بعد سنة 2011، في المجال البحري بين تونس وليبيا وصقلية، تزايدَ عدد الوفيات، وذلك حينما دفعت الثورات وحركات الاحتجاج والاضطرابات السياسية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط المواطنين إلى الهجرة بطريقة غير نظامية. في أكتوبر 2013 وفي أعقاب غرق سفينة قبالة جزيرة لمبادوزا الإيطالية، أضيفَت صور الموتى في البحر الأبيض المتوسط إلى المشهد الحدودي الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة، حيث يظهر أناس يائسون ينجرفون على متن قوارب مطاطية. ومنذ ذلك الحين، جَعل عدد متزايد من الناشطين والباحثين والصحفيين، وكذلك الحكومات والمنظمات غير الحكومية والدولية، من وفاة المهاجرين قضيّة أخلاقية وسياسية حتى ولو كانت دوافعهم مختلفة. في هذا السياق، تُعالج هذه الورقة ظاهرة الهجرة غير النظامية والديناميّات الاحتجاجيّة وأثرها على المجتمع الصيديّ في شبه الجزيرة الجرجيسية.
قبل الثورة التونسية أو بعدها، تُعتبر مدينة جرجيس إحدى مناطق انطلاق المهاجرين غير النظاميين سواء كانوا تونسيين أو من جنسيات أخرى. وفي إطار تدفّق المهاجرين خاصة بعد سنة 2011، تحوّلَت شواطئ المدينة وسواحلُها إلى مسرح للقصص الإنسانية، حيث يَلفظ البحر عديد الجثث ويرتطم الصيّادون بقوارب هشّة ومنكوبة ومهاجرين غارقين أثناء رحلة الاصطياد. ودُشِّنَت في هذه المدينة مقبرتان مخصصتان للمهاجرين الذين لقوا حتفهم في غمار المتوسط، الأولى مقبرة الغرباء[1] والثانية مقبرة حدائق إفريقيا[2]. وقد فاقت المقبرة الأولى طاقة استيعابها، في حين تم إغلاق المقبرة الثانية بقرار قضائي أواخر أكتوبر 2022، تزامنًا مع غرق مركب هجرة غير نظامية في سواحل جرجيس.
وفي هذا السياق وخاصة حينما تمّ تثبيت جرجيس كبؤرة هجرية foyer migratoire من قِبل الاتحاد الأوروبي والحكومات اليمينية الأوروبية، كانت للهجرة غير النظامية تأثيرات سلبية على فئات فقيرة ومسحوقة من بينها فئة الصيادين، وبخاصّة بحّارة الصيد الساحلي. كما عاشت المدينة على وقع حركات احتجاجية برهانات هجرية. وهكذا تُعتبر الهجرة غير النظامية إحدى ميزات المدينة خاصّة بعد الثورة التونسية.
بناء على ما تقدم، فإنّ هذه الورقة تسعى إلى البحث عن تاريخية تشكّل ظاهرة الهجرة غير النظامية بمجتمع الدراسة وتطورها وعن التأثيرات المحلية لمجتمع الصيد الساحلي والدينامية الاحتجاجية. ولتعزيز نتائج البحث والوصول إلى نتائج علمية وسوسيولوجية، تم الاعتماد على معالجة البيانات الكيفية وتحديدا تقنية المقابلة نصف المُوجّهة مع الفاعلين المحليين وتقنية الملاحظة المباشرة في مجتمع الدراسة.
مجتمع الصيد الساحلي في جرجيس
جرجيس مدينة ساحلية في الجنوب الشرقي التونسي، ومن ميزاتها الاقتصادية والتاريخية النشاط الفلاحي سواء كانت الزراعة وتربية الماشية والزياتين والأشجار المثمرة أو النشاط الصيدي. ويُعتبر هذا الأخير عملا وراثيا في جرجيس، حيث ينتقل النشاط الصيدي من الأسلاف إلى الأحفاد، ويَجد هذا الانتقال تفسيراته ضمن المقاربة التاريخية، حيث أنّ اختصاص جزء من مواطني جرجيس في النشاط الصيدي منذ أكثر من قرن قد أدّى إلى بروز تقاليد مرتبطة بالنشاط الصيدي من ناحية وإلى تطور تدريجي في عدد البحّارة من ناحية أخرى.[3]
في تونس، يُمثّل صيد الأسماك إحدى ركائز الاقتصاد الوطني. وبفعل ساحلها الكبير، راهنت تونس منذ استقلالها (1956) على صيد الأسماك، وتوفّرت البلاد خلال الخطط الخماسية المتتالية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية على أسطول ضخم وبِنية تحتية للموانئ. ومع أكثر من 1200 كلم في السواحل، هناك 37000 كيلومتر مربع (كلم2) من الساحل و124000 كلم2 من مناطق الصيد الخاصّة بتونس، ويشكّل الصيد 7.5% من قيمة الإنتاج الزراعي و15.2% من قيمة الصادرات الزراعية.[4]
وفي عام 2020، يُوجد في تونس 41 ميناء بحريا وساحليّا منتشرا على طول الساحل، باستثناء سدود الحماية ونجد منها 8 موانئ للصيد في ولاية مدنين: جرجيس، حومة السوق، الكتف، القرين، حاسي جلابة، أجيم، بوغرارة، أغير. وقد عزّزت هذه الاستثمارات القطاع وأدّت إلى زيادة الإنتاج السّمكي الوطني ممّا ساهم في نوع من الاكتفاء الغذائي في البلاد. ويُعتبر ميناء جرجيس الذي تأسس سنة 1978 مع امتداده سنة 2002 الميناء الرئيسي لولاية مدنين. ويقع ميناء الصيد في الطرف الجنوبي من الساحل الشرقي، جنوب شرق مدينة جرجيس. ومعدات التبريد والتخزين مهمة في هذا الميناء، حيث نجد خمسة مجمعات مبرّدة:[5] يُمثّل أسطول الصيد على مستوى ولاية مدنين حوالي 21% من الأسطول الوطني. (2823 وحدة في مدنين لـ 13541 وحدة على المستوى الوطني). ويتكوّن هذا الأسطول بشكل أساسي من صيد الأسماك على الشاطئ وصيد الأسماك الزرقاء.[6]
على مستوى الصيد الصناعي: هناك ثلاثة أنواع من القوارب معترف بها عموما على أنها تَعمل فيما يسمّى بالصيد الصّناعي. سفن صيد (وحدتان في ميناء جرجيس من مجموع 402 وحدة على المستوى الوطني)، قوارب سردين (26 في جرجيس من مجموع 373 قاربا على المستوى الوطني)، وشِباك صيد. كما تُعد وحدات الصيد الساحلي أهم جزء من الأسطول في ولاية مدنين وعلى المستوى الوطني. ويبلغ عدد القوارب بالمحركات من 700 إلى 800 (5000 على المستوى الوطني) والوحدات دون محركات حوالي 1500 وحدة (6500 على المستوى الوطني).[7]
إلى حدود شهر أفريل من سنة 2023، يتكوّن الميناء الصيدي بجرجيس من 220 مركبا بالمحرك (أي بإمكانه الإبحار على بعد حوالي 20 ميل)، و680 مركبا من دون محرك (أي يُبحر على حوالي بعد 5 أميال) أي بمجموع 900 قارب صيد ساحلي مع العلم أنّه من سنة 1995 لم تنضاف أي رخصة صيد ساحلي بجرجيس.[8] كما تشير بيانات ديوان تنمية الجنوب بمدنين خلال سنة 2020 إلى أنّ هناك حوالي 775 مركب صيد ساحلي من دون محرك و286 بالمحرك أي بمجموع 1043 قارب صيد ساحلي.
في قطاع الصيد، وبعد ولاية صفاقس، تحتلّ ولاية مدنين المرتبة الثانية على الصعيد الوطني من حيث اليد العاملة، ويعمل بهذا القطاع حوالي 8845 عاملاً. من حيث أنواع الصيد، يصنّف الصيد الساحلي بوصفه المزود الرائد للوظائف ب 6541 عاملاً، وفي جرجيس هناك حوالي 4000 بحّار.[9] ويقع أكبر تجمع لوحدات الصيد في ميناء جرجيس ويوجد بهذا الميناء جميع أنواع الصيد بولاية مدنين.
بناءً على ما تقدم يمكن القول أن المجتمع المحلي الجرجيسي يتميز بتقاليد وراثية وتاريخية واقتصادية في مجال الصيد، ولكن تتأثر هذه المنطقة وهذا النشاط اليوم بفعل تغيّر المناخ والتلوث البيئي والصيد العشوائي وتحول بعض البحارة إلى قراصنة.
قاع البحر المُدمّر والمحيط الميت
وفقا لدراسة أجرتها المفوضية الأوروبية سنة 2018[10]، فإنّ نشاط المجمع الكيميائي[11] يؤدي كل سنة إلى تصريف 5 ملايين طن من جبس الفوسفوجبس Phosphogypse في شكل طين جبسي، وهي نفايات سامة محملة بالمعادن الثقيلة ويتم صرفها في البحر المتوسط بمعدل جهنمي يصل إلى 40.000 متر مكعب في اليوم. ويؤدي تصريف النفايات إلى تقلص العديد من الأنواع البحرية والسمكية.[12] فوفقًا لدراسة أنجزها أساتذة باحثون بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس حول الآثار البيئية لتخزين الفوسفوجيبس بصفاقس، تبيّن لهم أنّ هذه المادة تُشكل مصدرًا للتلوث من خلال تركيبتها التي تحتوي على مواد سامة وعناصر باعثة للإشعاعات.[13] ومن جهة أخرى يشير أغلب البحّارة في جرجيس إلى آثار “سبخة الملح”، (مستنقع الملح) على ساحل جرجيس. وتعود هذه الفضلات إلى الشركة العامة للملاحة التونسية “كوتوزال COTUSAL، وهي بقايا استعمارية تستغل الموارد المالحة لتونس، في إطار امتيازات مفيدة لم تتم إعادة التفاوض بشأنها منذ الاستقلال.[14] وقد أدّت عمليات استغلال الملح وتوسيع أحواض تجميع مياه البحر وغياب الرقابة الرسمية إلى هلاك عشرات الزياتين على ضفاف السبخة وفقدان التربة خصوبتها. ونفس المشكلة يُعاني منها الصيادون نظرا لعمليات تعبئة الأحواض غير المدروسة والتي تؤدي إلى جرف الأسماك وإنهاك الثروة السمكية في سياق قامت فيه شركة الكوتيزال بتوسيع القناة الرابطة بين سبخة التجفيف والشاطئ.[15]
رغم القيمة والمكانة الاقتصادية للقطاع الصيدي في البلاد التونسية، ورغم أهمية هذا القطاع في ولاية مدنين، إلا أنّ مصايد الأسماك التونسيّة اليوم، والتّي يعتمد عليها أكثر من 100.000 شخص والتّي توفّر متوسّط 11.5 كغ/ السنة/ للفرد من المأكولات البحريّة، تُواجه العديد من التحديّات. يشكو هذا القطاع من ضعف شديد بسبب الاستغلال المفرط لموارد مصايد الأسماك القاعية والتلوّث والصيّد غير القانوني، وتهديدات جديدة مرتبطة بتغيّر المناخ.[16] حيث يُعاني صيد الأسماك في تونس من تبعات ارتفاع مستوى سطح البحر وارتفاع درجة الحرارة وتحمّض المياه البحريّة وتصاعد العواصف البحرية. كما أنّ للأحداث المناخية المتطرفة على اليابسة (الفيضانات وموجات الحرّ والعواصف) أيضا عواقب وخيمة على استدامة نشاط الصيّد في تونس.[17]
يمكن وصف الوضع بميناء جرجيس بالحَرِج فعلا، حيث يزداد تدهور الوضع بسبب الاحتباس الحراري وظهور العديد من الأنواع الغازية في المتوسط على مدى السنوات العشر الماضية، بما في ذلك السلطعون الأزرق، الذي يلتهم كلّ شيء في طريقه، والذي يطلق عليه البحارة اسم داعش[18] ويخشونه كثيرا. علاوة على ذلك يُعاني العديد من الصيادين بعد سنة 2011 من قهر بعض البحارة الليبيين الذين تحوّلوا إلى قراصنة، حيث تعمل بعض الميليشيات الليبية على قرصنة قوارب الصيادين التونسيين وتأخذهم كرهائن.[19]
في سياق التغيرات المناخية وهدر النظم البيئية وتصاعد ظاهرة الصيد العشوائي في ظرفية لم تتمكن فيها الحكومات المتعاقبة ما بعد سنة 2011 من وضع سياسية فعّالة لمكافحة التلوّث ومجابهة ابتزاز القراصنة ووضع حدّ للصيد العشوائي، صارت مدينة جرجيس في ظل استمرار الأزمة الليبية إحدى المناطق والبؤر الهجرية بطريقة غير نظامية. وفي سياق السياسات الهجرية الوطنية والدولية غير العادلة، تحوّلت المدينة إلى مقبرة للمهاجرين مما أدّى إلى تشكّل حركات احتجاجية ونضالية عاشتها شبه الجزيرة الجرجيسية في خريف 2022.
عندمَا يتمّ تثبيت جرجيس كحدود خارجية أوروبية
منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، وفي سياق التحولات العالمية الكبرى وتوسع النيوليبرالية المعاصرة وانهيار المعسكر السوفياتي والسقوط الرمزي لجدار برلين مطلع التسعينيات (1990)، فرضَ الاتحاد الأوروبي لوائح قانونية صارمة تتعلق بفرض تأشيرات على الأجانب وسكان الدول غير الأوروبية. هذه التطورات التي حدثت بالتزامن مع انتشار الحدود على نطاق عالمي، نظّمت الوصول القانوني إلى دول الاتحاد وفقا لنظام الامتيازات. وقد دفعت الضوابط الحدودية والسياسات الردعية أولئك غير القادرين على الحصول على التنقل القانوني إلى القيام برحلات أكثر خطورة. وهكذا تشكلت الرحلات الأولى للهجرة غير النظامية في ظرفية تمر فيها البلاد التونسية بأزمة سوسيو- اقتصادية خلال التسعينيات ومطلع الألفية نتاج برنامج الإصلاحات الهيكلية الذي انطلق منذ عام 1986. وفي تلك السياقات المعطوبة التي يرادفها توغل الدولة التسلطية في جميع المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية قبل سنة 2011، انطلقت العديد من القوارب الخشبية والمطاطية من شبه الجزيرة الجرجيسية باتجاه جزيرة لمبادوزا الإيطالية.
رغم الظروف الهشة آنذاك -وثنائية سواحل دواخل؛ بين جنوب مهمّش وساحل محظوظ- فإن أغلب الحارقين الأوائل كانوا أفرادًا لهم خبرات بتقاليد البحر ومدّه وجزره، وبالتالي فإن ميلاد شبكات الهجرة غير النظاميّة عن طريق البحر تشكلت في ثلاث مناطق بالأساس، أو ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح البؤرة الهجرية foyer migratoire: “الأول: في مناطق الوطن القبلي وتونس الكبرى وبنزرت. والثانية هي مناطق الساحل وولاية صفاقس، أمّا المكان والأصول الجغرافية الثالثة للمهاجرين فهي مناطق أقصى الجنوب وعلى الحدود التونسية الليبية، وهي ولاية قابس وولاية مدنين”.[20] وعلى اعتبار أنّ جرجيس هي إحدى معتمديات ولاية مدنين، يمكن القول أنّ العكارة[21] قد انخرطوا في تدفقات الهجرة غير النظامية وعبر قوارب خشبية ومطاطية منذ أن أصبحت السياسات الهجرية الأوروبية سياسة ردعية وزجرية. وقد كان الحارقون الأوائل يموّلون مشاريعهم الهجرية بمواردهم الذاتية، حيث يوفّرون القارب والمحرك والبنزين والميكانيكي والقبطان، ويتحصّلون على مواردهم المادية عن طريق العمل اليومي والهش ومن ثمّ الادخار أو عن طريق ابتزاز العائلة وتهديدها بالانتحار على اعتبار أنّ الأسر آنذاك كانت غير داعمة لمشاريع الهجرة غير النظامية.
لكن مع توسع دينامية التهميش بالبلاد التونسية وإقرار القانون الهجري من قبل السلطة السياسية التونسية سنة 2004 والذي يُجرّم عمليات الهجرة غير النظامية وحتى عمليات المساعدة والإنقاذ، -حيث لا يعترف هذا القانون لا بصفة لاجئ أو مهاجر وإنما يتحدث فقط عن جوازات ووثائق السفر- تطورت شبكات التهجير من شبكات متوسطة بين المناطق الساحلية التونسية والمناطق الداخلية وصولا إلى الشبكات العابرة للقوميات والقارات، والتي انطلقت بالخط البري من تونس نحو مدينة زوارة الليبية ومن ثمّ الخط البحري نحو جزيرة لمبادوزا الإيطالية. ومنذ رحيل الدولة التسلطية ليلة 14 جانفي 2011، صارت البلاد التونسية إحدى محطات الانطلاق نحو الشواطئ الإيطالية بطريقة غير نظامية. ففي ليلة الإعلان عن سقوط الرئيس بن علي، انطلق من مدينة جرجيس قارب خشبي يحمل 62 مهاجرا إلى جزيرة لمبادوزا الإيطالية. في البداية، كان أغلب المهاجرين من أصول جرجيسية. ولكن مع انتشار الخبر بدأت أعداد متزايدة من المهاجرين، بما في ذلك بعض النساء والأطفال والأسر من مختلف مناطق البلاد، في الوصول إلى جرجيس وذلك بغاية الانخراط في مشاريع الهجرة غير النظامية.[22] وفي الفترة الفاصلة بين 15 و30 جانفي 2011، وعن طريق شواطئ جرجيس وصل حوالي 6300 مهاجر غير نظامي إلى الأراضي الإيطالية أي بمعدّل 400 مهاجر في اليوم الواحد. أما المناطق الأخرى فهي عموما من ولاية صفاقس، أو مناطق الوطن القبلي، أو ولايات الساحل التونسي[23]. وفي هذه التدفقات الهجرية، تمّ تثبيت جرجيس كحدود خارجية للاتحاد الأوروبي، سواء من الناحية المادية من خلال التمويل والتدريب الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية،[24] أو بشكل استطرادي من خلال وسائل الإعلام الدولية التي اعتبرت من مدينة جرجيس “بؤرة هجرية”. وفي هذه السياقات طرأت تحولات محليّة كانت لها تداعيات على فئات عديدة، وبخاصة المجتمع الصيدي الجرجيسي.
أثر الهجرة على المجتمع الصيدي
“الإنقاذ ليس مسألة قانونية بل هي نقطة إنسانية، هناك جملة دائما ما أكررها: لا يمكن لأي إنسان أن يشعر بمعاناة أناس في قوارب منكوبة أو غارقين باستثناء البحّار، فبإمكان هذا الأخير وحده أن يشاركهم إحساسهم، لأنه شعور لا يمكنك أن تتمناه حتى لأعدائك، والبحّار يعرف معنى قارب منكوب ومعطل، ويدرك جيّدا ما معنى الغرق، فالبحّار حينما يرى إنسانا يستحق المساعدة في البحر لن يفكر لا في قانون أو في دين ولا في عرق أو علم أو أي شيء، فهو يرى في مشهد إنسان سيموت، فلا يوجد ما هو أتعس من الموت، وبالتالي يحاول البحار إنقاذهم بأي طريقة”.[25]
أثناء خروجهم للصيد، وفي العديد من الأحيان وبخاصة بعد سنة 2011، يَرتطم بحّارة جرجيس بمهاجرين غير نظامين عالقين في قوارب هشّة ومنكوبة، كما يجدون أحيانا جُثثًا عائمة. وفي هذه المشهدية يقدّم بحارة الصيد الساحلي يد المساعدة ويحاولون إيصال العالقين إلى اليابسة. وتكون عمليات الإنقاذ على حساب ساعات العمل والمال الضائع. ومن أجل أن يكونوا أكثر فعاليّة في أعمالهم وإنقاذ أكبر عدد ممكن من الناس، تابع أكثر من 100 بحّار من جرجيس دورة تدريبية لمدّة 6 أيام في الإنقاذ البحري نظمتها منظمة أطباء بلا حدود سنة 2015. فبينما جرّمت السياسات الأوروبية المنظمات غير الحكومية التي تقوم بعمليات البحث والإنقاذ في البحر المتوسط، فإنّ الصيادين التونسيين يجدون أنفسهم في الخطوط الأمامية لعمليات الإنقاذ. فحتى عند خروجهم للبحر فهم يتزودون بكميات زائدة عن حاجتهم من الماء والطعام حسبانا لقارب غارق يعترض طريقهم.[26] ولكن بعد تقديم يد المساعدة يجد العديد من الصيادين أنفسهم أمام تحقيقات أمنية ومحاكم أوروبية.
المنقذون الذين جرّمتهم السياسات المحلية والأوروبية: “لن نترك الناس للغرق”
يُمكن للسلطات التونسية أن تجرّم عمليات الإنقاذ وفقا للقانون عدد 6 لسنة 2004 والمؤرخ في 3 فيفري 2004 والمتعلق بجوازات ووثائق السفر. فقد جاء في الفصل 38 من هذا القانون: “يُعاقب بالسجن مدّة ثلاثة أعوام وبخطيّة مالية قدرها ثمانية آلاف دينار كل من أرشد أو دبّر أو سهّل أو ساعد أو توسط أو نظّم بأي وسيلة كانت، ولو دون مقابل، دخول شخص إلى التراب التونسي أو مغادرته خلسة سواء تمّ ذلك برا أو بحرا أو جوّا من نقاط العبور أو من غيرها”.
أثناء الإبحار والاصطياد، يرتطم الصيّادون بحارقين غارقين أو عالقين فوق مراكب هشّة، وفي هذه الصور الدراماتيكية، يتصل الصيادون بالحرس البحري بغاية الإبلاغ عن مكان العالقين أو الغارقين من أجل وصول المساعدات. ولكن حينما تتأخر خوافر السلطات التونسية يقوم الصيادون بعمليات الإنقاذ ويضعون المهاجرين فوق اليابسة. ولكن بعد هذا الفعل الإنساني يتم تجريم الصيادين، في هذا السياق أفادنا م. ع (بحار من مدينة جرجيس):
“بعد أن يقدّم البحارة يد المساعدة للمهاجرين غير النظاميين، يتعرضون للمضايقات من قبل السلطات التونسية. وتتمثل هذه المضايقات في دفع غرامة مالية أو معاقبتهم بمنعهم من العمل أو الإبحار لفترة زمنية، على اعتبار أن التحقيقات تتطلب الكثير من الوقت. حيث أنّ السلطات عادة ما تذهب في فرضية أن البحار هو الذي قام بتنظيم عملية الهجرة غير النظامية أي هو رئيس الشبكة. ورغم ذلك، فإنّ البحارة ظلوا يُبلّغون عن مكان القارب المنكوب ويطلبون المساعدة. وبالفعل يقدمون المساعدة بصرف النظر عن العقوبة”.[27]
بالإضافة إلى واجب المساعدة الإنسانية، فإنّ إنقاذ القوارب المعرّضة للخطر هو التزام منصوص عليه في القانون البحري الدولي، وبخاصة في الاتفاقية الدولية لسلامة الأرواح في البحر SOLAS والتي تنطبق على جميع السفن. تنص الاتفاقية على التزام جميع الدول بإحضار الناس إلى مكان آمن حيث لم تعد حياة الناجين مهددّة، ويمكن تلبية احتياجاتهم الأساسية.[28]
حينما صادف طاقم البحّار شمس الدين بوراسين[29] قاربا على متنه 14 مهاجرا في صيف 2018 قرروا إنقاذهم من دون تردد. وإذ هدّد الناجون بالانتحار إذا أعيدوا إلى تونس، ومع استبعاد تامّ لفرضية تسليمهم إلى خفر السواحل الليبيّة، قرّر القبطان الاتصال بالخوافر القريبة والمنتمية إلى دولة آمنة وهي إيطاليا. وبعد عدّة محاولات للاتصال من دون إجابة، قرّر القبطان سحب القارب إلى إيطاليا لإنزال المهاجرين في مكان آمن. إذّاكو، تمّ اتّهِام هذا الطاقم بمساعدة المهاجرين غير النظاميين وكلّفت عملية الإنقاذ هذه القبض على 7 صيادين وسجنهم لمدّة 22 يوما بسجن سيليليا. ولكن جدير بالذكر أنّ الاتحاد الأوروبي قد خصّص جهاز مراقبة EUNAVFOR Med والمسماة Sophia صوفيا أيضا، وهي عملية عسكرية للإنقاذ وتفكيك النموذج الاقتصادي للمهربين والمتاجرة بالبشر على حدّ تعبير المفوضيّة، ولكن هذه العملية العسكرية تُراقب البحارة عن كثب في عمليات إنقاذ البشر، ولكنها تترك المهاجرين الغارقين لمصيرهم وتنظر بعيدا حينما يتعرض الصيادون لهجمات من قبل الميليشيات الليبية بعد سنة 2011. فعلى سبيل المثال، في سنة 2012، لقيَ صياد تونسي مصرعه تحت الرصاص الذي أطلق من زورق ساحلي ليبي بينما تمّ أسر 18 من أفراد الطاقم الآخرين في طرابلس. في عام 2015 احتجزَت الجماعات المسلّحة الليبيّة أربعة قوارب صيد تونسية دخلت المياه الليبيّة وأخذتها إلى ميناء زوارة. كما وقعت الهجمات حتى في المياه التونسيّة مثلما حدث في فيفري سنة 2016 عندما تمّ الصعود على متن 13 سفينة صيد تونسيّة على متنها 70 بحّارا وتمّ نقلهم إلى نفس الميناء، ثم طالب الجانب الليبي بفدية مقابل الإفراج عنهم. وفي سنة 2017 هدّد صيادون ليبيون من مدينة زوارة بخطف أي بحّار تونسيّ يواجههم في البحر انتقاما لسيطرة الحرس البحري التونسي على سفينة صيد ليبية في ميناء صفاقس.[30] ومنذ ذلك الحين تضاعفت عمليات خطف الرهائن. وهكذا فإن صوفيا تنظر بعيدا حينما يتعلق الأمر بهجمات الميليشيات الليبية وتترك الصيادين التونسيين لمصيرهم، بينما تنجح السلطات الأوروبية والسياسات الهجرية في تجريم الأفعال الإنسانية. وهكذا كان للهجرة غير النظامية تداعيات سلبية على حياة الصيادين في شبه الجزيرة الجرجيسية. وفي هذا السياق، يلخص ع. ب. هذا الوضع قائلا:
“يعزز الاتحاد الأوروبي مقاربة الأمننة (أي إضفاء الطابع الأمني على الهجرة) من خلال توفير خوافر وأجهزة مراقبة، من دون أن يفكر يوما في خلق وحدة بحرية للإنقاذ أو طائرة خاصة للإنقاذ”.[31]
كما لم توفر الحكومات التونسية أو الأوروبية بعد سنة 2011 خوافر وأجهزة لتفكيك عمليات القرصنة والابتزاز في المتوسط، حيث ظلّت الهجرة غير النظامية ضحية الاستخدام الأمني والعنصري من قبل الحكومات اليمينية. وفي هذا السياق، بات الصيد الساحلي ضحية السياسات غير العادلة، حيث يأسف بحارة جرجيس بقولهم: “لدينا في تونس خفر السواحل البحرية الوطنية، ولديهم الميليشيات. منذ رحيل نظام معمر القذافي خرجت ليبيا عن السيطرة، وأصبح معظم الصيادين قراصنة، يسرقوننا أو يأخذوننا كرهائن” .[32]
يعاني البحّارة من صعوبة الظروف الاقتصادية والاجتماعية وهدر النظم البيئية والتغيرات المناخية ومحاصرتهم في عمق البحر من قبل الميليشيات الليبية، كما يعانون أيضا من ظاهرة الصيد العشوائي، ومع هذا يعرضون المساعدات الإنسانية، ولكن القانون يسلط العقاب على “فقراء الصيد”[33]. هكذا تغيب الدولة في البرامج التنموية العادلة وتحضر أثناء الممارسة القمعية. فمن خلال الإيقافات والمُحاكمات والمضايقات بعد عمليات الإنقاذ، يشعر الصيادون بحضور الدولة من خلال ممارسات الاضطهاد. وقد بيّنت دراسة سوسيولوجية حول بحارة الصيد الساحلي بجرجيس[34]، أن 93% من الصيادين المستجوبين قد انخرطوا في عمليات إنقاذ مهاجرين وأن 48.80% منهم أكدوا تعرضهم لمضايقات من قبل الحرس البحري توزعت على النحو التالي: 5.40% خطية مالية، 3.40% حجز القارب، 1% السجن، 16.30% الإيقاف، 19.20% التنبيه الشفوي بعدم إنقاذ المهاجرين مرة أخرى و3% الإمضاء على التزام بعدم إنقاذ المهاجرين مرة أخرى.
ديون البحارة: إما السجن أو بيع القوارب لشبكات الهجرة
يقتني بعض بحارة الصيد الساحلي معدات الصيد أو الأسماك بالجملة عن طريق الديون، حيث يشتري من الموّرد أو يقوم بكراء بعض مستلزمات وموارد رحلة الصيد[35] أو بقية المعدات البحرية، ثم يقوم بسدادها. ولكن في ظرفية قد يكون فيها البحار عاجزًا عن تسديد ديونه جراء التغيرات المناخية وهدر النظم البيئية وتحول المتوسط إلى مرتع للميليشيات الليبية وأصحاب المراكب الكبرى، فإن الهجرة أو بيع القارب لشبكات الهجرة قد يكون أحد الحلول الممكنة. حينما تكون ديون أصحاب القوارب ثقيلة للغاية، فيكون لديهم خياران: السجن أو بيع قواربهم لمنظّمي الهجرة غير النظامية.. وحول خيار اللجوء إلى بيع القارب لشبكات الهجرة، يقول م.ع:
“هناك غلاء في مستلزمات الصيد، وتقريبا منذ حوالي 15 و20 سنة مضت، على سبيل المثال كان موسم الجمبري أو الأخطبوط يتكلّف على البحار ما بين 30 و40 مليون دينار تونسي واليوم أصبحت التكلفة في حدود 100 و120 مليون دينار، زد على ذلك تقلص في الثروة البحرية وغلاء البنزين والمعدات وهذا ما سيجعل من عديد البحارة واقعين في ورطة الديْن مع الموردين Les Fournisseurs، فأقل بحار ستجده غارقا في دين تبلغ قيمته 30 و40 مليون دينار وحتى أكثر، والُموَرِد قد يصبر على البحار سنة وسنتين وينفذ صبره مع ارتفاع قيمة الديون، وزد على ذلك ديون المعيشة اليومية والاجتماعية. وهكذا فإن المعادلة سهلة: هناك بحارة قرروا بيع مراكبهم لشبكات الهجرة أو يتولون بأنفسهم تنظيم الرحلة الهجرية غير النظامية، وهم يفعلون هذا ليس من أجل الإثراء، وإنما من أجل سداد ديونهم. وبعد ذلك يقوم بشراء قارب آخر صغير”.[36]
قصص بيع القوارب لشبكات الهجرة يكاد يعرفها الجميع في جرجيس، حيث يوضّح أحد الصيادين: “كل ما عليك فعله هو الذهاب إلى ديوان البحرية التجارية والموانئ لشراء القارب بشكل قانوني، ثم إعادة بيعه إلى شبكات الهجرة والإعلان عن سرقته”.[37] ويضيف ش. ب:
“في جرجيس باع العديد من البحارة مراكبهم بالتنسيق مع شبكات الهجرة والدولة تتغاضى عن هذا، فهم يأخذون قواربهم إلى جزيرة لمبادوزا”.[38]
يشير البحارة الذين تحدثنا إليهم إلى أن الظروف والخوف من عدم تسديد الديون ودخول السجن تجعل من بيع القوارب فعلا اضطراريا وليس اختياريا. فالمعاناة وغياب الدولة قد يجبران فقراء الصيد على بيع قواربهم لشبكات الهجرة ولكن هذا لا يعني أنّ الصيادين هم اليد الخفية لرحلات الهجرة غير النظامية، إذ أنّ غياب الدولة في سياق يمرّ فيه البحر المتوسط بتغيرات مناخية وبيئية وتهديدات من قبل الميليشيات الليبية وعجز البحّار عن سداد ديونه هي عوامل تجعل من بعض الصيادين ينخرطون في المشاريع الهجرية غير النظامية. وهكذا تكون قصص بيع القوارب أحد الحلول الاضطرارية الممكنة من أجل مجابهة الضرر الاقتصادي الذي يمرّ به مجتمع الصيد الساحلي. وهكذا فإن الهجرة غير النظامية كدينامية اقتصادية محلية تمكن العديد من البحارة من سداد ديونهم وعدم الزج بهم في السجن.
الحقرة وحركات الاحتجاج
اعتبرَت السلطات الأوروبية وكذلك المحلية أن العديد من الصيادين هم اليد الخفية لرحلات الهجرة غير النظامية، وتمّ اعتبار شواطئ جرجيس نقطة انطلاق عمليات الهجرة عبر المتوسط في ظرفية يمر فيها البحر المتوسط بتغيرات مناخية وهدر للنظم البيئية الأمر الذي ساهم في تراجع الظروف السوسيو اقتصادية للصيادين. ومع هذا فقد قادَ المجتمع الصيدي الجرجيسي حركة احتجاجية محلية تعتبر هي الأطول منذ إعلان التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021.[39]
ليلة 21 سبتمبر 2022، صعد 17 مهاجرا ومهاجرة، من بينهم 14 شابا وشابتين ورضيعة،[40] قاربا للصيد الترفيهي منطلقا من شواطئ جرجيس محاولين الوصول به إلى الضفة الشمالية من المتوسط. ولكن جراء عاصفة بحرية أو الارتطام بإحدى خوافر السلطات التونسية أو الليبية أو الأوروبية[41] غرقَ المركب ومات المهاجرون. وقبل وصول خبر الغرق، نظّم المجتمع الصيدي الجرجيسي وبقيادة جمعية البحار التنموية البيئية بجرجيس يوم 26 سبتمبر 2022 عملية تمشيطية وعلى بعد يتراوح بين 35 و45 ميلا[42] وحتى 60 ميلا باتجاه لمبادوزا ثم التفرق شمالا وجنوبا لكي تصل المسافة الجملية إلى حوالي 250 ميلا. وقد وجد البحّارة خلال ذلك اليوم جثتين على بعد 35 ميلا تقريبا من شاطئ جرجيس وأبلغوا الحرس البحري بخصوصهما. وفي اليوم الموالي (27 سبتمبر) دُفن الهالكان من قبل السلطات المحلية في مقبرة حدائق إفريقيا بجرجيس دون عرضهما على التحاليل الجينية. وفي يوم 5 أكتوبر 2022 لفظ البحر جثّة الفتاة “ملاك”[43] على شاطئ أغير بجربة قرب وادٍ صَغير اسمه وادي المعمورة، وفي الليلة نفسها تمّ التعرّف عليها من قبل شقيقتها عن طريق لباسها وتحديدا عن طريق “إسوار” bracelet في يدها منقوش عليها اسمها “ملاك”. ومع هذا، وفي سياق تطور الأحداث والاحتجاج، تم التفطن إلى أن الجثتين اللتين تم دفنهما يوم 27 سبتمبر دون تحاليل جينية هما لشابيْن كانا قد صعدا القارب رفقة “ملاك” ليلة 21 سبتمبر.[44]
عموما اتجهت الدولة التونسية إلى سياسة الاحتقار، حيث دُفنت الجثث دون تحاليل جينية، وكانت استجابتها بطيئة في عمليات الإنقاذ ورفع الجثث، إذ أن أغلب الجثث وجدها الصيادون المتطوعون وليس الحرس البحري، في هذا السياق يوضح ب. س :
“ما لاحظناه هو غياب الدولة وغياب السياسيين المسؤولين وغياب الأمن في عمليات البحث والتمشيط. ونحن نستنكر هذا… الدولة لم تدعم عمليات البحث التي قام بها البحارة ولم تقم حتى بالتنسيق معنا والإرشاد.”[45]
عززّت هذه المعطيات شعور السكان المحليين بالإهانة والتجاهل والاحتقار، حيث كرّر ب. ز[46] عديد المرات كلمة “تحقرنا” (تعرضنا للاحتقار)، ويشكّل مفهوم الحقرة في منظومة الفعل الاحتجاجي “النقيض الأمثل لمفهوم الكرامة والاحترام والمساواة، ويشير في المقابل إلى مفاهيم أخرى مثل الزبونية والاستبداد والفساد والرشوة والمحسوبية.” [47] وفي هذا السياق، تشكّلت حركات الاحتجاج بقيادة جمعية البحار التنموية البيئية والاتحاد المحلي للشغل بجرجيس. كما ساندتها عديد المنظمات وفي مقدمتها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ونظم المجتمع المحلي يوم 18 أكتوبر 2022 إضرابا عاما محليا، وكان هو الإضراب الأول في تاريخ تونس الحامل لمضامين متعلقة بقضية الهجرة. وإزاء هذه الحركات الاحتجاجية، أدلى رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد بتصريحات مفادها أنّ حقيقة غرق القارب ستنكشف، ولكن إثر التصريحات الرئاسية الواعدة بكشف الحقيقة من دون التحوّل إلى برنامج فعلي، قرّرَ المجتمع المحلي يوم 18 نوفمبر 2022 تنظيم مظاهرة سلمية نحو جزيرة جربة والتي تبتعد عن جرجيس حوالي 47 كلم، وذلك بالتزامن مع انعقاد القمة الفرنكوفونية فيها. ولكن في ذلك اليوم، أقدمتْ قوات البوليس المرابطة في المفترقات الفاصلة بين جرجيس وجربة على قمع الاحتجاج السلمي الذي قرّرَ الأهالي تنظيمه لإيصال أصواتهم والمطالبة بكشف الحقيقة عن الفاجعة البحرية. فقد تمّ استعمال قنابل مُسيّلة للدموع منتهية الصلاحية استهدفت حتّى النساء والقصّر وتمّ إيقاف العشرات من الشباب وقادة الحراك ومقايضتهم بعودة الأهالي إلى جرجيس. وتأتي هذه السياقات القمعية في اليوم الذي صَرّح فيه رئيس الجمهورية قائلا: “صبرًا يا أهل جرجيس، فالحقيقة آتية”.[48]
جدير بالذكر أن تجاهل الدولة ليست العامل الوحيد الذي ساهم في تصاعد وتيرة الحركات الاحتجاجية. فقد كان لاستحضار الأفعال التضامنية والتاريخية دور مهم في تعزيز الدينامية التضامنية والاحتجاجية، باعتبار أنّ الأشكال التضامنية في المجتمع المحلّي هي عادة ثقافية تاريخية. ففي سنة 1907 عاشت جرجيس على حدث أليم أصبح يسمّي بـ “عام القارب”، ودارت أحداث هذه القصّة في منطقة القبلية في الحدود الليبية الطرابلسية والمتمثّل في الانفجار الذي وقع على وجه الصدفة (انفجار الباخرة) وراح ضحيته 37 شخصا وجرح 19 آخرين كلهم من البحارة واحترق 20 مركبا.[49] وبرزت خلال تلك الحادثة أشكال تضامنية مع عائلات الموتى والجرحي، فالنزعة التضامنية موجودة في المجتمع المحلي والعمق الثقافي وقائمة على أساس القرابة، وقد استحضر السكان خلال الاحتجاجات الأخيرة حادثة “عام القارب”[50] وغيرها من القصص التضامنيّة المحليّة، حيث لخص لنا ع. ب هذا العمق الثقافي بقوله: “في جرجيس دائما نقول “فزعة العكّارة”[51]والفزعة العكاريّة هي ثقافة تاريخية، تضامنيّة وحميميّة في المجتمع المحلي وصارت هذه النزعة عرفا ومعيارا محليّا، حيث يقول ب. س في هذا السياق: “لا يمكننا أن نكون بعيدين عن هذه الفاجعة، لأنّه في جرجيس لدينا عادات وتقاليد لا يجب الخروج عنها.”[52]
من جهة أخرى لا يكفي أن يكون الموقف الرسمي غير عادل حتى تظهر التعبئة، ولا يمكن أن تكون هناك تعبئة من دون أطر التفسير التي تتكون من ثلاثة أبعاد: التأطير التشخيصي، والتأطير الإنذاري، والتأطير التحفيزي.[53] فقد عملت جمعيّة البحّار والقادة النقابيين[54] أولًا على تشخيص الوضع من خلال تحديد المشكلة والمسؤوليات. ثم عملت ثانيا على استشراف وسائل معالجة القضية باقتراح حل للمشكلة أو خطة هجوم. أما الإطار التحفيزي فهو يقدم سببا للانخراط في العمل الجماعي، كما يتضمن مفردات “الحافز” الملائمة.[55] وهكذا عمل قادة الحراك على تأطير الاحتجاجات من خلال الخطاب العام والذي حدّد الخصم والمشكلات وطرح البدائل وقسَّم الصراع بين “نحن” و”هم”، “نحن” ضحايا السياسات غير المتكافئة وغير العادلة و”هم” صناع هذه السياسات والحكومات والنخب السياسية سواء داخل تونس أو خارجها وغير العادلة والتي كانت سببا في موت المهاجرين ودفنهم بطريقة غير إنسانية.[56] كما لعبت شبكات التواصل الاجتماعي واللافتات والمعلّقات أدوارا تحفيزية في استمرارية دينامية الأفعال النضالية. وفي كل هذه السياقات الاحتجاجية وتراجع الظروف الاقتصادية والاجتماعية للصيادين في ظرفية تتجه فيها السياسات الهجرية الأوروبية إلى مزيد بناء جدران العزل، فإن رحلات الهجرة غير النظامية ستظلّ أحد الحلول الممكنة للهروب من واقع غارق في الهشاشة والإقصاء.
الاستمرار الجيلي للحرقة
في ميناء الصيد بجرجيس وفوق مركب للصيد الساحلي يقول ش. ب: “أتمناك (يُخاطب في الباحث) أن تظل في الميدان وأتمنى أنا أن أظل حيا على هذه الأرض وستأتي بعد سنوات ولن تجد تقريبا أجيالا جديدة في جرجيس تشتغل في الصيد الساحلي.”[57]
من جهة أخرى كرر أحد بحّارة جرجيس: “بين المياه الملوّثة، والمشاكل الاقتصادية، وآفة داعش (سلطعون البحر)، والأسماك التي لم تعد تتكاثر، والإسفنج المريضة، والهجمات الليبيّة، والضغط الإيطالي الأوروبي، بالنسبة لي كصياد سمك في تونس “لم تعد هنا حياة”. لقد غادر معظم أبناء جرجيس إلى أوروبا بعد أن هاجروا بطريقة غير نظامية عن طريق البحر، فهم يعلمون أنّه في هذه المنطقة التي تعيش بشكل أساسي من الصيد، لا مستقبل لهم.”[58]
تطرقت مقالة نشرت في صحيفة La Presse يوم 11 ديسمبر 2017 إلى عزوف الشباب دون سن الثلاثين عن الاشتغال بقطاع الصيد وهذا ما سيؤدي إلى شيخوخة هذا القطاع بالمناطق التي شملها المسح.[59]
وفي السياق نفسه، يضيف م. ع:”إنّ معدّل أعمار العاملين في قطاع الصيد الساحلي في جرجيس متقدم جدا فهو ما بين 55 و60 سنة، وفي الصيد الساحلي لن تجد الشباب كثيرا، فالناس هجروا هذا القطاع لأنه لم يعد يلبي الحاجيات الاجتماعية والاقتصادية”.[60]
ورغم تاريخية العمل والنشاط الصيدي في جرجيس الذي انتقل عبر أجيال إلاّ أنّ الآباء اليوم لم يعودوا يشجعون الأبناء على العمل في هذا القطاع وخاصة قطاع الصيد الساحلي، يقول ش، ب: “خلال تسعينيات القرن الماضي كان “البحري” (عضو فريق الصيد) بإمكانه تأسيس أسرة وبناء منزله الخاص، وهذا الأمر صار صعبا اليوم، فإن تمكن من تأمين مصاريفه اليومية يُعتبر محظوظا. لقد اشتغلت حوالي 32 أو 33 سنة في البحر منذ سن 17 سنة واشتغلت مع أبي وأقاربي وهو عمل وراثي، ومع هذا لم أشجّع ابني للعمل في البحر وهو الآن يعيش في فرنسا، لأننا نحن نعيش في واقع مُرٍّ، لذلك لم أشجع ابني على العمل في قطاع الصيد الساحلي”.[61]
وفقا لنتائج بحث كمي، يعتبر 99.50% من بحارة الصيد الساحلي المستجوبين بجرجييس، أنّ هناك عزوفا على إقبال الشباب للعمل في القطاع الصيدي، ويعتبر 81.80% منهم أن هذا العزوف هو نتاج التحولات المناخية وهدر النفايات في المتوسط، ويقر أيضا 98.50% منهم بأن عجز الدولة هو أحد الأسباب المشجعة على عدم انخراط الشباب في مهن الأسلاف.[62]
رغم تدهور أوضاع المجتمع الصيدي، وغياب الدولة وعجزها على تطوير هذا القطاع، إلا أنّ جمعية البحار التنموية البيئية قد عملت على تدريب فئات شابّة من أجل حثهم على العمل في القطاع الصيدي، لكن ذلك لم يمنع الشباب الجرجيسي من اختيار قرار الهجرة. وهذا ما يعبر عنه س. خ بقوله: “قامت جمعية البحار بعد سنة 2011 بتدريب 56 شابا من جرجيس حول كيفية الغوص وقدّمت لهم شهائد في الغوص، ودامت هذه الدورة أربعة أشهر ونصف وتحصّلوا على منحة رمزية كل شهر طيلة فترة التكوين، وأقيمت هذه الدورة التدريبية في معهد الصيد بجرجيس، ولكن اليوم بقي منهم تقريبا حوالي 10 شبان فقط، فقد قرر البقية أن يسلكوا طريق الهجرة سواء كانت بأشكال نظامية أو غير نظامية.”[63]
في السياق نفسه يضيف م، ع: “نحن في جمعية البحار وفي عام 2015 قمنا بتكوين 50 شخصا من جرجيس في الميكانيك، واليوم ليس لدينا أي شخص، فكلهم تقريبا هاجروا بطريقة غير نظامية. فقد تحصلوا على شهائد آنذاك واشتغلوا في البحر ولكن لم يجدوا في البحر أرباحا تلبي لهم حاجياتهم الاجتماعية والاقتصادية. فالبحر لا يصنع لهم مستقبلا أفضل ولا يمكن لَوْمُهُم لأنه من حقهم التفكير في فرص أفضل.”[64]
يُؤدي انسحاب الدولة وعجزها إلى انتقال الشباب من العمل الصيدي الوراثي إلى البحث عن فرص أفضل في دول الشمال الصناعي، وهذا ما قد يترك فرضية تصحّر قطاع الصيد الساحلي مستقبلا، في هذا السياق يقول ش، ب: “طالما أنه لا توجد استثمارات وتشجيعات وتطمينات والإيمان بقدرة الشباب فإن الهجرة لن تقف، فالآفاق مسدودة. ونحن الآن تقريبا أنهينا تجربة العمل في البحر، ولا أعتقد أن هناك جيلاً آخرا سيعمل في الصيد، هنا نجد شيخوخة في القطاع. سابقا كنا نعمل مع آبائنا وكنا نحب البحر والصيد، والآن هناك عزوف، الآن في قواربنا وأثناء عملنا أكثر موضوع يتم تداوله هو “الهجرة” لأنها مثلت خيارا، ورغم ما رافقها من قصص أليمة فإنها مثلت خيارا آخر للشباب.”[65]
يُقر أغلب بحارة الصيد الساحلي بجرجيس على أن التغير المناخي وهدر النفايات في المتوسط وعجز الدولة هي أبرز الأسباب التي جعلت من الشباب يهجر هذا القطاع.[66] وفي هذا السياق تبيّن الدراسة المشار إليها سابقا[67]، أن 52.70% من الصيادين المستجوبين في جرجيس يعتبرون أن الهجرة خارج تونس تمثل أحد الحلول الممكنة لمقاومة التحوّل المناخي وتلوّث البحر المتوسط وابتزاز القراصنة، ويقر 81.80% منهم على أنهم سيشجعون أبناءهم وأسرهم على الهجرة.
إذن تتطور نوايا الهجرة للشباب الجرجيسي في سياق التحفيز العائلي والتراث الهجري الذي عرفته المدينة, إذ أنها تاريخيا “تعتبر من أكثر المناطق التونسية التي هاجر سكانها نحو أوروبا وخاصة فرنسا حيث أنه لا تكاد تخلو عائلة منها من وجود أحد أفرادها في الخارج. فمنذ زمنية ما بعد الاستعمار، ونِتاج الهشاشة الاقتصادية، عرفت جرجيس نوعين من الهجرة الداخلية نحو تونس العاصمة والمناطق الساحلية، والخارجية نحو فرنسا وليبيا. ومن أبرز أسباب هذه الهجرات هو البحث عن عمل.”[68] وفي دراستها بيّنت ريم الخويلدي أن 95% من أفراد العينة قد صرّحوا بأن لهم أحدا من أفراد عائلتهم مقيم بالخارج.[69]وهكذا فإن الهجرة التاريخية لمواطني جرجيس نحو فرنسا في سياق قوة الحلقات المجتمعية المحلية وتراجع الظروف الاقتصادية والاجتماعية تلعب دورا مهما في تشكيل القرار الهجري.
لكن في ظلّ غياب القنوات النظامية للمهاجرين يتزايد الطلب على العبور غير النظامي إلى أوروبا. وبسبب نقص الموارد البديلة للصيادين، فإنّ العرض آخذ في الازدياد. وهذا لا يعني أنّ الصيادين هم “اليد الخفية وغير المرئية” في رحلة الهجرة غير النظامية. إذ أن المزج بين نموذج التنمية الملوّث وغير المنضبط وتقاعس السلطات التونسية فيما يتعلق بحماية البيئة وازدراء السياسات الهجرية الأوربية القاتلة للأرواح البشرية في سياق يتعرض له البحارة للاعتداء من قبل الميليشيات الليبية، هي عوامل حفزت أبناء الصيادين والشباب الجرجيسي على الانخراط في مشاريع الهجرة غير النظامية. ومن جهة أخرى، فإن المهاجرين غير النظاميين أو المرشحين للهجرة من مناطق تونسية أخرى أو من جنسيات أخرى غالبا ما يفضلون الانخراط في رحلات هجرية تكون أكثر أمانا. في جرجيس، ينتقل الصيد من الأب إلى الابن، لذلك يمتلك أبناء الصيادين دراية بالبحر ورياحه وعواصفه ومدّه وجزره وتياراته، ويعرفون طرق الحصول على القوارب. وحينما يكون هؤلاء على رأس القيادة فإنّ الرحلة تكون أكثر أمانا بالنسبة لأولئك الذين يخاطرون بالعبور على متن قارب.
ملاحظات ختامية
الهجرة غير النظامية ليست ظاهرة منعزلة عن البيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، حيث أثّرت رحلات الهجرة على المجتمع المحلي الجرجيسي بشكل عام وعلى مجتمع الصيد الساحلي بشكل خاص. في سياق الأزمة الأمنية التونسية وبعد حركات الاحتجاج سنة 2011، تمّ تثبيت جرجيس كمدينة انطلاق من قبل الحكومات اليمينية الأوروبية الأمر الذي أدّى إلى اعتبار مجتمع الصيد الساحلي كمنظمي رحلات الهجرة غير النظامية عبر المتوسط. وفي سياق السياسات الردعية الأوروبية، تمّ تجريم عمليات الإنقاذ والتضييق على الصيادين في البحر. ويتزامن هذا التضييق مع التقسيم غير العادل للحدود ما بين تونس وليبيا والجزائر في ظرفية لم يعد بإمكان البحارة الاصطياد على مشارف بحار ليبيا أو في خليج سرت الغني بالأسماك والثروة البحرية. وهكذا ساهمت حركات الهجرة عبر المتوسط في التضييق على أرزاق الصيادين الأمر الذي أدى إلى تدهور ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية.
من جهة أخرى، أدت التغيرات المناخية وهدر النظم البيئية وتصاعد عمليات القرصنة والابتزاز وتنامي ظاهرة الصيد غير القانوني الذي لا يحترم الراحة البيولوجية ويقوم بإبادة العديد من الأنواع البحرية إلى تراجع الظروف الاقتصادية والاجتماعية لبحارة الصيد الساحلي. وفي إطار الهشاشة السوسيو اقتصادية وتقاعس السلطات وتكاثر الديون على كاهل الصيادين يجد بعض البحارة أنفسهم منخرطين في مشاريع الهجرة غير النظامية وذلك من أجل تسديد الديون. وهكذا مثلت الهجرة أحد الحلول الممكنة لمجابهة خطر الدخول إلى السجون والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية. ولكن جدير بالذكر أنّ السياسات الهجرية الأوروبية العازلة للحدود والعلاقات غير المتكافئة ما بين الشمال الصناعي والجنوب الهش اقتصاديا في سياق لم تتمكن فيها الحكومات المتعاقبة بعد سنة 2011 من إيجاد حلول جذرية لقطاع الصيد الساحلي هي العوامل الحاسمة التي أدّت إلى انخراط بعض فقراء الصيد في المشاريع الهجرية.
رغم قصص الألم والمحن التي يمر بها الصيادون، فإن المجتمع الصيدي الجرجيسي كان في طليعة قيادة الحركات الاحتجاجية برهانات هجرية في خريف وشتاء 2022- 2023. حيث عملت هذه الفئات على تأطير الحراك وتنظيم رحلات بحرية من أجل البحث عن المفقودين في غمار المتوسط. وقد كانت هذه الممارسات النضالية والتضامنية على حساب أوقات عملهم ومواردهم المادية. ومع هذا، تم تجريم الحركات الاحتجاجية عن طريق بعض الإيقافات التي طالت بعض الشباب وعن طريق قمع بعض المظاهرات باستخدام القوة الردعية والأمنية.
في إطار استمرارية هدر النظم البيئية والتغيرات المناخية وتحوّل المتوسط إلى مرتع لبعض الميليشيات الليبية، وفي سياق استهزاء السياسات الأوروبية التي ساهمت في قتل عديد الأرواح البشرية، فإنّ رحلات الهجرة غير النظامية لن تنقطع سواء كانت من شبه الجزيرة الجرجيسية أو من مدن ساحلية أخرى تونسية. حيث يمكن القول أنّ مدينة جرجيس في سياق عاشت فيه المدينة على وقع تراث هجري تاريخي لا تزال تتسم بالعديد من المرشحين للهجرة، سواء كان ذلك بطريقة نظامية أو غير نظامية، وهكذا لن تقف الدينامية الهجرية وستظل المدينة مفتوحة على عديد التحولات الاجتماعية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية الأخرى.
بناء على ما سلف ذكره، يمكن القول أنّ حركات الهجرة هي حركات للرفض والتمرّد. فالهجرة غير النظامية هي فعل ضدّ تقاعس السلطات وازدراء السياسات الهجرية الأوروبية. وتجد هذه التعبيرات تفسيراتها في المجتمع المحلي ضمن المقاربة التاريخية، ففي زمن الإيالة التونسية وما قبل الحقبة الاستعمارية (1881)، “مثّلت حركة الهجرة لأفراد أقصى الجنوب أحد الحلول المتيسرة والممكنة التي يقع الالتجاء إليها في الأوقات التي تشح فيها الطبيعة أو يتزامن شحّها مع ضرورة دفع الضرائب، فكانت الهجرة والتنقل يعتمدان أيضا كوسيلة للتعبير عن الرفض وإعلانًا للتمرّد على السلطة.”[70]
للاطلاع على الدراسة بصيغة PDF
[1] Valentina Zagaria, « Une petite histoire au potentiel symbolique fort ». La fabrique d’un cimetière de migrants inconnus dans le sud- est tunisien, Critique Internationale, n0 83, 2019, pp 61- 86.
[2] تم تدشين هذه المقبرة يوم 9 جوان 2021.
[3] سالم الأبيض، تاريخ شبه جزيرة جرجيس من العصور القديمة إلى نهاية الاحتلال الفرنسي: دراسة اجتماعية تاريخية في التاريخ المحلي، تقديم: نور الدين سريب، الشركة العامة للطباعة سوجيم، تونس، 2001، ص 165.
[4] Céline Deandreis et al, Impacts des effets du changement climatique sur la sécurité alimentaire, Tunisie- Contribution aux éléments de la phase préparatoire du processus du plan national d’adaptation (Axe 2), Agence Française de Développement, 2021. P 79.
[5] Hervé Bru, Marouane Chikhaoui, Chaine de valeur pêche et aquaculture dans le gouvernorat de Mednine : Cartographie et plan d’action à court et à moyen terme, UE, programme IRADA, 2020. P 12.
[6] Hervé Bru, Marouane Chikhaoui, Op.cit. P 13.
[7] Hervé Bru, Marouane Chikhaoui, Op.cit. P 13.
[8] المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بولاية مدنين: قسم الصيد البحري وتربية الأسماك بجرجيس.
[9] المصدر السابق.
[10] Commission Européenne, Etude d’impact de la pollution industrielle sur l’économie de la région de Gabés, 30 Mars 2018.
[11] تأسس المجمع الكيميائي منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي بغنوش بالقرب من خليج قابس، وتقوم هذه الشركة بتحويل الفسفاط إلى حامض الفوسفوريك Acide phosphorique، ثمّ إلى سماد.
[12] وفقا للصيادين فإن أهم الأنواع البحرية التي تقلصت جراء تلوث البحر المتوسط والتغيرات المناخية هو القاروص والدوراد والاسفنج والاخطبوط. معلومات من شبكة الملاحظات والمقابلات التي أجربت في جرجيس خلال المنتصف الأول من شهر ماي 2023.
[13] ياسين النابلي، مصنع السّياب بصفاقس: التلوّث ولعبة المصالح، موقع نواة، 23 فيفري 2016، تاريخ زيارة الموقع: 4 جويلية 2023 على الساعة 10:23.
[14] Sophie- Anne Bisiaux, Marco Jonville, Des pêcheurs pris dans un étau, FTDES, 2019.
[15] محمد سميح الباجي، ملح جرجيس: الذهب الأبيض المسلوب، موقع نواة، 05 فيفري 2015. تاريخ زيارة الموقع: 25 جويلية 2023 على الساعة 12:02.
[16] Céline Deandreis et al, Op.cit. p 79.
[17] Ibid.
[18] يعتبر العديد من الصيادين أنّ هذه السلطعون بمثابة الكارثة حيث يتشابكون في الشباك ويكسرون كلّ شيء بمخالبهم مما يجبرهم على شراء العديد من الشبكات كل سنة، ووفقا لبعض البحارة فإنّ هذا السلطعون الأزرق لا يجني العديد من الأرباح حيث يتم تسعير 1 كغ بدينارين فقط، أي أقل بخمسة عشر مرة من سمك القاروص والدوراد.
[19]Sophie- Anne Bisiaux, Marco Jonville, Op.cit.
[20] Mehdi Mabrouk, Voiles et Sel, Culture, foyers et organisation de la migration clandestine en Tunisie, Les Editions Sahar, 2èmeédition, Tunis, 2012. P 125_126
[21] عكارة جرجيس هي النواة الأصلية للقبيلة التي استقرت في المنطقة المعروفة بدخلة جرجيس أو دخلت عكارة، وهي القبيلة التاريخية والكبيرة للمنطقة، وعبر التاريخ إلى اليوم ظل سكان المدينة وأغلب التونسيين يطلقون على سكان جرجيس بالعكارة.
[22] Valentina Zagaria, The Fraught Harga, The Cambridge Journal of Anthropology, Autumn 2019, Vol 37, n0 2, pp 57- 73. P 58.
[23] خالد طبابي، موجات الهجرة غير النظامية من بعد الثورة إلى سنة 2017: دراسة حالة الحوض المنجمي، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في علم الاجتماع، تحت إشراف: المهدي المبروك، قسم علم الاجتماع، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، السنة الجامعية: 2018- 2019، ص 83.
[24] بعد سنة 2011، عمل الاتحاد الأوروبي على تقديم العديد من المعدات والبرامج ودورات التدريب المخصصة للأمن الوطني والمتعلقة بإدارة الحدود وذلك بغاية إيقاف وإحباط رحلات الهجرة غير النظامية التي تنطلق من الشواطئ التونسية. وفي هذا الصدد يمكن للقارئ العودة إلى بيانات وبعض الدراسات والتقارير التي أنجزها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية: قسم الهجرة.
[25] مقابلة مباشرة أجريت يوم 7 ماي 2023 بمقهى بيغين بجرجيس مع م. ع، بحار وفاعل بجمعية البحار التنموية البيئية بجرجيس.
[26] Sophie- Anne Bisiaux, Marco Jonville, Op.cit.
[27] مقابلة مباشرة مع م. ع، سبق ذكره.
[28] Sophie- Anne Bisiaux, Marco Jonville, Op.cit.
[29] صاحب مركب صيد ساحلي ورئيس جمعية البحار التنموية البيئية بجرجيس.
[30] Sophie- Anne Bisiaux, Marco Jonville, Op.cit.
[31] مقابلة مباشرة أجريت يوم 15 أكتوبر 2022 بالميناء الصيدي بجرجيس على الساعة 09:00 في جرجيس، مع ع. ب بحار وفاعل بجمعية البحار التنموية البيئية.
[32] Zoé Debussy, Raphael Cuneo, Op.cit.
[33] وصف يطلقه أحد الفاعلين في جمعية البحار التنموية البيئية بجرجيس على بحارة الصيد الساحلي على اعتبار أنّ هذا القطاع هو قطاع نبيل ورشيد ولا يضر بالثروة السمكية ولكنه القطاع الأشد تضررا من التغيرات المناخية وهدر النظم البيئية ومن ظاهرة الصيد العشوائي. مقابلة مباشرة أجريت يوم 12 متي 2023 بالميناء الصيدي بجرجيس مع ش. ب، صاحب مركب صيد ساحلي وفاعل بجمعية البحار التنموية البيئية بجرجيس.
[34]خالد طبابي، الأبعاد المناخية والبيئية وتطور النوايا والمشاريع الهجرية: دراسة حالة الصيد الساحلي والحرفي بمنطقتي جرجيس وبوغرارة، تحرير ومراجعة: إيمان اللواتي، مؤسسة روزا لكسمبورغ، مكتب شمال إفريقيا تونس، 2024، ص 62، 63.
[35] يقوم بعض البحارة بكراء ” الدراين” على سبيل المثال، وهي أحد الوسائل والموارد التي تمكنهم من اصطياد السلطعون الأزرق.
[36] مقابلة مباشرة مع م. ع، سبق ذكره.
[37] Zoé Debussy, Raphael Cuneo, Op.cit.
[38] مقابلة مباشرة أجريت يوم 12 ماي 2023 بالميناء الصيدي بجرجيس مع ش. ب، صاحب مركب صيد ساحلي وفاعل بجمعية البحار التنموية البيئية بجرجيس.
[39] انطلقت الحركة تقريبا منذ أواخر سبتمبر 2022 إلى حدود الدخول في شهر رمضان 2023 والموافق لـ 22 مارس 2023.
[40] كل المهاجرين والمهاجرات من أصول جرجيسية.
[41] إلى حدود كتابة هذه الورقة لم يحدد القضاء التونسي سبب غرق القارب، وهناك روايتان محليتان أحدهما تقول أن سبب الغرق هو العاصفة البحرية في تلك الليلية أو ما يطلق عليها البحارة ب: النوا” ورواية أخرى ترجح أن سبب الغرق هو ارتطام القارب بخفر سواحل السلطات التونسية أو الليبية أو ربما الأوروبية.
[42] الميل الواحد هو حوالي 1.8 كلم.
[43] “ملاك” هي إحدى المهاجرات الاتي صعدن القارب ليلة 21 سبتمبر 2022.
[44] لمزيد القراءة حول تفاصيل حركة جرجيس وكرونولوجيا الأحداث يمكن للقارئ العودة إلى” خالد طبابي، جثث عائمة وأرواح هائمة عبث الدفن ودولة الاحتقار: مأساة شبه الجزيرة الجرجيسية، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 2022.
[45] مقابلة مباشرة أجريت يوم 15 أكتوبر 2022 بمقر جمعية البيئية التنموية بجرجيس على الساعة 13:00 في جرجيس، مع. ب. س، بحار وصاحب مركب صيد ساحلي وفاعل في جمعية البحار التنموية البيئيّة.
[46] مقابلة مباشرة أجريت يوم 18 أكتوبر 2022 بالميناء الصيدي بجرجيس على الساعة 14:00 في جرجيس، مع ب. ز، صاحب مركب صيد ساحلي وفاعل في جمعية البحار التنموية البيئية.
[47] الحبيب استاتي زين الدين، ” الفعل الاحتجاجي في المغرب وأطر.وحة الحرمان النسبي: في الحاجة إلى تنويع المقاربات التفسيرية” عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية، عدد 22، المجلّد السادس، خريف 2017، ص 165، 186، ص 171.
[48] خالد طبابي، فاجعة مركب جرجيس: الوجه الآخر للأحداث، المفكرة القانونية، 21 فيفري 2023.
[49] سالم الأبيض، ” تاريخ شبه جزيرة جرجيس من العصور القديمة إلى نهاية الاحتلال الفرنسي: دراسة اجتماعية- تاريخية في التاريخ المحلّي”، تقديم: نور الدين سريب، الشركة العامة للطباعة، 2001، ص 170.
[50] مقابلة مباشرة، أجريت يوم 15 أكتوبر 2022 على الساعة 12:00 في جرجيس، مع سالم الأبيض، جامعي وسياسي.
[51] مقابلة مباشرة ع. ب، سبق ذكره.
[52] مقابلة مباشرة مع ب. س، سبق ذكره.
[53] David Snow, Robert Benford, “Processus de cadrage et mouvements sociaux : Présentation et bilan“, Traduit de l’anglais (Etats-Unis) par Nathalie Miriam Plouchard, Revue Politix, vol 25, no 99, 2012, pp 217 – 255. P 226.
[54] وفقا لشبكة الملاحظات، فإن الكاتب العام للاتحاد المحلي بجرجيس كان قد لعب دورا هاما في تشكل واستمرارية التعبئة الجماعية.
[55] David Snow, Robert Benford, Op.cit. P 229.
[56] معلومات من شبكة الملاحظات خلال المنتصف الأول من شهر أكتوبر 2022.
[57] مقابلة مباشرة مع ش، ب، سبق ذكره.
[58] Sophie- Anne Bisiaux, Marco Jonville, Op.cit.
[59] Azzam Mahjoub, Mohamed Mondher Beghith, La sécurité et la souveraineté alimentaires et le droit à l’alimentation en Tunisie, FTDES, 2022. P 106, 107.
[60] مقابلة مباشرة مع م، ع، سبق ذكره.
[61] مقابلة مباشرة مع ش. ب، سبق ذكره.
[62] خالد طبابي، الأبعاد المناخية…، مرجع سابق، ص 68.
[63] مقابلة مباشرة أجريت يوم 8 ماي 2023 على الساعة العاشرة صباحًا بمقر جمعية البحار التنموية البيئية بجرجيس مع س. خ فاعل بجمعية البحار التنموية البيئية بجرجيس وصياد اسفنج بالميناء الصيدي بجرجيس.
[64] مقابلة مباشرة مع م. ع، سبق ذكره.
[65] مقابلة مباشرة مع ش. ب، سبق ذكره.
[66] معلومات من شبكة الملاحظات ومن خلال المقابلات كان قد استنتجها الباحث خلال شهر ماي من سنة 2023.
[67] خالد طبابي، الأبعاد المناخية…، مرجع سابق، ص 81.
[68] ريم الخويلدي، خصائص الهجرة والمهاجرون في الجنوب الشرقي التونسي: مدينة جرجيس مثالا، بحث لنيل شاهدة ماجستير في علم السكان، إشراف: إيمان الكشباطي، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، جامعة تونس، السنة الجامعية: 2018- 2019، ص 16، 26، 27.
[69] المرجع نفسه، ص 82.
[70] عائشة التايب، المجموعات القبلية بأقصى الجنوب التونسي وهجرة العمل المؤقتة، في حول الجنوب التونسي من الاحتلال إلى الاستقلال 1881- 1956، جمع النصوص وأعدّها للنشر: فيصل الشريف، منشورات المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، سلسلة تاريخ الحركة الوطنية، عدد 12، جامعة منوبة، تونس، 2005، ص 93، 112، ص 99.