تحمل وزيرة التربية ريما كرامي على كاهلها عبء ميراث ثقيل في وزارة التربية تركه لها وزراء تعاقبوا على الوزارة وتعاملوا مع التربية بخفّة كبيرة، من الوزير الياس بو صعب الذي أقفل المدارس عند هبوب أيّ عاصفة، وصولًا إلى الوزير عباس الحلبي الذي اعتمد التقليص ثمّ تقليص التقليص والمواد الاختياريّة لمواجهة الأزمات المتعدّدة…وجهاز إداريّ محدود من حيث العدد والكفاءة. وقد أصرّت كرامي على تكوين قرارها في وسط ذلك، انطلاقا من معايير أكاديميّة، مبنيّة على دراسة الداتا بعيدًا عن ضغوط السياسة والشعبويّة. فأعلنت في مؤتمر صحفيّ عقدته في 30 نيسان تمديد العام الدراسيّ حتّى 13 حزيران، وتكثيف الدروس لصفوف الشهادات الرسميّة وإجراء تقليص بسيط على 3 مواد تعليميّة.
وبالرغم من إعلان كرامي مرّات عديدة عند استلام الوزارة بأنّها تسعى للشراكة والعمل بشفافيّة مع كلّ أطراف العمليّة التربويّة، يصطدم قرارها اليوم بمراكز القوّة والضّغط داخل الوزارة وخارجها ويواجه اعتراضات واسعة.
وعليه، سنحاول في هذا المقال التطرّق إلى المعايير التي استند إليها قرار كرامي ومدى صوابيّته، بعد التطرّق بسرعة لأشكال الاعتراضات عليه ومبرراتها.
مبررات الاعتراض
ترى روابط المعلّمين أنّ الحرب الإسرائيليّة على لبنان أعاقت انطلاق العام الدراسيّ 2024/2025 وقد خسر طلّاب المدارس الرسميّة شهرًا على الأقلّ منه. بسبب تحوّل المدارس الرسميّة في لبنان كلّه، إلى مراكز إيواء، وتأخُّر إطلاق العام الدراسيّ في الرسمي إلى 4 تشرين الثاني. وقد اعتمدت بعض هذه المدارس التي لم تتمكّن من فتح أبوابها حضوريًا التعليم من بعد حتّى وقف إطلاق النار.
أمّا مدارس المناطق التي تعرّضت للعدوان المباشر، فقد اعتمدت كلّها من دون استثناء التعليم من بعد، وتأخرت العودة إلى التعليم الحضوريّ في معظمها إلى ما بعد عطلة رأس السنة، أي خسرت تقريبًا شهرين ونصف من أيّام التدريس الحضوري المعتمدة عادة في لبنان. بالإضافة إلى أنّ مدارس البلدات الحدوديّة توقّف التعليم الحضوري فيها منذ 8 تشرين أوّل 2023 عند بدء حرب الإسناد حتّى اليوم.
بناء على كلّ ذلك، أصرّت الروابط على ضرورة إجراء تقليص جديد للمنهج، خاصّ بطلاب الامتحانات الرسميّة للعام الدراسيّ 2024/2025. علمًا أنّ المنهج المعتمد أصلًا للعام الدراسيّ الحالي مقلّص إلى 18 أسبوعًا بدلًا من 24 أسبوعًا المعتمدة منذ العام 2016. كما طالب الطلّاب باعتماد المواد الاختياريّة.
ولدعم مواقفها والضغط على كرامي، نظّمت رابطة التعليم الثانوي اجتماعًا لأساتذة صفوف الشهادات الرسميّة، عبر تقنيّة زووم، شارك فيه تقريبًا 100 من الأساتذة، ناقشوا سؤالين هما: هل أنت مع تقليص جديد للمنهاج؟ هل أنت مع اعتماد الموادّ الاختياريّة؟
ثمّ نظّمت الهيئة الإداريّة استبيانًا تضمّن 3 أسئلة فقط: هل أنت مع تقليص المنهاج؟ هل أنت مع اعتماد المواد الاختياريّة، وأيها تقترح؟ هل أنت مع تمديد العام الدراسيّ؟
ولم يُقدَّم خلال الاجتماع ولا في الاستبيان أي داتا تُبنى الآراء على أساسها، ولا أُفسح المجال لتقديم مبررات الإجابات المختلفة. شارك في الاستبيان 2300 من الأساتذًة، 613 من بينهم في التعليم الرسمي و 1687 من التعليم الخاص، من جميع المحافظات، وكلّ فروع شهادة البكالوريا اللبنانيّة.
وقد رفعت الهيئة الإداريّة مذكّرة لوزيرة التربية قدّمت فيها النتائج التي توصّلت إليها ومطالبها. لا تقدّم المذكّرة أيّ داتا حول الموادّ التي تواجه صعوبةً في إنجاز الدروس ولا أعداد هذه الدروس ولا إمكانيّات الإنجاز، وإنّما تحلّل الظروف المحيطة بالعام الدراسيّ وتركّز على خسارة الفصل الأوّل منه خصوصًا في مدارس المناطق التي تضرّرت من الحرب. ويمكن تلخيص المطالب التي قدّموها بما يلي:
- 80,8% رفضوا تمديد العام الدراسيّ.
- 87,9% طالبوا بتقليص جديد من دون تحديد الموادّ أو الصفوف.
- 60,3% طالبوا باعتماد الموادّ الاختياريّة.
وبنتيجة ذلك، طالبت الهيئة الإداريّة في مذكّرتها بإنهاء العام الدراسيّ في نهاية شهر أيّار، وتاليا تقليص المنهج.
وانتقل السجال الحادّ بين وزارة التربية من جهة وروابط الأساتذة من جهة أخرى ومعهم عدد كبير من الطلاب والأساتذة والأطراف السياسيّة من أروقة الوزارة إلى الشارع. إذ بعد أن فشل هؤلاء في تعديل قرارات كرامي، بدأت مظاهرات طلّابيّة تندّد بقرارها أمام وزارة التربية. كما انطلقت حملة إلكترونيّة واسعة ضدّها اعتبرت أنّ قرار كرامي منفصل عن الواقع ولا يأخذ بعين الاعتبار حاجات الناس في المناطق التي تضرّرت من الحرب أكثر من غيرها، لا بل وصلت بعض الاتّهامات إلى اعتبار قراراتها استهدافًا للبيئة التي دفعت الثمن الأغلى للحرب.
كيف بنت كرامي قرارها؟ ولماذا تتمسّك به؟
بالمقابل، حاولت وزارة التربية تحديد المُنجز من الدروس في صفوف الشهادات الرسميّة بناء على أدوات عديدة، وقد أصرّت الوزيرة على أن تكون هذه الأدوات ذات مصداقيّة. إذ اعتمد المركز التربويّ على استبيان أرسله لـ 140 ثانويّة في لبنان كلّه، ومن بينها ثانويّات كانت مراكز إيواء، وأخرى تقع في المناطق الأكثر تضررًا من الحرب. لكنّ كرامي رأت أنّ هذا غير كاف، فطلبت من المركز التربويّ توسيع عيّنة الاستبيان، لتشمل عيّنة متعمّدة فيها تقريبًا كلّ ثانويّات الجنوب والنبطيّة وبعلبك الهرمل وجزءًا من ثانويّات البقاع الغربي والضاحية في الرسمي والخاص وهي المناطق الأكثر تضرّرًا من الحرب. ولم تكتفِ كرامي بذلك، بل خصّصت 24 ثانويّة من العيّنة السابقة للثانويّات في البلدات الحدوديّة التي لا تزال تعتمد التعليم عن بعد. ويمكن تلخيص الخطوات التي اتّخذتها كرامي لفهم واقع إنهاء المناهج واتخاذ القرارات المناسبة بناء على ذلك بالنقاط الآتية:
- استبيان أعدّه المركز التربوي للبحوث والإنماء طال عيّنة عشوائيّة تضمّنت 140 ثانويّة رسميّة وخاصّة في كلّ المناطق ومن ضمنها ثانويّات كانت مراكز إيواء خلال الحرب.
- استبيان طال عيّنة من 218 ثانويّة تشمل 100% من ثانويّات الجنوب والنبطيّة وبعلبك الهرمل الرسميّة والخاصّة، و28% من ثانويّات الضاحية الجنوبيّة لبيروت، وجزءًا من ثانويّات البقاع الغربي.
- إجراء المركز التربويّ لقاءات عبر تقنيّة زووم شملت أساتذة صفوف الشهادات الرسميّة في 24 ثانويّة خاصّة ورسميّة (6 ثانويّات خاصّة 18 رسميّة) خاصّ للمناطق الحدوديّة، لكلّ مادّة اجتماع خاصّ بها. وقد شارك في هذه الاجتماعات ما لا يقلّ 200 من الأساتذة. كان الهدف منها التحقّق من الحساب الذي أجراه المركز حول إمكانيّة إنجاز الموادّ حتّى 15 حزيران.
- تواصل مديريّة التعليم الثانوي مع مدراء كلّ ثانويّات الجنوب والنبطيّة بحضور ممثّلين عن الوزيرة شخصيًا لحثّ المدراء على متابعة تعبئة الأساتذة للاستبيان، وللتحقّق من المعلومات التي بيّنتها الاستبيانات المختلفة لاحقًا.
- تواصل المركز التربوي بشكل شخصي مع عدد من الأساتذة والمدراء خصوصًا في الضاحية الجنوبيّة بعد أن لاحظوا أنّ الإجابات أكّدت إنجاز المنهج في نهاية أيّار في عدد كبير من المواد، وقد أكدّت الاتصالات صحّة الداتا التي حصل عليها المركز التربويّ عبر الاستبيان.
- اتصال الوزيرة شخصيًا بمدراء 24 ثانويّة حدوديّة مثل الخيام، النبطيّة، مرجعيون… وبعض مدارس بيروت التي كانت مراكز إيواء مثل ثانويّات رياض الصلح وشكيب أرسلان.
نتائج دراسة العيّنات
طالت الاستبيانات كلّها والاجتماعات والاتصالات فروع الشهادة الرسميّة الأربعة وجميع موادّ التدريس فيها. وحدّدت المنجز من الدروس حتّى نهاية شهر آذار. وبناء عليه، قدّر المركز التربويّ الأسابيع التي تحتاجها كلّ مادّة لإنهاء المنهج المحدّد للعام الدراسيّ الجاري. ثمّ تواصل المركز التربويّ مع عدد من الأساتذة للتحقّق من تقديراتِه التي بنتْ على أساسها وزيرة التربية قراراتها.
في بعض المواد لم يكن هناك أيّ مشكلة، إذ أكّد الأساتذة قدرتهم على إنجاز المطلوب عند نهاية شهر أيّار.
بالمقابل، ظهرت بالنسبة إلى مواد أخرى فوارق كبيرة في إنجاز الدروس بين ثانويّة وأخرى. فإذا رأى المركز التربويّ أنّ أحد أساتذة الرياضيّات يحتاج على سبيل المثال إلى 3 أسابيع بعد 15 أيار، بينما غيره يحتاج إلى 4 أو 6 أو 9 أسابيع بعد ذلك. احتسب المركز التربويّ الحاجة الأعلى بين هؤلاء واقترح على أساسها حاجة المادّة إلى تقليص أو تكثيف. وفي بعض المواد أجمع الأساتذة الذين شاركوا في الاجتماعات على عدم إمكانيّة حصول أيّ تقليص جديد لأنّ المطلوب فيها يشمل فعليًا الأساسيّ فقط، ولا يمكن حذف أي جزء منه. كما تبيّن أنّ مدرسة أو مدرستين فقط متأخّرتان جدًا.
ويمكن تلخيص أهمّ نتائج جمع وتحليل الداتا بـ:
1-حول إمكانيّة إنجاز الدروس في المواد الـ 46 التي تُدرّس في الفروع الأربعة للبكالوريا اللبنانيّة (لأنّ على سبيل المثال مادّة اللغة العربيّة تحتسب 4 مرّات، مرّة في كلّ فرع من فروع الشهادة الرسميّة)، تبيّن ما يلي:
- 13 مادّة تعليميّة تحتاج لتكثيف العمل لإنهاء الدروس المطلوبة فيها للامتحانات الرسميّة من دون أي تقليص إضافيّ.
- 3 منها تحتاج إلى تقليص لأنّه لا يمكن إنهاء الدروس المطلوبة حتّى مع التمديد لـ 13 حزيران.
- 23 مادّة تُستكمل الدروس المطلوبة فيها قبل 13 حزيران.
- 7 موادّ تُستكمل الدروس المطلوبة فيها في نهاية أيار.
2-حاجة لتقليص 6 دروس في مادّة علوم الحياة لصفّ علوم الحياة. ودرس واحد في مادّة الاقتصاد لصفّ الاجتماع والاقتصاد. ودرس واحد في مادّة علم الاجتماع لصفّ الاجتماع والاقتصاد.
3-لا حاجة لأيّ تقليص في صفّ العلوم العامّة. ويمكن إنجاز الموادّ كلّها، لكن ثمة حاجة للتمديد لأسبوعين أو ثلاثة بعد 15 أيار، خصوصًا في مادّة الرياضيّات.
4-عدم إمكانيّة إنجاز مادّة الفلسفة، ولكنّ المادّة تتضمّن أساسًا أسئلة اختياريّة ما يحلّ المشكلة. بالإضافة إلى أنّ أساتذة المادّة أكّدوا أنّهم لا يتمكّنون من إنهاء مادّتهم حتّى في السنوات غير المتعثّرة.
5-حاجة لتكثيف الدروس في مادّة الرياضيّات لفروع علوم الحياة، والاجتماع والاقتصاد والإنسانيّات ليُستكمل كلّ المطلوب فيها حتّى 13 حزيران.
6-غالبيّة المدراء أكّدوا إمكانيّة إنجاز الموادّ كلّها حوالي منتصف حزيران.
ما الحلول والقرارات التي قدّمتها وزارة التربية؟
نشرت وزارة التربية بالتزامن مع المؤتمر الصحفي الذي عقدته الوزيرة بيانًا فصّل قرارات الوزارة. كما نشرت للمرّة الأولى مع البيان كلّ المعلومات المتعلّقة بتثقيل العلامات لكلّ مادّة ومدّة كلّ مسابقة. وأهمّ هذه القرارات:
- انطلاق الامتحانات الرسميّة عند نهاية الأسبوع الأوّل من شهر تمّوز.
- تقليص درس في كلّ من مادّة علم الاقتصاد لفرع الاجتماع والاقتصاد، ودرس من مادّة علم الاجتماع لفرع الاجتماع والاقتصاد، و6 دروس في مادّة علوم الحياة لصفّ علوم الحياة.
- تمديد العام الدراسيّ لصفوف الشهادات الرسميّة حتّى 13 حزيران.
- تكثيف التعليم خصوصًا في الـ 13 مادّة التي تبيّنت الحاجة فيها للتكثيف، وتوقّف التدريس لطلّاب الأوّل والثاني الثانوي في 2 حزيران، ما يسمح للأساتذة بالتركيز على صفوف الشهادة الثانويّة. كما سُمح للثانويّات الرسميّة أن تدرّس على مدى 5 أيّام، بدل 4 أيّام.
- اعتماد نتائج امتحانات الفصلين الأخيرين من دون إجراء امتحانات آخر السنة لصفوف الشهادات الرسميّة، إذا رأت إدارة المدرسة ذلك ضروريًا، ما يسمح باستمرار التدريس الفعليّ حتّى 13 حزيران.
أبرز المواقف المعترضة
تقول “لمى الطويل” رئيسة اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور أنّهم يتمسّكون بالشهادة الرسميّة، وتحسين مستواها، وهم يرفضون حصول تقليص جديد للمنهج لأنّه يزيد من تراجع مستوى الشهادة الرسميّة والتعليم في لبنان ولكن يفضّلون اعتماد المواد الاختياريّة كما حصل في شهادة العام الدراسي الماضي. لم تطّلع السيّدة لمى على تفاصيل دراسة الوزارة ونتائج الداتا لكنّها من حيث المبدأ تعتبر أنّ الأولاد لا زالوا يعيشون جوّ الحرب، لذلك لا بدّ من مراعاة هذا الواقع.
كما أصدرت نقابة المدارس التعليميّة الخاصّة في الأطراف بيانًا ردّت فيه على وزيرة التربية اعتبرت فيه أنّ قرارات وزارة التربية “استهداف واضح لطلاب المناطق المتضررة في الضاحية والبقاع والجنوب والشمال والإقليم واستمرار ممنهج لضرب هذه البيئة لحساب الجامعات الخاصّة، وإجهاز على ما تبقى من عدالة في التعليم”. وطالب البيان بوقف فوري لقرارات الوزيرة المتعلّقة بالتقليص والعودة للتشاور مع الأسرة التربويّة، واستعمل البيان جملتيْ تهديد بالمواجهة والتقاضي مثل “وإلا نحن مضطرون آسفين أن نخاطبكم مستخدمين كل الوسائل التي يسمح بها القانون”. لكنّ البيان لا يبيّن أي داتا تلتقي أو تتناقض مع ما نشرته وزارة التربية. وفي اتصال مع الأستاذ ربيع بزّي، رئيس نقابة المدارس التعليميّة الخاصّة في الأطراف، صرّح للمفكّرة القانونيّة أنّ النقابة التقت مدير عام وزارة التربية مؤخّرًا ونقلت له هواجسها، وسترفع الأسبوع القادم كتابًا رسميًا بمطالبها التي لخّصها بزّي بمطلب رئيسي وهو اعتماد أسئلة اختياريّة في جميع مسابقات الامتحانات الرسميّة.
لكنّ بزّي في الوقت نفسه ليس لديه دراسة خاصّة بنقابته حول المنجز من الدروس في المدارس المنضوية فيها، يقول “ما بقدر قول عنهم” ويقصد لا يستطيع أن يعطي رأيًا حول إمكانيّة إنجاز الثانويّات في نقابته للمنهاج. أمّا في المدرستين اللتين يديرهما شخصيًا، فيمكن أن ينجزا المطلوب منهما لكن في مهلة متأخرة أي في آخر حزيران، خصوصًا في فرعي الاجتماع والاقتصاد وعلوم الحياة. وعن تكثيف الدروس لتعويض المتعلّمين ما فاتهم صرّح بزّي أنّ مدرستيه تدرّسان 5 أيام أسبوعيًا، 7 حصص في اليوم، وقد علّمتا 3 أيام سبت إضافيين فقط، وخفّضتا أيام فرصة عيد الفطر من 5 المعتمدة عادة إلى 3 أيام فقط. ولكنّ التهديدات التي حصلت مجدّدًا في الضاحية الجنوبيّة خسّرتهم 3 أيام إضافيّة على الأقلّ.
فهل التعويض الذي اعتمده بزّي أو غيره من الثانويّات الخاصّة والرسميّة كاف؟ ألم يكن بالإمكان تكثيف التعويض أكثر من ذلك؟
وفي الواقع يطرح التكثيف إشكاليّتين، فمن جهة يحتاج إلى تأمين الكلف الماديّة لتغطية قيام الأساتذة بمهام إضافيّة، ومن جهة أخرى يشكّل ضغطًا عاليًا على المتعلّمين. ولم توضع آليات عمليّة لمعالجة هذه الإشكاليّات. ولكنّ هذا لا يبرّر رفض اعتماده من خلال تمديد العام الدراسيّ.
ومن المعلومات الإشكاليّة التي اعتمد عليها بزّي في بناء موقفه وخياراته هي أنّ الطلاب الذين لا يزالون يدرسون من بعد هم بين 3000 و4000، وقد عانوا صعوبات كبيرة بسبب ظروف الإيواء الصعبة، وسوء خدمات الانترنت. بينما تقول مصادر وزارة التربية أنّ هؤلاء لا يتخطّون اليوم 908 طلاب في لبنان كلّه من أصل 44 ألف تلميذ، وقد التحقوا جمعيًا في التعليم الحضوري منذ بداية شهر نيسان 2025.
معياران في التعامل مع الشهادة الرسميّة: القبول بالخسائر أو دعم الطلّاب لاكتساب المهارات المطلوبة؟
وفي الخلاصة، بالرغم من ظروف الحرب، هل يكمن حقّ الطلاب في اكتساب المهارات التي تعبّر عنها الشهادة الرسميّة؟ أو خفض مستوى الشهادة لينجح الطلّاب مهما كانت النتائج المباشرة وغير المباشرة لذلك؟
تمسّكت كرامي بمبدأ تعويض الخسائر وأصرّت على اعتماد معايير تربويّة وعلميّة. ومنها على سبيل المثال رفض المعيار الطائفي للتقليص في مادّة الفلسفة إذ طُرح تقليص الدرس ما قبل الأخير بدل الدرس الأخير، لأنّ الدرس الأخير يرتبط بالمسيحيّة لكنّ الوزيرة رفضت هذا المعيار وقالت: “مش عم نبيع بطاطا”. كما رفضت الوزيرة منطق “قلّصنا لكلّ الفروع ما عدا العلوم العامّة، فلماذا لا نساويهم بالباقين”، فإذا انتفت الحاجة في هذا الفرع وظهرت إمكانيّة إنجاز المطلوب، فلماذا نقلّص؟ حقّ الطلاب اكتساب المهارات ونيل شهادة تساوي قيمة ما اكتسبوه.
ولكن في المقابل، لم تبادر وزارة التربية إلى إطلاق برامج الدعم النفسي الاجتماعي ومبادرات تكثيف الدروس في مرحلة مبكرة، وإن وجب التذكير أن الوزيرة استلمتْ مهامّها بعد وقف إطلاق النار قبل فترة قصيرة من الامتحانات الرسميّة، وأنّ ميزانيّة وزارة التربية لم تكن تسمح بحريّة الحركة.
والمشكلة التي ورثتها كرامي من العهود السابقة تكمن في اعتماد التسهيل وتقليص المُقلّص والشعبويّة والرضوخ لمراكز القوّة في النظام طريقة واحدة لمعالجة الأزمات. لم يحصل سابقًا أبدًا أن اعتمد وزير تربية موقفًا صارمًا يصرّ على المعالجة الفعليّة واكتساب المطلوب من المهارات قبلها. والقبول بالتسهيل المتكرّر كرّس صورة عند الطلاب والرأي العام اللبناني “أنّ الأمور ستمشي في النهاية نحو التسهيل”. ويمكن ملاحظة نتائج هذا النهج في عمل الطلاب اليوميّ في المدارس والجهود المحدودة التي يبذلونها في الصفوف. جمل كثيرة سمعها الأساتذة من طلّابهم تكشف هذا التوجّه مثل “بالآخر برّي بيبعت وراها فبتغيّر قرارها وتتراجع”. أو “بالآخر رح ننجح كلّنا” حتّى بعض الأساتذة والمدراء بدأوا يكرّرون مثل هذه المواقف.
وفي مواقف الأساتذة والروابط تناقض أساسيّ إذ لماذا يُرفض تمديد العام الدراسيّ إذا كانوا يقرّون بخسارة الفصل الأوّل منه؟
كما أننا نتساءل لماذا لم تلجأ المدارس خصوصًا الخاصّة التي رفعت أقساطها حتّى خلال هذا العام الدراسيّ الصعب إلى تكثيف الدروس فورًا بعد وقف إطلاق النار؟
إنّ ظروف الإيواء كانت صعبة بالتأكيد، ومعالجة آثار العدوان لم تنطلق بجديّة بعد، والآثار النفسيّة التي يعيشها الأهل والطلاب معًا قاسية، واكتساب المهارات والمعارف في التعليم من بعد ضعيف. كلّ ذلك صحيح، ويستحقّ بالتأكيد الأخذ بعين الاعتبار ولكن كيف؟
أولًا إنّ الطلاب الذين كانوا يدرسون من بعد خلال العام الدراسيّ الحاليّ بعد وقف إطلاق النار، بحسب مصادر وزارة التربية هم 908 تلميذ فقط، وقد التحقوا جميعًا بالتعليم الحضوري منذ بداية شهر نيسان كما أشرنا سابقًا. إذ التحق أبناء القرى الحدوديّة حضوريًا في مدارس البلدات التي يعيشون فيها حاليًا بانتظار العودة إلى قراهم.
ومن جهة أخرى التقليص في بعض المواد، كما أفادنا الكثير من الأساتذة، كان على أساس 13 أسبوعًا فقط، وهو ما اعتُمِد سنة انتشار الوباء التي لم تفتح خلالها المدارس أبوابها تقريبًا، فهل يمكن النزول إلى أقلّ من ذلك؟
وأخيرًا يكمن التناقض الأساسيّ في المنطلقات التي نبني عليها موقفنا، يقول د. عدنان الأمين: “فهل نرضى بالخسائر التربويّة كما رضخ بعضنا للخسائر الاقتصاديّة والماليّة؟ فتصبح شهادة البكالوريا في لبنان مثل الليرة اللبنانيّة من دون قيمة فعليّة؟”
يجب أن يطالب التلاميذ باسترجاع حقوقهم أي بتحصيل رصيدهم المعرفي الذي ربما خسروه. الشهادة التي سيحصلون عليها ستؤثر على العمل والجامعة…إلخ. المنطق مقلوب لأسباب تعبويّة وسياسيّة، ومن يحرص على مصلحتهم، يجب أن يعترف بالخسارة ويقبل بتعويضها، وأعتقد أنّ التمديد أسبوعين أقلّ مما يجب .
إذ من الخطأ أن نكرّر الخسائر بالتقليص وتقليص التقليص واعتماد الاختياريّ. فما هو المنطق وراء ذلك؟ إذ . بهذه الطريقة تفقد الشهادة قيمتها، فيما أن حق الطلاب هو استعادة ما خسروه وليس زيادة الخسارة.
الشهادة رصيد يجدر الحفاظ على قيمته. وحين يقبل التلميذ والأستاذ، بخفض هذه القيمة عملا بمنطق لا بأس بذلك، سيجيب السوق: ليس لدى هذه الشهادة نفس القيمة ولا يمكنك أن تحصل على الوظائف أو لا يمكنك أن تتابع تعليمك الجامعي.
وبكلمة، إنّ من يدعو للتقليص لا يدعم مصلحة المتعلّمين ولا يحرص عليهم وخصوصا .
الذين خسروا كثيرًا خلال الحرب. المنهج أصلًا مقلّص، فكيف نستسهل مزيدا من التقليص وهو أمر لا يمكن فهمه إلا على أنه منطق شعبوي.
وكي نستعيد مقولة الأمين، مبدأ تعويض الخسائر، يجب أن يكون مبدأ ثابتًا. التعطيل أسبوعا يُعوَّض بأسبوع عمل إضافي. وتعطيل يوم يُعوَّض بيوم. لأنّ حقّ المتعلمين الحصول على هذا اليوم. أو بكلام أكثر وضوحًا، إذا جعلتك إسرائيل تخسر شهرًا أو أكثر فهل تقول: معليش بلاه؟؟ وهدمت منزلك هل تقول أيضًا معليش بلاه؟؟ هذا ليس منطقًا مقبولًا. هذه خسائر، والخسائر يجب أن تعوّض وهذا يسمى أيضا فعل مقاومة. فوبالطبع، قرار تعويض الخسائر مبني على الحاجات لا على المناطق ولا على النتائج. إذ أنّ المدارس التي تصرّح بأنّها لم تنهِ المنهج في أي مادّة من المواد، يعوّض لها النقص بأيّام عمل إضافية أو دروس إضافيّة…. أينما كانوا في عكار أو البقاع أو الضاحية… وذلك بناء على داتا من جهات رسميّة هم المدراء والأساتذة وليس الطلاب، هؤلاء حقّهم أن يحصلوا على التعويض اللازم أينما كانوا”.
وتبيّن الدراسات التي أجريت على التعليم في البلدان التي تعاني من أزمات ممتدّة صوابيّة وأهميّة منطق تعويض الخسائر. لأنّ التخلّي عن التعويض يحوّل التراجع وتدنّي المستوى إلى حلقة مفرغة، فتتراجع أيام التعليم بفعل الأزمات المتكرّرة ما يجرّ تراجعًا في المستوى يزداد سوءًا عامًا بعد عام. وقد بيّنت دراسة أجراها المركز اللبناني للدراسات أنّ الخسارة المتكرّرة في أيّام التعليم خفّضت مستوى الاستعداد للمشاركة في الشهادة “وعلاوة على ذلك، كشف مسحنا للتلاميذ والتلميذات في الصفّ الثاني عشر الذي أُجريَ في شهر أيار/مايو 2024 أنّ 27% فقط من التلاميذ والتلميذات في المدارس الخاصّة و17% من التلاميذ والتلميذات في المدارس الرسميّة كانوا على استعداد لإجراء الامتحانات الرسميّة. كان السبب الرئيسي وراء هذا المستوى المنخفض من الاستعداد هو تراكم الفقدان التعلّيمي الناتج من تفويت التلاميذ والتلميذات في المدارس الخاصّة 765 يومًا دراسيًا منذ العام 2016 حتّى 2022 (نعمة، 2023). وتشمل العوامل التي أدّت إلى تفويت هذه الأيّام الدراسيّة عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي والإضرابات المتكرّرة..”[1]
ويضيف المرجع نفسه “…انخفضت نسبة التلاميذ والتلميذات في الصفّ الثاني عشر الذين يعتقدون أنّ المعرفة والمهارات التي اكتسبوها خلال السنوات الثلاث الماضية كافية لمواصلة رحلتهم التعليميّة من 21% في العام الماضي سنة 2023 إلى 19% هذا العام سنة 2024 (11% من المدارس الرسميّة، و26% من المدارس الخاصّة) (حمود وشعيب، 2024). ويعكس هذا الانخفاض تراكمًا في فقدان التعلّم وانخفاض فعاليّة نظام التعليم الحالي في إعداد التلاميذ والتلميذات للمراحل التعليميّة المستقبليّة”
[1] https://lebanesestudies.com/wp-content/uploads/2024/12/ARB_Education%E2%80%AFUnder-Fire_v2.pdf