الهوى ما بينشرى” حملة جديدة رفعت يافطاتها في شوارع العاصمة بيروت وغيرها من المناطق تحاول جمعية “كفى” ان تتحدى من خلالها واحدة من أقدم المهن في التاريخ.
في مسرح “مونو”، في منطقة الأشرفية، حضر ممثلو وممثلات الوزارات والسفارات وعناصر لقوى الامن الداخلي والامن العام فضلاً عن منظمات محلية ودولية وعدد من الناشطين والناشطات في المجتمع المدني لـ”استكشاف دراسة عن طلب الدعارة في لبنان”، تتضمن فضح الممارسات التمييزية السلبية ضد المرأة ولفت النظر الى نظام القمع والإستغلال الذي تتعرض له المرأة بشكل عام وبائعة الخدمات الجنسية على نحو خاص.
فجأة إنطفأت الأضواء وأنيرت الشاشة بفيلم من إخراج “كارول منصور” يعكس الإسودادية التي تعيش فيها بائعة الجنس حين تجبر على التعري وتسليم نفسها كسلعة لرجل يتصرف إرضاء لشهواته كما يريد بالسلعة لقاء مبلغ متفق عليه لشراء الهوى.
بعد الإعتذار من وجود تعابير “نابية” أبقي عليها لتصوير الطريقة الوحشية التي يتم فيها إستغلال نساء من مختلف الجنسيات الروسية الأوكرانية السورية وطبعاً اللبنانية، تفتتح الفيديو فتاة شقراء تم إخفاء وجهها على نحوٍ لم يظهر منه سوى خصلات من ضفائرها الشقراء، تتحدث باللغة الروسية فتروي وجعها بنبرة متقطعة وصوت مرتجف ومكبل بالحرقة والأسى. يبدو عليها الإرتباك الشديد حيث تمسك بيديها تارة وتضعط عليهما حتى تكاد الدماء تتفجر منهما وتارة تظهر ممسكة بسيجارة ترتجف بين يديها . هي “سمانتا” فتاة روسية غرر بها إذ دخلت الى لبنان للعمل كفنانة في إحدى النواد الليلية لتفاجأ بأن “فنانة” هو تعبير زائف يخفي خلفه بأنها لن تكون سوى أداة جنسية تتنقل بين الأيادي من رجل لآخر ولا يمكنها أن تهرب لأنها وقعت عقدا يلزمها بالضرائب وبشروط قاسية لا يمكنها التفلت منها أو العودة من حيث أتت، لاسيما وأن في بلادها هناك من ينتظر أن تعود إليه بالمال الوفير الذي ينشلها وعائلتها من البؤس.
ومن البائعة المغرر بها الى رجل يشتري الجنس لأنه “حق طبيعي” يلجأ اليه لتلبية رغبته وغرائزه الجنسية على إعتبار أن الحاجة الى الجنس تكون لضرورة بيولوجية تبرر له شراء النساء من خلال الدعارة واستغلالهم دون رأفة أو شفقة. البنت ملكي ما هي دافعلا مصاري .. بالنهاية ما هي بتشتغل هيك وبدا تقبل شو ما طلبت منها”. فشراء الجنس هو “عملية مريحة”، واسهل من إقامة علاقة مع فتاة من خارج الدعارة “انو شغلة متوفرة بسهولة بتروح بتدفع بتخلص وبتفل. مش انو بدي عذب حالي وآخد موعد مع صاحبتي.. وقدراني أو مش قدراني هيديك متوفرة على طول”.
كما ان البعض قال ان البحث عن شراء الجنس هو بغرض التنويع “مش كل يوم مجدرة بدنا ناكل دجاج”.
لا تقف الدعارة عند حدود السوبر نايت كلوب او البارات ووسائل التواصل الإجتماعي اذ ان دعارة الشارع تسبقها بأشواط ومن الشارع رواية أخرى لمرأة كانت في سن الخامسة عشر عندما اغتصب والدها أحلامها وأدخلها قبل أوانها الى عالم لا تعرف عنه شيئا. وعندما انتقلت الى البيت الزوجي كان زوجها يوسعها ضرباً كلما رغب بذلك. وبالنهاية طور أسلوب تعذيبها واستغلالها من خلال إحضار الرجال الى المنزل ليناموا معها بمعنى أنه رضي ببيع زوجته التي من المفروض انها عرضه وشرفه فلم تجد حلاً سوى في الطلاق حتى أمست من دون معيل ولم يكن أمامها حل سوى الاستمرار في الدعارة.
وقصة رايا التي باعتها والدتها الى رجل خليجي “اخذها لحم ورماها عظام مكسرة” فيما تخلت عنها والدتها وتركتها لكلاب السكك ينهشون ما تبقى من جسدها ويقطعون أواصل روحها لقاء سندويشة تسكت جوعها او فرصة لتستحم بغير ماء البحر الذي استودعت فيه دموع حرقتها وسر عذاباتها.
الدراسة التي توصلت إليها “كفى” تبرز بأن الشريحة الأوسع من النساء اللواتي امتهن بيع الخدمات الجنسية لم يستيقظن ذات صباح واخترن بمحض إرادتهن الإنخراط في مجال الدعارة وانما تم استقطابهن أو تشجيعهن من قبل أفراد أو قوادين استغلوا هشاشة أوضاعهن وأن معظم النساء والفتيات اللواتي دخلن الى هذا المجال لغياب بدائل أخرى حقيقية ولمعاناتهم من ظروف إجتماعية واقتصادية وشخصية صعبة دون نسيان غياب المساواة الجندرية والإجتماعية والتمييز التاريخي ضد النساء والفتيات.
ارتباط الدعارة بمسالة الإتجار بالبشر ليست صدفة أو حالة بعض النساء وانما هو نمط مؤسس يمعن في ترسيخ القيم الذكورية وممارستها تجاه المرأة. ولكن بدل ان يباعوا في سوق النخاسة ، فقد تم تحسين ظروف عملية البيع فأصبحت الكباريهات والسوبر نايتات أو من خلال نظام الدليفري وغيره وهكذا يستمر استغلال النساء وانتهاك كرامتهن الإنسانية واختصارهن ببضاعة خاضعة لأحكام العرض والطلب.
يجري توزيع “الفنانات” بإشراف الأمن العام على “السوبر نايت كلوب”، فيصبحن مُلكاً لزبون يكفي أن يبتاع زجاجة شمبانيا واحدة حتى تصبح اي فتاة معروضة للايجار ملكاً له يمضي معها الوقت في اليوم التالي.
يخرج الفتيات عند العاشرة ليلاً من الفندق ويعدن إليه الخامسة فجراً. يُقفل عليهنّ الباب أما يوم العطلة بالنسبة للفتاة هو حين يخرجن مع أحد الزبائن، هذا ما قاله أحد العاملين في أحد الفنادق ويُمنعن من الخروج ما لم يُزوِّدن صاحب الفندق باسم الزبون ورقم هاتفه وسيارته.
ويضم الفيديو الذي لا تتعدى مدته “ال45 دقيقة” مداخلة للمحامي نزار صاغية الذي يتناول مسؤولية الدولة والامن العام في هذا المجال وهو يعتبر بأنه”على اعتبار بأن الامن العام لا يترشح للإنتخابات وبالتالي لا يستمد سلطته من الشعب لذا فإنه ليس بحاجة لإرضائه كما هي حال النواب بالدرجة الاولى ومن ثم الوزراء الذين يتكلون على هذا الجهاز الإداري لمعالجة هذه القضية ولكن أحدا لا يتحمل ضريبة هذه القضية او ان يتفرغ للموضوع او يتكلم عنه وهذه نقطة مركزية اذ ان استقالة الطبقة السياسية في هذا المجال أفضى الى عدم ذكر نص يتعلق “بالفنانات” حين تمرير قانون الإتجار بالبشر”.
لا يغفل الفيلم عن رأي “شاري الهوى” بالنساء اللواتي يضاجعهن و يحملهن كامل المسؤولية في تحمل رغباته وامور لا يمكن أن يفعلها مع زوجته وام أبنائه, والبعض يصفهن بأبشع التعابير دون إنكار معظم الذين شاركوا في الدراسة إدمانهم على ممارسة الجنس مع “المومس”، ” انا بعتبرن من حثالة المجتمع.وحدة بتشتغل هيك بمصاري بتبيع كرامتها وشرفها وعائلتها وشرف أهلها كرمال المصاري.. صارت متل مكنة الحاكبوت، كل ما بتحط فيها مصاري كل ما تبرم أكثر”.
تغيب عن أذهان من أدلوا بشهادتهم دورهم في خلق سوق “الدعارة” وأن إلتجاءهم لشراء الخدمات الجسدية يضعهم في خانة لا تقل وضاعة عن نساء وصفهم البعض “بالحشرات” مهما تعددت التبريرات والأسباب.
حملة “كفى” التي أطلقتها سوف تسير على درب طويل وصعب تبدو في مكان ما كمن يسير على درب الجلجلة لا سيما وأن القانون اللبناني يجرم المرأة وربما القواد أو صاحب النايت كلوب إلا أنه لا يقترب من شاري الهوى. وبناء عليه، فمهما شهد هذا القانون من تعديل، تظل بائعة الهوى تجد بانه لن ينصفها لأن إنصافها هو بتأمين البديل الذي يخولها التفلت من سجن الدعارة. وقد قالت إحداهن بالفيلم بأن:” القانون لن يحميها ولن يبعدها عن أن تكون ضحية مرة أخرى من قبل مهووس جنسي او حتى شرطي وانما جل ما سيفعله هو ان يحولها من “عاهرة” الى عاهرة شرعية”.
فراش وإمرأة تبدو على سيمائها علامات الكآبة، ورجال يمرون الواحد تلو الآخر يقوم كل واحد برفع سحابه كدلالة على انه انهى المهمة بنجاح فيما تغرق هي بإنكسارها، هذا هو الإعلان المصور الذي انتشر عبر شاشات التلفزة والذي أعيد بثه في المؤتمر، ثم مداخلة مسهبة للمحامية السويدية والأخصائية الإجتماعية غونيلا إكبرغ عرضت فيه لتجربة جولة السويد التي كانت رائدة في مكافحة صناعة الدعارة والاتجار بالنساء بوصفهما عنفا ضد المراة مسلطة الضوء على مدى الترابط بين ظاهرتي الإتجار بالبشر والدعارة. كما تحدث المحقق في قسم التحقيق في الجريمة المنظمة في شرطة اوسلو روني سيفرتسن، فعرض للتجربة النروجية في هذا المجال ودور الشرطة في تقديم الدعم للضحايا وردع المستغلين. لتنهي “كفى” لقاءها بعرض توصيات تتطلب الكثير من المجهود لتخرج من دائرة الأحلام لتتحق على أرض الواقع.
الدراسة التي قدمت تمت على نحو 228 حالة لنساء متهمات بممارسة الدعارة السرية وقد تطرقت الى كيف تم تعامل القضاء والضابطة العدلية مع هذه القضايا. وقد تم التأكيد بان الرجل هو الأساس في هذا الموضوع فلو أنه لم يكن هناك طلب لشراء الخدمات لما كان هناك سوق.
اذا فإن عملية الدعارة تتمحور حول جنسانية الرجل وهي لا تفضي بأي شكل من الأشكال الى مأسسة علاقة متساوية بين طرفين وتؤدي الى سيطرة الشاري على المرأة انطلاقاً من أنه يقوم بالدفع لها .
أما التوصيات التي خرجت بها الدراسة فهي ان يتم تعديل قانون العقوبات اللبناني بحيث يشتمل على مواد تجرم شراء الممارسة الجنسية وان يتم وضع برامج تهدف الى تغيير السلوكيات وتقديم مشورة وتوجيهات لمشتري الممارسات الجنسية . التصدي للمواقف التي تطبع أفعال الدعارة من خلال تحديد الأذى الناجم عن صناعة الجنس ومعالجة الثقافة التي تغذي الدعارة مثل الصناعة الإباحية و”جنسنة” النساء والفتيات في الإعلام والثقافة الشعبية. القيام بحملات محاسبة وردع تحدد مسؤولية مشتري الممارسة الجنسية في خلق وتغذية الإتجار بغرض الإستغلال الجنسي والدعارة والتعريف بواقع الضحايا وظروفهن والقيام ببرامج وقائية وتعليمية تستهدف المراهقين والشباب اليافعين المقدمين على تجربتهم الجنسية الأولى.
ويبدو من هذه التوصيات أن التركيز كان بدرجة كبيرة موجها الى شاري الجنس دون ان تلحظ البديل لبائعة الهوى ان تم اقناع الشراة (وهذا شبه مستحيل) بعدم اللجوء الى شراء الخدمات الجنسية.
والسؤال الذي يطرح هنا هل يكفي قانون يشرعن الدعارة لحماية نساء بعضهن نزفن حتى الموت، وأخريات حاولن الهرب بالقفز من الطبقة الثانية(كما يعرض الفيلم) مالذي سيحصل بهؤلاء النساء ان توقف سوق “شراء الهوى”، ماهو البديل؟ وكيف الآلية لمساعدتهن؟ هل ستتجرأ واحدة منهن على الوقوف في وجه مجتمع ظالم وهش تكبله العادات والموروثات التي تحكم على المرأة بأبسط الأسباب فكيف ان كانت بنظر الناس مجرد “عاهرة”؟