الوردانية استقبلت ضعفيّ سكانها من النازحين: عن المجزرة التي استهدفت مركز الإيواء


2024-12-10    |   

الوردانية استقبلت ضعفيّ سكانها من النازحين: عن المجزرة التي استهدفت مركز الإيواء
المبنى الذي استهدف في الغارة

“كنا فكرين إنه مراكز الإيواء آمنة، بس إسرائيل تخطّت كل الحدود. المواثيق الدولية مجرّد حبر على ورق قدامها”، يقول عباس خليفة، شقيق الشهيدة سهام شلهوب التي استشهدت في غارة إسرائيلية 2024 استهدفت مركزًا للإيواء في منطقة الوردانية، قضاء الشوف، في 9 تشرين الأوّل. يومها قتلت إسرائيل خمسة نازحين إضافة إلى سهام هم زوجها علي شلهوب من الصرفند، وجواد موسى وابنه محمد من عيترون، والفلسطينية هيام الزيني وطفلها عمر زيدان.

دفن شهداء مركز الإيواء في الوردانية وديعة في انتظار إعادتهم الى قراهم، إضافة إلى نحو 60 جثمانًا حضنتهم الوردانية ممّن رحلوا بموت طبيعي فيما الأكثرية شهداء العدوان الإسرائيلي من مناطق جنوبية مختلفة. 

في 9 تشرين الأوّل، استهدفت إسرائيل مركز جمعية دار السلام للرحلات الثقافية الذي حوّل القيّمون عليه مبنييه إلى مركز إيواء، دمر صاروخان المبنى الأول وكان يضم  حوالي  38 شخصًا وتسبّبا بأضرار للثاني وكان يسكنه 50 نازحًا ونازحة. 

يحكي علي السيد، خال الشهيد جواد موسى، عن شقيقته التي أصيبت بعد الفاجعة بمرض الألزهايمر. كانت حالة أم جواد النفسية والعصبية قد ساءت مع العدوان والنزوح، ولكن استشهاد ابنها مع حفيدها قضى على ذاكرتها ووضعها العصبي والنفسي. كان جواد مزارعًا في عيترون، يشقى وأفراد عائلته لتحصيل لقمة عيشهم من زراعة الدخان والحبوب، الى أن هجّرتهم إسرائيل من مكان إلى آخر وصولًا إلى الوردانية حيث قتلتهم في مركز نزوح لا يضم سوى مدنيين عزّل أمثالهم.

الحزن ذاته يلفّ قلوب عائلة الشهيدين سهام خليفة وزوجها علي شلهوب. يقول عباس، شقيق سهام، إنّها وزوجها وطفليهما حسين (9 سنوات) ونور (10 سنوات) تركوا الصرفند بعد استهدافها لأكثر من مرّة ووصلوا إلى مركز إيواء جمعية السلام. كان الطفلان يلهوان في باحة المركز عندما دمّرته إسرائيل. ومن على الشرفة، حيث كانت سهام تطمئنّ إلى ولديها، دوّى صوت قويّ وسقطت تحت الركام وهي تخاطبهما: “هيدا المشهد ما بينساه حسين أبدًا، عطول بيحكيني عنه”. صار ابن التسع سنوات شاهدًا على قتل أمه أمامه. 

بالنسبة لفاطمة، الشقيقة الصغرى لسهام التي كانت بمثابة “أم كونها تكبرني بـ 15 عامًا”، فإنّ الحزن الحقيقي بدأ مع وقف إطلاق النار: “قبل، كنّا مشغولين بدنا نحمي حالنا، وين هدّدوا ولوين بدنا نروح، هلأ فضينا للحزن وهلأ وعينا على الفاجعة”. حتى أن زيارة قبور الشهداء تأجّلت إلى يوم وقف الحرب: “دغري جينا نحن وأولاهن زرناهن، ما قدرنا نطلع قبل خوفًا من المسيّرات”. كان علي شلهوب مديرًا لمدرسة المراونية بعدما عمل مدرسًا للّغة العربية لسنوات طويلة. طالما حلم الرجل الذي اشتهر بحبه للعلم بيوم تخرج ولديه حسين ونور من الجامعة، ولكنه استشهد قبل إنهائهما المرحلة الابتدائية حتى، وفق شقيقته.

يعتبر رئيس بلدية الوردانية علي يوسف بيرم أنّ إسرائيل ارتكبت جريمة وخرقت للمواثيق الدولية باستهداف مدنيين أوّلًا ومركز إيواء نازحين ثانيًا، مشيرًا إلى أنّ البلدية دققت في أسماء جميع الشهداء والجرحى وقارنتهم باللوائح التي لديها، كما طلبت من وسائل الإعلام دخول المبنى المستهدف للتأكد أنّه لا يحوي أي مركز عسكري. وجمعية دار السلام تضمّ قاعة مؤتمرات ومكتبة وغرف منامة كبيت ضيافة كان القيّمون عليه يستضيفون فيه وفودًا ألمانية وأجنبية في رحلات تهدف إلى تعزيز التبادل الثقافي والعلاقات بين الناس. 

سهام وعلي شلهوب

الوردانية الحاضنة للنازحين

تصدّرت الوردانية البلدات المضيفة للنازحين، برغم من استهدافها أكثر من مرّة بالعدوان ، ولامس عديد  ضيوفها ممَّن هجّرتهم إسرائيل نحو 11420 نازحًا (ما يقارب 2849 عائلة)، غادر منهم حوالي 718 عائلة، وبقي فيها حوالي 2139، وفق سجلات بلديتها. توزّعت العائلات على خمسة مراكز إيواء (أكثر من 280 عائلة)، فيما استضاف 70% من أهلها 1853 شخصًا في بيوتهم من دون أي مقابل مادي، كما وزّعت البلدية “أكثر من 4026 حصة غذائية و4085 حرامًا، إضافة إلى مساعدات عينية أخرى”، وفق رئيسها بيرم.

وقصد أهل الجنوب الوردانية لموقعها الجغرافي القريب من صيدا، وكونها أولى المناطق الآمنة التي وصل اليها النازحون قسّرًا يوم “الإثنين الأسود” للتهديد بالإخلاء في 23 أيلول 2024 منهكين ومتعبين. بعد ساعات من الازدحام عند مدخل صيدا للقادمين من الجنوب، وتحت نيران العدوان، وصل إلى الوردانية، وفق بيرم “المئات دفعة واحدةً خلال الليل، أرادوا سقفًا فقط يؤويهم من جلجلتهم الطويلة”. “استقبلنا بيومين أكثر من  8000 الاف شخص، ما بتتخيلي عجقة الناس على الطرقات ولي نايمين بالسيارات، كان الهم الأول تأمين سقف للناس تنام تحته، ثاني يوم صرنا نأمن المواد الغذائية والفرش، ثم الحرامات، ووصل لعنا جرحى ومصابين على الطرقات، كنا بدنا نؤمنهم بالمستشفيات ونؤمن أطباء وممرضين”، يقول بيرم. وتم ذلك عبر لجان الاستقبال/ التي تعنى بتأمين وصولهم وفرزهم وفق الأوضاع وتسليم الاحتياجات وتوثيق داتا معلوماتهم وقراهم وغيرها. والصحة تهتم بالطبابة والأدوية والاستشفاء والجرحى والطوارئ، وتعزيز دور المستوصف. واهتمت لجنة العلاقات العامة بجمع التبرعات وتنظيم أمور بقاء نحو 200 عائلة في الوردانية، جلّهم ممن تهدمت منازلهم سواء في المناطق الحدودية أو غيرها، إضافة إلى من لم يتمكنوا من العودة الى بلداتهم بعد بسبب الإحتلال، حيث أُسكن عدد كبير منهم في المنازل المجانية التي وضعها السكان في تصرف البلدية.  

وإضافة إلى مركز دار السلام الذي تم استهدافه، تمّ افتتاح الجامعة الإسلامية في البلدة وحضنت حوالي 819 نازحًا، فيما ضمن المدرسة الرسمية نحو 253 نازحًا، ونادي “سمانا” 19 نازحًا، إضافة إلى مدرستي الأرز وبراعم المستقبل. 

والوردانية كانت مشهورة بكرم استضافتها النازحين حيث هناك أقارب وأصدقاء كثر من عائلات جنوبية يملكون فيها منازل أو مستأجرين. وساهم نزوح نحو 106 عائلات من القرى الحدودية إلى الوردانية منذ بداية العدوان في 8 تشرين الأول 2023، في استقطاب نازحي 23 أيلول وما بعده، كون من سبقوهم أشادوا باستقبال أهلها واحتضانهم لهم. والأهم، بالنسبة لضيوفها، أنّ الوردانية وأهلها لم يحملوا النازحين مسؤولية الاستهدافات الإسرائيلية واعتداءاتها، كما يقول محسن، النازح من عيترون “كانوا يحزنوا لحزننا ويخافوا علينا وع أنفسهم، بس ما سمعنا كلمة أزعجتنا وكسرت خاطرنا، نحن ممنونين لهالبلدة الكريمة وأهلها الكرماء”.   

ويتحدّث بيرم عن سلسلة استعدادات لوجستية لاستقبال النازحين، والاستجابة لتأمين احتياجاتهم بسرعة وبطريقة منظمة عبر خلية الأزمة التي شُكلت قبل خمسة أشهر من تصاعد العدوان، وضمّت جميع فعاليات البلدة، من رؤساء الجمعيات والأحزاب (حركة أمل وحزب الله والحزب التقدمي الإشتراكي)، والأطباء ومدراء المدارس وأصحاب الصيدليات، والهيئات الصحية وغيرها.

وفتحت البلدية باب التطوّع للعناصر الشابة من البلدة والنازحين، وشُكلت أكثر من ست لجان كانت تعنى بالوقوف عند حاجات الضيوف منذ لحظة وصولهم البلدة. وأنفقت البلدية خلال العدوان أكثر من 125 ألف دولار جمعتها من التبرعات، عدا عن المساعدات من الحصص الغذائية والحرامات والفرش والوجبات الساخنة والادوية وحتى استشفاء. وعقدت البلدية اتفاقية مع مستشفى سبلين لاستقبال المرضى النازحين المقيمين في البلدة، حيث احتاج البعض إلى دخول مستشفى أو الطوارئ، فبلغت الفاتورة حوالي 30 ألف دولار بحسب الرئيس بيرم. 

المبنى قبل استهدافه

الناس فتحت بيوتها

انتهت الحرب ولا يزال أبو علي في الوردانية رافضًا العودة، هو الذي لجأ إليها هربًا من القصف الذي طاول مدينة صور. يتجمهر من حوله عدد من أبناء البلدة، فيما يتناول فطوره وسط جو مليء بالألفة والمحبة التي تجمعهم به، “أنا من هون مش فالل، انا كتير مبسوط هون”، يقول لـ”المفكرة”، إنّه في يوم الاثنين الأسود كان ضائعًا لا يعلم إلى أين يذهب ولا إلى أين يتجه، فاتصل به أحد الأصدقاء ونصحه بالمجئ إلى الوردانية “أنا ما كنت بعرف لا الوردانية ولا مرة جايي عليها وجيت، استقبلونا ونيّمونا ببيوتهم”. يقطن أبو علي اليوم في غرفة صغيرة داخل مقهى يساعد صاحبه في أعماله اليومية حتى تخاله للحظات أنّه صاحب المكان، لا يدخل أحدًا إلّا ويوجه إليه السلام، يحادثهم ويحادثونه عن أحوالهم “هالبلدة بأهلها وبلديتها كانوا مميزين باستضافتهم”، يقول.

بالقرب من أبو علي، يقول عادل، أحد أبناء الوردانية الذي يعمل “ديليفري”، أنّه رأى الناس، يوم “الإثنين الأسود”، مشرّدة على الطرقات لا تعلم إلى أين تذهب ولا أين تنام، “كنت مارق لقيت نسوان بالسيارة عم يبكو والوقت متأخر، قالو لي ما عنا مطرح نروح عليه، ونسوان على بعضهم بالسيارة، استقبلتهم ببيتي أكثر من أسبوع، هنّي بالبيت وأنا بنام بالسيارة”.

في أحد الأزقة، تسرع السيدة وفاء خطواتها باتجاه الدكان. تقول إنّها على مدى شهرين استقبلت عائلة مؤلفة من أربعة أفراد، من بينهم امرأة من ذوي الاحتياجات الخاصة: “شفقني قلبي عليهم، دقوا علي الباب بدهم النسوان يقضوا حاجة ومعهم امرأة ختيارة”. قررت وفاء استضافتهم في بيتها: “طبعًا ما أخذت ولا ليرة، قسّمت البيت أنا غرفة وهن غرف، وجوزي قاعد بلا شغل، وكمان قسمنا اللقمة بيننا، كان يجيهم مساعدات ونحن نجيب وهن يجيبوا، المهم مرقت الأزمة على خير”.  

النازحون “كانوا معبيين المطرح”

كسائر المدن والقرى اللبنانية التي احتضنت النازحين من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، لا تزال بلدة الوردانية تحاول استعادة روتينها اليومي بعد مغادرة معظم النازحين، مع سريان وقف إطلاق النار، إلى قراهم وبلداتهم. خلق النازحون إيقاعًا جديدًا في يوميات الأهالي، وخلال شهرين، استقبلت البلدة  أكثر من ضعف عدد سكانها البالغ حوالي 5000 نسمة، لتتحول من بلدة هادئة إلى أخرى “لا تنام”، حسب من قابلتهم “المفكرة”.

ينظر صاحب دكان في وسط البلدة الى الساحة التي باتت فارغة من الرواد، “مثل هيدا الوقت كانت الناس بالساحة ، ينزلوا من الصبح لي يتروّق، لي يأرغل، والأولاد عم يلعبوا.. هلّق فضيت المطارح”. ويشير إلى أنّ اقتصاد البلدة ازدهر كثيرًا بوجودهم: “أنا نسبة المبيع عندي زادت 200% عن الأشهر التي سبقت النزوح”.

بدوره يقول صاحب محطة وقود لـ “المفكرة” إنّ الحركة الاقتصادية ازدهرت كثيرًا، فبينما كان يقفل محطته عند الساعة الثامنة مساء بات خلال شهري النزوح، يغلقها عند منتصف الليل، “النازحين عملوا حركة كثيير قوية، ناس رايحة وناس راجعة، ومساعدات ومتبرعين كلها نشطت الحركة الاقتصادية”.

صاحب مقهى في وسط البلدة يقول لـ “المفكرة”، إنّه “على الرغم من أنّنا كنا في حالة حرب، إلّا أنّنا كنا سعداء بوجود النازحين في القرية. عملوا جو حلو كتير، عجقة ناس، وكانت الساحة تضّل مليانة للصبح على أراغيل وعلى قهوة وشاي”.

ويضيف عادل الذي يعمل كسائق توصيلات، أنّ دخله اليومي قبل الحرب كان لا يتعدّى ثلاثة ملايين ليرة، أما خلال النزوح فقد فاقت يوميّته سبعة ملايين ليرة. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني