في الكثير من الأحيان تَكشف سنوات النضال الطويلة عن مشاكل هيكلية يُعاني منها التنظيم اليساري. وتكمن خطورة هذه الحقيقة في الشلل التام الذي تصبح عليه “آلة الحزب” عندما لا تكون قادرة على قيادة الخلاف وتنظيمه والسّير به نحو خُلاصات موضوعية تمكّنها من التأقلم مع الواقع السياسي والطبقي، ومع وعي الجماهير أيضا.
بعد اندلاع المسار الثوري في تونس، وَجدَ اليسار نفسه داخل جملة من التناقضات المستعصية التي فَرضها الواقع الجديد، فانتشرت دعوات مختلفة تفتقر إلى التبلور الكافي -على غرار فكرة الحزب اليساري الكبير أو فكرة التسيير الذاتي- رغم أنها تهدف إلى التفكير في هويات وتجارب تنظيمية جديدة قادرة على فهم الواقع الموضوعي بشكل أفضل، واستيعاب أكثر ما يمكن من الجماهير والتسلّح بآلة دعائية ممتدة وقادرة على مجاراة التبدّل السريع في حركة الثورة. فَرض َهذا الواقع الجديد نفسه على مجمل التنظيمات اليسارية، بخاصة الكلاسيكية منها، التي برهنت عن إرادة منقوصة في إصلاح ما يمكن إصلاحه. ولا سيّما فيما يتعلّق بالبنية التنظيمية والقاعدة الاجتماعية لأحزابها.
وفي خضمّ هذا التحوّل الثوري، تجَاهلت أحزاب اليسار الدعوات الجديدة الرامية إلى إعادة قراءة المعطى التنظيمي من زاوية نظرية وسياسية جديدة. وانكبّت من جهة أخرى على ترميم بيتها الداخلي وإعادة تنظيم نفسها دون تفاعل مع حالة الوعي الجديدة الرافعة لشعار “المزيد من الديمقراطية الداخلية”. وهو ما يظهر خاصّة من خلال تجارب حزب العمال وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد والجبهة الشعبية، بوصفها تجارب تمتلك الحدّ الأدنى من الوضوح الذي يسمح بالحديث عن مآزق الديمقراطية الداخلية صلبها، وليس بوصفها التعبيرات التاريخية الوحيدة لليسار التونسي.
حزب العمّال: القيادة الشاملة والمُهيمنة
لم يكن حزب العمّال حالة استثنائية في انعدام الخلافات مثلما يعتقده كثيرون. فهذا التنظيم الذي انحدَر من الحلقة الماركسية اللينينية “الشيوعي”[1] قد رَاكَم سنوات طويلة من الخلافات حول الطابع الديمقراطي للتسيير. وربّما لا نُبالغ عندما نقول أنّه لا يمكن معرفة الأسباب الحقيقية لخروج عديد المناضلين من جيل التأسيس. إن ظاهرة الاستقالة والطّرد لأسباب ذاتية وسياسية وتنظيمية قد رافَقت بشكل عضوي مسيرة هذا الحزب. ولكنها أصبحت بادية للعيان بعد الثورة، إثر المرور إلى حالة العلنية التي صاحبتها هي الأخرى جملة من الخلافات المُتمحورة حول سلامة هذا القرار من عدمه. وقد تمحورت الخلافات أساسا حول سلامة الحزب وهياكله والخوف من العودة المُحتملة للديكتاتورية إبان الثورة.
في ظروف ما بعد الثورة، حَسمت القيادة قرار العلنية ورفعت شعار إعادة بناء الحزب. ولكنّها لم تقدر على الإيفاء بهذا الشعار بما يحمله من تحويل ثوري شامل لبنية الحزب التنظيمية. وهكذا أجرت تغييرات على الهيكلة القيادية فقط (قيادة وطنية/كتابة وطنية) إثر عقد المؤتمر العلني الأول صيف عام 2011. من الضّروري هنا الإقرار بأن التغيير الأوّل في هيكلة الحزب قد فَتح الباب أمام موجة من الوافدين بفضل تغيّر الأوضاع السياسية في البلاد. ولكن بالمقابل، لم يقدر لا الحزب ولا منظماته على هيكلة الوافدين عليه بشكل سليم، لأن الحزب بكل بساطة يشكو عجزا على مستوى بنيته التنظيمية غير القادرة على فهم الذهنية الجديدة للمناضلين الذين انضمّوا إلى صفوفه بفعل المدّ الثوري. إن التنصيص هنا على سياقية الأزمة مردّه المرجعية التنظيمية للحزب التي لم تتغير منذ تأسيسه في 1986. فحزب العمال هو حزب “ما العمل؟” اللينيني الذي أرسَى في بداية القرن الماضي مبدأ المركزية الديمقراطية التي تفترض وجود أغلبية مُسيطرة وأقلية خاضعة، وهياكل قيادية وأخرى دنيا.
اكتست تجربة حزب العمال في السنوات الأولى للثورة تخبّطا تنظيميا وسياسيا واضحا، بخاصة أثناء تجربة المجلس الوطني لحماية الثورة[2] التي مثّلَت دليلاً قاطعًا على الفوقيّة التي مارستها القيادة. إذ عَرفت تلك الفترة صعوبة انتقال المعلومة بينها وبين بقية الهياكل نظرا إلى غياب خطة تنظيمية واضحة تسمح بذلك، ممّا أضعف قدرة الحزب على التأثير داخل المجلس. كان للقيادة مطلق التصرّف في اتخاذ المواقف داخل هذا الإطار الذي اضمحلّ من تلقاء نفسه في إثر الإعلان عن انتخابات المجلس التأسيسي[3].
إن ترك حرية التصرف لدى القيادة ينبع خاصة من الذهنية الإيديولوجية للمناضل الذي يعتبرها قادرة على قلب الأوضاع في البلاد فجأة. وهذا وعي سطحي وضعيف راكمتْه سنوات السرية الطويلة التي سمحت للقيادة حسب رأي هؤلاء المناضلين بإنقاذ الحزب وحمايته.[1] [2] ينسف هذا الوهم على حد سواء مقولتيْ الأقلية والأغلبية، لأنه لم يكن متشبعا بالديمقراطية الداخلية التي لا تعني حرية إبداء الرأي فقط بل تعني عقد المؤتمرات الدورية والاستثنائية واستعراض التقارير المالية وخاصة دراسة حالة وضع المركزية الديمقراطية في الحزب بطريقة مستمرة من وجهة نظر مدى النجاح في تطبيقها. بالرغم أنه كان من الضروري تكريس تقييم مستمر لحالة انسجام الهياكل وقدرتها على التفاعل الجماعي-النقدي مع خطط ومواقف القيادة، إلا أن الأمور في حزب العمال كانت تسير على نحو مغاير حيث لا يتم تخصيص ركن قار في مجلة الحزب النظرية ”الشيوعي” لهذه المسألة.
إثر اغتيال محمد البراهمي في 25 جويلية 2013، دخَل حزب العمال في جبهة الإنقاذ[4] مع قوى جديدة أهمّها حزب نداء تونس الذي بَنَى تكتيكه السياسي على قاعدة الصراع معَ حركة النهضة. وسخّر الحزب كلّ إمكانياته في جبهة الإنقاذ التي أحدثت خلافا في الموقف صلب الحركة اليسارية حول التكتيك السليم الذي يجب اتّباعه في تلك اللحظة من المسار الثوري. وَضعَت القيادة كل هياكل الحزب في التحركات الميدانية إلى حدّ استنزافها. ولكن في المقابل لم تُرسم خطة للاتصال الداخلي تُمكّن المناضلين من معرفة ما يحدث في النقاشات السياسية، ليتفاجأ الجميع بعد ذلك بنهاية اعتصام الرحيل إثر لقاء باريس الذي جَمع يوم 15 أوت 2013 الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي برئيس حركة النهضة راشد الغنوشي[5]. لم يَقدر حزب العمال ومن معه في الجبهة الشعبية على مواصلة الاعتصام. فقد أنهَى اللقاء المذكور أي إمكانية لتغيير موازين القوى، لتعود الأمور كما كانت عليه وليستفيد حزب نداء تونس في الأخير من كل ذلك الزّخم.
هنا واصلت قيادة الحزب في نهجها الذي لا يعترف بالجدوى الثورية لعملية التقييم وظلّت تتخفّى دائما وراء ميزان القوى العام في البلاد، لتتهرّب من أخطائها في مجال التنظيم، وحمّلت في المقابل مسؤولية فشل الإعتصام في تحقيق أهدافه لحزب نداء تونس ومن ورائه “القوى المضادة للثورة” حتى تتجاوز الإحراج الداخلي الذي وقعت فيه. إن غياب التقييم الموضوعيّ بوصفه منهجا في التسيير سمح للقيادة أيضا بالبروز بثوب الغيّور الأول على وحدة الحزب المُهددة بفعل كثرة الأخطاء التكتيكية. كما أن هذا السلوك المزمن يكشف عن إرادة في عدم إيجاد أغلبية وأقلية داخل الحزب، أي عدم ترك المجال للتفاعل الديمقراطي الحرّ ولتصويب الجهاز التنظيمي المُتهالك غير القادر على مجاراة الوضع بسبب عدم فهم القيادة لمسألة الترابط الجدلي بين بنية الحزب التنظيمية من جهة واتجاهات المسار الثوري ومزاج الجماهير من جهة أخرى. بالإضافة إلى ذلك هناك أمر مهم وهو مرتبط بعملية التقييم في حد ذاتها، إذ أن خطاب القيادة يحصر مسألة التقييم التنظيمي في مجرد مفاهيم كـ”الهشاشة الإيديولوجية” و”ضعف الإستقطاب والهيكلة” و”ترهّل منظمات الحزب”، وهو في الواقع خطاب يُعالج الأزمة بشكل سطحي ولا يسعى إلى تحليل جذورها البعيدة والمباشرة بدعوى الحفاظ على وحدة الحزب وبهدف الظهور كقيادة صلبة ومتملكة لإشكالات التنظيم. يَخلق هذا الأسلوب في العمل في نظر سمير حمّودة القيادي السابق في حزب العمال ”الاستياء لدى البعض وروح التبعية لدى البعض الآخر ويُساهم أيضا بصفة غير مباشرة في ظهور النقاشات الهامشية خارج الهياكل. أعتقد أنه لا يمكن تطوير المقدرة النظرية والسياسية لأعضاء الحزب وكوادره دون تطوير الصراع الفكري والسياسي داخله. ولكن لا يمكن تطوير الحياة الداخلية للحزب وتطوير الصراع الفكري والسياسي دون تغيير أساليب العمل التنظيمي وأساليب القيادة والإشراف”[6].
أعتقد أنه من الضروري الإقرار من خلال تكتيك القيادة في مجلس حماية الثورة وفي جبهة الإنقاذ بفشل آلية المركزية الديمقراطية في إجراء تقييم شامل وموضوعي حول حياة الحزب الداخلية، في الفترة الأولى للثورة، وبخاصة خلال تجربة الجبهة الشعبية. لأن الفشل في إدارة الصراع السياسي الوطني لا يرجع فقط إلى هَيمنة القوى السياسية الأخرى على غرار نداء تونس وحركة النهضة، وإنما أيضا إلى ضعف نظرة القيادة التي تتأثر جدليّا بضعف المركزية الديمقراطية التي كان يفترض منها خلق دينامية فكرية حول موضوع ما، حتى تصل إلى تشكيل أغلبية وأقلية واضحتين. تبدُو المعضلة هنا عميقة، إذ أنّ الطابع الشموليّ للمركزيّة الصارمة يضفي مناخًا من التكلّس التنظيمي يدفع الجميع إلى التّمترس وراء القيادة وإلى مقاومة كل محاولة للقيام بإصلاحات جدية بتعلة عدم الزج بالحزب في نقاشات عقيمة تُلهيه عن أداء مهامه. وهكذا تُصبح الإدارة الفوقية أسلوبًا في التسيير وليس مجرد تشوّه عَرضي أو انحراف مَرحلي.
أما من جهة أخرى فإنه من الأنسب الاعتراف الفكري بأن مفهوم المركزية الديمقراطية بمعناه اللينيني، دخَل في أزمة منذ زمن بعيد، ممّا أثر على البنية التنظيمية اليسارية عموما. إذ أن جملة التناقضات المستعصية الموجودة داخل أيّ تنظيم يساري لم تقدر المركزية الديمقراطية على حلّها سوى بالتطهير أو العقوبات أو التحريض ضدّ هذا “الرفيق” أو ذاك لسحق ما يمكن سحقه من أقلية معارضة.[7] إن التناقض بين الجمود والتجديد النظري وبين القيادة والقاعدة قد أصبح أمرا واقعا. وهو ما يجعلنا ندور دائما حول سؤال أين الخلل إذا؟ أهو في المركزية الديمقراطية في حد ذاتها أم في وعي المناضل الحزبي وتَمثّل القيادة من ورائه لمسألة الديمقراطية الداخلية بما هي أسلوب تسييري يقوَى بوجود الحركية الفكرية ويضمر بغيابها؟ أم هو في الظروف الموضوعية المتجسّدة أساسا في اختلال ميزان القوى السياسي والطبقي؟
إن الحزب اليساري ليس مجرد تنظيم فقط، بل هو وعي قبل كل شيء. ويمكن لهذا الوعي في بعض الظروف أن يكون مقلوبا على رأسه بفعل تبعيته لهيئة قيادية أو لفرد. في إطار هذه الهيمنة الشاملة التي بسطتها قيادة حزب العمال في مرحلة المسار الثوري يجب أن نقف على خاصية أخرى مهمة وهي الطابع التكتّلي لسلوكها. فهي لا تسمح إلا لنفسها بتكوين كتلة بالمعنى السياسي والتنظيمي لا بالمعنى القانوني. لأن حزب العمال يمنع التكتلات في نظامه الداخلي ولكن الهيمنة القيادية لا تعترف بالقانون.[8] فكيف يمكن لحزب أن يُطوّر فكره وممارسته في ظل هذا المنهج؟ وكيف للعلاقات بين المناضلين أن تكون قائمة على النقد المتبادل في حين أن زاوية نظر القيادة هي الانتصار على الأقلية وسحق إرادة التغيير لديها ونعتها بالتخريب وبمحاولة هدم الحزب من الداخل، وإلى غير ذلك من الصفات التحقيرية التي تُذكّرنا بالأنظمة الشمولية.
تنطلق القيادة من فكرة إطلاقية تقول بأنه لا يجب المساس بالثوابت التنظيمية مثلما وردت في التراث اللينيني، معتبرة أن تجربة الحزب البلشفي التنظيمية لا تزال من أرقى التجارب إلى حدّ اليوم وأن مراجعة هذا النمط التنظيمي يدلّ على نزعة تحريفية وتخريبية لا تخدم إلا الأعداء الطبقيين.[9] وهذه النزعة تملك القيادة سلطة تحديد معالمها ومجالات تطبيقها. إن الطابع الجامد والإطلاقي لفكرة منع التكتل يَعكس اصطفاف القيادة ورَاء مقولات الثوابت التنظيمية والهوية الفكرية والسياسية للحزب التي تَستخدمها للدعاية تحت يافطة “مقاومة بوادر التكتل”، ليُصبِح “المتكتلون” في خطاب القيادة عبارة عن أشخاص متفسّخين طبقيا وضعيفين سياسيا ونظريّا، إلى جانب أنهم يستغلون الحزب من أجل قضاء مآربهم كحب المناصب والشهرة على حساب التنظيم وربما حتى اختراقه خدمة لأطراف خارجية.
ترك حرية التصرف للقيادة ينبع من اعتبارها قادرة على قلب الأوضاع في البلاد فجأة
حزب الوطد المُوحّد: الوحدة العاطفية لا تصنع الديمقراطية
اتّجَه حزب الوطد الموحد منذ انعقاد مؤتمره التأسيسي في 2011 نحو القضاء على الثقافة الحَلَقيّة القديمة (من الحلقات) التي طَبعت تجربة التيار الوطني الديمقراطي اليساري منذ بداية ظهوره أواخر السبعينات وبداية الثمانينات. ولم يكن التنظّم الحلقي يُولي اهتماما كبيرا بفكرة خوض النضال السياسي والطبقي عبر تأسيس حزب الطبقة العاملة وطليعتها الثورية على غرار المنحى الذي اتخذه حزب العمال الشيوعي التونسي، سليل تجربة العامل التونسي، الذي تأسّس أواسط الثمانينات.[10] وقد لَعب شكري بلعيد ومجموعة قيادية أخرى دورا في تجميع حلقات الوطنيين الديمقراطيين داخل حزب موّحد قادر على إرجاع اليسار إلى واجهة الأحداث السياسية في السنوات الثلاث الأولى بعد الثورة. ويُفهم هذا الاتجاه التوحيدي من خلال صِفة “الموحّد” التي أطلقت على اسم الحزب. إلا أن اغتيال شكري بلعيد قد كان له بالغ التأثير على وحدة الحزب الذي عقد مؤتمره الثاني بانتخاب زياد لخضر أمينا عاما جديدا، ولم تكن هذه الخطوة كافية لوضع حدّ لحالة الفوضى التنظيمية التي بَدَا عليها حزب الوطد الموحد. في هذا السياق، بدأت الخلافات بالتراكم تدريجيا لتبلُغ مداها مع ما بات يُعرف في أوساط اليساريين بـ “شق المنجي الرحوي” القيادي والنائب البرلماني السابق. ومهما تكن صدقية هذه التسمية فإنها تعكس حالة التصدّع الداخلي التي يعيشها الحزب. ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن أصل الخلافات مردّها القراءة المختلفة للوضع السياسي وموازين القوى خاصة بعد الإجراءات الاستثنائية في 25 جويلية 2021. ولكن المهم في الأمر أن التناقض في القراءة كان له أثر تنظيمي ترجَمه انقسام الحزب إلى مناصري القيادة من جهة ومناصري منجي الرحوي من جهة أخرى. وقد حظيَ الرحوي بتأييد نسبي داخلي، بفضل فتراته النيابية الممتدة من أكتوبر 2011 إلى غاية تجميد عمل البرلمان في 25 جويلية 2021، وبفضل حضوره الإعلامي المكثّف، ممّا جعله قادرا على التأثير في صفوف حزب الوطد الموحد.
رغم الاتفاق النسبي صلب قيادة الحزب حول الموقف من الإجراءات الاستثنائية المتخذة في 25 جويلية،[11] إلا أن اتجاه الرئيس إلى مركزة السلطات بيده وتعاظم مظاهر الاعتداء على الحريات العامة والفردية والعسكرة المتزايدة للفضاء العام، سرعان ما أحدَثَ خلافا في القراءة السياسية بما فيها تحديد طبيعة التناقضات والمهام النضالية المترتّبة عنها. في هذا السياق، وخلافًا لموقف اللّجنة المركزية للحزب، شارَك منجي الرحوي في أشغال الحوار الوطني الذي سطّره الرئيس قيس سعيد. في حين قاطعته قيادة الوطد الموحد الذي اعتبرته شكليا ولا يستجيب لانتظارات الشعب التونسي،[12] ولا هو بقادر على إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعمّقت في عهد الرئيس سعيّد.
وَسطَ هذا التناقض السياسي، برز تناقض آخر مشتق منه ذو طبيعة تنظيمية. إذ أن تأثير منجي الرحوي داخل الحزب مَكّنَه من كسب أعضاء من المكتب السياسي واللجنة المركزية ورابطات جهوية (صفاقس-المهدية) حول عناوين تنظيمية أهمها عقد المؤتمر وتغيير قيادة الحزب الحالية وإعادة تشكيل هياكله الوسطى المنحلة، وإعادة بناء منظماته في مجالي النساء والشباب. وهو ما نص عليه بيان الهيئة التسييرية المؤقتة الصادر بمدينة صفاقس في 25 سبتمبر 2022، الذي اعتبر شِق قيادة الحزب “بيروقراطيا” ومستفردا بالرأي و”فاشلا” في إدارة شؤون الحزب وتطوير مردوديته.
زيادة عن ذلك هناك ازدواجية في المواقف المُعلنة إلى الرأي العام. فشقّ الندوة الوطنية وشق قيادة الحزب[13] يعبّران عن مُقاربات مختلفة باسم نفس التنظيم وهو ما يدلّ على حالة من الفصام التي لم يعد بإمكان النقاش الديمقراطي إيجاد حلول جدية ونهائية لها.[14] ولكن الاقتراب أكثر من الواقع الداخلي للحزب يجعلنا نفهم بأن هناك خطين واضحين. فمنجي الرحوي عمل منذ انعقاد المؤتمر التأسيسي للوطد الموحد على تقديم نفسه كمنافس جدي لشكري بلعيد. كما برهن في أكثر من مناسبة عن رغبته الدخول في حكومة يوسف الشاهد في فترة سابقة ودَافع عن الحوار الوطني الذي سطرّه الرئيس قيس سعيّد كوسيلة مُثلى لتغيير واقع البلاد دون أن ننسى مساندته لوثيقة اتفاق قرطاج 2[15]. إن اشتداد الصراع بين شق القيادة وشق الندوة الوطنية لم يجد أي طريقة للحل بفعل ضعف الديمقراطية الداخلية للحزب. ومرد ذلك هو عدم قدرة الوطد الموحد وكل مكونات المشهد اليساري عموما على التكيف التنظيمي مع حركة تطور الأحداث والعجز عن إيجاد قراءة موحّدة على الصعيد السياسي والفكري من منعرج 25 جويلية. فالتنظيم الذي لا يتكيّف داخليا مع الوضع السياسي الجديد والذي يفشل في إنتاج دينامية داخلية قائمة على النقاش الفكري والسياسي حول تجديد الأساليب التنظيمية البعيدة عن برود البيانات وعن سلبية “الوحدة العاطفية” التي عوّضت الوحدة الحزبية، سيكون مصيره التشظي في نهاية المطاف.
يبدو أن الديمقراطية الداخلية المرتكزة على شعار “التنوع داخل الوحدة” قد أضعفت الوطد الموحد الذي ضلّ طريقه بين التنوع الممكن الذي يطرح من خلاله كل شيء للنقاش بما فيها ثوابت الحزب والوحدة الصلبة التي تتطلب الانضباط الصارم عندما يتعلق الأمر بلحظة تاريخية مهمّة. إضافة إلى ذلك، يجب القول إن تمثّلات السلطة وكيفية طرح البدائل الكفيلة بتجاوز حالة السلبية و الانتظارية والتردّد المَوقفي أصبحت من مُعيقات الحوار داخل الحزب. فالقيادي منجي الرحوي يعتقد أن الوقت قد حَان للقطع مع سياسة المعارضة الجذرية وأنّ بإمكانه المساهمة من موقعه في الحكومة القادمة في إرجاع الدولة إلى دورها الاجتماعي. أما شقّ قيادة الحزب فترى أن موقفه شخصي -في حين أن ندوة المنستير قد شارك فيها أعضاء من المكتب السياسي واللجنة المركزية من دون احتساب الرابطات الجهوية- ويهدد وحدة الحزب واستقلالية خطّه السياسي[16]. لا يمكن للديمقراطية الداخلية أن تكون خَلاّقة للوحدة في ظل هياكل مُنحلّة في أغلبها وفي غياب مناضلين مؤمنين حقا بالفهم المادي للتاريخ وبتأثير التحولات الاجتماعية العميقة على المشهد التنظيمي. فلو كانت أحزاب اليسار واعية بهذه الحقيقة وتُمارسُها خاصة في أوقات الأزمة وتخلق الأطر المناسبة لها لما حدثت مثل هذه الخلافات داخل الوطد المُوحّد. لأن تعطّل الهياكل وانحلال جزء كبير منها جَعل الحزب يُواجه هذا الصراع بصعوبة، انتهت بطرد منجي الرحوي ومن معه في نهاية المطاف في حلّ يعبّر عن يأس حقيقي ونُكوص واضح عن مبدأ اشتهر به الحزب وهو الاستفادة الفكرية والسياسية من تنوع الرؤى داخله.
من الضروري الإشارة هنا إلى أن الاختلاف في قراءة ”ظاهرة قيس سعيد” بكل أبعادها الانتخابية والسياسية وحتى القانونية، إلى جانب التردّد في فهم طبيعة التعبيرة الطبقية لحكومته، فَرضَ نفسه على وحدة الحزب وأدخلها عُنوة في سيرورة من التآكل الداخلي. وفي الكثير من الأحيان يعلّمنا تاريخ الخلافات داخل التنظيمات اليسارية بأنه لا يجب علينا النظر لمسألة الوحدة التنظيمية كمُعطى قَبْلِي، بل كتفصيل مهم ينحَتُ باستمرار بفضل التملّك العميق لفهم التحولات السياسية التي تمرّ بها المسارات الثورية وبفضل الانتباه لقيمة اللحظة التاريخية وتأثيرها على المزاج الشعبي العام. إن التعلق العاطفي بالتنظيم -الذي أصبح “موضة إيديولوجية” جديدة- له انعكاسات سلبية على الصراع الداخلي والمفتوح. لأنه يقلل من دور الصراع الديمقراطي ويفتح المجال لفكرة كون الحزب واقعا عاطفيّا سلبيّا، لا واقعا نضاليّا إيجابيا.
الإدارة الفوقية أسلوب في التسيير وليس مجرد تشوّه عَرضي أو انحراف مَرحلي
الجبهة الشعبية: المُحاصصة أو “ديمقراطية مجلس الأمناء”
مَثّلت الجبهة الشعبية مرحلة جديدة في تنظيم القوى اليسارية وقدَّمت ممارسة نوعية عن العمل المشترك صلب الحركة الماركسية والقومية وطرحت نفسها كبديل سياسي جاهز للحكم. تَشكَّل هذا الإطار السياسي بعد الخيبة الانتخابية للمجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011، وأعلن عن تأسيسها في أكتوبر 2012 بعد جلسات نقاش مضنية تُوّجت بالاتفاق على أرضية عامة تترجم رؤية الجبهة للمسائل المطروحة وقتها (طبيعة السلطة القائمة والبديل الاقتصادي والاجتماعي).[17]
لم يكن المشهد الدّاخلي للجبهة مُنفصلا عن أزمة الأحزاب اليسارية المكوّنة لها. فالإدارة الفوقية المستفحلة قد تسرّبت إلى هياكل الجبهة وأصبحت مُعرقلا لتطورها، وكان مجلس الأمناء عنوانها الأبرز، فهو الذي شُكِلَ من أجل القيام بدور تنسيقي قيادي مع العلم أنه الهيكل الوحيد الذي يمتلك سلطة تقريرية. لقد كان أمر هذا الهيكل عجيبا، فكلّ ما يحصل داخله من خلافات ينعكس على باقي الهياكل المحلية والجهوية (ينعكس حتى على المنظمات الأخرى مثل الإتحاد العام لطلبة تونس) أين تجد كل مكونات الأحزاب الجبهوية نفسها مرغمة في غالب الأحيان على الانضباط لمواقف قياداتها. بالتالي خَلقَ مجلس الأمناء صراعا مزدوجا: صراع داخله وصراع داخل الهياكل المنضوية تحته. ورغم وجود اليساريين المُستقلين داخل الجبهة، إلا أنهم لم يستطيعوا التدخل لفض النزاعات الحزبية “السكتارية” بسبب تهميشهم من مجلس الأمناء، الذين سعَى إلى تقزيمهم ومنعهم بذكاء من تنظيم أنفسهم داخل الجبهة، رغم ما كانوا يمثّلونه من وزن نوعي وكمّي. واكتفى مجلس الأمناء بتمثيل البعض ليس على قاعدة الإضافة إلى مشروع الجبهة بل على قاعدة قوّة العلاقة بهذا الأمين العام أو ذاك والقدرة على الدفاع عن موقف مُمثلّ حزبي معين داخل المجلس.
من البديهي إذا أن يتحوّل هيكل قيادي بهذا التصوّر وبهذه العقلية إلى عنوان صراع مُستمر إما حول ترأس القائمات الانتخابية أو حول جدول أعمال الندوة الوطنية التي لم تٌعقد وفقا للوثائق الأساسية للجبهة (كل ستة أشهر) أو حول توحيد قائمة نقابية قطاعية، وحتى حول توحيد المنظمة الطلابية. فالصراع هنا كلّه مرتكز في عديد المحطات على المواقع وترجيح الكفة لحزب دون آخر، لا على أساليب النضال الكفيلة بتغيير موازين القوى لصالح المسار الثوري. ولعلّه في لحظات سياسية مهمة يبرز التردد المَوقِفي داخل مجلس الأمناء، بما يُحيل على ممارسة مغشوشة للوحدة التي تعني بالنسبة إليه إصدار أكثر من موقف لتخفيف الاختلاف لا لتسويته، مثلما حصل في الدّور الثاني في رئاسية 2014 وما خلّفه موقف “قطع الطريق” أمام الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي من لخبَطة وتشويش بين من يعتبره مقاطعة صريحة وبين من يرى أنه تشجيع ضمني على انتخاب الباجي قايد السبسي.[18] إضافة إلى ذلك مَارَس مجلس الأمناء أشكالاً متنوعة من تهميش الرّافد العِلمي الذي يمثله مجلس “خبراء الجبهة” وسعى دائما إلى التقليل من دوره وإبعاده عن التأثير القيادي داخل أطر الجبهة.
يعكس هذا السلوك التنظيمي نزعة نحو التأسيس غير المنطقي لعمل جَبهوي يُقيم تناقضا بين الكفاءة السياسية والكفاءة العلمية، ممّا خلق ضبابية في شعارات الجبهة المتعلقة بالمنوال التنموي الجديد وتطوير الفِلاحة وتحديث الاقتصاد الرقمي والتضامني. يقول المؤرخ الهادي التيمومي في هذا السياق “إن منوال التنمية الجديد الذي ظل اليسار يردده شعار غائم جدا ويختلف مضمونه من شخص إلى آخر، لكن الاتفاق الضمني الحاصل بين الجميع هو أنه صيغة رأسمالية مُخفّفة”.[19]
في جانب آخر، لاحظَ العديد ممّن حضروا ندوة الجبهة سنة 2016 في مدينة الحمامات أن هناك توترا كبيرا بين مجلس الأمناء ومجلس الخبراء. وهو ما ترجَمه إقصائهم من التمثيل في القيادة السياسية للجبهة مما سرَّع في إنهاء العلاقة بينهم. وبالتالي هيمَن المعطى السياسي على المعطى العلمي. فعوض البحث عن آليات تنظيمية تَحول دون سيطرة طرف على آخر على الأقل واصَل مجلس أمناء الجبهة الدفاع عن عقليته العجيبة المتمثلة في أهمية السياسي على حساب العلمي التي أثّرت على صياغة البرنامج الاقتصادي والاجتماعي نظريا ودعائيا، وعلى الحلول التي تقترحها الجبهة في هذا المجال. إذ تم الاكتفاء بترديد الشعارات العامة كالعدالة الجبائية وسن الضريبة على الثروات الكبرى من دون توضيحها تقنيا. اصطدَم بالتالي تفاؤل العقل الطموح لخبراء الجبهة الذين تميّزوا بتكوين علمي محترم في اختصاصات عديدة بتكلّس الأمناء العامين لأحزاب الجبهة، الذين عملوا على الحفاظ على مواقعهم خلال هذه الندوة اعتمادا على المحاصصة رغم تنظيم انتخابات في نهايتها،
فقد اقتصرت الانتخابات فقط على تجديد الهياكل القيادية للجبهة (مجلس الأمناء والمجلس المركزي) وفقا لمنطق المحاصصة السياسية الذي يقضي بتوزيع المقاعد حسب حجم كل مكون من مكونات الجبهة وليس حسب الانتخاب على قاعدة برنامج كل مترشح لمهمّة من المهام، وهكذا لا يمكن اعتبار مخرجات هذه الندوة على الصعيد الهيكلي من قبيل الممارسة الديمقراطية حيث صادق المؤتمرون في نهايتها على القائمة التي تم التوافق عليها داخل مجلس الأمناء ولم تُطرح أصلا للنقاش أثناء الأشغال.
نجحَت الجبهة الشعبية خلال الفترة النيابية الثانية (2014-2019) في الحصول على 15 مقعدا وخَلقَ هذا النجاح تناقضا جديدا بين مجلس الأمناء والكتلة البرلمانية التي أصبح لها تأثير سياسي يُضاهي ويفوق ما كان يتميّز به الهيكل القيادي للجبهة، هذا دون الحديث عن التداخل التي أصبحت عليه الأوضاع التنظيمية، فعديد القياديين من بينهم أمناء عامين قد أصبحوا أعضاء في مجلس نواب الشعب (اليسار العمالي-الوطد الموحد-حزب الطليعة العربي الديمقراطي) وهو ما سيؤدّي بالضرورة إلى التداخل بين المهام النيابية والسياسية والتنظيمية. ولكن ما يمكن ملاحظته في هذا المستوى هو ابتعاد الجبهة عن الشارع وافتقارها للمبادرات الخاصة بمشاريع القوانين باستثناء مقترح قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني. وساهم هذا التقوقع -بالتوازي مع سلبية مجلس الأمناء وسقوطه في مصيدة العمل البرلماني- في خلق مسار كامل من الانحلال التنظيمي. حيث اندثرت عديد الهياكل الجهوية والمحلية من تلقاء نفسها وحلَّت محلها الخلافات الداخلية التي أخذت في التطور حتى بلغت مداها عام 2018.
مرة أخرى لم تستطع الديمقراطية الداخلية التي لا يؤمن بها مجلس أمناء الجبهة ولا المحاصصة الحزبية المُطبقة من فوق إلى تحت في إنقاذ حلم طيف واسع من اليسار من السقوط. فبعد أسابيع متتالية من الاقتتال الإعلامي والاتهامات المتبادلة بتدمير الجبهة خاصة بين حزب الوطد الموحد وحزب العمال انتهى حلم اليساريين في بناء النواة الأولى ليسار ثوري مُوحّد حول مهام واضحة. في تلك الفترة، تأكّد أن مجلس الأمناء يمثل خطرا حقيقيا على وجود الجبهة (مع الكتلة البرلمانية التي استقال تسعة من أعضائها كاحتجاج على الوضع التنظيمي) لأنه منبع الأزمة في حد ذاتها، إذ لم يَعتمد على مقاربة واقعيّة تسمَح بتخفيف التوتّر داخله خاصة إزاء اختيار مرشح للانتخابات الرئاسية ورؤساء القائمات عام 2019. في تلك الانتخابات، فشلت أحزاب الجبهة الشعبية في توحيد قائماتها التشريعية، كما أنّها لم تختر مرشحا واحدا للانتخابات الرئاسية، فقد رشح حزب العمال أمينه العام حمه الهمامي، بينما رشّح حزب الوطد الموحد القيادي البرلماني المنجي الرحوي. ومثلما هو متوقع كانت النتائج الانتخابية التشريعية هزيلة، فلم يحصد اليسار سوى مقعد برلماني واحد.
في حالة الجبهة الشعبية، تدلّ بيروقراطية مجلس الأمناء على فقر كبير في إبداع أساليب جديدة للتسيير الداخلي، خاصة في أوقات الأزمة. وهو ما يعني عدم قدرة العقل البيروقراطي على التكيّف مع تغيّر الأوضاع السياسية وتأثيرها على البنية التنظيمية لأنه بكل بساطة منغلق على بقية الهياكل (بفعل هرمية التنظيم) ويسعى إلى الحفاظ على ميزان قوى داخلي تَسهل السيطرة عليه. يبدو أن الأنموذج التنظيمي في حالة الجبهة لم يتغيّر إطلاقا مقارنة بمثيله داخل الأحزاب. فالعقل اليساري التونسي لا يزال مُقتنعا بالهرمية التنظيمية الثابتة التي لا تُعطي قيمة للكادر الوسيط رغم ما خلّفته تلك الهرميّة من أزمات وانشقاقات ومن تكلّس نظري ومن انفعالية في صياغة التكتيكات المرحلية. من الطبيعي إذن أن يكون انقسام الجبهة ثم سقوطها بتلك الطريقة المشهدية والمُخزية تعبيرا واضحا عن الأزمة التي تعيشها “النظرية الثورية” وتجارب اليساريين في بقاع مختلفة من العالم، خاصة في الجانب المُتعلق بالتسيير الديمقراطي الداخلي وبعلاقة الهياكل ببعضها.
إن الإقرار بأن استحالة الديمقراطية الداخلية في التنظيمات اليسارية مردّه أزمة القيادة الممارسة للفعل السلطوي الذي لا علاقة له لا بقوانين الحزب الداخلية ولا حتى بالأخلاق النضالية ليس مجرد انطباع ذاتي، بل هو مبني على معطيات تنظيمية تُبرهن بأن خطورة “الانحراف التنظيمي” تأتي دائما من القيادة. إن بنية الحزب لهَا دور أساسي في إشاعة الصراع الديمقراطي وفي تطويره، حيث أن التناقض الحتمي للآراء يحتاج إلى ديمقراطية قوية كي يتبلور في شكل أغلبية وأقلية. أما على الصعيد الموضوعي خلقَ مسار الثورة في تونس معايير جديدة تتعلق بانتشار التنظيم اليساري وبجماهريته ووضَع بالتالي مسألة الديمقراطية الداخلية -كما تفهمها قيادات الأحزاب اليسارية الآن- موضع تساؤل حول مدى تكيّفها مع تغير الأوضاع، وأثبتَ أن الرؤية الشكلية التي تحصر العمل الحزبي في مجموعة من المعايير التنظيمية الضيقة قد أغلَقَت كل إمكانية للتطور أمام العقل اليساري التونسي الذي ازداد انقساما وعزلة بعد الإجراءات الاستثنائية المتخذة في 25 جويلية 2021. فإذا أراد المناضلون اليساريون -خاصة المتحزبون منهم- العودة إلى واجهة الصراع فعليهم أولا القضاء على البيروقراطية داخل أحزابهم وتحطيم جهازها المفاهيمي المرتكز على أسطورة ”القيادة التاريخية” المتعالية عن واقع التنظيم الداخلي والخارجي، وخلق أكثر ما يمكن من الوعي القاعدي بضرورة تجاوز النماذج التنظيمية القديمة لأن اليسار لا يحتاج إلى تجارب مستوردة بقدر احتياجه إلى قراءة جديدة للواقع.
لقراءة المؤلف الجماعي كاملا وتحميله، اضغط هنا
[1] يتحدث محمد الكيلاني وهو من مؤسسي حزب العمال في كتابه ”تاريخ الحركة الشيوعية في تونس 1920-1985” فيقول: ”لعبت (حلقة) الشيوعي دورا كبيرا في هذا الشأن (يقصد هنا مسألة تجاوز النظرة العفوية لمسألة تأسيس حزب الطبقة العاملة) إذ كانت الأداة التي دارت على صفحاتها النقاشات حول تقييم الحركة وحول تأسيس الحزب وتم وضع خط الفصل النهائي بين الماركسية-اللينينية وبين الإنتهازية على جميع الأصعدة”. ص113-1989.
[2] في فترة ما بعد الثورة تَشكّل هذا المجلس كإطار قيادي لتحقيق أهداف الثورة وحمايتها من المخاطر التي تهدّدها خاصة رجوع النظام القديم
[3]ذهبت قيادة الحزب في ذلك السياق ضد المزاج العام للمسار الثوري المطالب بمواصلة الاعتصام بالقصبة وباعتبار مجلس حماية الثورة إطارا وحيدا لتحقيق أهداف المسار الثوري على قاعدة القطيعة مع ممثلي المنظومة السابقة والأحزاب المتحالفة معها وقتها واعتبرت المرور لانتخابات التأسيسي دليلا على صحة تحليلها.
[4]بيان الإعلان عن تأسيس جبهة الإنقاذ الوطني في تونس. نشر بموقع نواة. 26 جويلية 2013.
[5] انظر في هذا الصدد: “لقاء باريس بين الغنوشي والسبسي لحل الأزمة التونسية”. موقع العربية نت. 18 أوت 2013.
[6] سمير حمودة, صراع داخل حزب العمال 2019،ص 34
[7] جاء في برقية فصل أحد أعضاء حزب العمال (تحصل الكاتب على نسخة منها) الصادرة عن اللجنة المركزية بتاريخ 11 نوفمبر 2018 ما يلي: ”ومع ذلك فقد تم الاتصال بكَ مجددا والنقاش معك في محاولة لإقناعك بعدم مواصلة المشاركة في ممارسة تكتلية مضرة بالحزب تجري في الخفاء وتهدف عمليا إلى تفكيكه واستبداله بأطر أخرى تحت غطاء ”التوسع والتوسيع”.
[8] ينص الفصل السادس من القانون الأساسي لحزب العمال على ضرورة ”صيانة وحدة الحزب ومقاومة كل اتجاه تكتلي أو تصفوي أو بيروقراطي”.
[9] أصدرت قيادة حزب العمال إبان ما يعرف بالخلاف مع مجموعة ”مؤمن بلعانس” العدد الثالث من مجلة الحزب النظرية ”الشيوعي” التي خصصته للردود على أفكار هذه المجموعة وجاء في أحد نصوصها الممضى من طرف أحد أعضاء اللجنة التنفيذية ما يلي: ”فيما يتعلق بالبيروقراطية في حزبنا وسبل مقاومتها, هذه الشماعة التي تستعمل كيفما اتفق وفي أحيان كثيرة دون كنه معناها الفكري والسياسي ومردها الطبقي العميق, آن الأوان إلى الخوض فيها لتوضيح بعض المفاهيم وتبديد ما يروج حولها من دعايات تبدو في ظاهرها ثورية وبريئة وهي في عمقها انتهازية وتخريبية”.
[10] للوقوف أكثر حول تاريخية التشكيلات اليسارية التونسية، انظر في نفس العدد مقال فطين حفصية.
[11] في الأيام التي تلت حالة الاستثناء المعلنة في 25 جويلية 2021 كان حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد ينظر إلى الأحداث بوصفها استجابة جزئية للمطالب الشعبية. وقد أصدر بيانا مشتركا مع بعض الأطراف اليسارية للتعبير عن هذا الموقف. انظر في هذا الصدد: “مناضلون يساريون وأحزاب يدعمون القرارات الهادفة إلى تفكيك منظومة الفساد والإرهاب والاغتيالات”. موقع شمس أفم. 01 أوت 2021.
[12] الوطد يؤكّد أنه ”غير معني بالمشاركة في حوار شكلي هدفه تمرير خيارات معلومة ومحدّدة سلفا”. موقع شمس أفم، 25 ماي 2022.
[13] للوضح أكثر هنا: شق الندوة الوطنية هو الجناح الذي يقوده القيادي منجي الرحوي، وشق القيادة هو الجناح الذي يقوده الأمين العام الحالي زياد لخضر.
[14] حزب ‘الوطد’: ما أفرزته الندوة الوطنية ‘شق الرحوي’ لا شرعية له وللحزب هياكله القانونية. موقع شمس افم. 05 سبتمبر 2022.
[15]انظر في هذا الصدد، العلوي: “هذه حقيقة الخلاف بين الوطد والرحوي…وبالمرصاد لمن يريد التخريب”. موقع موزاييك افم. 06 سبتمبر 2022.
[16]بيان اللجنة المركزية للوطد الموحد (صادر في 4 جوان 2022) قررت فيه فصل منجي الرحوي من هياكل الحزب.
[17] انظر الجبهة الشعبية: مشروع الأرضية السياسية، موقع البديل (موقع حزب العمال) 29 سبتمبر 2012.
[18] الجبهة الشعبية تدعو لعدم التصويت للمرزوقي في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية. موقع فرانس 24، 11 ديسمبر 2014.
[19]الهادي التيمومي: موسوعة الربيع العربي في تونس 2010-2020، الجزء الثالث، ص 100.