستثمر من دون ترخيص قانونيّ تحتسب على أساس نسبة معتدلة من قيمة الإنتاج وتحديدًا بـ 30% أو 50% منها في حال وقعت المخالفة في الملك الخاصّ أو العامّ. فكأنّما الغرامة هنا تأتي، ليس لردع المخالفة أو ثني الشركات عن الاستمرار في مخالفة القانون، إنّما فقط لتحديد ثمن هذه المخالفة، ثمن يبقى معقولًا طالما أنّه لا يتعدّى في أحسن الأحوال نسبة من الإنتاج الحاصل خلافًا للقانون. وليس أكثر دلالة على ذلك من الغرامة القانونية المفروضة على استثمار مقالع في الملك العامّ. فأن تحدد الغرامة هنا بـ 50% من قيمة الإنتاج فقط إنّما هو في حقيقة الأمر بمثابة مكافأة للمستثمر المعتدي على الملك العام، مكافأة تصل إلى تمكينه من جني 50% من هذه القيمة بصورة غير مستحقّة. كلّ ذلك على أرض ليست أرضه ومن صخورٍ ليست ملكه وفي مقلع غير مرخّص، هذا من دون حتى احتساب الأضرار البيئية الجسيمة التي قد تكون أصابت الهواء والماء والتربة. 

الدّرس الذي نتعلّمه من هذا القرار الحكومي واقتراحيْ القانون هو أنّه في حال نجاح المخطّط بتسليع لبنان، فإنّه سيحصل في ظلّ موازين القوى الحاضرة من دون أيّ ضمانات أو أيّ اعتبار للمصالح العامّة الحيويّة، ولا سيّما أنّ المجتمع لا يزال يفتقد إلى أدواتٍ فعّالة للدفاع عن نفسه. بمعنى أنّه قد يؤدّي إلى تجريد الدولة من أصولها ومواردها مقابل أثمان بخسة وعلى نحو يؤدّي إلى إثراء أصحاب النفوذ مقابل مزيد من التفقير والتهميش في أوساط عموم المواطنين. وما نتعلّمه أيضًا هو أنّ أيّ إعلان عن اتخاذ تدابير لحماية المصالح العامّة يكون على الأرجح مجرّد خدعة بصريّة لتمرير مصالح الأقوياء بأقلّ قدر من الممانعة. حان أنْ يدافع المجتمع عن نفسه ضدّ امتيازات تدميره. 

لقراءة وتحميل العدد 73 بصيغة PDF

انشر المقال



متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني