قليلة هي المفردات التي تضاهي في التباسها وفي درجة التنازع حول معانيها مفرديْ اليسار والحرّية. لن نغامر بتعريفهما، فذلك سيزيد المسألة تعقيدا. نكتفي فقط بالقول أنّ اليسار الذي يهمّنا هو بالأخصّ اليسار التنظيمي/السياسي، وليس اليسار الحقوقي أو الثقافي أو النقابي، على الرغم من صعوبة فصل بعضهم عن بعض. وضمن هذا اليسار، أو الأصحّ هذه “اليسارات”، لن يمنعَنا التركيزُ على الروافد “الراديكاليّة” لليسار (وهو تصنيف نسبي) من التطرّق إلى روافد أخرى كثيرا ما يُشكّك في يساريّتها، ولا تخلو علاقتها بالحرّية، هي الأخرى، من التباسات. أمّا الحرّية، تلك “الزهرة الناريّة” و”الطفلة الوحشيّة” كما تغنّت بها فيروز، فلا تقلّ تنوّعا ومنازعة ولا ترضى هي الأخرى بسجن التعريفات. فلئن كانت معانيها وتمثلاتها في حدّ ذاتها رهانًا أساسيّا للصراع، إلا أنّ ذلك لا يمنع من الانطلاق من معناها الحقوقي، أي ذلك الذي تشكّل تدريجيّا وتاريخيّا في منظومة حقوق الإنسان، التي يُصوّّر ماركس كأحد أشدّ منتقديها[1]. هذه الحقوق تحوّلت، بغضّ النظر عن مدى فاعليّتها على أرض الواقع، إلى معيار المشروعيّة السياسيّة ومعجما للنضالات والمطالب على اختلافها وتنوعها، والقيمة العليا التي تَمتحن وتسائِل كلّ الأيديولوجيات والمواقف.
لم يكن اختيار العنوان اعتباطيّا. فهو استعارة لعنوان كتاب محمّد الشرفي: “الإسلام والحرّية، الالتباس التاريخي”. رمزيّة هذه الاستعارة مضاعفة في علاقة بالكتاب وكاتبه. فما يعقّد علاقة الماركسيّة بالحرّية هو أنّ الأولى تبدو لجزء كبير من مريديها كأورثودوكسية صالحة لكلّ زمان ومكان، معزولة عن سياقها التاريخي، شاملة وكافية بذاتها للإجابة عن كلّ الأسئلة. يكفي الاستشهاد بمقولة ما لحسم النقاش وإخراج المختلف من الملّة. أمّا محمّد الشرفي، فقد كان أحد مؤسسي حركة “برسبكتيف” في الستينات وثاني الرؤساء الذين تداولوا على رئاسة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، قبل أن يُصبح وزيرَ التعليم الذي سعى لتحديث المناهج التعليميّة ومطابقتها مع حقوق الإنسان في السنوات الأولى لنظام بن علي التسلّطي. بذلك، لا يرمز الشرفي فقط لليسار الحقوقي، ولا لاختلافات وتناقضات اليساريّين في علاقتهم بالسلطة وبالحريّات، وإنّما يحيلنا أيضا عبر كتابه القيّم ومسيرته إلى إحدى مفارقات النخب اليساريّة في علاقتها بالحرّيات: أنّ تفكيرها فيها تركّز منذ الثمانينات على الظاهرة الإسلاميّة ومرجعياتها. إذ يكفي الرجوع إلى أعداد مجلّة “أطروحات”، وهي من أبرز المحاولات الفكرّية لليسار التونسي والتي تزامن صدورها مع صعود الإسلام السياسي، كي ندرك أزمة يسارٍ فكّر في خصمه أكثر مما فكّر في نفسه.
ليس هذا المقال محاكمة لمواقف اليسار ولا لإرثه الفكري، وإنّما محاولة فهم ومصارحة تبحث عن التناقضات وجذورها النظريّة وسياقاتها التاريخيّة، وتتفادى الأحكام الإطلاقيّة والتفسيرات السّهلة، علّنا نساهم ولو قليلا في تشخيص أفضل للمرض. فإذا كان جلد الذات غير مفيد، فإنّ النظر في المرآة ومجابهة النفس شرط ضروري للنهوض. الكثير من اليسارات في العالم، الحاملة للإرث الفكري ذاته، قامت ولا تزال بهذا المجهود، في الوقت الذي أضاعت فيه يساراتنا الفرصة تلو الأخرى. إشكال الحرّية يختزل أزمة يسار لم يفكّر في نفسه، وظلّ سجين تاريخه، فمرَّ بجانب التاريخ. لا يعني ذلك أنّ حال بقيّة المدارس السياسيّة في تونس أفضل، أو أنّها استطاعت أن تكون في مستوى اللحظة التاريخية التي مثّلتها الثورة. ولكنّ التركيز على اليسار هو بقدر الدور الذي ننتظره منه والآمال التي نعلّقها عليه.
ماركسوالجذورالنظريّةللالتباس
قبل البحث في الممارسة، بدا من الضروري أن نتطرّق للمشكل النظري، إذ أنّ جانبا مهمّا من الالتباس ليس حكرا على اليسار التونسي، وإنّما هو إرث مشترك للماركسيّة-اللينينيّة. لا يعني ذلك أبدًا تحميل النظريّة مسؤوليّة الممارسات الشنيعة للأنظمة التي ادّعت تطبيق الماركسية. ولا نجد للاستدلال على ذلك أفضل من حنّة أرندت، التي شرّحت الأنظمة الكليانيّة وجذورها، حين اعتبرت أنّ الخطّ الذي يذهب من أرسطو إلى ماركس، مرورا بكلّ التقليد الفلسفي الغربي، أوضح بكثير وأقلّ تقطّعا من الخطّ الذي يربطه بستالين[2].
نكاد لا نحصي ما كُتب حول علاقة الماركسيّة بالحرّية وحقوق الإنسان، ولا بصفة عامّة، محاولات تجديدها ومكافحتها بالقضايا الراهنة. هنا أيضا، قد تبدو المماثلة مع الدين مغرية، حيث نجد من يعتمد منهجا توفيقيّا concordisme يتعسّف على النصّ ليحمّله ما لا يحتمل، ومن يسعى إلى تبرئة ماركس من الماركسيّة كما يبرّؤ النصّ المقدّس من فقه مؤوّليه، وأحيانا إلى تحميل الأوزار إلى أشخاص آخرين (انجلز ولينين على سبيل المثال)، ومن يعيد اكتشاف ماركس الشابّ كبديل عن ماركس الشيخ، ومن يلجأ إلى نصوص بعينها يفترض فيها أن تعبّر على “المشروع الجوهري” لماركس و”ماهيّة فكره” ويُقصي أخرى باعتبارها أيديولوجية أو “سياسيّة”[3]. ربما تكون “الحيلة في ترك الحيل”، أي في اعتبار كلّ النصوص مفيدة، بما فيها تلك التي ارتبطت مباشرة بالأحداث التاريخيّة التي عَلّقت عليها، وفي وضعها جميعا في سياقها التاريخي، بما فيها النصوص الأكثر “نظرّية”.
قبل أن نأتي على النقد الماركسي المباشر لحقوق الإنسان، يجدر أن نتوقف عند التباس أوّل محوره الفرد. فإذا كانت حقوق الإنسان قائمة على فلسفة فردانيّة، حيث يستمدّ كلّ فرد حقوقه مباشرة من طبيعته الإنسانيّة، كثيرا ما تُصوّر الماركسيّة بوصفها عدوّة للفرد، الذي تختزله في العلاقات الاجتماعيّة المحدّدة له. انتفَضَ الكثير من المفكّرين، مثل لوسيان سيف، ضدّ هذا “الكاريكاتير” الذي لم تغذّه فقط البروباغندا الرأسماليّة، بل على الأخصّ ممارسات الأنظمة التي ادّعت تحقيق الاشتراكيّة. ويعتبرون أنّ ماركس لم يقرّ، على عكس التأويل السطحي السائد، بأولوية الاجتماعي على الفرد، وإنّما انطلقت فلسفته من الفرد في وجوده الواقعي، وسعت لوضع قاعدة نظريّة لفهم المجتمع والفرد معا[4]. بل أنّ خاصّية ماركس، على حدّ تعبير أستاذ الفلسفة التونسي حميّد بن عزيزة، هي “الانشغال بتوفير شروط الانشراح الحرّ والأصيل للفرد”. يستشهد إريك فروم في هذا السياق بماركس نفسه، حين اعتبر أنّ الإنسان لا يكون مستقلا إلاّ إذا “أكّد فرديته كإنسان كلي في كلّ علاقاته بالعالم، الرؤية، السمع، الشمّ، التذوق، الشعور، التفكير، الإرادة، الحب- باختصار إذا أكّد وعبّر على كلّ أدوات فرديّته”. أي، كما يقول فروم، حين “لا يكون فقط متحرّرا من free from، وإنما أيضا حرّا في free to”.[5] فاشتراكيّة ماركس هي قبل كلّ شيء “احتجاج على اغتراب الإنسان” على ذاته[6]، الذي يبلغ ذروته في علاقات الإنتاج الرأسماليّة، حيث تتحكّم في العامل السلعةُ التي ينتجها. ولكن هل يكفي التذكير بأنّ اشتراكيّة ماركس تهدف بالأساس إلى انعتاق الإنسان لمصالحتها مع الحرّية؟
يُحيلنا هذا السؤال إلى الالتباس الثاني، وهو ذو طابع “أخلاقي”، فخاصّية الحرّية كحقّ، على الأقلّ نظريا، هي في أنّها تعلو على حسابات الربح والخسارة والفائدة والمضرّة، فهي تعلُو ولا يُعلَى عليها. هي ترجمة للأمر القطعي الكانطي، في أن يعامل الإنسان دائما كغاية وليس كوسيلة. يرى غي هارشيير، في كتابه “فلسفة حقوق الإنسان”، أنّ المادّية التاريخيّة الماركسية التي ترى الانعتاق كمرحلة نهائيّة تستوجب المرور عبر علاقات الإنتاج الرأسمالية إلى غاية تحوّلها إلى عوائق أمام نموّ قوى الإنتاج، تؤدي إلى تبرير نقض الحرّية الآن وهنا باسم حرّية مستقبليّة ستأتي. فهي تسقط في “تتفيه للشر”، كي نستعير عبارة حنّة أرندت، عبر نظرية للتاريخ. فالمنهج الديالكتيكي الذي يَرى في القمع طريق الحرّية، يتحوّل بسهولة إلى منطق “تضحوي”[7]، وهو ما يفسّر على سبيل المثال آراء ماركس الملتبسة بخصوص الاستعمار مثلا واعتقاده في فضيلة حضاريّة للرأسماليّة[8]. يستعمل ستيفن لوكس أيضا الحجّة الأخلاقيّة في مقال بعنوان: “هل يمكن لماركسيّ أن يعتقد في حقوق الإنسان؟” ليجيب بالنفي، حيث يستنتج بشيء من السطحيّة، من الموقف الماركسي من الأخلاق كبنية فوقيّة ذات مضمون طبقي، أنّ اليساريّين يُخضعون مواقفهم من المسائل المتعلّقة بالحرّية للتكتيكات على حساب المبادئ[9]. أمّا ليوبولد، فيرى على العكس أنّ كتابات ماركس الشابّ ضدّ تشيّؤ الإنسان، دليل على إيمانه بـ”مقام أخلاقي للأفراد”[10]، بل ويستدلّ بجملة من الحجج لإثبات تبنّيه للأمر القطعي الكانطي[11]، وتاليا لفكرة حقوق الأفراد.
يبقى أنّ ماركس عبّر مباشرة في أكثر من موضع عن موقف نقدي من حقوق الإنسان. ويقدّم هذا الموقف كـ”مذهب نهائي”[12] صِيغَ في مقال “المسألة اليهوديّة”، ثمّ تأكّد فيما بعد في نصوص لاحقة. وفق هذا المذهب، فإن حقوق الإنسان هي حقوق عضو المجتمع البورجوازي، أي الإنسان الأناني، وهي “أيديولوجيا” في خدمة الهيمنة الطبقيّة، وتعبير على حالة الاغتراب التي يعيشها المجتمع، بين “الإنسان” و “المواطن”[13]. من حيث السياق، كان نصّ ماركس انتقادا مباشرا لكتابات برينو باور الذي اعتبر أنّ التحرّر السياسي لليهود الألمان مشروط بأن يتحرّروا من جوهرهم اليهودي الذي يميّزهم عن البقيّة، ليجيبه ماركس بأنّ الإشكال الحقيقي هو “عن أيّ تحرّر نتحدّث؟”، حيث يجب التمييز بين التحرّر السياسي والتحرّر الإنساني[14]. فحريّة المعتقد لا تعني تحرّر الإنسان من “الاغتراب الديني”، تماما كما لا يعني تعميق حقّ الاقتراع على غير المالكين إلغاء الملكيّة الخاصّة في الحياة الاجتماعيّة. فالمساواة السياسيّة في السياسة لا تُلغي أبدا واقع اللامساواة الاجتماعيّة. ولئن كان هدف ماركس هنا تبيان حدود التحرّر السياسي، إلاّ أنّ ذلك لم يمنعه من اعتباره “تقدّما عظيما”، وأنّه وإن لم يكن “آخر شكل للتحرر البشري” فهو آخر شكل ضمن “أطر النظام الاجتماعي الحالي”[15]. يُعلّق ماركس في “المسألة اليهوديّة” على إعلانات حقوق الإنسان والمواطن المتعاقبة في فرنسا نهاية القرن 18، ليستنتج ليس فقط التمييز بين “حقوق الإنسان”، أي حقوق الفرد المنعزل والمنطوي على ذاته و”حقوق المواطن” وإنما أيضا خضوع الثانية للأولى، حيث أنّ غاية الحكومة هي “ضمان الحقوق الطبيعية للإنسان”. المواطن هو إذن في خدمة الإنسان الأناني. فالحرّية حين تعرّف بالحقّ في القيام بكلّ ما لا يضرّ الآخرين، ويكون للقانون ضبط هذه الحدود، تصبح أشبه بالوتد الذي يحدّ بين حقلين[16]. هي حريّة سلبيّة لا ترى الآخر إلا كتهديد لها. لذلك يصبح “التطبيق العملي لحقّ الحريّة هو الملكيّة الفرديّة”[17] التي تشكّل أساس المجتمع البرجوازي. بهذا المعنى، فإن حقوق الإنسان لا ترسي سيادة الإنسان وإنما “سيادة الملكيّة الخاصّة”[18]، بل أنّ مجال تبادل السلع، وعلى رأسها بيع وشراء قوّة العمل، سيصبح في الكتاب الأوّل من “رأس المال”، “جنّة حقوق الإنسان المكتسبة بالولادة”، حيث تَسود في العمليّة التعاقديّة قيم الحرية والمساواة والملكيّة في معانيها المجرّدة، في حين أنّها في الواقع الملموس لامساواة واستبداد.
فصلالملكيّةعنالحرّية؟
يبقى أنّ نصّ “المسألة اليهوديّة” مفتوح على أكثر من تأويل، بين “قراءة دغمائية توظف لصالح أعداء الحرية والديمقراطية” وأخرى تنتقد حدود الديمقراطية السياسية وتدعو إلى تجذيرها في ديمقراطية حقيقية تُدمج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية[19]. يلاحظ برنارد بورجوا أنّ النقد الذي ساقه ماركس لم يتأسّس على قراءة مباشرة لمضمون إعلانات الحقوق وإنما على تأويل متوسّط médiatisé لوظيفتها التاريخيّة[20]، فقد كانت إعلانات الحقوق الأساس الإيديولوجي لنظام يناقضها في الواقع. وهي بذلك تعطي مظهر الحرّية لواقع هو “أقصى العبوديّة واللاإنسانيّة”. فالكونيّة المعلنة للحقوق تحجب حقيقة أنّ من يتمتّع بها واقعيّا هو المستفيد من الملكيّة الخاصّة، أي الإنسان البورجوازي. لا ننسى أنّ نقد ماركس مرتبط مباشرة وصراحة بتحليل التاريخ المعاصر له، خصوصا الفرنسي. فهو “لم يستهدف حقوق الإنسان في حدّ ذاتها، وإنما نموذجا معيّنا للحياة السياسيّة يفرغ المواطنة من معناها”[21]. وهو لا ينفي التحرّر السياسي، ولكنّه يضع الإصبع على حدوده. فالتحرّر الإنساني الذي ينشده ماركس لا يتعارض مع التحرّر السياسي وإنما يُكمِله[22]. بل إنّ حريات الصحافة وتكوين الجمعيات والحقوق السياسيّة، جميعها مطالب تبنّاها ماركس أسوة بحقوق العمال. فحين يضع ماركس مقابل “الكاتالوج الطنّان” لحقوق الإنسان ميثاقَ تحديد ساعات العمل الذي يطالب به العمّال، فإن ذلك ليس إنكارا للحرّية وإنما تذكير بأهمّية أن تكون الحقوق ملموسة وواقعيّة للجميع.
وإذا كانت نضالات العمّال وتنظّمُهم وشبح الثورة الشيوعيّة الذي أرعب أوروبا قد عدّلوا موازين القوى وفرضوا شيئا فشيئا ظهور جيل ثان من حقوق الإنسان محوره الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعية، فإنّ ذلك أدّى في الوقت نفسه إلى تراجع مكانة الحقّ في الملكيّة الذي تقلّص مداه في الواقع تحت وطأة السياسات الاقتصاديّة والجبائيّة في القرن العشرين، قبل أن يعود ليسترجع تدريجيا مكانته مع النيولويبراليّة منذ السنوات الثمانين[23]. فالإقرار بأنّ إعلانات الحقوق قد تزامنت تاريخيّا مع صعود البورجوازية التي وظفتها لحماية مصالحها لا ينفي أنّها تطوّرت تاريخيا وأنّ مضمون الحقوق وطريقة التوفيق بينها تبقى محلّ صراع سياسي وفكري متواصل لم يكن دائما للبرجوازية الكلمة العليا فيه.
يرى هيشر أنّ سوء التفاهم الحاصل حول الحرّية سببه الأساسي الخلط بين نوعين من “الفردانيّة”، فهناك فردانيّة فلسفيّة أخلاقيّة ضروريّة للإقرار بحقوق الإنسان وحريّته، وهناك فردانيّة أخرى أيديولوجية، أنانيّة، مِلكويّة (propriétariste)، بورجوازية، هدفها حماية مصالح طبقيّة. التمييز بينهما ضروري لأيّ “مقاربة جدّية لمشكل حقوق الإنسان”[24]. فما يُعرف بالجيل الأول لحقوق الإنسان يضمّ في الوقت ذاته حريات ضروريّة وأصليّة، كحرية الفكر والتعبير والتنقل وحرمة الحياة الخاصّة والحقوق السياسيّة وكلّ ضمانات “الهابياس كوربيس” (ضدّ الإيقاف التعسّفي، الحق في محاكمة عادلة، الخ) وحقوقا ذات طابع طبقي، أي أساسا الحقّ في الملكيّة. وضعُها جميعا في نفس السلّة كبنية فوقيّة في خدمة الهيمنة الطبقيّة لا يؤدي فقط إلى التنكّر لحريات أساسيّة، وإنما إلى إضعاف النضال ضدّ قداسة الملكيّة الخاصّة التي تصطدم أمامها ليس فقط الحقوق الإجتماعيّة، وإنما أيضا الحقوق البيئيّة والثقافيّة.
فالتمييز بين حقوق المواطن وحقوق الإنسان ليس في حدّ ذاته خصوصية ماركسيّة، بل هو يكاد يتطابق مع تمييز بنجامين كونستانت بين حرّية القدامى وحرية الحديثين، وتمييز أشعيا برلين بين الحرّية الإيجابيّة والحرّية السلبيّة، وهو ما يقود في العادة إلى تفضيل الثانية على الأولى. ينطبق الأمر ذاته على الفصل بين حقوق الجيل الأوّل وحقوق الجيل الثاني، أو بين الحقوق كحريّات والحقوق كديْن، الذي يستغلّ في معظم الأحيان من هذا الجانب أو ذاك لمفاضلة إحداها على الأخرى، إمّا لتأجيل مطلب الحرّية باسم المسألة الاجتماعيّة أو للتقليل من إلزاميّة الحقوق الاجتماعيّة، بما أنّها تحتاج تدخّلا إيجابيا من الدولة وبالتالي إنفاقا عموميّا، مما يحطّ بالضرورة من إلزاميّتها. وهو أيضا تمييز مغلوط، ليس فقط لأنّ كلّ الحقوق تحتاج استثمارا وسياسات عموميّة[25] وأنّها بغضّ النظر عن أصلها الطبيعي تحتاج دائما إلى ترجمة سياسيّة ويبقى تكريسها والتوفيق بينها خاضعا للصراع السياسي[26]. ولكن بشكل أكثر جذريّة لأنّ جميع الحقوق يمكن أن ننظر إليها بوصفها أنواعا من الحرّية[27]، أو على الأقلّ شروط لتحقيقها. هكذا تفقد المقابلة بين المساواة والحرّية فاعليّتها وتواجه الحرّية الأنانيّة الانتقائيّة بالحرّية الاجتماعيّة للجميع. فمُصالحة اليسار مع الحرّية تمرّ ربما عبر إعادة تعريفها، على ضوء الإرث الفكري النقدي، لكي تكون أقرب ما يمكن للحرّية الحقيقيّة المنشودة. فالنقد الماركسي يمكن أن ينظر إليه كعامل إثراء وتجذير لحقوق الإنسان بدل أن يكون مناقضا لها، لأنه يضع خطاب الحقوق تحت اختبار الواقع الملموس للأفراد ويشدّد على أنّ الحرية ليست مبادئ مجرّدة وإنما مطالب فعليّة، وأنّ التحرّر هو مسار نضالي نعيشه فرديّا وجماعيّا لا تكفي النصوص القانونيّة لتحقيقه. لكنّ الوعي بحدود التحرّر السياسي لا ينفي ضرورة النضال من أجله، وأنّه وإن كان غير كاف فهو ضروري.
يسارالنشأةوقضيّة “الحرياتالديمقراطيّة” زمنالقمع
لم يعرف اليسار التونسي قبل 2011 مناخا من الحريّات والتنافس السياسي. كان القمع هو القاعدة رغم تفاوت درجاته ومروره بفترات “انفتاح” نسبي. فعلى الرغم من مشاركة الحزب الشيوعي التونسي، على عكس اليوسفيّين، في الانتخابات التأسيسيّة لسنة 1956، إلا أنّ نتائجها كانت محسومة بالنظر إلى نظام الاقتراع الأغلبي وتحالف الحزب الدستوري مع اتّحادي الشغالين والأعراف في “جبهة وطنيّة” حَصدت كلّ المقاعد. كانت دعائم الحكم الفردي التسلّطي[28] قد بدأت في الظهور على خلفيّة الصراع البورقيبي-اليوسفي، وتأكّدت شيئا فشيئا مع معاقبة البلديات القليلة التي صعد فيها شيوعيون أو مستقلون في انتخابات 1957، والمحاكمات السياسيّة التي طالت منافسين محتملين لبورقيبة كالطاهر بن عمار، والتضييق على الصحف المعارضة. ولم تشفع للحزب الشيوعي التونسي “مساندته النقديّة” لسياسة بن صالح منذ 1961، فدفع ثمن محاولة انقلابيّة فاشلة لم تكن له أيّ علاقة بها. انتقلت البلاد منذ 1963 رسميّا إلى نظام الحزب الواحد، فمُنعت الأحزاب والصحف المعارضة. ساهمت تجربة القمع في دفع الحزب الشيوعي إلى التمسّك بخطاب الحريات الديمقراطيّة، حتّى أصبحت منذ جوان 1975، أي أشهرا قليلة بعد تعديل الدستور لجعل بورقيبة رئيسا مدى الحياة، شعارا مركزيّا لديه بل محور الدعاية وقاعدة التحالفات[29].
أشهرا قليلة بعد الانتقال إلى نظام الحزب الواحد، وُلدت من رحم فرع باريس للاتحاد العامّ لطلبة تونس حركة برسبكتيف، أو تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي التي انبثقت عن تفرّعاتها معظم فصائل اليسار التونسي. أعلن البرسبكتيفيون منذ الأعداد الأولى لمجلّتهم “نضالهم ضدّ كلّ أشكال التأليه”، وطالبوا “بدمقرطة بلدنا وبإعادة الاعتبار لدستورنا وبجعل حرية الرأي والتعبير والصحافة والاجتماع أمرا واقعا”، واعتبروا ذلك ليس فقط واجبا مواطنيّا، وإنّما أيضا “أجلّ خدمة يقدمونها للقضيّة الاشتراكيّة”[30]. لكنّ الموقف تطوّر شيئا فشيئا، مع تحدّد الخطّ الأيديولوجي للمجموعة وصولا إلى تبني الماوية في 1967. فأصبحت الاشتراكيّة تمرّ عبر “تحطيم جهاز الدولة القائم” وتحتاج “حزبا ثورّيا” لا يمكن أن يكون إلا “ماركسيا-لينينيّا”[31]. لم يعد التجمّع حسب العدد 17 من مجلّة برسبكتيف تلك “المعارضة الديمقراطيّة”، فقد تحوّل إلى «معارضة ثوريّة” و”نواة لحزب بروليتاري” هدفه “دكتاتورية البروليتاريا و”شبه البروليتاريا”. تأكّد هذا التوجّه بعد إيقافات ومحاكمات 1968 وما تخلّلتها من ممارسات تعذيب وأحكام سجنيّة قاسية، إذ أُرجعت الأزمة في القراءة المهيمنة إلى عوامل تنظيميّة، وهي الأسلوب “الديمقراطوي” في أخذ القرار (التصويت) وعدم الاعتماد على السرّية، وإلى عوامل أيديولوجيّة وهي “الطابع الإصلاحي الليبرالي و”الثقافوي” لبرسبتكتيف النشأة[32]. صورةٌ تبناها بعد ذلك جيل المؤسسين في غالبيّته وأعاد بناء الذاكرة وفقها، مثلما بيّن ذلك هشام عبد الصمد[33]. هكذا اختُزلت “برسبكتيف الأمّ” في “تعبيرة ثقافيّة ذات أفق ديمقراطي” لشباب تائق لممارسة مواطنته، فقال “لا للتسلّط” ولا لتأليه الزعيم[34]. فقد كانوا على حدّ تعبير أحد رموزهم نور الدين بن خذر؛ “الأبناء غير الشرعيين لبورقيبة”[35]، الذين انخرطوا في عملّية التحديث المجتمعي التي أرساها وطالبوا معها بالتحديث السياسي[36]. لم يتوقّف يساريو الأمس (ولا حتى اليوم) كثيرا عند السؤال حول مدى احترام التحديث المجتمعي البورقيبي في حدّ ذاته للحرّية. فهل مشروعيّة هدف تحديد النسل مثلا تُجيز القبول بالتعقيم القسري للنساء الريفيّات؟ أم أنّ اليسار التونسي استبطن الفكرة القائلة بأنّ التحديث هو بطبعه مرادف للتحرّر وأنّه من الجائز قيادة الناس إلى جنّة الحرّية بالسلاسل؟
يبقى أنّ تطوّر الموقف من الحريات الديمقراطيّة لم يكن خطّيا ولم يمرّ من النقيض إلى النقيض,، فالتوجّه الراديكالي كان حاضرًا منذ السنوات الأولى وكان وفيّا لروح عصره. كما أنّ العناوين الأبرز لنضال البرسبكتيفيّين الأوائل كانت -بالإضافة إلى المسائل الطلابيّة/النقابيّة- المسائل الاقتصاديّة والاجتماعيّة وبالأخصّ معاداة الإمبرياليّة أكثر من المسألة الديمقراطيّة. وقد عادت هذه الأخيرة لتحتلّ حيّزا هامّا من النقاشات الداخليّة في بداية السبعينات في سياق سياسي عرف صعود شقّ ليبرالي داخل الحزب الدستوري قاده أحمد المستيري. شدّد جيلبار نقّّاش حينها في نصّ حول “الأهداف التكتيكيّة للحركة الثورية التونسيّة” على أهمّية النضال الديمقراطي ليس كبديل على الثورة، وإنما بوصفه “مدرسة الثورة بامتياز”، إذ يمكّن من توعية الجماهير ومن بناء تحالفات بين البروليتاريا وبقيّة الطبقات الشعبيّة[37]. وقد اعتبر النقّاش حينها أنّ هذا الموقف يقي البرستبكيفيّين من خطري “الإصلاحويّة” التي يمثّلها الحزب الشيوعي، و”اليسراويّة” التي تقلّل من أهمّية النضال الديمقراطي. كما برزَ موقف عبد الوهاب المجدوب الذي انطلق من اعتبار الديمقراطيّة ضروريّة سواء في نظام برجوازي أو بروليتاري، ليقترح شعارات عملّية للتعبئة ضدّ قانون 1959 المنظم للجمعيات، ونظام الحزب الواحد والقوائم الرسميّة والاجراءات الإدارية المقيّدة للحريات والمحاكم الاستثنائيّة والمحاكمات غير العادلة، ومع الانتخابات الحرّة وحريّات الاجتماع والصحافة والإضراب[38]. لكنّ القيادة في باريس لم تشاطر هذا التوجّه ورأت فيه ضربا من الانتهازيّة التي تتخلّى عن المهمّة الرئيسيّة، أي تنظيم البروليتاريا وتنمية وعيها السياسي الثوري[39]، لتسقط في المقاربة البرجوازيّة للديمقراطية، شبيهة بتلك التي يطالب بها المستيري.
لقد أخذ النقاش حول الحريات الديمقراطيّة بالأخصّ طابعا تكتيكيّا، ولم يكن معزولا عن الأسئلة الأخرى حول التحالفات الممكنة، وطبيعة الثورة (ما إذا كانت اشتراكيّة أم وطنية ديمقراطيّة) وبالأخصّ فكرة الانتقال من تكتيك الدعاية إلى التحريض، مما يعني تهميش النضال الديمقراطي داخل “الأطر الشرعيّة”. حُسِم الخيار في 1973 لصالح تكتيك التحريض في ظلّ تأكّد الانغلاق السياسي والطابع البوليسي للنظام وتسارع وتيرة التحركات العمّالية، ليعجّل ذلك بتفكيك التنظيم من طرف السلطة في أشرس وجوهها القمعيّة.
أيّحرّية “لأعداءالحرّية“؟
لقد كانت محاكمات شباب برسبكتيف، بالأخصّ في 1968 و1974، منبرا لمرافعات حقوقيّة فضحت الطابع التسلّطي للنظام وتنكّره للمبادئ الدستوريّة التي أقرّها. لكنّ الاختبار الجدّي لمدى الالتزام بالحرّية ليس دفاع المرء عن حرّيته أو حريّة رفاقه وإنما موقفه من حريّة خصمه. فكما يقول ماركس نفسه ليس هناك أحد ضدّ الحرّية في المطلق وإنما هناك من هو ضدّ حريّة غيره. وحده الموقف من حرّية الخصم يبرز ما إذا كان الإيمان بالحقوق يخضع للتكتيكات أم يعلُو عليها. يبقى أنّ السؤال يصبح معقّدا حين يصنّف الخصم على أنّه “عدوّ للحرّية”. هذا السؤال لم يؤرّق فقط الفلاسفة الليبراليين وإنما طُرحَ تاريخيّا على الديمقراطيّين وعلى اليسار بالذات في سياقات مختلفة ولم تكن الإجابة عنه دائما سهلة. ألم ينتقد غرامشي الأناركيين لدفاعهم عن حرّية الاجتماع والتظاهر للفاشيّين؟[40]. هو سؤال خطير لأنّ الإجابتين القطعيّتين تؤديّان إلى نفي الحرّية[41]، لذلك اعتبرت الإجابة الأنسب تلك التي تكون “حسب الوقائع”، أو ربّما حسب “خطورة” الفعل أو الطرف المعادي للحرّية. ولكن من يحقّ له تصنيف غيره بأنّه معاد للحرّية؟ وهل نصنّف أقوالا وأفعالا بعينها بعد حصولها أم نُطلق التصنيف على أصحابها ونحاكم نواياهم؟ ومن يقيّم مدى خطورة هذا “العدوّ” على الحرّية؟ والأهمّ إذا كان السؤال مشروعا في إطار ديمقراطيّة تحمي نفسها، فهل يمكن طرحه في دكتاتورية من باب تفضيل استبداد فعلي واقعي على استبداد محتمل قد يكون أخطر؟
على الرغم من تبني خطاب مبدئي مطالب بالحرّيات، لم ينتقد الحزب الشيوعي قمع اليوسفيّين خلال السنوات الأولى للاستقلال. على العكس ساند الشيوعيون الشقّ البورقيبي في هذا الصراع، وكان ذلك مفهوما بالنظر إلى الشعارات المحافظة التي تبنّاها صالح بن يوسف وتحالفاته مع كبار الفلاحين من جهة والسياسات التحديثيّة التي مضى فيها بورقيبة مبكّرا وتحالفه مع اتحاد الشغل من جهة أخرى[42]. لم تَجد المحاكمات القاسية ضدّ اليوسفيّين ولا اغتيال بن يوسف نفسه في فرانكفورت استنكارًا يُذكر[43]. وقد مهّد ذلك لترسيخ النظام القمعي الذي يتوجّه بعد المحاولة الانقلابيّة الفاشلة لسنة 1962 مباشرة إلى اليسار. لم يشذّ البرسبكتيفيّون كثيرا عن هذا الموقف على الرغم من إدماجهم، عند تحليل تطوّر النظام السياسي التونسي، قمع اليوسفيّين كأحد التمظهرات الأولى للاستبداد. فكان الموقف من ضحايا القمع في أحيان كثيرة أهمّ من الموقف من القمع في حدّ ذاته. وحتّى حين انتقدوا دفاع الشيوعيّين، في إطار مساندتهم النقدية لتجربة التعاضد، على قمع احتجاجات الفلاحين في مساكن لوقوعهم تحت تأثير “القوى الرّجعيّة”، فإنّ ذلك النقد تأسّس بالخصوص على قراءة مغايرة لسياسة بن صالح والمستفيدين الحقيقيّين منها وعلى انتماء الضحايا لصغار الفلاحين وعملة القطاع الفلاحي.
كان ذلك في زمن مثّل فيه اليسار المعارضة الأقوى للنظام> لكنّ السؤال تعقّد مع بروز حركة الاتجاه الإسلامي في السبعينات وخصوصا حين تعاظمت قوّتها في الثمانينات واكتسحت الميدان المفضّل لليسار، أي الجامعات. لم يمنع احتدام الصراع اليساريّين من اتخاذ مواقف حقوقيّة ضدّ المحاكمات السياسيّة للإسلاميين وسياسات التعذيب ضدّهم في السنوات الأخيرة من زمن بورقيبة. في 1983 بعد تراجع قوس الانفتاح السياسي الذي فتحه مزالي قبل سنتين مع حملة اعتقالات طالت الإسلاميين بالخصوص وبعض اليساريّين، أطلق الحزب الشيوعي التونسي مبادرة للدفاع عن الحريات. اعتبر حينها أمينه العامّ محمد حرمل أنّ “الحريّة كلّ لا يتجزّأ إذا حُرم منها أيّ مواطن كأنّما حُرِمنا منها نحن وإذا حُرمت منها حركة أو نزعة كأنّما حُرِم منها حزبنا”. وقّع العديد من رموز اليسار حينها على نداء من أجل احترام الحريات وإقرار التعدّدية السياسيّة “بصفة قطعيّة وبدون استثناء”[44]، كما دَافع حزب التجمع الاشتراكي التقدّمي، الذي تأسّس في السنة ذاتها على يد مناضلين يساريّين من مشارب مختلفة ووَضَع مطالب الحريات السياسيّة في أعلى سلّم أولوياته، على موقف مبدئي يساند حقّ كلّ التيارات في النشاط السياسي[45]. لكنّ بعض المواقف المبدئيّة تطوّرت في غضون سنوات قليلة حين طوى بن علي صفحة الانفتاح على الإسلاميين التي دشّن بها انقلابه ودخل مرحلة القمع. حسَمَ الجنرال خياره إزاء حركة النهضة بعد انتخابات 1989، ليس فقط برفض منحها التأشيرة القانونيّة ولكن أيضا باعتبارها “مسألة أمنيّة”. اعتُقل الآلاف من الإسلاميّين خلال التسعينات ونالوا وعائلاتهم نصيبهم من التعذيب والأحكام السجنيّة القاسية. في البداية لم تعارض غالبيّة القوى اليساريّة هذا التوجّه[46]، خصوصا مع وجود غطاء أيديولوجي للمعركة، وهو برنامج إصلاح التعليم التي شرع فيه محمد الشرفي أو سياسة “تجفيف المنابع”. استغلّ بن علي أحداث العنف، وخصوصا حادثة باب سويقة سنة 1991، لتكريس العنوان الأمني. ساهمت السنوات الأولى للحرب الأهليّة الجزائريّة وما حصل خلالها من فظاعات استحقّت فعلا، بقطع النظر عن الجدل الدائر حول مسؤوليّات مختلف أطرافها فيها، لقب “العشرية السوداء”، في تغذية المخاوف من الخطر الإسلامي وتبرير تحالف جلّ أحزاب المعارضة القانونيّة مع بن علي[47].
لكنّ هذا الخطاب فقدَ شيئا فشيئا تأثيره، خصوصا مع انكشاف زيف الوعود الديمقراطيّة وانسداد “طريقه إلى التعدّدية”[48]. أصبح مطلب العفو التشريعي العامّ منذ نهاية التسعينات محلّ إجماع، ولكن ظلّ السؤال حول حقّ الإسلاميين في العمل السياسي وفي حريّة الصحافة مدار خلاف داخل الأوساط اليساريّة والديمقراطية بصفة عامّة. اختلط السؤال هذه المرّة مع إشكاليّة أخرى طغت على نقاشات بداية السنوات الألفين حول امكانيّة العمل المشترك مع النهضة. كما لم تكن المواقف حولها بمعزل عن تموقع أصحابها في سلّم معارضة النظام ولا عن مواقفهم من قضايا العلمانيّة والهويّة. حذّر المناضل النقابي والسياسي والقيادي بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان صالح الزغيدي حينها من خطر الانزلاق من الموقف الحقوقي الذي يدين ما تعرّض له الإسلاميون إلى الإقرار بحقّهم في التنظّم والتعبير الذي يمهّد لإدماجهم ضمن الحركة الديمقراطية والتحالف معهم[49]. من جهتهم، شدّد أصحاب الاتجاه المعاكس على أنّ الإسلاميّين ليسوا كتلة متجانسة، وإنما تشقّهم تناقضات وأنّ الرهان على المعتدلين منهم شرطٌ لا بدّ منه، ليس فقط للإطاحة بالدكتاتورية وإنّما أيضا لبناء الديمقراطيّة[50]. يبقى أنّ حجج أصحاب هذا الموقف ساهمت في أحيان كثيرة في الخلط بين الاعتبارات التكتيكيّة والمواقف المبدئيّة، وهو ما تأكّد بعد ذلك. أثمرت مختلف النقاشات والمبادرات، وخصوصا ضيق الأفق الديمقراطي في مواجهة بن علي، مبادرة 18 أكتوبر 2005 التي لا تزال إلى اليوم محلّ جدل حادّ داخل اليسار التونسي. وإن كان من المهمّ التمييز داخلها بين لحظتين، لحظة إضراب الجوع الذي لاقى دعما واسعا، ولحظة تأسيس الهيئة التي خلّفت انقساما حادّا[51] وتلاشت بعد سنوات قليلة، فذلك لا يمنع من ملاحظة أنّ كليهما اختار “الحرّيات” كعنوان. فكان إضراب الجوع طريقة للمطالبة بحدّ أدنى من الحريات العامّة والسياسيّة أمام أعين العالم المجتمع في تونس بمناسبة قمّة مجتمع المعلومات. أمّا “هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات”، فلم تكن فقط أداة لمعارضة “أنجع” للنظام، ولكن أيضا للنقاش بين أطرافها حول القضايا الخلافيّة، وعلى رأسها الحريات الفرديّة والمساواة وإصدار وثائق مشتركة حولها.
رغم ذلك كانت 18 أكتوبر مناسبة أخرى لتشابك الإشكاليات، فاختلط سؤال حقّ الخصم في التواجد السياسي بسؤال جواز التحالف معه. تكرّر الخلط ذاته بعد الثورة، وقد أصبح السؤال أعقدَ، لأنّ الخصم المتّهم بمعاداة الحرّية تحوّل من موقع المعارض المقموع إلى موقع الحُكم بعد انتخابات ديمقراطيّة. لم يحسم حصول النهضة على التأشيرة أسابيع بعد رحيل بن علي ولا مشاركتها في الاستحقاقات الانتخابيّة المتعاقبة الجدلَ حول مدى اتساع الديمقراطيّة لتعبيرات الإسلام السياسي. لم يكف تراجعها الانتخابي المستمرّ وإفلاسها الشعبي لكي يقتنع خصومها بأنّ الديمقراطيّة أفضل دواء لهذا “الداء”، بل تعقّدت المسألة أكثر بظاهرة الإفلات من العقاب وقضايا الاغتيالات السياسيّة، حتى وصلنا إلى قبول الكثير من اليساريّين مرّة أخرى المخاطرة بمكاسب الحرّية خوفا من الإسلاميّين. فأعاد التاريخ نفسه في شكل مأساة ومهزلة في الوقت ذاته.
فَتحت الثورة لمختلف التيارات السياسية فرصة التنافس الديمقراطي على السلطة وممارسة السياسة بكلّ حريّة. انتقلت القوى السياسيّة التي لم تعرف سوى المعارضة، قانونيّة كانت أم سرّية، إلى موقع المساهمة الفعليّة في التشريع. انقسم اليسار مع رحيل بن علي بين إصلاحيين قبلوا المشاركة في حكومة الغنوشي مع وزراء بن علي بحثا عن انتقال ديمقراطي سلس يأخذ شكل إصلاحات سياسيّة داخل إطار دستور 1959، وبين قوى تجمّعت مع الأحزاب والمنظمات المتبنّية للخطاب الثوري، بما فيها حركة النهضة، ليؤسسوا مجلس حماية الثورة. فرَضَ اعتصام القصبة وموازين القوى الجديدة القطع مع دستور 1959، فجاء الحلّ في تأسيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، كتوليفة فريدة بين التوجّهين الثوري والإصلاحي، لتُعدّ المناخ لانتخابات تأسيسيّة. كانت الهيئة بمثابة شبه-برلمان ثوري، بتمثيليّة واسعة ومتنوّعة ولكن من دون شرعيّة انتخابيّة، تناقش النصوص التشريعيّة وتصادق عليها ولكن بدور استشاري فقط[52]. وقد كان التوجّه اليساري غالبا على تركيبة الهيئة، ليس فقط لتعدّد تعبيراته الحزبيّة، ولكن بالأخصّ عبر منظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنيّة[53]. ترَكت الهيئة حصيلة تشريعيّة هامّة في تنظيم الانتقال الديمقراطي، ليس فقط عبر المراسيم المتعلّقة مباشرة بالانتخابات، ولكن أيضا المراسيم المنظمة للأحزاب والجمعيات وحرّية الصحافة والإعلام السمعي البصري التي حملت نفسا تحرّريا واضحا. حقّقت بذلك الهيئة مطلبا تاريخيّا لكلّ قوى المعارضة، بتفكيكها الأسس التشريعيّة للاستبداد وتعويضها بدعائم للانتقال الديمقراطي لا يزال معظمها صامدًا أمام مساعي الارتداد. لكنّ القوى السياسيّة المُمثلة داخلها، وبالأخصّ اليسار، لم تتبنّ هذا الإرث، حتى أصبحت الهيئة وخياراتها التحرّرية تُحمّل شرور “العشريّة” بوصفها “خطيئة أصليّة”[54] مكّنت النهضة من الحُكم. فإذا افترضنا أنّ الإسلاميّين استفادوا أكثر من غيرهم من الحرّيات السياسيّة، فهل أنّ المشكل في الحرّيات أم في منافسيهم؟ رغم ذلك، كان هاجس الخوف من النهضة حاضرا بقوّة داخل الهيئة. وقد كان محدّدا في اختيار نظام الاقتراع على سبيل المثال. كما حاولت الهيئة بأغلبيّتها اليساريّة إصدار “عهد جمهوري” يكُون بمثابة “إعلان الحقوق” الذي يضمن عدم الانحراف بالديمقراطيّة لضرب الحرّية. لكنّ حركة النهضة أبتْ أن ترضخ لذلك، فاشترطت في البداية أن لا يكون للوثيقة طابع إلزاميّ، ثمّ انسحبت من الهيئة بتعلّة “مناهضة التطبيع” التي انكشف زورها فيما بعد[55]. عادت بذلك جدليّة حريات الفرد والسيادة الشعبيّة، أو “حقوق الإنسان وحقوق المواطن”، مع انقلاب الأدوار بين اليمين واليسار.
أكّدت انتخابات المجلس التأسيسي كلّ المخاوف عندما أفرزت تمثيلا ضعيفا لأحزاب اليسار بالأخصّ الراديكاليّة منها[56]، مقابل أغلبية نسبيّة لحركة النهضة. فرضَ اختلال التوازن التقاء واسعا لكلّ خصوم الإسلام السياسي يمينا ويسارا، بالإضافة إلى عدد هامّ من نوّاب حليفيْه في الحكم (التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والمؤتمر من أجل الجمهورية)، في نقاش الفصول الدستوريّة. كما جاءت “التعزيزات” من منظمات المجتمع المدني والنشطاء والشارع. كانت الحريّات أحد عناوين الصراع مع الإسلاميين الذين اغترّوا بشرعيّتهم الانتخابيّة فقرأوا على الأقلّ في البداية الثورات العربيّة بمنظار الصّحوة الإسلاميّة. طغَت حينها المسألة الهووية على التفكير في الحرية، فعجز اليسار بمعناه الواسع عن صياغة مشروع تحرّري شامل وظلّ حبيس دور دفاعي عن “المكتسبات” و”النمط المجتمعي”. لم يتفطّن الكثيرون وسط الهلع إلى أنّ هذا الأُفُقَ محافظٌ بامتياز. مع ذلك لبّى دستور الثورة بعد مخاض عسير، ليس فقط داخل المجلس بل في الشارع والمجتمع المدني، التطلعات في مجال الحقوق والحريات وآليات ضمانها. حتّى بصمة الهوس الهووي الحاضرة في النصّ كانت في النهاية أقرب إلى اللغو والثرثرة منها إلى المعياريّة القانونيّة. افتكّ اليسار ديمقراطيّا ما لم يتجرّأ على تمريره في “العهد الجمهوري”، أي حرية الضمير التي تجسّد إحدى أكثر المسائل حساسيّة للإسلاميين، لأنّها تفترض حرّية الخروج عن الدين وتغييره على عكس التأويل الدارج في غالبيّة الدول المسلمة لحريّة المعتقد، والذي يتمثل في بعضها في تجريم ما يعرف بالردة. ومن المرجّح أن يكون هذا التنازل من ثمار نقاشات “هيئة 18 أكتوبر”[57]. ولكنّ إصرار المعارضة، بعد حادثة تكفير المنجي الرحوي من طرف أحد نواب النهضة الأكثر تشدّدا، على إضافة “تجريم التكفير” في الفصل ذاته، خلق ردّة فعل مضادّة لدى الإسلاميين، فاقترَن ذلك بمنع “النيل من المقدّسات”. هكذا شوّه “المنطق الدفاعي” أحد أبرز انتصارات اليسار في معارك الحريّات. ولكن يبقى دستور 2014، بالرغم من تناقضاته بل بفضلها، معبّرا عن المجتمع التونسي وصراعاته وليس على توجّهات وفانتازمات فردٍ ممسك بالسلطة.
استوعب اليسار الراديكالي (إلى حين) درس الانتخابات التأسيسيّة فاجتمعت أحزابه، بالرغم من الخلافات التاريخيّة التي تشقّها، في جبهة شعبيّة إلى جانب بعض الأحزاب القوميّة. استطاعت الجبهة على عكس أحزاب وسط اليسار التي اندثرت من المشهد تحت ضغط “التصويت المفيد” لحامي الحداثة والنمط المجتمعي أن تقتلع كتلة بـ 15 نائبا. لكنّها لم تستغلّ هذه الفرصة، فكانت حصيلتها التشريعيّة متواضعة. فإذا ما استثنينا إمضاء بعض نوابها على مبادرات زملائهم من الكتل الأخرى، لم تقدّم كتلة الجبهة في مجال الحريات الفرديّة سوى مقترح واحدٍ لنسخ وتعويض القانون عدد 52 لسنة 1992 المتعلّق بالمخدرات، الذي رمى بالآلاف من الشباب في السجون من أجل مسك أو استهلاك مخدرات خفيفة. لكنّ مقترح الجبهة تميّز بنزعة محافظة، فقد جاء كردّة فعل على مشروع الرئيس السبسي الذي اعتبره رئيس كتلة الجبهة أحمد الصديق “إباحة مقنّعة لاستهلاك المخدرات”[58]. هكذا لم يكتف اليسار بالتخلي عن دور المبادرة في إحدى أبرز قضايا الحرّيات في تونس، بل تقمّص دور اليمين المحافظ وساهم بذلك في التخلي عن مشروع لم يكن هو الآخر تحرّريا بما يكفي لصالح تنقيح “الحدّ الأدنى” الذي اكتفى بإتاحة المجال للقاضي لتجنّب العقوبة السجنيّة.
لقد كان “درس” 23 أكتوبر مُضاعفًا. لم يكتف اليسار باستنتاج ضرورة التجمّع وإنّما وجد في “النقاش الهووي” الذي طغى على استحقاق 2011 تفسيرا مناسبا ومريحا لخسارته. فما يفصله عن شعبه هي تهمة “اللادينيّة” التي تلاحقه والتي لا يتردّد خصومه في استعمالها. لذلك ينبغي تفادي كلّ ما من شأنه استفزاز مشاعر الشعب المحافظ. هكذا تصبح مطالب الحرّيات الفرديّة تشويشا على قضيّة المساواة الاجتماعيّة (في معناها الضيّق المتعلّق بإعادة توزيع الثروة بين الطبقات الاجتماعيّة). برزَ ذلك في ارتباك نواب الجبهة أمام مقترح قانون المساواة في الميراث بين النساء والرجال، الذي تقدّم به في 2016 النائب المستقلّ المهدي بن غربيّة. فبعد إمضاء عدد منهم على المقترح، خرج زميلهم المنجي الرحوي في الإعلام ليعلن أن رفاقه سيسحبون إمضاءاتهم ليس فقط لما تثيره نوايا بن غربيّة من شكوك، ولكن أيضا لأنّ هذا المطلب “ترف فكري” و”مسألة ثانويّة” لا تهمّ سوى أقلّية من النساء البورجوازيات وأنّه سيعيدنا إلى الاستقطاب حول الدين على حساب القضايا الحقيقيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة[59]. سقط بذلك الرحوي في منطق الأولويات البائس الذي يفترض تناقضا غير قابل للتجاوز بين الاجتماعي و”المجتمعي” (sociétal) ويتعامى على تشابكهما في كلّ القضايا والحقوق، وبالخصوص مسألة الإرث.
ارتباكاليسارإزاءالحرياتالفرديّة: “الكوليب” نموذجا
عادت قضيّة المساواة في الميراث لتُطرحَ هذه المرّة بمبادرة من الرئيس السبسي، الذي أعلن في أوت 2017 عن تكوين لجنة للحريات الفرديّة والمساواة ترأستها المحامية والمناضلة النسوية والديمقراطيّة بشرى بلحاج حميدة. وإن لم تخلُ المبادرة من حسابات تكتيكيّة للرئيس الراحل في سياق تفكّك تحالفه مع حركة النهضة، فإنّ تقرير اللجنة الذي صدر بعد سنة مثّل مرجعا غير مسبوق وفرصة تاريخيّة لمناقشة قضايا الحريات الفرديّة وإحداث إصلاحات تشريعيّة حولها. أثار التقرير الكثير من الجدل، ليس فقط لدى الأوساط المحافظة التي هاجمت بقوّة أعضاء اللجنة واستعملت سلاحيْ التكفير والتخوين ضدّهم، بل كذلك في الأوساط اليساريّة وحتّى الحقوقيّة، بالنظر للمرجعيّة الدينيّة التي أدمجتها اللجنة في مقاربتها[60]، أو لتدرّج بعض المقترحات في المواضيع الأكثر حساسيّة. انتظرت الجبهة الشعبيّة شهريْن بعد صدور التقدير ويوما قبل الخطاب الذي سيعلن فيه السبسي ما سيتبناه من إصلاحات لكي تُصدر بيانها. في الأثناء أصدرت أحزابها، خصوصا اليساريّة منها، بيانات منفردة، وهو ما أشّر حينها إلى اختلاف في القراءة مع الأطراف القوميّة داخلها. كما شرَع الناطق الرسمي باسمها حمّة الهمامي حتى قبل صدور التقرير في نشر مقالات يدافع من خلالها على المساواة التامّة والحريات[61]. جاء موقف الجبهة مع انتقاده لأساليب “المناورة والمساومة والتدخلات الأجنبيّة” مساندا بصفة قطعيّة للمساواة في الميراث. في المقابل لم يكن تلقّي مقترحات الحريات الفرديّة بالدرجة ذاتها من الوضوح والتفصيل رغم ما أثاره بعضها من جدل، وتحديدا إلغاء الفصل 230 من المجلّة الجزائيّة المجرّم للمثلية الجنسية والحريات الجسديّة بصفة عامّة، التي كان هنالك نوع من الحرج في الدفاع عنها. رغم ذلك، دعت الجبهة الشعبيّة حينها مناضليها إلى النزول في المسيرة المساندة للحريّات والمساواة وحضر قياديوها لأوّل مرّة في مظاهرة رفعت أعلام قوس قزح الرامزة لمجتمع الميم ونضاله من أجل الحقوق والاعتراف. لم تستثمر الجبهة ذلك ولم تسعَ لافتكاك مكان الرافعة السياسيّة لقضايا الحريات، بعد تخلي السبسي على مشروع مجلّة الحريات الفرديّة[62]. في المقابل ساهم انفجارها بعد أقلّ من سنة تحت وقع تناقضاتها التاريخيّة والشخصيّة في دفع جزء من قاعدتها الشعبيّة إلى أحضان حزب التيار الديمقراطي الحامل راية مقاومة الفساد والذي ساهمت مواقفه من المساواة في الميراث والحريات الفرديّة، على الرغم من تكلفتها الانتخابيّة لدى جمهوره المحافظ، في “دفعه” نسبيّا إلى اليسار واستقطاب جمهور جديد.
عموما، لم تكن مواقف الجبهة ومكوناتها اليساريّة من الكوليب، بالمقارنة مع بقيّة الطيف السياسي، محافظة. ولكنّ الارتباك الحاصل كان في جزء منه ناتجا عن أنّ المبادرة جاءت من قصر قرطاج، وخضعت بالضرورة إلى حسابات وأولويات وأهداف ساكنِه. فإذا كان موضوع الحريات يؤدي إلى “استقطاب ثنائي بين اليمين واليمين”، فذلك يعود أيضا لأنّ اليسار رفض أن يتبنى هذه القضايا بوضوح ويتولى المبادرة بشأنها. فاليمين “البورقيبي” استغلّ الفضاء الذي تركه اليسار شاغرا. تماما كما تخلّت أحزاب اليسار على معركة مقاومة التسلّط البوليسي، في جميع أشكاله، وسقطت كغيرها في ابتزاز “إما البوليس أو الإرهاب”، حتى قفز عليها أقصى اليمين الديني ممثلا في ائتلاف الكرامة وإن كان بانتقائيّة واضحة.
لم يتخلّ اليسار على موقع المبادر في مجال الحريات بسبب انشغاله بالمسألة الاجتماعيّة. على العكس فإنّ عجزه عن تحويل المسألة الاقتصاديّة/الاجتماعيّة إلى خطّ انقسام سياسي وعلى تسييس النضالات الاجتماعيّة وصياغة بدائل فيها هو الذي يفاقم من حرجه وارتباكه في “المسألة الثقافيّة”. عُزلته عن الطبقات المهمّشة هي التي تدفعه إلى تجنّب ما قد يبدو للبعض كقضايا الطبقات المرفّهة. لكنّ الحريات الفرديّة والحريات الجسديّة بالخصوص ليست فقط عابرة للطبقات، بل أنّ نكرانها أشدّ وقعا على الطبقات الاجتماعيّة المهمّشة. ليس فقط لأنّ الطبقات المرفّهة تجد بسهولة أكبر فضاءات آمنة لممارسة حرّياتها، وإنما أيضا لأنّ الأجهزة القمعيّة حاملة عن وعي أو دونه لمضمون طبقي. ولعلّ فشلنا النسبي بعد الثورة في دمقرطة معركة الحرّيات الفرديّة ودمجها مع الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة لا يتحمّله اليسار الحزبي وحده، وإنما أيضا الحركات الحقوقيّة والنسويّة وغيرها التي تحتاج هي الأخرى إلى تقييم مقارباتها وحصيلتها.
ليس مطلوبا من اليسار الحزبي أن يختزل نفسه في المعجم الحقوقي ولا أن يتخلّى عن هوّيته أو عن راديكاليته. إنما دوره هو أن يكون محرّكا للتغيير الاجتماعي وأن يوفّر للنضالات الاجتماعيّة والحقوقيّة الرافعة السياسيّة التي تحتاجها، وأن يستخرج من صلب “مجتمع المقاومة” مشروعا تحرّريا شاملا بمختلف معانيه السياسية والاجتماعية والثقافية والوطنية. يكمن دوره أيضا في التصدّي لكلّ محاولات الارتداد إلى الوراء وأن يفهم أنّ هزم خصومه يكون بالديمقراطيّة ولا شيئ غيرها، وأنّ الاستبداد لا يمكن أن يؤسّس للحريّة ولا للمساواة ولا للتنوير، فلا تناقض يعلو عليه أو يبرّر القبول به. ليس فقط لأنّ “الديمقراطيّة هي الطريق إلى الاشتراكيّة”[63] وإنما لأنّها الطريق الوحيد إلى الكرامة، هذه القيمة المركزيّة التي حمَلتها الثورة التونسيّة والتي لم يُدرك اليسار بعدُ كيف يحوّلها من شعار يردّده الجميع إلى مشروع سياسي لتغيير الواقع.
[1] Claude Lefort, “Les droits de l’homme en question”, Revue interdisciplinaire d’études juridiques, 1984/2, Volume 13.
[2] Hannah Arendt, “Karl Marx et la tradition de la pensée politique occidentale”, Edité et annoté par Jerome Kohn, Traduction de Françoise Bouillot, Payot et Rivages, Edition poche, 2021, p. 21.
[3] أنظر حميد بن عزيزة، ماركس، “الكلب الميّت ” والمفكر الحيّ، في مخاتلة رأس المال وفي لغز الاستغلال، دار كلمة للنشر، تونس، 2021، الفصل الأوّل: ماركس ضدّ ماركس، معضلة القراءة، ص. 24 وما يليها.
[4]Lucien Sève, “Marx et le libre développement de l’individualité”, in Guy Planty-Bonjour (dir.), Droit et liberté selon Marx, PUF, 1986, pp. 87-124.
[5] اريك فروم، مفهوم الإنسان عند ماركس، ترجمة محمد سيد رصاص، دار الحصاد، 1998، ص. 54.
[7] Guy Haarscher, “Philosophie des droits de l’homme”, 4ème édition, Editions de l’Université de Bruxelles, 1993, p. 92 et s.
[8] لقراءة متّزنة حول موضوع المركزيّة الأوروبية لماركس، أنظر:
Kolja Lindner, “L’eurocentrisme de Marx : pour un dialogue du débat marxien avec les études postcoloniales “, in Actuel Marx, 2010/2 (n° 48), pp. 106-128.
[9] Steven Lukes, “Can a Marxist believe in human rights? “, PRAXIS international, Issue 4/1981, pp. 334-345.
[10] David Leopold, “The young Karl Marx, German philosophy, modern politics and human flourishing”, Cambridge University Press, 2007, p. 150.
[12] Justine Lacroix & Jean-Yves Pranchère, “Marx fut-il vraiment un opposant aux droits de l’Homme? Emancipation individuelle et théorie des droits “, Revue française de science politique, 2012/3, Vol. 62, p. 434.
[25] Stephen Holmes & Cass Sunstein, “The cost of rights : Why liberty depends on taxes, Norton & company, 1999.
[26] Etienne Balibar, What is a politics of the rights of man?, in Balibar, Masses, classes, Ideas. Studies on politics and philosophy before and after Marx, Translated by James Swenson, Routledge, 1994, p. 205.
[27] Hillel Steiner, “On the conflict between liberty and equality”, in Schmidtz & Pavel (eds.), Oxford handbook of freedom, p. 76.
[28] أنظر Noura Borsali, Bourguiba à l’épreuve de la démocratie (1956-1963), Samed éditions, 2008.
[29] عبد الجليل بوقرة، فصول من تاريخ اليسار التونسي، الشيوعيون وبرسبكتيف والنظام البورقيبي (1963-1981)، دار آفاق-برسبكتيف للنشر، تونس، ص. 136.
[30] عبد الجليل بوقرّة، حركة آفاق، من تاريخ اليسار التونسي 1963-1975، سراس للنشر، 1993، ص. 29.
[33] Hichem Abdessamad, “Le mouvement Perspectives : la mémoire introuvable”, in Michael Bechir Ayari et Sami Bargaoui (dir.), Parcours et discours après l’indépendance, Arabesques éditions, pp. 17-37.
[34] الهاشمي الطرودي، أضواء على اليسار التونسي: حركة آفاق نموذجا، شهادات وتأملات، دار محمد علي، 2014، ص. 15.
[35] Entretien avec Noureddine Ben Khader, in Michel Camau et Vincent Geisser (dir.), Habib Bourguiba, la trace et l’héritage, Karthala, 2004, pp. 533-548.
[36] Mohamed Charfi, Mon combat pour les Lumières, Elyzad, 2015, p. 99.
[37] G.E.A.S.T. Perspectives, Stratégie et tactique. Débat interne inédit 1970-1972, Outrouhat,1989, p. 66.
[40] انطونيو غرامشي، “الحرية للجميع… إذا كان هذا يحلو لكم”، مقال في صحيفة النظام الجديد بتاريخ 23 نوفمبر 1921، ورد في “فكر غرامشي: مختارات”، جمعها كارلو سالنياري وماريو سبينيلا، تعريب تحسين الشيخ علي، دار الفارابي، بيروت، 1976، ص. 169.
[41] André Comte-Sponville, La tolérance, in Petit traité des grandes vertus, p. 209 et s.
[42] عبد الجليل بوقرّة، فصول من تاريخ اليسار التونسي، الشيوعيون وبرسبكتيف والنظام البورقيبي (1963-1981)، سبق ذكره، ص. 53.
[45] توفيق المديني، تاريخ المعارضة التونسية، من النشأة إلى الثورة، الأحزاب اليسارية والقومية والإسلامية، ص. 231.
[46] Sadri Khiari, “Le renouveau du mouvement démocratique tunisien: paradoxes et ambivalences”, in Olfa Lamloum et Bernard Ravenel (dir.), La Tunisie de Ben Ali. La société contre le régime, L’Harmattan, 2002, p. 177 . يورد الكاتب في هذا السياق، بيانا لمنظمة “الشيوعيين الثوريين” ذات الانتماء التروتسكي، التي اعتبرت في نشريّة لها سنة 1991 أنّ “القمع لا يمكن أن يزيل خطر التطرّف” وأنّ تغاضي الديمقراطيّين عنه يجعلهم “متواطئين مع تفاقم الجهاز البوليسي للسلطة على حساب الحريات السياسيّة ».
[47] باستثناء التجمّع الاشتراكي التقدّمي الذي دفع ثمن محاولة الوساطة التي أجراها زعيمه أحمد نجيب الشابي بين الغنوشي وبن علي، لتنقطع علاقة الشابي ببن علي بعد أن كان مبعوثا خاصّا له في 1991. أنظر أحمد نجيب الشابي، المسيرة والمسار، ما جرى وما أرى، ص. 109. أمّا حزب العمال الشيوعي التونسي، الذي عارض انقلاب بن علي منذ البداية ولم يكن طرفا في “الميثاق الوطني” وطاله التوجّه القمعي في بداية التسعينات، فكان صراعه مع حركة النهضة حينها طاغيا على مواقفه التي لم تخلُ موقفه من التباسات، مثلما حصل في قضيّة “الكاسيت”. أنظر محمد الكيلاني، التاريخ المنسي. مذكرات مناضل وطني، دار كلمات عابرة، ص. 244.
[48] “بن علي: الطريق إلى التعدّدية”، كان عنوان كتاب الصادق شعبان، أستاذ القانون الذي كان من أعمدة نظام بن علي، وقد تحوّل منذ 25 جويلية 2021 إلى أحد أشدّ مساندي قيس سعيّد.
[49] Salah Zghidi, “Pour qui donc roulent ceux qui veulent réhabiliter le mouvement intégriste ?”, Alternatives citoyennes, n°1, avril 2001.
[50] Sadri Khiari, “Le renouveau du mouvement démocratique tunisien…”, op. cit., p. 181 et s.
[51] هشام عبد الصمد، اليسار والإسلام السياسي أو النزاع العالق، حول حركة 18 أكتوبر 2005، ترجمة فتحي بن الحاج يحيى،
[52] أنظر المولدي قسومي، في مواجهة التاريخ: صدى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في تونس، دار محمد علي الحامي، 2021.
[55] استغلّت حركة النهضة وجود مقترح واحد من بين 6 مقترحات عند مناقشة العهد الجمهوري، لا يتضمّن مناهضة التطبيع، لافتعال أزمة واتهام معارضيها داخل الهيئة بالسعي للترويج للتطبيع، والانسحاب منها. حافظت الهيئة على النقطة المتعلّقة بمناهضة التطبيع ضمن النسخة النهائيّة من العهد، في حين عطّلت الحركة داخل المجلس التأسيسي ثمّ المجلس النيابي منذ 2014 كلّ محاولات تجريم التطبيع، بالإضافة إلى إجهاض مقترح التنصيص في توطئة دستور 2014 على مناهضة الصهيونيّة، بوصفها من بين “أشكال الاحتلال والعنصريّة”.
[56] لم يجن حزب العمال الشيوعي التونسي، عبر قائمات “البديل الثوري”، سوى 3 مقاعد، في حين اقتصر تمثيل حزب الوطنيين الديمقراطيّين الموحّد على مقعد واحد.
[57] قبلت حركة النهضة بدسترة حرية الضمير بعد ممانعة طويلة داخل المجلس التأسيسي، وذلك في حوار دار الضيافة (أفريل 2013)، الذي شارك فيه الحزب الجمهوري (الديمقراطي التقدمي سابقا) على خلاف معظم أحزاب المعارضة.
[58] لم يكن مشروع القانون عدد 79/2015، الذي جاء بمبادرة من السبسي، «إباحة مقنّعة” للاستهلاك، وإنما على العكس، حافظ على مبدأ التجريم، واكتفى بحذف العقوبة على الاستهلاك الأول في صورة الالتزام بالعلاج، وحذف العقوبة السجنية في صورة “الاستهلاك الثاني”، في حين أبقى عليها في بقيّة الحالات. فقد كان مشروع السبسي بحاجة إلى تطوير في المقاربة في اتجاه أكثر تحرّرا، وليس العكس. أمّا مقترح الجبهة، فحافظ على تجريم الاستهلاك لأول مرة، واكتفى بحذف العقوبة السجنية في هذه الحالة، مع الإبقاء عليها في حالة العود أو في حالة رفض الخضوع إلى تحليل العينات البيولوجية (من 3 إلى 6 أشهر).
[59] منجي الرحوي : مبادرة المساواة في الإرث “ترف فكري”، موقع جوهرة اف ام، 17 ماي 2016.
[60] مروان بوعصيدة، المرجعيّة الإسلاميّة في تقرير لجنة الحريات الفرديّة والمساواة: بين متطلبات الفلسفة وإكراهات المجتمع، في زينب التوجاني (إش.)، الحريات الفرديّة والمساواة بتونس: بين التنوير والتكفير، دار محمد علي الحامي، 2021، ص. 63.
[61] جمّعت هذه المساهمات، مع نصوص أخرى، في: حمّة الهمامي، المفرد والجمع في الحرية والمساواة، تقديم فتحي بن الحاج يحيى، منشورات حزب العمال، 2019.
[62] أمضى بعض نواب الجبهة، صحبة نواب من كتل أخرى، على مبادرة تشريعيّة تضمّنت مشروع مجلة الحريات الفردية الذي أعدته لجنة الحريات الفردية والمساواة، ولكن لم يصحب ذلك أيّ مجهود أو ضعط سياسي لتسريع مناقشتها.
[63] فواز الطرابلسي، اليسار في الزمن الثوري، مجلّة بدايات، العدد الأول، شتاء/ربيع 2012.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.