الآلاف من الناس في تونس، والوافدون إليها من جنوب الصحراء وأجزاء أخرى من القارة الإفريقية، شكّلت الهجرة غير النظامية بالنسبة إليهم أفقًا غامضا وقويًّا لتجاوُز تراجيديا نِهاية الوَعد بالمستقبل. منذ أن أغلقت أوروبا حدودها أمام “الفائضين عن الحاجة” بشكل مُمنهج وقاسٍ -بداية من منتصف ثمانينات القرن العشرين- لم تكُن رحلات العبور الجريئة للآلاف من النساء والرّجال، في عرض المتوسط، مجرّد مغامرة ذاتية للنّفاذ إلى الضفة الشمالية المُسيّجَة بخفر السواحل وقوانين الهجرة الصارمة، وإنما كان كل هؤلاء يَترُكون وراءهم عوالم هجرية بصدد التشكّل في الضفة الجنوبية للمتوسط. ارتسمَت الهجرة غير النظامية في تونس كحركة مُعادَة الإنتاج داخليّا بشكل غير مرئيّ في معظم الأحيان، إذ أن لهَا مدُنها وسرديّاتها واقتصادها وبِنيتها الاجتماعية وشبكاتها الهجرية.
لم تَكُن سياسات الأمنَنة والمساعدات الأوروبية والعقاب القانوني، كافية لتذويب الهِجرة غير النظامية وإحالتها إلى مجرد انحراف قانوني أو أمني، بل عَمِلت كظاهرة تحتية أكثر تعقيدًا وأشدّ قدرةً على مواجهة عنف الحدود والعقاب المؤسساتيّ معًا، لأنها التصقتْ بمعيش الناس، وتداخَلت مع البُنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وعليه، أصبحت تَحفر في الواقع كبِنية ذات مغزى وجودي، لا ينبئ المستقبل القريب والمتوسط بالقضاء عليها عبر اتفاقات وسياسَات صارمة تتبنَّاها دول الجنوب والشمال. من داخل هذا المَنظور الذي يُعطي قيمة معرفية وإنسانية للهجرة كبناء تحتي مركّب، انبثقَت دراسة المفكرة القانونية حول مدن الهجرة، التي اختارَت الإضاءة على خَمس مدن تونسية تُعتَبر فضاءات عُبور إلى الضفة الشمالية من المتوسط ومجالات حيوية للهجرة غير النظامية. والمدن التي اخترناها تمتدّ من جنوب شرق البلاد (جرجيس) مرورًا بالوسط الشرقي (صفاقس-جبنيانة) وامتداده (الشابة)، وصولا إلى الشمال الشرقي (قليبية- حمّام الأغزاز). ولا تشكّل هذه المدن صورة نهائية لمناطق العبور في تونس، بقدر ما تستعرضها الدراسة كنماذج عبور للسواحل التونسية التي تمتدّ على حوالي 1300 كلم. وتتنوّع وتتّحد داخل هذه المدن أنمَاط التّفاعل الثقافي والسوسيو-اقتصادي والسياسي مع ظاهرة الهجرة غير النظامية، ولكل منها خصائصها المحلية، ولكنها تتلاقَى في تفاعلاتها مع البُنَي الكُلّية المهيمنة: الدولة، الاقتصاد، الحُدود.
وتُشكل الإضاءة على مدن العبور بالأساس، مدخلًا من بين مداخل بحثية وميدانية مُمكنة، وهي محاولة تهدف إلى التفاعل مع مقاربات أخرى قيّمة ومتواصلة للهجرة غير النظامية في تونس، وذلك بالرّجوع إلى أحد أبرز الحواضن التي تشكّلَت داخلها هذه الظاهرة، أي مدن العبور.
راوَحَت الدّرَاسة في مقاربَتِها المنهجيّة بين التفسير البَيَانِي (البيَانَات)، والبحث الميداني عبر الشهادات الفردية والجماعية، والمشاركة بالملاحظة، والوَصف الذي يُعطي مكانة مَعرفية للسرديات والمشاعر الجماعية والاعتقادات السائدة والتمثلات الجماعية، التي تُشكّل مصادر غير مرئية ومُحدِّدَة في تشكيل رؤية الفاعلين لذواتهم ومختلف الظواهر التي يشتبكُون معها. وعلى مستوى أسلوب الكتابة، راوحَت المقالات بين الأسلوب الصحفي من خلال محاولة رسم بورتريه للمدينة المدروسة، والكتابة البحثية التي تَنظر لفضاءات العبور كمجالات يُمكِن قراءتَها عبر مداخل سوسيولوجية وأنثروبولوجية وتاريخية واقتصادية. وقد سَارَ هذا المنهج والأسلوب المتنوّعَان، ضمن نسق إشكالي عام حاولت الدراسة الالتزام به، عبر إعادة صياغة ظاهرة الهجرة غير النظامية، بوصفها مجموعة من الأسئلة المستمرّة التي تبحث عن فهم أوسَع لعلاقة الهجرة بمُدنها وسكّانها: ما هي الآثار التي تركَتها ظاهرة الهجرة غير النظامية على نسق الحياة وتمثلات الأفراد داخل مدن العبور؟ ما هي التحوّلات التي تَركَتها هذه الظاهرة في الاقتصادات المحلية، وهل ساهمتْ في خلق أشكال اقتصادية جديدة يمكن أن نُسميّها “اقتصاد الحرقة”؟ كيف تفاعلت مدن العبور مع سياسة الحدود الصارمة، وما هي الأشكال التي ابتدعَها الفاعلون من أجل مواجهة منظومة الحواجز الحدودية؟
اللاّنِظَاميّة: إفراز لبِنية غير عادلة
سَعَت الدراسة إلى مُجابهة سياسة فَرض الأمر الواقع، التي تتعاطَى مع مدن العُبور بوصفِها مساحات للخروج عن القوانين الهجرية المحلية والاتفاقات الدولية، لذلك تعِدُها هذه السياسة بالمزيد من الأمنَنَة والرقابة. ولكن خلف هذا المنظور الرقّابي ضيّق الرؤية، اتخذَ الفعل الاجتماعي وجهة أخرى، عبر مراكمة إجابات وخبرات وأنماط عيش، تُعبّر عن رؤية مُناقضة في معظمها للرؤية النظامية، ومتسَاوقة مع الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعيش ضمنها الفاعلون الاجتماعيون.
من خلال مُحاولة التجوّل في الفضاء الاقتصادي الذي تتحرّك فيه مدن العبور، بمكوّناته المحلية والكلّية، حاولت الدراسة رسم صورة تأليفيّة عن علاقة الهجرة غير النظامية بالشرط الاقتصادي، تأثيرا وتأثّرًا. ومن الملاحظ أن تبنّي سياسات حدوديّة أكثر انغلاقا وتبنّي تشريعات محلية ودولية أكثر صرامة بخصوص حرية التنقل بين ضفتي المتوسط تَزامنَ مع ظهور آثار “إعادة البناء العولمي”[1]، التي شرعَت في تسطيرها قوى الشمال السياسي المهيمنة، منذ منتصف سبعينات القرن المنصرم. وقد جهدت هذه القوى في فرضها على دول الجنوب الفقيرة، من خلال سياسة ربط مَنح القروض ببرامج التعديل الهيكلي التي أشرف عليها صندوق النقد الدولي بالأساس، والدّفع التدريجي في اتجاه تبني خيار الخصخصة وسياسات التقشف العمومي. وبنتيجة ذلك، تدَهورتْ معظم المنظومات الاجتماعية (الصحة، السكن، التعليم، النقل…)، وتمّ اعتماد نظام أجور متدنٍّ يُوازيه انهيار مستمر للمقدرة الشرائية. وبالمحصّلة أنتجت هذه الهندسة اقتصادات محلية راكدة تُعاني من هشاشة هيكلية في قطاعاتها الحيوية، أساسا الفلاحة والصناعة، وتتّجه نحو القطاع الخدماتي غير المنتج، لتخضع أكثر فأكثر إلى بِنية السوق العالمية التي جعلت من معظم الجنوب العالمي مصدرا لليد العاملة الرخيصة والطاقة والمواد الأوّلية والمنتوجات الفلاحية المُعدّة للتصدير.
مارسَت هذه الآثار الاقتصادية فِعلها في الهيكلة الاقتصادية لمُدن العبور، وكانت عاملاً حاسِمًا في تحديد رؤية شريحة لا بأس بها من سكانها لظاهرة الهجرة غير النظامية، سواء المُستقرّين فيها أو الوافدين إليها. ورغم أن المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تَختلف من مدينة إلى أخرى، وديناميات المشروع الهجري وآلياته تَختلف أيضا، إلا أن الهشاشة اخترقَت فضاءات العبور بأشكال مختلفة وارتبطت بأنشطة اقتصاديّة آخذة في التدهور مثل الصيد البحري والفلاحة. وهذا ما تجلّى في مدينَتي جرجيس والشابة في الأزمات المتواصلة لصغار البحارة بسبب الديون المتراكمة وهيمنَة الصّيد الاستنزافي والتحولات المناخية. كما أن هيمنة الفلاحة الموسمية (غراسات الزيتون أساسا) على معظم النشاط الاقتصادي، وما تَخلقه من حالة عدم استقرار وعزوف لدى قوى العمل الشابة، أفرزَت هشاشة مُغذّيَة للمشروع الهجري. وفي هذا السّياق، يجدر التشديد على أن الدّراسة خلصَت بشكل مُلفت إلى أن “لا نظامية” الهجرة مرتبطة بشكل كبير بـ”لا نظامية” اقتصادية أوسَع تَعيشها مدن العبور ومختلف الفاعلين في الهجرة، من خلال انتشار أشكال العمل غير المهيكل والهشّ (العمل الفلاحي الموسمي، حضائر البناء، العمل في قطاع الخدمات مثل المقاهي والنزل والمطاعم، تجارة الشارع، تجارة التهريب، العمل الصناعي بعقود هشة وغير مستقرة…إلخ). وهكذا فإن لا نظامية الاقتصاد السائدة واجهها المشروع الهجري بلانظامية موازية، يمكن ملاحظاتها أساسا في تعقيد شبكات الهجرة والتهريب وتحوّلَها إلى ما يشبه “سوق الحرقة” غير المرئي، المُجَرَّم مؤسساتيا وخَطَابيّا، ولكنه مستقر كبنية فاعلة وقائمة الوجود: صنَاعة القوارب المعدنية، الاتجَار بالمحرّكات البحرية، إسداء خدمات للمهاجرين غير النظاميين كالنقل والإيواء والإرشاد، تهريب البشر، سوق سوداء للعملة، إلخ.
فَرضَت هذه البنية غير النظامية نفسَها في ظل غياب الدولة كمشروع ووَعد بالمستقبل، مُقابل حضورها الحِرَاسي والعقابي الآخذ في الإفراط. وقد شكّل هذا الشّكل الدّولَتي الغائب اجتماعيا واقتصاديا والحاضر أمنيا، أحد الأوجه التي يُمكن من خلالها قراءة مضمون العلاقة بين الدولة ومجتمعها. وقد اصطدمت كل ورقات الدراسة تقريبا بهذه العلاقة، لأنها كانت أحد المحددات الرئيسية في فهم تمثلات الفاعلين وانتظارَاتهم وهواجسهم وقيَمهم، ومختلف العلاقات التي يُقيمونها مع ذواتهم ومُحِيطهم.
مُدن العبور: بنَاء من الحكايات والمشاعر
في مدن العبور، لا تُشكّل الهجرة غير النظامية مجرّد مغامرة جماعيّة أو فرديّة للنفاذ إلى الضفة الشمالية، وإنّمَا تستعرض قوّتَها السيميائية والثقافية كبناء صَلْب ومَحفور بعناية في الصّخر، شيّدته الحكايات والأخبار والقصص الجماعية وملاحم الوصول إلى الضفة الأخرى، ومآسي الموت والفقدان كذلك. وقد حَاولت الدراسة في أجزاء متفرقة منها الانتباه إلى هذه البنية الحكائيّة التي تُعيد إنتاج الوقائع على نحو يعكِس تمثّلات الأفراد ومشاعرهم ورغباتهم. يمكن ملاحظة هذا الجانب في المرويات المتداولة حول بداية ظهور الرّحلات غير النظامية، واللحظات التاريخية المِفصلية التي فُرضَت فيها الحدود كسياسة غيَّرت نظرة السكّان لجغرافيا الحدود والمتوسط بشكل عام، وقصص الحَرّاقة الناجين والعائدين أو الذين لم تكن الأنواء رحيمة بأحلامهم الصغيرة. وداخل كل مسار هجري فردي هناك قصة ومِحنة ورغبة، وأسئلة مستمرّة بخصوص الانتماء للمكان، إذ أن مدن العبور بحكم جغرافيتها السّاحِلية تحوّلَت إلى فضاءات حاضنة لأسئلة الهوية والانتماء والغيريّة.
يَضع بُروفيل المهاجر غير النظامي الكثير من التمثّلات والهواجس تحت أشعّة الشمس، لأنّه يَنظر للهجرة في الكثير من الأحيان كمصير بديل لمصير قائم في بلده، وعادةً ما يُجرِي مقارنة بين وَضعه الإنساني في دولته ووضعه المنشود في أوروبا التي يتخيلها قبل أن “يَحرقَ” إليها. يَتزوّد المهاجر غير النظامي بحكايات العائدين المُظَفَّرين من أوروبا، ويرصُد تغيّر ملامحهم وأوضاعهم المادية وعلاقتهم بالمستقبل، فيكوّن صورة أولية مُحفّزة، كما أنه يَجتهد في تشكيل معرفة أولية حول مساره الهجري والصعوبات التي تعترضه والحقوق التي سيتمتّع بها في صورة وصوله إلى الضفة الشمالية. وفي زمن الطفرة المعلوماتية وانتشار الميديا الاجتماعية، أصبح النفاذ إلى قصص الهجرة ومعطياتها أكثر سهولة. لذلك تبدّت مدن العبور كجسر مصيري جَازِم، يختَار فيه المهاجر غير النظامي مواجهة اليأس والبحث عن الأمل في مكان آخر. خلال تأمّله في الدوافع الإنسانية الكبرى لمسألة الهجرة غير النظامية -بخاصة في الوطن العربي بعد ثورات 2011- يقول الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني: “لم تنجح دول الهوية -دول الاستقلال “الوطني”- في توفير الجرعة الكافية من الانتماء إلى الإنسانية، فطفقت الشعوب تبحث عنها في مكان آخر…إن الشعوب انتهت إلى يأس استراتيجي من الدولة الهُوَوية وقرّرت الفرار من الوطن”.[2]
الفِرار من الوطن الذي أشارَ إليه المِسكِيني، لا يُحدّده فقط الصراع العمَلي المباشر مع مظاهر الانحدار الاقتصادي والاجتماعي، وإنما يتشكل أيضا بإيعاز من مناخ شُعوري وسيكولوجي يُسيطر فيه الإحساس بالضّيم والحقرة والانسداد وعدم الرغبة في التواصل مع المكان والآخرين. وهذا المناخ أوجدَته الدولة الاستقلالية بعمَلِها المُثابِر على خلق كل الشروط المتناقضة مع مصيرٍ أكثر كرامة وعدالة للإنسان التونسي. ورغم أن الكثير من المهاجرين غير النظاميين لا تَعُوزهم المعرفة بتعقيدات المسار الأوروبي، ومصاعب ما ينتظرهم قبل تسوية أوضاع إقامتهم، إضافة إلى إدراكهم وِحشة فكرة الإحساس بالغربة عن الوطن، إلا أن “اليأس الاستراتيجي” الذي أشار إليه المسكيني، ينتهي إلى مُقارنة يَنتصر فيها القرار الهِجري على المكوث في الوطن.
الضفّة الجنوبية كساحة لمقاومة “سلعَنَة” الحدود
كتَبَت بل هُوكس، الكاتبة النسوية والناشطة الأمريكية، واصفةً معنى السّكن في الهامش من خلال حياة الآلاف من السود في أمريكا: “أن تَحيَا على الهامش يعني أن تكونَ جزءًا من الكلّ غيرَ أنك تقعُ خارج بُنيانِه الحيويّ. حينما كنّا نعيش، نحن الأمريكان السّود، في بلدةٍ صغيرةٍ بولاية كنتاكي، كانت قضبانُ السكةِ الحديدِ تذكرُنا كل يومٍ بهامشيّتنا. ففي الجانبِ الآخرِ من تلكَ القضبان كانت ترتسمُ طرقاتٌ مرصوفة مشغولة بدكاكين مغلقةٍ في وجوهِنا، ومطاعمَ لا يُسْمحُ لنا أن نأكلَ بها، وأناسٍ حُرِّمَ علينا النظر في وجوهِهم. كان العالمُ في ذاك الجانبِ الآخرِ يجيزُ لنا أن نشغلَ فقط وظائفَ الخدَم أو البوابين أو الداعرات، أو أيَّ وظيفة مماثلة طالما أنَّ قوامُها تقديم الخدمات”.[3] استئناسًا بما كتَبته بل هوكس يمكن القول أن الحدود البحرية بين ضفتي المُتوسط، تلعَب دورا شبيها بقضبان السكة الحديدية في بلدة كنتاكي الأمريكية، فهي تَقسِم المتوسط إلى نِصفين؛ هامش ومركز، جزء وكلّ. مُعظم سكّان الضفة الجنوبية من المتوسط لا تنطَبق عليهم شروط العبور إلى الضفة الأخرى التي وضعها المركز الأوروبيّ. لأنهم لا يشكّلون إضافة نوعية لاقتصاد المركز، وهم فائض بشري لم تعُد أوروبا في حاجة إليه، ومن الأنسب التحكّم في حركة تنقل هذا الفائض، في الوقت الذي يتمتّع فيه المواطن الأبيض بحق التنقل دون قيود أو شروط.
هذه الهيمنة الحدودية، التي استفادَت من اختلال علاقات القوة بخصوص حرية التنقل بين ضفتي المتوسط، أدّت إلى إنتاج الهامشية كموقع وكدافع لمقاومة عنف الحدود ولاَ عدالتها. وقد خلُصَت الدراسة في العديد من مواضعها إلى تأثير غلق حرية التنقل بين المتوسط في تمثلات الأفراد والجماعات ونظرتهم لموقعهم ودورهم داخل هذا الفضاء الحضاري والحيوي القديم الذي يُدعَى المتوسّط. كما أنّ الهجرة غير النظامية لاَحَت في الكثير من الحكايات والمواقف الشعورية، كحركة رمزية لمقاومة جبروت الحدود، إذ أن بعض المهاجرين غير النظاميّين انخرطُوا في مسار التأشيرات ولكنهم سَقطوا في امتحان الشروط، في حين أنّ العديد منهم فضّلوا عدم الانخراط في هذا المسار “النظامي” لإدراكهم القبلي بأنهم خارج لائحة الشروط. وهذا المسار النظامي أصبحَ يشتغل كسوق مُنظمة ومربحة يقصدها “ملايين الحرفاء سنويا ويدفعون مليارات تذهب إلى حسابات الشركات متعددة الجنسيات وخزائن الدول الأوروبية”.[4]
هذه السياسة الحدودية آخذة في توسيع مجالها الهيمَني، عبر اتجاهين أساسيين: يتمثل الاتجاه الأول في تَصدير الحدود من خلال دفعها خارج المجال الأوروبي وتحويل الضفة الجنوبية إلى منطقة حِرَاسة متقدمة، على غرار ما يقوم به النظام التونسي -خاصة في ظل حكم الرئيس سعيد- من خلال إمضاء مذكرة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي في 16 جويلية 2023، ثم تلاَها الإعلان الأخير على إنشاء الدولة التونسية منطقة جديدة للبحث والإنقاذ البحريين[5] في 19 جوان الجاري التزاما بالشروط الإيطالية. وعموما تُظهر الإحصائيات الأخيرة التزام النظام التونسي بدور حراسة الحدود، إذ يُشير تقرير نشره المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى أن السلطات التونسية منعَت، خلال الأشهر الثلاثة الأولى لسنة 2024، 8517 مهاجرًا، من اجتياز الحدود البحرية بطريقة غير نظامية.[6] أما الاتجاه الثاني فيُجسّده منطق سلعَنة الحدود وتحويلها إلى سوق للإتجار بالحق في التنقل، من خلال توسّع سوق خدمات “الفيزَا” الذي تُسَيطر عليه شركات متعدّدة الجنسيات. وهذه الشركات تلعب دورا مُقنّعا في الوصم والفرز الاجتماعي، لأنها تشرف على تنفيذ سياسات “الانتقاء الهجري” الذي يفرضها الشمال السياسي، وأصبحت تَتَمَاثل لدى الكثير من الراغبين في الهجرة النّظامية مع العديد من القيم السلبية مثل الإحساس بالحُقرة والعَجز وامتهان الكرامة، وهو مَا يُشكّل دوافِع فعلية لاختيار المسالك غير النظامية.
هذا النّسيج الحدودي القوي والآخذ في التصلّب، تواجِهه في الضفة الجنوبية حالة من التحدي المتواصلة، تُجسّدها حركة قوارب الحرقة التي لم تَخفت رغم الحصار الأمني. ولكن هذا التمزيق الجريء لنسيج الحدود لا زال مُكلفًا على المستوى الإنساني، لأنه يحصد أرواح المئات من البشر سنويا. فقد أشار تقرير لمنظمة الهجرة الدولية -أصدرته منتصف 2023- إلى أن 28 ألف إنسان فُقِدُوا في البحر المتوسط منذ العام 2014.[7] كما أشار تقرير أصدره المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية -ماي 2024- إلى أن وزارة الداخلية التونسية أعلنت خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام عن انتشال 462 جثة دون اعتبار المفقودين.[8] ويتواصل هذا الموت الدراماتيكي للمئات من الأشخاص سنويا في ظل هيمنة سياسة “تتفيه الموت” التي تتعامل مع المهاجرين كأرقام ومشاكل. إضافة إلى تغذية خطاب عنصري وتحقيري ضدههم، بخاصة مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء الذين يعانون حالة من الحصار الأمني على السواحل التونسية -أساسا مدينة جبنيانة- ويجري تجريم واسع للتضامن الحقوقي والمدني معهم، حيث يتعرض المئات من النشطاء والمواطنين إلى الملاحقة القانونية والتحقيقات المستمرة بسبب القيام بأنشطة تضامنية مع المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء.[9]
إزاء هذا الصراع المُستمر بين حركة مقاومة عنف الحدود المستمرة وتوسع سياسات الرقابة والحصار التي تقوم بها الأنظمة، تنتصب مدن العبور كشاهد على المآزق الأخلاقية والسياسية والاقتصادية التي تعيشها أنظمة السيطرة على الضفة الجنوبية من المتوسط، وكعلامة معاصرة على استمرار ظاهرة الهجرة غير النظامية بوصفها حركة تحتية مُعقدة، ينصهر داخلها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والإنساني، رغم كل سياسَات التّجريم والوصم والعداء العنصري.
للاطلاع على الدراسة بصيغة PDF
[1] آصف بيّات. الحياة سياسة، كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط (ترجمة أحمد زايد) ط1، مصر: المركز القومي للترجمة، 2014، ص: 97.
[2] فتحي المسكيني. الهجرة إلى الإنسانية. ط1، تونس: كلمة للنشر والتوزيع، 2016، ص: 204.
[3] بل هوكس. عن الهامش بوصفه ساحة للمقاومة (ترجمة: نورا حلمي، أحمد مدحت، حسين الحاج) موقع Boring books ، 15 جانفي 2019.
[4] محمد رامي عبد المولى. تأشيرات شنغن في تونس: استثمار ناجح في سوق البؤس الإنساني. موقع المفكرة القانونية، 31 ماي 2023.
[5] للوقوف أكثر حول طبيعة هذا الإجراء، انظر-ي: محمد رامي عبد المولى. منطقة البحث والإنقاذ البحرية: مسؤولية تونسية ومشاكل أوروبية.
[6] المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. التقرير الثلاثي (جانفي مارس 2024) موقع المنتدى، 20 جوان 2024.
[7] منظمة الهجرة الدولية: نحو 28 ألف إنسان فقدوا في البحر المتوسط منذ 2014. موقع مهاجر نيوز، 16 أوت 2023.
[8] المرصد الاجتماعي التونسي. التقرير الشهري ماي 2024. موقع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 03 جويلية 2024.
[9] منال دربالي. بسبب نشاطها في مجال الهجرة: الجمعيات في مرمى السلطة، المفكرة القانونية، 10 جوان 2024.