على الرغم من أنّ الحزب الشيوعي التونسي[1] قد تأسّسَ سنة 1920، وهو بذلك أوّل حركة سياسيّة يساريّة تتواجد في الجغرافيا السياسية التونسية، إلاّ أنّ تبعيّة هذا الحزب أثناء تأسيسه للحزب الشيوعي الفرنسي (SFIC) كما تركيبته التأسيسية التي خَلتْ من التونسيين -مَا عدا مختار العيّاري- جعلت الكثيرين يذهبون إلى القول أنّ بدايات “اليسار التونسي” لم تكُن سياسيّة وأنّ الحزب الشيوعي الذي وقعت تونَستُه تدريجيّا لم يكُن أكثر من تعبير جزئي عن اليسار في تونس وليس بأيّ حال منشأ “اليسار التونسي”. في هذا السياق، يعزو بعض المؤرخين[2] نشأة اليسار التونسي إلى الحركة النقابيّة ومؤسسها الأوّل محمّد علي الحامي، فالحامّي الذي عادَ إلى تونس من ألمانيا مُحمّلا بالأفكار الاشتراكيّة ومتأثّرا بطروحات “عُصبة سبارتاكوس” عن الثورة والمساواة والعدالة الاجتماعيّة حَاولَ تكييف هذه الأفكار مع الواقع التونسي، وكانت النتيجة أن أسّسَ جامعة عموم العملة التي سُرعان ما وقَعَ حلّها وتمّت محاكمة مؤسّسها من قِبل السُلطات الاستعماريّة. هكذا نشأت الحركة النقابية التونسيّة يساريّة في توجّهاتها وتصوّراتها ونشَأ اليسار التونسي نقابيّا في هيكَلته، لكن تبدّل الأحوال والفاعلين والمراحل التاريخية والأهداف ألقَى بظلاله على العلاقة بين اليسار والحركة النقابيّة.
الاتحاد العامّ التونسي للشغل والحزب الشيوعي التونسي: حبّ من طرف واحد؟
لا يخفَى على أحد اليوم أنّ الاتحاد العام التونسي للشغل قد وقَعَ تأسيسه على يد شخصيّة تتبنّى طروحات الحركة الوطنيّة مُمثّلة في الحزب الحرّ الدستوري الجديد. إذ أنّ فرحات حشّاد لم يكُن يرى في العمل النقابي مجرّد وسيلة لتحسين ظروف العمال التونسيين بل أداة سياسيّة تُعبّر عن الوجود التونسي باعتباره وجودًا مُستقلاّ أو في الحدّ الأدنى يسعى إلى الاستقلال. وليس أدلّ على هذه الحقيقة من المعطيات التاريخية التالية:
- انسحاب فرحات حشّاد سنة 1944 من الكونفدرالية العامّة للشغل (الفرنسية) ليس بسبب هيمنة الشيوعيين عليها فحسب بل كذلك لأنّه وجدَ نفسه في صراع لا وجود فيه للهوية الوطنيّة التونسية، وهو الصراع بين الاشتراكيين والشيوعيين الذين رأى فيهم حشّاد تمثيلا للوطنيّة الفرنسية والوطنيّة الروسية[3].
- تحمّله مسؤولية قيادة الحركة الوطنيّة في أكثر فتراتها عُنفا بعد تبنّي الحزب الدستوري الحرّ الجديد الكفاح المسلّح في جانفي 1952، وذلك بعد اعتقال أغلب القيادات السياسية للحزب.
- توظيفه للمؤتمرات والاجتماعات النقابية الدوليّة للتعريف بالقضية الوطنية التونسية.
صُبغ إذا الاتحاد مُنذ تأسيسه بطابع وطني وذلك بالنظر إلى غايات مؤسّسيه وتصوّراتهم للعمل النقابي باعتباره شكلا من أشكال النضال الوطني من أجل الاستقلال، فتمَاهَى بذلك مع القيادة الدستوريّة وغاياتها. أمّا اليسار السياسي في تلك الفترة مُمثَّلا في الحزب الشيوعي التونسي فكان يرَى المسائل من منظار آخر هو منظار الأمميّة ووحدة الطبقة العاملة في نضالها من أجل الاشتراكية. وعلى الرغم من أنّ الحزب الشيوعي كان قد بدأ في استيعاب القضية الوطنية والانخراط فيها سياسيا وعمليّا إلاّ أنّه لم يقُم بمراجعة تصوّره للعمل النقابي إلاّ متأخّرا جدّا. في العام نفسه الذي اُسِّسَ فيه الاتحاد العام التونسي للشغل، قامت عناصر من الحزب الشيوعي بتأسيس الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي (USTT). وقد بدأ هذا الاتحاد نشاطه باعتباره فرعا من الكونفدرالية العامّة للشغل (الفرنسية) تحت مُسمّى اتحاد النقابات. وفي مؤتمر 26 و27 أكتوبر 1946 اتخذ قرار الانفصال عن الكونفدرالية الفرنسيّة وتبنّى التسمية الجديدة، كما انتخُبَ على رأسه القيادي في الحزب الشيوعي حسن السعداوي.
وبالرّغم من أنّ اتحاد النقابات خاضَ مفاوضات مع قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل من أجل توحيد الحركة النقابية، إلاّ أنّ هذه المفاوضات أخفقَت لأنّ فرحات حشّاد وضَعَ شروطا لم تلقَ قبول الشيوعيين. وأهمّ هذه الشروط، الآتية: (1) حيازة كافة أعضاء المكتب المدير للنقابة الموحدة على الجنسية التونسية. (2) اعتماد اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للنقابة الموحدة. و(3)ا اعتماد تسمية الاتحاد العام التونسي للشغل للهيكل الموحّد. مثّلت هذه الشروط عقبة أمام توحيد الاتحادين بالنظر إلى الخلافات الفكريّة بينهما. فالاتحاد العام التونسي للشغل كان مسكونا بهاجس القضية الوطنيّة والتأكيد على الهويّة التونسيّة وهو يريد بذلك أن يكون نقابة للعمال التونسيين. أما “الاتحاد النقابي”، فكان مهتمّا بقضيّة وحدة الطبقة العاملة وهو ما يتأكّد في تسميته فهو اتّحاد لأيّ عامل موجود في تونس مهما كان أصله.
من اليسير أن نستنتج من هذه المعطيات أنّ العلاقة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الشيوعي التونسي طوال الفترة الاستعمارية كانت علاقة تنازع فكري وإيديولوجي تجلّت نقابيا في وجود اتّحادين على الرغم من وجود تقارب سياسي يتعلّق بتبنّي شعار حق الشعوب في تقرير مصيرها. فالحزب الشيوعي الذي أقرّ تونسيته في تسميته وعملَ على تكريسها في هياكِله عبر استقطاب أكبر عدد ممكن من التونسيين لم ينجَح في التخلّي تماما عن بُعده الأممي وظلّ ساعيا إلى تثبيته في ممارساته. وبالرغم من النقد الذاتي الذي قدّمه الحزب الشيوعي التونسي في مؤتمره سنة 1952 إزاء موقفه من الحركة الوطنيّة وتبنّيه لفكرة الوحدة مع الدستوريين في مواجهة الاستعمار، إلاّ أنّه لم يعمل على تكريس الوحدة نقابيا إلاّ متأخّرا عن ذلك التاريخ، إذ لم يقع حلّ الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي إلاّ في سنة 1956.
من المُحتمل أن قرار الحلّ جاء متأخّرا كنتيجة لقناعة الشيوعيين بضرورة توحّد الاتحادين على أساس تفاوضي مثلما أقرّ المؤتمر التأسيسي للاتحاد النقابي. لكن الواقع الملموس جَعل من تحقيق ذلك أمرا مستحيلا. وهو ما أدّى إلى الاقتناع بضرورة الالتحاق بالاتحاد العام التونسي للشغل، لكن هذا القرار ولأنّه جاء متأخّرا، لم يكُن بداية تجربة لطيفة للشيوعيين داخل الاتحاد العام التونسي للشغل.
مثلما أتينا على ذكر ذلك سابقا، كان الاتحاد العام التونسي للشغل مُنذ تأسيسه مسكُونا بالقضيّة التونسيّة وكان يُنسّق جهوده مع الحزب الدستوري الجديد. وبالتالي، بدا طبيعيا جدّا أن أغلب عناصره كانوا طوال تلك المرحلة من الدستوريين الجُدد. وثُبّت هذا الارتباط العضوي بين الاتحاد وحزب الدستور بعد الاستقلال من خلال مقولة “الوحدة القوميّة” التي تبنّاها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، والتي تَعني فيما تعنيه تبعيّة المنظمات الوطنية لسياسات الدولة والحزب الحاكم، الأمر الذي مَكّن السُلطة السياسيّة في تونس من وضع يَدها على هذه المنظمات وتسليمها للموالين لها وإدارتها عن طريقهم. إذ أن بورقيبة كان يتحكّم بدرجة كبيرة في الوضع الداخلي للاتحاد وكانت الأسماء المُرشّحة للمكتب التنفيذي يتمّ التفاوض حولها معه وتشترط قبوله أوّلاً[4]. مكّنت هذه السياسة النظام من التحكّم إلى حدّ كبير في الاتحاد. وعلى الرغم من معارك الاستقلالية التي خاضتها المنظمة، كانت يد بورقيبة تمتدّ عن طريق الموالين له لمنع المناوئين من تحصيل مراكز في الاتحاد. فمُنع شيوعيون كثيرون من الترشّح للمناصب القياديّة ووصل الأمر حدّ منعهم من الانخراط فيه، إضافة إلى تجميد نشاطهم وطردهم[5]. مع ذلك واصلَ أعضاء الحزب الشيوعي التونسي نضالهم داخل المنظمة متبنّين مبدأ لا خروج من الاتّحاد. وحتّى في الفترات التي عَرفَ فيها الاتحاد هزّات وانشقاقات من جرّاء الصراع داخل أجنحة السلطة السياسية، ظلّ الشيوعيون متمسّكين به على الرغم من أنّه لم يكُن يهضم وجودهم بيُسر. وكدليل على ذلك، نشير إلى ما كتبه الطيب البكوش، (وهو أوّل أمين عام مساعد ضمن تركيبة المكتب التنفيذي للاتحاد يُعرف بميوله اليسارية وبقُربه من الشيوعيين، انتخب سنة 1977 وهو كذلك أول أمين عام غير دستوري للاتحاد)، بشأن ترشيحه لخطة أمين عام مساعد: “عندما أعلَمت الحبيب عاشور بالنتيجة، أعلمني بأنّ الرئيس بورقيبة عبّر لهُ عن عدم موافقته على ترشيحي بحُجّة أنّني لا أنتمي إلى الحزب الدستوري وأنّي شيوعي بحسب ما قال له الهادي نويرة الوزير الأول. فنفى عاشور انتمائي الشيوعي، بل قال له إنّني من عائلة دستورية.”[6]
اعتقد اليساريون أن بإمكانهم قيادة البلاد إذا سيطروا على الاتحاد لكن الاتحاد كنقابة سيطَر عليهم
منظمة آفاق-العامل التونسي والاتحاد: تقلّبات في المواقف فرضتها المحن
في السّنوات القليلة التي أعقبت الاستقلال والتي تميّزَت بهيمنة شعار الوحدة القومية، وانخراط الحزب الشيوعي التونسي في سياسة “المساندة النقدية” للنظام، بدأت في الظهور جماعات يسارية مُعارضة للنظام. لعلّ أهمّها تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي والمعروف باسم “آفاق” نسبة إلى المجلة التي كان يُصدرها التجمّع. كانت الفكرة السائدة عند كافة المنتمين إلى تجمّع الدراسات تتمثّل في أنّ دور الحزب الشيوعي التونسي قد انتهى وأنّه من الضروري إيجاد بديل لمعارضة يسارية جديدة تتدارك أخطاء الحزب الشيوعي وتتبنّى أطروحات أكثر ثورية وتقدميّة وتساهم في البناء الوطني[7].
كانت التركيبة الأساسيّة للتجمعيّين في أغلبها طلابيّة. وعلى الرغم من وجود بعض العناصر العاملة كجلبار نقاش، إلاّ أنّ مجال الفعل والتأثير الحقيقي للتجمّع كان متركّزا في الأوساط الجامعيّة. مع ذلك لم يكُنْ التجمعيون دُون موقف من الاتحاد العام التونسي للشغل. فقد بادروا منذ أوّل عدد أصدروه إلى تضمين موقفهم منه، إذ أوردت “آفاق” في صفحتها العاشرة فقرة لتكريم فرحات حشّاد والإشادة به كزعيم ثوري واشتراكي وذلك بمناسبة ذكرى اغتياله. وجاء فيها: “كان حشّاد قد وضع للجماهير العاملة، التي تحرّرت من نيّر الاستعمار، أهدافا أكثر طموحا: أهداف ثورة اشتراكية حقيقية. لكن للأسف، من الواضح- والتاريخ وحده سيحكم على ذلك- أن المركزية النقابية التي كرّس حياته لأجلها وجدت نفسها بإرادة خلفائه منحرفة عن نهجها الأساس. لكن، في حماية الجهاز الثقيل الذي لا حياة فيه والذي أضحى عليه الاتحاد العام التونسي للشغل، يُمكن للمسؤولين النقابيين الحاليين أن يضحّوا دون وجل بمصالح الطبقة العاملة لصالح ما يعتبرونه “المصلحة العامة”.[8]“
يبدو واضحا أنّ “البرسبكتيفيين” منذ انطلاق عملهم كانوا يحملون نظرة رومنسية عن الاتحاد العام التونسي للشغل في بداياته وخاصة عن مؤسسه فرحات حشاد الذي كما ذكرنا لم يكُن يؤمن بالطروحات اليسارية سواءً الاشتراكية أو الشيوعية على الرغم من احتكاكه بها خلال فترة تنظّمه في الكونفدرالية العامة للشغل. لقد تَصوَّرَ التجمعيون الاتحاد كقاطرة للثورة الاشتراكية التي يرغبون في تحقّقها، مُعتقدين أنّ انخراط المُنظمة في النضال الوطني ضدّ الاستعمار كان له خلفيّة اشتراكية، إلاّ أنّ هذا لم يكُن صحيحا. وعلى الرغم من أنّ حركة برسبكتيف لم تكُن في بداياتها ماركسية بالمعنى التقليدي للمفهوم إلاّ أنّها كانت تتبنّى بعض المقولات الماركسيّة التي كانت تُعبّر في غاياتها عن رغبة في التحرّر الاجتماعي أكثر منها تعبيرا عن طرح دغمائي.
يُمكن فهم موقف البرسبكتيفيين أيضا من مُنطلق آخر وهو أنّ أحمد التليلي الأمين العام للاتحاد في بداية الستينات كان يَسعى إلى فرض استقلالية المنظمة عن السُلطة عن طريق تحقيق استقلاليتها المالية. وهو ما دفعه مثلا إلى بناء نُزل أميلكار، فاعتبره مناضلو التجمّع لهذا السبب بالذات خائنا للطبقة العاملة وكانوا يصفونه والقيادة النقابية التي عملت معه بـ”Affairistes”. مع ذلك فإنّ هذه المواقف التي سجّلها التجمعيون لم تكُن ضدّ وجود الاتحاد كمؤسسة أو منظمة بل كانت ضدّ ما اعتبروه صراحة انحرافا عن خطّها الثوري الأصلي الذي يتمثّل حسب رأيهم في الثورة الاشتراكيّة.
طوال الفترة المُمتدّة من تاريخ تأسيس تجمّع الدراسات إلى تبنّيه الماويّة في 1967، لم يتغيّر موقف هذا التنظيم من الاتحاد. ولكن مع التحوّل الإيديولوجي ظهر التحوّل السياسي وتبعه تحوّل في الموقف من الاتحاد. بعد تبني الماويّة والتركيز على العمل داخل الجامعات (في تناقض تام مع ما تفترضه الماركسية من التركيز على الطبقة العاملة)، كان الشُغل الشاغل للبرسبكتيفيين هو تحقيق استقلالية الاتحاد العام لطلبة تونس. وقد جاءت حركة فيفري 1972 لتأكيد هذه الغاية، وقد انخرط التجمعيون صُحبة تشكيلات معارضة أخرى في هذه الحركة ودعموها بكُلّ ما لهم من قوّة وجُهد. في تلك المرحلة، كان الاتحاد العام التونسي للشغل تحت قيادة الحبيب عاشور، وهو المعروف بانتمائه الدستوري وبقُربه الشديد من النظام على الأقل في تلك الفترة. وكما أزعجت حركة فيفري الطلابية نظام بورقيبة، فإنّها أزعجت الموالين له وصار لزاما عليهم أن يصرّحوا بعدائهم للمعارضين اليساريين. لكن عاشور لم يكتفِ بالتصريح حين قال في اجتماع حضره محمد الصياح والهادي نويرة عن الحزب الدستوري وممثلون عن اتحاد الفلاحين واتحاد الصناعة والتجارة: “هؤلاء الطلبة لينينيست ونحن بورقيبيست”[9] (هؤلاء الطلبة لينينيون ونحن بورقيبيون)، بل انتقل إلى الفعل المباشر فأرسَل نقابيين مُوالين له للاعتداء على الطلبة يوم 5 فيفري 1972[10].
بقيت إذا العلاقة عدائية بين حركة برسبكتيف والاتحاد العام التونسي للشغل خلال أوائل وأواسط السبعينات، وهي الفترة التي تعرّضت فيها الحركة لسلسلة اعتقالات وحوكِم المنتمون إليها بأحكام قاسية. لكن ما لبث أن صار التحوّل في الموقف بعد أن طفت على السطح مجدّدا قضيّة استقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل وعرفت أوْجَها في أحداث ما أصبح يُعرف بالخميس الأسود في 26 جانفي 1978. كانت استقلالية المنظمات الوطنية عن السُلطة إحدى أهمّ النقاط التي ركّز التجمعيون عليها مُعتبرين تبعيّة هذه المنظمات أحد أوجه الديكتاتورية وتعبيرا عن غياب الحريات العامة. وقد نالوا ما نالوا من سجون وتعذيب ومضايقات نتيجة لقناعتهم تلك. وعليه، لم يكُن من المعقول أن لا يساندوا الاتحاد عندما كان يُدافع عن استقلاليته، على الرغم من أنّهم ظلّوا متحفّظين في ما يتعلّق بقيادة الاتحاد التي لم ينسوا موقفها من حركة فيفري[11]. وقد عدّل البرسبكتيفيون موقفهم من القيادة وتعاطفوا معها بعد أن وقع عزلها ومحاكمتها بل وحاولوا التواصل مع الحبيب عاشور شخصيا عندما أودِع في سجن برج الرومي معهم[12].
من الواضح أنّ محنة السجن جعلت البرسبكتيفيين يُغيّرون موقفهم من الاتحاد وقيادته. إلاّ أنّ السجن لم يكُن السبب الوحيد وراء هذا التحوّل. في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، كان كثير من البرسبكتيفيين والمتعاطفين معهم قد أنهوا دراستهم بالجامعة. ومن لم يكُن منهم في السجن أو ممنوعا من العمل بحُكم المراقبة الإدارية، التحق بالعمل (التعليم خاصة) وانخرط في نقابة تابعة للاتحاد العام التونسي للشغل. بالتالي أصبحت خلافاتهم مع الاتحاد وقيادته ذات طابع داخلي تهمّ الاتحاد نفسه، أي بين نقابيين لهم تصورات مختلفة لدور النقابة، ولم يعُد خلافا بين طرف سياسي ونقابة.
مع ذلك فإنّ الحبيب عاشور بعد خروجه من السجن وعودته إلى رئاسة الاتحاد بعد مؤتمر قفصة 1981، لم يُغيّر قيد أنملة موقفه من اليساريين. بل وكان يتقرّب لبورقيبة من خلال إعلانه في أكثر من مرّة أنّه سيُخلّص الاتحاد من “المتطرفين والشيوعيين” المتواجدين فيه[13]. لم يكُن كلام عاشور مجرّد تصريحات يتقرّب بها إلى النظام بعد أن تصادم معَه، بل تجسّدت في أفعال منها القانوني وغير القانوني، الأمر الذي أعاد اليساريين عموما والبرسبكتيفيين خصوصا إلى مربّع الصراع الأوّل مع الاتحاد. لكن الفارق الزمني نقل الصراع إلى داخل المنظمة كما ذكرنا. ولعلّ هذا المقتطف من كتاب الطيب البكوش يشكل دليلا على سلوك القيادة النقابية المعادي لتواجد اليساريين داخل المنظمة، حيث يقول: “رأينا في الفصول السابقة أن أسلوب الحبيب عاشور في خرق القانون وحلّ النقابات لتعويضها بالأتباع بغير وجه حق، وحصول انشقاق كبير في الاتحاد قد خلق جوّا من المعارضة لما يسميه اليساريون خاصة بالبيروقراطية النقابية، تطورت بصفة سلبية إلى التشويش وتعطيل السير العادي للاجتماعات. […] وقد تجلى ذلك بالخصوص في احتفال 1 ماي 1984 ببورصة الشغل[14]، بمبادرة من “الشعلة” و”العامل التونسي” الذين اعتبروا ذلك انتصارا على البيروقراطية وردّ فعل على إيقاف الحبيب عاشور الهيئة الادارية للتعليم الثانوي التي هاجمت بشدّة اتفاقية 13 أفريل 1984 [15]مع الحكومة. وقد أصبح تزامن التجريد وإفشال اجتماع الاتحاد في عيد الشغل موضوع تنظير باعتبار ذلك صراعا بين “الاتحاد الثوري” و”الاتحاد البيروقراطي” صلب الاتحاد العام التونسي للشغل ولذلك أفسدوا أيضا اجتماع عبد السلام جراد في قفصة وفي عدّة جهات.[16]”
اليَسار والاتحاد من أواسط الثمانينات إلى الثورة
مع انتهاء بعض التجارب اليسارية وظهور أخرى، كان من المتوقّع أن تشهد مواقف اليساريين من الاتحاد بعض التحوّلات، لكن الواقع العيني يقول عكس ذلك تماما. مثلما بيّنته الفقرة السابقة على لسان الطيب البكوش، فإن موقف اليساريين إزاء الاتحاد كان عدائيًّا إلى حدّ ما. إذ يبدو واضحا أنّ اليساريين أرادوا دائما أن يحوّلوا الاتحاد إلى نقابة ثوريّة تكون وسيلة في أيديهم لتحقيق غاياتهم السياسية (وهم في ذلك لا يختلفون عن بورقيبة من حيث المنهج بل من حيث الغاية فحسب). لكن المُعطَى المهم الذي تغيّر يتمثّل في تحوّل التركيبة الاجتماعية لليسار خلال الثمانينات والتسعينات، حيث لم يعُد اليساريون ناشطين في نقابات “نخبوية” كنقابتي التعليم العالي والثانوي فحسب بل تمدّد وجودهم إلى نقابات أخرى كالنقل والبريد وغيرها[17]، وهو ما سَمحَ لهم بإعلاء صوتهم داخل المنظمة وإيجاد قاعدة أمتن لخوض صراعهم مع “البيروقراطيّة النقابيّة”. مع ذلك فإنّ الظرف السياسي العام الذي شهدته تونس منذ انتهاء مرحلة الفسحة الديمقراطية في أوائل حُكم الرئيس بن علي جعلت اليساريين يتعاملون مع الاتحاد باعتباره ملجأ وغطاء لهم من القمع السياسي. رافقَت هذه الرحلة عمليّة انغراس مُكثّف لليسار داخل المنظمة حتى عرف له تواجدا في كثير من النقابات الأساسية والاتحادات الجهويّة، أي في الهياكل الدنيا والوسطى. مع ذلك فإنّ المركزية النقابية خلال هذه الفترة كانت مُحافظة على طابعها الموالي للنظام واتبعت سياسة عدم التصادم والتوفيق بين المُتطلبات الداخلية للمنظمة والطبيعة الدكتاتوريّة للنظام. وقد ساهمت هذه العوامل في أن يكون الاتحاد حلبة صراع وتنازع وهو ما تجسّد مثلا في ظهور “اللقاء النقابي الديمقراطي” الذي جَمع معارضي النظام ومعارضي البيروقراطية النقابية في الوقت ذاته.
ظَهَر “اللقاء النقابي الديمقراطي” عشية الثورة التونسية في سنة 2010، بوصفه تكتلا نقابيا معارضا من داخل الاتحاد العام التونسي للشغل. وقد انخرط في هذه الحركة النقابية يساريون ونقابيون مستقلون. ولئن كان اللقاء النقابي يرفع شعارات مُتعلقة بدمقرطة الحياة النقابية والدفاع عن مصالح العمّال وتثبيت استقلالية الاتحاد[18]، إلا أن نظام بن علي كان ينظر إليه بوصفه امتدادًا للمعارضات “الراديكالية” المحظورة على غرار حزب العمال والتيار الوطني الديمقراطي. عموما اندلعت الثورة التونسية ولما تزال هذه التجربة النقابية في بداياتها، لذلك ضَاعت رهاناتها وأهدافها في زحام المطالب والاهتمامات الاجتماعية والسياسية الضخمة التي دشنتها الثورة، كما أن البيروقراطية النقابية أفلحت بعد الثورة في تحييد تجربة اللقاء النقابي الديمقراطي من خلال استراتيجيا تمثيل الأحزاب اليسارية داخل المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل في مؤتمر طبرقة المنعقد في ديسمبر 2011.
لقد كان لتَصاعد التّواجد اليَساري في الاتحاد خلال زمن بن علي نتيجتان أساسيتان: الأولى تتعلّق بانحسار الفعل السياسي اليساري داخل الاتحاد حيث أنّ اليساريين عملُوا أساسًا باعتبارهم مناضلين نقابيين لا باعتبارهم سياسيين وإن كان عملهم النقابي لا يخلو من السياسة (أحداث الحوض المنجمي سنة 2008، الثورة التونسية أواخر 2010 وبداية 2011). أمّا النتيجة الثانية فهي هيمنة العقل النقابي على العقل السياسي اليساري، حيث أضحت تقريبا كُلّ المناورات السياسية والتكتيكات اليسارية كأنّها مناورات لتحصيل أغلبية نيابية في مؤتمر اتحاد جهوي أو مؤتمر نقابة أساسية.
تجلّت هذه النتائج بوضوح بعد الثورة وبداية مرحلة التأسيس للجمهورية الثانية. ففي الوقت الذي كانت فيه الأطراف السياسية غير اليسارية تعمل جاهدة على بسط نفوذها السياسي وملء الشغور الحاصل على مستوى مؤسسات الدولة، كانت أعناق اليساريين متّجهة أساسا نحو المؤتمر الوطني للاتحاد المنعقد في مدينة طبرقة ديسمبر 2011. وقد كانت أغلب النقاشات مُتركّزة على المناورات وحجم تمثيلية الأطراف اليسارية في المكتب التنفيذي واسم الشخصية المُرشّحة لتحتلَّ منصب الأمين العام.
إنّ هذا التاريخ من الصراع بين اليساريين والاتحاد من جهة، والاتحاد والسُلطة من جهة أخرى، جعل اليساريين يقعون في خطأ قاتل كان قد وقع فيه الحبيب عاشور قبلهم، وهو اعتقادهم أنّه يُمكن لهم قيادة البلاد إذا ما استطاعوا السيطرة على الاتحاد العام التونسي للشغل. لكن ما حصل في الحقيقة هو أنّ الاتحاد بوصفه نقابة سيطَر على اليساريين وعلى قلوبهم وأفئدتهم كما فعل سابقا مع الحبيب عاشور.
نقل انخراط اليسار في الاتحاد الصراع من صراع سياسي ضد الاتحاد إلى صراع داخلي
لقراءة المؤلف الجماعي كاملا وتحميله، اضغط هنا
[1] عند التأسيس نشط الحزب الشيوعي التونسي باسم الفرع التونسي للحزب الشيوعي الفرنسي والذي كان يُسمّى حينذاك “الفرع الفرنسي للأممية الشيوعية”. في العام 1939 تبنى الفرع التونسي قضية تونسة الحزب وغيّر اسمه إلى “الحزب الشيوعي بالقطر التونسي” وأقرّ انفصاله عن الحزب الشيوعي الفرنسي. في العام 1943 تغيّر اسم الحزب ليُصبح الحزب الشيوعي التونسي.
[2] هذا هو مثلا الموقف الذي عبّر عنه المؤرخ والجامعي التونسي عبد الجليل بوقرة في حوار خاص أجرته معه المفكرة القانونية.
[3] انظر التعريف بمسيرة فرحات حشاد في الموسوعة التونسية المفتوحة.
[4] الطيب، البكوش، بورقيبة كما عرفته: خفايا اللقاءات حول الأزمة النقابية، PR Factory Leaders، تونس 2021. ص18.
[5] ورد في اللقاء الذي أجرته المفكرة القانونية مع الأستاذ عبد الجليل بوقرة.
[6] الطيب، البكوش، بورقيبة كما عرفته: خفايا اللقاءات حول الأزمة النقابية، PR Factory Leaders، تونس 2021. ص18.
[7] الطرودي، الهاشمي، أضواء على اليسار التونسي: حركة آفاق نموذجا، دار محمد علي الحامي، تونس، 2014. ص 17-18.
[8] Perspectives Tunisiennes, No1. P.10.
[9] كرعود، أحمد، من دروس الشيخ خليف بمسجد القيروان إلى اليسار الماوي، شهادة نقلها وعلّق عليها عبد الجليل بوقرة، دار آفاق برسبكتيف للنشر بتونس، تونس 2017. ص60.
[10] المصدر السابق، ص60.
[11] المصدر السابق، ص94.
[12] المصدر السابق، ص 96.
[13] الطيب، البكوش، مصدر سابق، ص93.
[14]هي قاعة اجتماعات تقع وسط العاصمة التونسية ينظم فيها الاتحاد العام التونسي للشغل لقاءاته النقابية وخاصة الاحتفال بيوم الشغل العالمي الذي يوافق يوم 01 ماي من كل سنة (هذا الهامش من وضع المحرر)
[15] هي اتفاقية إطارية اجتماعية عقدها اتحاد الشغل في أفريل 1984 مع الحكومة التونسية ضمن مفاوضاته النقابية مع الطرف الحكومي، وقد كانت تلك الاتفاقية محل معارضة من قبل النقابيين اليساريين (هذا الهامش من وضع المحرر)
[16] نفس المصدر، ص143.
[17] من حوار أجرته المفكرة القانونية مع المؤرخ التونسي عبد الجليل بوقرة.
[18] بيان اللقاء النقابي الديمقراطي، موقع الحوار المتمدن، 22 نوفمبر 2010.