الولاّة الجدد: تهَافُت أسطورة “البناء القَاعدي” واستئنَاف نموذج الدولة القديمة


2024-09-11    |   

الولاّة الجدد: تهَافُت أسطورة “البناء القَاعدي” واستئنَاف نموذج الدولة القديمة
من صفحة رئاسة الجمهورية التونسية

منذ استِيلائِه على كامل السلطات، في 25 جويلية 2021، أجرَى الرّئيس سعيّد تعيينَات مُتعاقِبة في سلك الولاّة، وأجرى كذلك إقالاَت متتالية جعَلت العديد من المناطق دون ولاّة -إلى وقت قريب- من بينها تونس وأريانة وباجة والكاف والقيروان والمنستير والمهدية وصفاقس وقابس. وخلال ساعات متأخّرة من يوم الأحد 08 سبتمبر أعلنَت رئاسة الجمهورية إجراء حركة شاملة في سلك الولاّة شَمِلَت الأربع والعشرين ولاية في تونس.        

بلا شكّ إن هذه الحركة التي تأتي قبل أقلّ من شهر من الانتخابات الرئاسية، المُزمَع إجراؤها في 06 أكتوبر، تَحمل رهانات انتخابية، أساسُهَا سعي النظام إلى ترتيب بيتِه الداخلي وبسط الهيمنة على هياكل التنفيذ السياسي في المناطق، بخاصة وأن الرئيس انتقَدَ ولاّته في أكثر من مناسبة بسبب “عدم تحمل مسؤولياتهم”، واستمرَار هذا الجانب قد يُضعف الموقف الانتخابي للنظام الحالي في الجهات الداخلية. لذلك فإن إلقاء السلطة السياسية بالفشل عليهم وإقالتهم دفعة واحدة، سيؤجّل معارك مناطِقية مُحتَملَة للطعن في غياب منجزاتها، بخاصة في المناطق الغربية الأكثر فقرا وتهميشا. علاوة على الرهان الانتخابي الآني، فإن هناك رهان متعلّق بمرحلة ما بعد 6 أكتوبر التي يُمسك النظام الحالي -إلى حد الآن- بأدوات إعدادها، إذ تُشير السير الذاتية للولاة الجدد إلى أن المرحلة القادمة سيُفسَح فيها المجال لنموذج “دولة الإدارة” بشكلها البيروقراطي القديم القائم على عنصرين: عنصر أوامري مربوط بتنفيذ تعليمات السلطة المركزية. وعنصر تسييري يومي من خلال الاستنجاد ببروفايل “الإداري” الذي يملك خبرات في التسيير دون توفّر خصال سياسية ومَشاريعيّة مهمّة. 

بروفايل “ابن الإدارة” عوضًا عن “ابن المشروع”

في السنتين الأخيرتين، شهدت تركيبة الولاة صعود فاعلين جدد، مرتبطين بشكل أو بآخر بالمشروع السياسي والانتخابي للرئيس قيس سعيد؛ سواء كانوا فاعلين جهويين في حملته الانتخابية لسنة 2019 على غرار والي بن عروس ووالي بنزرت، أو قادِمين من الحراك الاجتماعي في المناطق الداخلية على غرار والي سيدي بوزيد، أو لهم صلات شخصية بالرئيس سعيد وتركوا بصمتهم في أفكاره على غرار والية نابل ووالي تونس الذي تحوّلَ في فترة لاحقة إلى وزير داخلية، ثم تمت إقالته. هؤلاء أصبح يُطلَق عليهم في فضاءات التداول العام والميديا الاجتماعية “أبناء المشروع” بوصفهم مناصرين -مُتحمّسين لأفكار البناء القاعدي التي يروّج لها الرئيس سعيد على غرار الشركات الأهلية والمجالس المحلية والجهوية، ومجلس الجهات والأقاليم، والبرلمان القاعدي، إلخ. وعموما تم اقتراحهم لمنصب الولاة من مُنظّري مشروع البناء القاعدي المقربين من الرئيس سعيد. ولم تكن مَسيرتهم في هذا المنصب خالية من الجدل، بخاصة في ظل ميلهم إلى تعميم المنوال الشعبوي-التسلطي في الحكم الذي ينتهجه قيس سعيد، من خلال الزيارات الفجئية الفرجوية وإقالة مسؤولين محليين والتنازع مع البلديات وبقية الإدارات الجهوية، وعموما كانت الحصيلة إعادة إنتاج فشل السلطة المركزية، مع إضفاء مسحة فرجوية مبالغ فيها في معظم الأحيان، على غرار والي بن عروس المُقَال أخيرا. 

أواخر ماي الفارط، أعلنت رئاسة الجمهورية إقالة وزيرين من “أبناء المشروع”، هما وزيري الداخلية والشؤون الاجتماعية، ثم جاءت التركيبة الحكومية الأخيرة وخطاب تنصيبها الذي ألقاه الرئيس سعيد، أواخر أوت الفارط، ليُشيرَا إلى وجود نزعة حكم جديدة تهدف إلى الاستئناس بالخبرات الإدارية الطيّعة للتمكين للأفكار السياسية للرئيس سعيد، بعد أن فشل “أبناء المشروع” في ذلك، وأصبحت تُتَدَاول الكثير من الانطباعات العامة حول تورّطهم في قضايا فساد (ولاة ووزراء) لمّح لها الرئيس في أكثر من مناسبة. كما قال في إحدى خطاباته أن “السلطة أغوَتهم” و”تمّ احتوائهم من المنظومة القديمة” حسب رأيه. 

تركيبة الولاّة الجدد يمكن القول إنها انتصرت لبروفايل الإداري القديم حسب ما تشير إليه سِيَر معظم الولاة: مراقب عمومي، قاض، متصرف إداري، موظف عمومي، معتمد سابق، مدير جهوي، موظف بوزارة الداخلية… إلخ. وتَضعنا هذه التركيبة أمام توجّه مستقبلي يتجاوز موعد الانتخابات القادمة -التي يبدو أن نظام الرئيس حَسمَ أمرها مسبقا- ويتميز هذا التوجه بمركزَة القرار السياسي بيد الرئيس وأجهزته الأمنية والعقابية (جهازي الداخلية والعدل أساسا) والسّمَاح بهامش نفوذ للعائلة من خلف الستار، مع التعويل على خبرات تسيير إداري وتنفيذي في المركز والجهات ومختلف المصالح الحيوية للدولة، من أجل تفعيل القرارات والأفكار المثالية التي مازال الرئيس متمسكا بها على غرار الشركات الأهلية. وعموما ستنشأ علاقة بين الرئيس و”التكنوقراط” قائمة على مبدأي الطاعة والموالاة، لأن الرئيس لن يقبل بمساحات قرارات مستقلة داخل نظامه.

فشل الإيديولوجيا القاعدية

تأسّس المشروع الرئاسي -دعائيّا- على منطق قلب معادلة السلطة، من خلال إرجاعها إلى أصلها “النقي” والحقيقي الذي تمثله القاعدة الشعبية الموجودة في القرى والمعتمديات، وتَفكيك مؤسسات الديمقراطية التمثيلية بكل ملحقاتها المؤسساتية والسياسية والتشريعية والإجرائية. ولكن شيئا فشيئا بدأت تتّضح ملامح تهافت هذه الدعاية، ليتبيّن أننا إزاء نظام سياسي يزداد جنوحا نحو المركزة المشطة كلما ازداد منسوبه السلطوي والاستبدادي. ليَجدَ حكم-الفرد نفسه متناقضا مع مقولاته المركزية التي يتضمّنها ما يُسمّى بـ”مشروع البناء القاعدي”، لأنّ الممارسة العملية للنظام الحالي تقوم على تراتبية أوامرية مُغلَقة لا تَسمح بأي درجة من التنوع أو الاستقلالية داخل المحيط الضيق للسلطة، منقادة في ذلك بنظرية المؤامرة، فما بالك بالسماح للقاعدة الاجتماعية المحلية بالتنظّم باستقلالية عن السلطة المركزية وتوجّهاتها.

انتهَى مَشروع البنَاء القاعدي إلى إنتاج حالة سياسية امتثاليّة، تَظهر من خلال تحويل مؤسسات النظام السياسي، وفي مقدمتها البرلمان الذي قِيلَ إنه ثمرة لديمقراطية القاعدة الشعبية، إلى مجرّد مُلحَق تابع لرئاسة الجمهورية، يأتَمر بأوامِرها ويُصَادق على مقترحات مشاريعها، وفاقد لأي سلطة رقابية عليها وعلى بقية مؤسسات السلطة التنفيذية، وعاجز أيضا على تعديل مراسيم الرئيس غير الدستورية والضاربة للحقوق والحريات على غرار المرسوم 54 الذي تراجَعَ عدد من النواب بعد أن طالبوا بتنقيحه تحت ضغط رئاسة الجمهورية. وما يَشهده البرلمان الحالي من تَشوّه مؤسساتي-سياسي ينسَحِب على بقية المؤسسات الجديدة على غرار المجالس والجهوية، التي تحوّلَت إلى مجموعات دعاية لسلطة الرئيس تزامنا مع الانتخابات الحالية، وتَعيش في عزلة سياسية محلية عن مشاكل المناطق والقرى، وفي عزلة تنفيذية عن بقية مؤسسات الدولة. إضافة إلى مجلس الجهات والأقاليم الذي لم يلعَب أي دور سياسي منذ تنصيبه في 1 جويلية 2024. 

سيكون رهان السلطة الحالية على جِهازي الولاّة والمعتمدين، وبدرجة أقل العُمَد في القرى، ضمن سياسة الحفاظ على نموذج الدولة القديمة التي توهّمَ معظم أنصار الرئيس أن نموذج البناء القاعدي سيقطع معه، وستكون هذه المؤسسات قنوات بسط الهيمنة السياسية للنظام الحالي داخل المناطق والمحليات. في المقابل ستتحول مؤسسات “التمثيل القاعدي” الجديدة إلى أشبه بالمؤسسات الدعائية الموازية التي تربطها علاقات ولاء وتمجيد للرئيس، دون أي قدرات تنفيذية ورقابية وتخطيطية. وستلعب دورا كبير في قتل التسيّس والتداول في الحياة العامة، وستتحول شيئا فشيئا إلى خزّان سلبي تجتمع داخله ظواهر الزبونية والوشاية والتملّق.          

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني