الهيدروجين الأخضر في تونس: النوايا الخضراء والحقائق الرماديّة


2025-03-13    |   

الهيدروجين الأخضر في تونس: النوايا الخضراء والحقائق الرماديّة
رسم عثمان سلمي

لم تكن الزيارة الأخيرة التي أدّتها سفيرة فرنسا إلى قابس بالجنوب الشرقي للبلاد في 02 ديسمبر الفارط مُرحَّبًا بها لدى عدد من النّشطاء في مجال البيئة، رغم الأهداف “الخضراء” المُعلَن عنها، من قبيل تحويل قابس إلى قطب لإنتاج الهيدروجين الأخضر، وسرديّات الانتقال الطّاقي والطاقات البديلة والنّظيفة، فهي زيارة لا تُبشّر بتفكيك الوحدات المتسبّبة في التلوّث أو مراجعة منوال التنمية القائم على الصناعات الاستخراجية، أو الاستماع إلى متساكني الجهة وناشطيها وناشطاتها البيئيّين وتشريكهم في اتخاذ القرار. وهي تأتي مواصَلةً في الاستراتيجية الوطنية التونسية لإنتاج الهيدروجين الأخضر الّتي تمّ الإعلان عنها منذ أكتوبر 2023. وفي ملتقى انتظم في إطار تلك الزيارة، يقول كاتب الدّولة المُكلَّف بالانتقال الطّاقي وائل شوشان إنّ الهيدروجين الأخضر يُعدّ من الحلول التي تساهم في التقليص من انبعاثات الكربون والغازات الدفيئة وضمان مستقبل مستدام من جهة والنهوض بالاقتصاد الوطني وتعزيز مكانة تونس كمركز إقليمي للطاقة النظيفة من جهة أخرى. لكنّ إنتاج الهيدروجين الأخضر يتطلّب استخدام كميّات كبيرة من المياه، في بلد يُهدّده الشّح المائي، وتقلّ فيه نسبة التساقطات. 

الهيدروجين الأخضر هو غاز سائل يُستعمل في قطاعات النّقل والصناعات الكيميائية وصناعات التعدين والتكرير، يُستَخرج أساسًا من الماء، من خلال الفصل بين جُزَيئاته المتكوّنة من الهيدروجين والأوكسيجين. يكتسب هذا المُكوَّن صفة “الأخضر” لأنّ الطّاقة المُستخدَمة في استخراجه تتأتّى من طاقات متجدّدة مثل الرياح والطاقة الشمسية. في ظلّ ندرة المياه تتّجه الدّولة نحو تحلية مياه البحر، وتركيز محطّات على مساحات شاسعة من الأراضي من أجل تثبيت الأعمدة الفولطاضوئية لتوليد الطاقة البديلة التي ستُستَخدم في فصل مكوّنات الماء والحصول على الهيدروجين الأخضر. ولكنّ الناشطين والناشطات البيئيّين يرفضون  هذا التمشّي لأسباب عديدة؛ أهمّها تبذير المياه واستغلال أراضٍ لم تُحسَم صبغتها بعد، ومواصلة ارتهان البلاد للأسواق الخارجيّة، لأنّ نسبة 80% من الهيدروجين الأخضر سيتمّ تصديرها إلى الخارج، مقابل الإبقاء على نسبة 20% للاستهلاك الداخلي، وفق ما ذكرته رئيسة مشروع أصوات من أجل المناخ، آسيا قزّي، للمفكرة القانونية. 

المجمع الكيميائي: خزّان التلوّث

تحتوي قابس، المدينة الساحلية التي تمتاز بخليجها ونخيلها، مجمعًا كيميائيًّا لإنتاج الأسمدة والحمض الفوسفوري المُستخدم في المخابز وتعبئة المشروبات الغازيّة كمُضادّ للأكسدة، من خلال تكرير الفوسفات الّذي يُنتجه الحوض المنجمي بالجنوب الغربي للبلاد. يتسبّب تحويل الفوسفات في إفراز مادّة الفوسفوجيبس المُلوِّثة وسَكْبها في البحر، ممّا أضرّ بالنُّظم الإيكولوجيّة وتسبّب في اضطراب أنشطة الصيد البحري التي تمثّل مورد رزق لعدد من المتساكنين في تلك المنطقة، بالإضافة إلى تلويث الهواء بسبب الانبعاثات الغازيّة. خاض النشطاء البيئيون تحرّكات ميدانيّة من أجل نقل الوحدات الصناعية المتسبّبة في الانبعاثات الغازية إلى مناطق أخرى بعيدة عن التجمّعات السكانيّة، وتفاعلت السلطات إيجابًا آنذاك، في حدود إعلان النّوايا فقط، عبر إصدار قرار حكومي يتمثّل في تفكيك الوحدات المُلوّثة المُرتبطة بإفراز مادّة الفوسفوجيبس مقابل إحداث وحدات صناعيّة أخرى تحترم معايير الحفاظ على البيئة والمُحيط، وهو قرار اتّخذته الحكومة في 29 جوان 2017، إلاّ أنّ وزير الشؤون المحليّة في ذلك الوقت، رياض المؤخّر، أقرّ في سنة 2018 بأنّ هذا القرار يتطلّب عشر سنوات لتفعيله.

من ناحية أخرى، تستورد تونس 100% من حاجياتها من مادّة الأمونيا التي تُستخدم في استخراج الأسمدة الكيميائية، وفق ما ذكره كاتب الدّولة المُكلّف بالانتقال الطّاقي، وائل شوشان، خلال الملتقى الّذي انتظم بقابس في بداية شهر ديسمبر 2024، وهو ما مهّد للحديث عن ضرورة إحداث وحدة لإنتاج الأمونيا الخضراء بقابس. وكان هذا الأمر محور اجتماع انعقد بتاريخ 21 أكتوبر الفارط بإشراف والي الجهة حول مشروع تركيز وحدة نموذجية لإنتاج الأمونيا الخضراء باعتماد الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر الذي سيتم توفيره من خلال استغلال مياه البحر، وفق ما ورد بالصفحة الرسمية لولاية قابس.

المقاومة  البيئية

يتمّ كلّ هذا وسط رفض متساكني الجهة استنزاف الموارد الطبيعية، واحتجاجهم على عدم تشريكهم في اختيار نموذج التنمية الملائم بالنسبة إليهم، خاصّةً وأنّ الناشطين في مجال البيئة سبَق وأن خاضوا تحرُّكًا في المدينة في إطار مُخيّم بيئي امتدّ من 04 إلى 08 جوان 2024، طالبوا من خلاله السلطات بتفعيل القرار الحكومي المتعلّق بتفكيك الوحدات الملوثة المرتبطة بإفراز الفوسفوجيبس، مقابل إحداث وحدات صناعية جديدة تحترم المعايير الوطنية والدولية في السلامة البيئية.

في 05 جوان الفارط، وبالتزامن مع المُخيّم البيئي الّذي نظّمه حراك “أوقفوا التلوّث” Stop pollution في قابس، والّذي حضره ما يُناهز 300 ناشطًا في مجال البيئة، قال الفنّان الملتزم ياسر الجرادي: “تمسّكوا ببلادكم، لا تهرُبوا، فمن الممكن أن تصبح جنّة حقيقيّة. هذا المشروع لن يدرّ أرباحًا، وهي أصلا لا تُضاهي قيمة الواحة والبحر الّلذَين تضرّرا من هذا التلوّث”. توفّي ياسر بعد ذلك بشهرين، وظلّت قابس وأهلها يناضلون ضدّ الأنشطة الاستخراجية، ويُطالبون بتفكيك الوحدات الصناعية المُلوِّثة التابعة للمجمع الكيميائي، مُعوّلين على التحرّكات الميدانيّة وعلى تعبئة الشارع ولفت النّظر إلى المخاطر الصحيّة التي تتسبّب فيها الانبعاثات.

وقد تزامن التحضير لهذا المخيّم البيئي مع توقيع اتفاقية بين تونس وشركة توتال للطاقات Total energies وشركة فاربوند Vernund النمساوية من أجل تطوير مشاريع الهيدروجين الأخضر، في 28 ماي 2024، ونَقلِه إلى أوروبا عبر الأنابيب، بغاية إنتاج 200 ألف طن سنويّا من الهيدروجين الأخضر، إلى جانب توقيع مذكّرة تفاهم بين تونس والمجمع السعودي “آكوا باور” لتطوير إنتاج الهيدروجين الأخضر، في 31 ماي 2024، بقدرة إجمالية تناهز 12 جيغاواط من الطاقات المتجددة، مع الرفع من معدلات إنتاج الهيدروجين الأخضر لتتجاوز 600.000 طن سنويا. ومن بين أهداف هذه الاتفاقية تركيز وحدة لإنتاج الأمونيا وأخرى لتصديرها في قابس أو الصخيرة في مرحلة اولى، اعتمادًا على فرص السوق المباشرة.

تأتي هذه الاتفاقيات تفعيلا للاستراتيجية الوطنية التونسية لإنتاج الهيدروجين الأخضر التي تمّ الإعلان عنها منذ أكتوبر 2023، بهدف إنتاج 8.3 مليون طن من الهيدروجين الأخضر في أفق سنة 2025، وتوفير ما يُناهز 430 ألف موطن شغل. 

ما وراء إنتاج الهيدروجين الأخضر

في ظلّ شحّ المياه وسنوات الجفاف المتتابعة على تونس، يتطلّب استخراج الهيدروجين تحلية مياه البحر، وهو الحلّ الأسهل والمُتاح حاليًّا، إذ أنّ كيلوغرام من الهيدروجين يستهلك بين 18 و20 لترا من الماء، ما يعني أنّ بصمته المائية مرتفعة. ولكنّ هذا الأمر يخلق إشكاليّات بخصوص النُظم الإيكولوجية البحرية، لأنّ كميات الملح التي ستُستخرج من الماء ستتمّ إعادة سكبها من جديد في البحر، وهو ما سيؤدّي بالضرورة إلى ارتفاع درجة ملوحة مياه البحر، وحرارتها، وما سيؤثر على الأسماك والكائنات البحرية، وعلى نشاط الصيد البحري بصفة لاحقة. “إذا كان الهيدروجين الأخضر سيتوّجه إلى الاستهلاك الداخلي فإنّ المياه المُستخدمة في إنتاجها سيتمّ تدويرها وإعادة استخدامها. أمّا إذا كان مُوجَّهًا للتصدير فإنّ الدّول المستفيدة هي التي ستتمكن من إعادة استخدام المياه”، تُعلّق آسيا قزّي عن مشروع أصوات من أجل المناخ. هذا بالإضافة إلى استغلال مساحات شاسعة من الأراضي بثمن باهظ يتجاوز القيمة الحقيقية لإنتاج الطاقة. تقول محدّثتنا إنّ أهمّ عامل في إنتاج طاقات الرياح أو الطاقة الشمسية، أي الطاقات النظيفة، هو الأرض الّتي ستُمكّن من تثبيت الأعمدة الفولطاضوئية. لكنّ صبغة الأراضي ليست واضحة، كما أنّ قيمتها لا تُضاهي الأرباح المتأتية من إنتاج الطاقة.

تشير  آسيا قزي أيضا إلى نقطة ثالثة تتعلّق بوهم التشغيلية، فوفق الاستراتيجية الوطنية التي أعلنت عنها الحكومة في أكتوبر 2023، فإنّ الطاقة التشغيلية لمشاريع إنتاج الهيدروجين الأخضر تصل إلى 430 ألف موطن شغل، وهو رقم تعتبره محدّثتنا “غير دقيق”، مشيرةً إلى غياب أيّ تفسير للوظائف المباشرة وغير المباشرة التي سيتمّ إحداثها، وما إذا كانت مستدامة أو ظرفيّة، ما يعني أنّ هناك “تسويقًا” للطاقة التشغيلية لهذا المشروع.

من ناحية أخرى، فإنّ الكلفة الفعليّة لإنتاج الهيدروجين الأخضر تتجاوز استغلال المياه والشمس وطاقات الرياح، لتشمل أيضًا الاقتراض والأعباء المالية التي ستتحمّلها الدّولة لتوفير البنية التحتيّة لنقل الهيدروجين الأخضر. “إذا كنّا لا نعلم الكلفة الحقيقيّة لإنتاج الهيدروجين الأخضر فلا يمكننا أن نقدّر ما إذا كانت هذه المشاريع ستدرّ العملة الصعبة أو لا، إذ يجب احتساب الكلفة كاملةً لتحسين الشبكات وتطوير البنية التحتية والطرقات للاستثمار في هذه الطاقة”، تقول مديرة مشروع أصوات من أجل المناخ، مضيفةً أنّ المؤسسات الوطنيّة مثل الشركة التونسية للكهرباء والغاز المعنيّة بشكل مباشر بمشروع إنتاج الهيدروجين الأخضر، التي تعاني بطبعها عجزًا ماليًّا كبيرًا، ستُثقل كاهلها بنفقات إضافيّة لشراء الطّاقة من المستثمرين الخواصّ، وهم عمومًا مستثمرون أجانب يتعاملون بالعُملة الصّعبة وليس بالدّينار المحلّي.

من جهته يقول علاء مرزوقي منسق المرصد التونسي للمياه إنّ تحلية مياه البحر ليست حلّا لإنتاج الهيدروجين الأخضر، لأنّ البحر يُعدّ بدورِه ثروة طبيعيّة وجب الحفاظ عليها، كما أنّ المياه المُحلّاة تُعدّ موردًا طبيعيًّا، مثل مياه الصرف الصحّي التي تتمّ إعادة تدويرها، ويُطلَق عليها اسم “المياه الرمادية”، والأَوْلى أن يتمّ استخدامها في الريّ أو في أنشطة أخرى، بَدَل استخدامها في إنتاج طاقة مُعدّة للتصدير. ويضيف محدّثنا: “هذا استنزاف للموارد الطبيعية، والدّولة تتحدّث عن إنتاج 8 مليون متر مكعّب من الهيدروجين الأخضر في حين أنّنا ما زلنا عالقين في إعداد محطّات تحلية مياه بالزارات وصفاقس لتوفير مياه الشّرب، ومن الخطير أن تستثمر الشركات في المياه المُحلّاة، واللوحات الفولطاضوئية تستهلك كميات كبيرة من الماء لتنظيفها. موقفنا واضح: نحن نعتبر استخراج الهيدروجين الأخضر استنزافًا للموارد الطبيعية حتى لو كان مصدر الماء المُستخدم هو البحر. على الأقلّ كان بالإمكان استخدام مياه التحلية في الشّرب والفلاحة ومن ثمّ الصناعة والسياحة شريطة أن تكون ذات قيمة مضافة عالية. أضف إلى ذلك، لن يحقق لنا هذا المشروع سيادتنا الطاقية بل هو موجّه نحو أوروبا”.

نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية – تونس العدد 32
لقراءة وتحميل العدد 32 بصيغة PDF

انشر المقال



متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، مقالات ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني