“أكثر من مليون سنة” بانتظار الأجوبة، هو رقم رمزي لمجموع سنوات اختفاء ضحايا الاختفاء القسري في الشرق الأوسط. هذا الرقم الذي أعلنت عنه منظمة العفو الدولية أمس الأربعاء في 30 آب 2023 خلال فعالية نظّمتها في بيروت بحضور ممثلين عن أُسر أشخاص مخفيين قسرًا في سوريا، والعراق، ولبنان، واليمن، جاء نتيجة ضرب الأعداد التقديرية للمفقودين في هذه الدول حسب تقديرات منظمات المجتمع المدني وهيئات الأمم المتحدة بمجموعأعداد سنوات اختفاء كل منهم وهو “مدّة زمنيّة موجعة جدًا”، بتعبير المنظمة. هذا مع العلم أنّه في العراق وحده يقدّر عدد المفقودين بما بين 250 ألف ومليون مفقود منذ 1968، وفي سوريا يُحكى عن الآلاف بينما في اليمن فالرقم أعلى بكثير من 1500 شخص مخفي منذ 2015 وفي لبنان يقدّر عدد المخفيين بأكثر من 17 ألفًا، ما يعني أنّ رقم مليون عام من الانتظار قد لا يعبّر حقيقة عن حجم المأساة.
وقادت الفعالية أمس أربع سيدات من سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان جلسن أمام الحاضرين كلٌّ تخاطب نيابة عن آلاف المفقودين في بلدها، وتحاول حل ألغاز هذا الملف الشائك الذي تتجنّب معظم الدول العربية الخوض فيه. وآخر الأدلة على ذلك امتناع معظم الدول العربية ومن بينها لبنان في حزيران 2023 عن التصويت لصالح قرار إنشاء مؤسسة مستقلة تحت رعاية الأمم المتحدة معنيّة بالمفقودين والمخفيين قسرًا في سوريا.
في لبنان السلم الوهمي
“أنا وداد حلواني، زوجة مفقود”. هكذا بدأت رئيسة لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين في لبنان كلمتها هي التي اعتلت مئات المنابر على مدى 41 عامًا لتحكي قصتها وقصة أهالي المخطوفين. هذه المرّة خاطبت حلواني حشدًا من أهالي المفقودين من دول اليمن والعراق وسوريا، أخبرتهم عن تجربتها التي بدأت قبل 41 عامًا مع مجموعة من النساء اللواتي فقدن ولدًا أو أخًا أو زوجًا. شرحت حلواني أنّ “ما نحن فيه ليس بسلم كما قيل لنا في العام 1990 حين انتهى الاقتتال اللبناني الداخلي”، وروت السنوات الثمانية الأولى من حراك الأهالي الذي بدأ العام 1982، “الجزء الأول من حراكنا كان ضمن الحرب، وكان شعار مسارنا حينها “الكشف عن مصير المفقودين”، تغيّر هذا الشعار ما بعد العام 1990 إثر صدور قانون العفو العام الذي عفا عن مجرمي الحرب، فبات شعارنا “من حقنا نعرف”.
مرّت حلواني على مسار النضال الذي تخلّله الكثير من الأفخاح والتحديّات والترهيب والترغيب. قالت “عملنا خلال مسارنا على توعية العائلات على حقوقهم، تظاهرنا وطُحنا على الأرض”. وأضافت: “مع السنوات تمكنّا من إشراك المجتمع المدني في حراكنا كما أشركنا أشخاصًا من خارج دائرة أهالي المفقودين والمخفيين قسرًا. أطلقنا عشرات الحملات وأشركنا الإعلام مع القضية وكنّا في كل تحرّك نقترب أكثر فأكثر من تحقيق أهدافنا”. وخطت لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين التي أسستها حلواني مع مجموعة من السيدات، أولى الخطوات نحو تحقيق الهدف المنشود في العام 2018، “حين انتزعنا اعتراف السلطات الرسمية في لبنان حق أهالي المفقودين بالكشف عن مصير أبنائهم من خلال إقرار قانون المفقودين والمخفيين قسرًا رقم 105، 30 تشرين الثاني 2018”. وبموجب هذا القانون صدر أول مرسوم يقضي بتشكيل هيئة وطنية مستقلة مهمتها إجراء كل ما يلزم للكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسرًا.
أنشئت الهيئة قبل ثلاثة أعوام ولمتحظبأيمنالأدوات لتتمكّن من تحقيق أهدافها، لا سيما الإمكانيات اللوجستية والتقنية والمالية. سردت حلواني قصّة أحد أبرز الأفخاح التي صنعتها السلطات السياسية لعرقلة هذه القضية، بالعودة إلى العام 2000 حين شكّلت الحكومة برئاسة سليم الحص لجنةتحقيقرسمية للاستقصاء عن مصير جميع المخطوفين والمفقودين خلال الحرب. وقدمت تلك اللجنة تقريرها بعد ستّة أشهر من استلامها المهام وتمنّعت طيلة 14 عامًا عن تسليم الأهالي مضمون التقرير ممّا دفعهم إلى رفع دعوى لدى مجلس شورى الدولة الذي أصدر قرارًامنصفًاكرّسحقذويالمفقودينبالاستحصال على النسخة الكاملة لملف التحقيقات. وبصوت حاد ذكّرت حلواني بتلك الفضيحة التي بيّنت بعد استلام التقرير أنّه “طلع ما في تقرير” ملمحةً إلى فراغ التقرير المذكور من أي معلومات هامّة سوى تلكّؤ السلطات عن الاعتراف بالقضية وإهمالها كليًّا. وأضافت أنّ جميع الاستمارات التي تقدمنا بها كأهالي عام 2000 لم يشملها التقرير “مش ضاربين فيها ولا ضربة” وذلك تحت شعار التخويف والترهيب من حصول انتقامات في حال نبش الماضي. وأكدّت حلواني أنّ تلك التجربة دفعت نحو عمل الأهالي على وضع مقترح قانون للكشف عن المخفيين والمفقودين.
ويُقدّر العدد الرسمي للأفراد الذين اختُطفوا أو فُقدوا نتيجة للحرب الأهلية في لبنان بين عامي 1975 و1990 بحوالي 17 ألف و415 مفقود.
في سوريا لا تسأل الأمهات عن مفقوديهنّ خشية تعذيبهم
“أنا زوجة المفقود عبد العزيز الخير ووالدة المفقود ماهر”، هكذا بدأت فدوى محمود إحدى مؤسِّسات حركةعائلاتمنأجلالحرية تسرد مسارًا شائكًا ومتعثّرًا للكشف عن مصير المفقودين والمخفيين في سوريا.
بمجرّد الاستماع إلى قصّة هذه المرأة المناضلة تبرز تساؤلات كثيرة عن كمّ الظلم الذي يمكن لنظام أن يرتكبه بحق شعبه، ففي البداية سردت فدوى محمود كيف اعتقلت في سجون النظام السوري في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد. “من اعتقلني هو أخي، الذي كان رئيسًا لفرع التحقيق في تلك الفترة. بقيت عامين في الأسر عند أخي، لهذه الدرجة وصل النظام للأسف، إذ تمكّن من التفريق بين أفراد العائلة الواحدة”. وتابعت “حين خرجت من السجن سألني ولداي لماذا تركتِنا ونحن بحاجتك، أجبتهما، ما أقوم به هو لتأتي أيّام لكم تعيشون فيها في زمن خالٍ من الاعتقال والتعذيب، ولكن للأسف اليوم أولادنا مخفيون ومعتقلون ولا نعرف عنهم شيئًا”.
وكانت ثورة 2011 في سوريا الحلم الذي انتظرته فدوى، إنّما “الثمن الذي دفعناه كأمهات وأخوات كان غاليًا جدًآ”. عام كان قد مرّ على اندلاع الثورة حين أُخفي زوجها عبد العزيز القادم من الصين آنذاك وكان ابنها ماهر في المطار ينتظره ليوصله إلى البيت. لحظة اختفاء ابنها وزوجها كانت بداية مصيرها بأن تُكرّس حياتها لهذه القضية. روت محمود تأسيس حركة عائلاتمنأجلالحريّة، “كنّا في العام 2016 في البداية 5 سيدات، وصلنا اليوم إلى 250 عائلة، تجلّت أولى تحركاتنا بتسليم مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا ستيفان دي مستورا نسختين عن بيان وطلبنا منه تسليم واحد للنظام وآخر للمعارضة في مؤتمر جنيف”. وغاصت محمود عميقًا في مأساة الإخفاء القسري في سوريا برواية التحديّات التي واجهتهنّ كنساء يبحثن عن ذويهنّ. وقالت: “كنّا نخشى أن نذهب إلى السجن للسؤال عن ابننا خشية أن يتم الانتقام منه بتعذيبه”.
وتمكّنت حركة عائلات من أجل الحرية من نشر الوعي بين أوساط السوريين المنتشرين في جميع أنحاء العالم، “نظمنا رحلة باص الحرية التي بدأت من لندن إلى فرنسا وبرلين وبروكسل، علّقنا عليه صور المعتقلين وكان الشعار “الحرية للمعتقلين”. وشرحت محمود أنّ أهم إنجازات هذا الحراك هو انتزاع قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 29 حزيران 2023، لصالح إنشاء مؤسسة دولية تختص بتوضيح مصير المفقودين والمختفين منذ اندلاع النزاع المسلح في سوريا وأماكن وجودهم.
وختمت فدوى محمود كلامها مشيرة إلى ضرورة أن يرأس هذه المؤسسة شخص قوي وقادر على مواجهة التحديات التي ستعترض طريقه، بخاصّة وأنّ النظام في سوريا لن يسمح بدخول هذه المؤسسة إلى البلد.
وأكدت منظمة العفو في بيان أمس أنّ “السلطات السورية منذ العام 2011 أخفت عشرات الآلاف من معارضيها الحقيقين أو المتصورين ومن ضمنهم نشطاء سياسيون، ومحتجون، ومدافعين عن حقوق الإنسان، وصحافيون، ومحامون، وأطباء، وعاملين في مجال المساعدات الإنسانية في أطار هجوم واسع النطاق وممنهج ضد السكان المدنيين يرقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية”. “وقد فُقد كذلك الآلاف عقب احتجازهم من جانب جماعات معارضة مسلحة وما يسمى بالدولة الإسلامية. ونظرًا إلى الدور الذي اضطلعت به الحكومة السورية بتنظيمها لحملة عمليات الاختفاء القسري، فقد ساد في سوريا مناخ إفلات تام من العقاب على هذه الجرائم.
في اليمن تتعرّض النساء للاعتقال في حال سفرهنّ وحدهنّ
في اليمن الذي يشهد نزاعًا منذ العام 2014، تناضل النساء وحدهنّ للكشف عن مصير أزواجهنّ وأولادهنّ المختطفين ويواجهن إضافة إلى التحديات ذاتها في سوريا ولبنان، تحديّات من نوع آخر. وأوضحت عضو رابطة أمهات المختطفين نجلاء فاضل إلى أنّ الجهات المتنازعة المتعددة في البلاد تجعل إيصال المطالب أمرًا في غاية الصعوبة، فهناك الحوثيين، والحكومة المعترف بها دوليًا، والأجهزة التابعة للمجلس الانتقالي، وجماعات أخرى متعددة. وأضافت فاضل أنّ الحراك النسوي يواجه قيودًا كثيرة، أهمّها أنّ النساء في اليمن ممنوعات من السفر وحدهنّ من دون محرم (رجل من الأقارب)، ويتطلّب عليهنّ إثبات قرابة الرجل عند نقاط التفتيش وإلّا يتعرضنّ للاعتقال. وشرحت أنّ “المعلومات التي نحصل عليها ليست واضحة، ونسمع أنّ جزء من المعتقلين هم خارج اليمن”. وتعمل “رابطةأمهاتالمختطفين“ على صعد عدة من بينها نشر الوعي وتثقيف النساء كما أنشأت صحيفة إلكترونية أسبوعية هدفها التعريف بقضية المختطفين والمخفيين قائلة: “من حقنا أن يكون ذوونا المختطفون حاضرين في أدبياتنا”. وشددت فاضل على “رفض الأهالي لأي قانون عفو عام يطمر الجرح ليتعفن، بل يجب تنظيف الجرح عبر كشف المصير والمحاسبة والتعويض وتقديم الضمانات لعدم تكرار هذه الانتهاكات”.
وبحسب بيان منظمة العفو الدولية أمس “وثّقت منظمات حقوق الإنسان في اليمن 1,547 حالة لأشخاص مخفيين ومفقودين منذ عام 2015. ولا يزال كافة أطراف النزاع – ومن ضمنهم سلطات الأمر الواقع الحوثية، وقوات الحكومة المعترف بها دوليًا – يرتكبون هذه الجرائم مع إفلات من العقاب في وقت تحوّل فيه انتباه العالم إلى مكان آخر. ومنذ أن صوّت مجلس حقوق الإنسان عام 2021 على إنهاء تفويض فريق الخبراء البارزين – في أعقاب ضغط شديد مارسته السعودية – جُمدت جهود مساءلة جميع أولئك الذين يُشتبه في مسؤوليتهم الجنائية في محاكمات عادلة وإحقاق حقوق الضحايا في الحصول على تعويضات”.
في العراق بقي في الصقلاوية نساء فقط
منذ العام 2006 ووداد حمادي من العراق تبحث عن معلومة عن ابنها وسام الذي اختفى وهو في عمر الثمانية والعشرين. تحدثت إلى “المفكرة القانونية” عن ظروف قضية المخفيين قسرًا في العراق ومسار حراك الأهالي قائلة: “حين بدأت التظاهرات في العراق في العام 2011 كنت أفرّغ غضبي في الشارع، لم أكن أعرف شيئًا عن حقوق الانسان، إلى أن تعرّفت على مجموعة متطوّعين في العمل الإغاثي في عام 2017”. وتابعت: “خلال تحرير المناطق من داعش، انضمّيت إلى العمل الإغاثي مع مؤسسةالحقلحقوقالإنسان ومن هناك بدأنا نبحث في إيجاد السبيل إلى كشف مصير المفقودين”. وتُضيف: “كانت محافظة الأنبار الدافع الأكبر لبدء هذا الحراك حيث أُخفي منها العدد الأكبر من المخفيين، في مدينة الصقلاوية يوجد نحو 800 مختفٍ منذ العام 2017 وجميعهم رجال حتّى باتت البلدة اليوم تعيش فيها النساء وحدهنّ مع أولادهنّ”. تشرح حمادي أنّ “إمكانية الوصول للمعلومات في العراق أشبه بالمستحيلة فمن يحكم البلاد هم فعليًا الميليشيات، لذا عملنا على محاولة كسب أصدقاء لنا من بينهم سياسيين وأساتذة جامعيين وناشطين لتوسيع دائرة القضية”.
وبحسب منظمة العفو الدولية تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أنّه يوجد ما بين 250,000 ومليون شخص مفقود منذ عام 1968 في العراق ما يجعله واحدًا من البلدان ذات أكبر عدد من حالات الاختفاء في العالم. وما زالت ميليشيات تابعة للحكومة ترتكب عمليات إخفاء حتى يومنا هذا.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.