الهرميَّة تهدّد الاستقلالية الخارجية والداخلية للديوان

،
2025-02-11    |   

الهرميَّة تهدّد الاستقلالية الخارجية والداخلية للديوان
رسم رائد شرف

من يطّلع على تنظيم ديوان المحاسبة وعلى الممارسات السائدة فيه، يدرك أنّ إحدى سماته الرئيسية تتمثّل في ضخامة الصلاحيات التي يتمتّع بها رئيس الديوان، ودوره المحوريّ، بما يعزّز حدّة الهرميَّة السائدة داخله. فإلى جانب تمتُّعه بهامش واسع للتحكُّم في قرارات مجلس الديوان والتأثير عليها، خصَّهُ القانون بصلاحيات يتفرّد في ممارستها، وحُدِّد غالبها بعبارات مطّاطة، ممّا يزيد مخاطر التوسُّع في تفسيرها. وبشكل عام، يستعيد تنظيم الديوان، في هذا الصدد، التنظيم الهرمي الذي انبنى عليه نظام مجلس شورى الدولة، والذي أناط بهذا الأخير سلطةً جدّ مُضخَّمَة، وذلك بخلاف المعمول به في القضاء العدلي بما يتّصل بصلاحيات رئيس مجلس القضاء الأعلى. 

وما يزيد من خطورة هذه الهرمية هو أنّ للسلطة التنفيذية هامشًا واسعًا في تعيين رئيس الديوان (تمامًا كما هي حال رئيس مجلس شورى الدولة) من داخل الديوان كما من خارجه، وبموجب مرسوم حكومي، ومن دون أن يكون لمجلس الديوان أيّ دور، ولو استشاريّ، في تعيينه. فبفعل ذلك، لا تهدّد الهرمية فقط مبدأ المساواة بين القضاة واستقلاليتهم الداخلية إزاء الأجهزة التي تُشرف على مساراتهم المهنية، إنّما تهدّد أيضًا استقلاليّتهم إزاء القوى الخارجية، وتحديدًا القوى السياسية الحاكمة، والتي انوَجَدَ الديوان لمراقبة أدائها، كلّ ذلك في غياب أيّ تفصيل للضمانات الملازمة للقضاة. 

وقبل المضيّ في تبيان حدّة النظام الهرمي داخل الديوان، يجدر التذكير بما ذهبت إليه لجنة البندقية (وهي لجنة استشارية تابعة لمجلس أوروبّا) في رأيها بشأن إصلاح القضاء الإداري في تاريخ 2024/3/19، لجهة خطورة النظام الرئاسي المُعتمَد. وقد اعتبرَت اللجنة صراحةً، في متن رأيها، أنّ رئيس مجلس شورى الدولة يتمتّع بصلاحيات/نفوذ واسعة النطاق Far reaching powers، إذ إنّه “يتصرّف وكأنّه القاضي الأسمى Supreme judge في جميع المسائل الإدارية والمالية والتأديبية”. كما رأت أنَّ من شأن تعزيز هذه الهرمية أن يشكّل مسًّا بالاستقلالية الداخلية، وكذلك بالاستقلالية الخارجية، داعيةً إلى وجوب تقليص صلاحيات هذا الأخير.

أوّلًا، الرئيس كمحرّك لأجهزة الديوان وضابط عليها

أوّل ما سوف نتناوله هنا، السلطةُ الممنوحة لرئيس الديوان على المجلس الذي يرأسه فيه، والذي أناط القانون به الصلاحيات نفسها التي يمارسها مجلس القضاء الأعلى، قبل أن يسارع إلى تضييقها من خلال توسيع صلاحيات رئيس الديوان. 

وعليه، يتمتّع رئيس المجلس بقدرة فائقة في التأثير على قرارات هذا المجلس من زوايا عدّة، أهمّها الآتية: 

  • أوّلًا، إنّه يحتكر صلاحية الدعوة إلى المجلس وتحديد جدول أعماله وفق الممارسة المعمول بها، وفي ظلّ لزوم النصّ الصمت في هذا الخصوص. ويتولّى الرئيس، من خلال هذه الصلاحية، إمكانيّة عرض مسألة مُعيّنة على المجلس أو حجبها عنه. كما يتوسّع هامش سلطته في حال كانت صلاحية المجلس في النظر في هذه المسألة مُبهَمة وقابلة للتأويل، بحيث يكون له في هذه الحالة إمكانية حسمها، وفي حالات معيّنة الاستيلاء على صلاحية النظر فيها، بفعل تحكُّمه في تفسير النصوص في اتّجاه تضييق صلاحيات المجلس مقابل توسيع صلاحياته. ومن الأمثلة الدالّة على ذلك، صلاحية النظر في إبرام اتّفاقيات قبول هبات أو تعاون مع جهات خارجية، حيث نما إلى المفكّرة أنّ رئيس الديوان قرّر أنّها تدخل في صلاحيته، بخلاف تحفُّظات عدد من قضاة الديوان على ذلك. في هذا الإطار، يُطرَح السؤال نفسه بشأن الجهة المُخوَّلة تعيين لجان داخل المجلس، مثل لجنة إعداد التقرير السنوي؛
  • ثانيًا، إنّه يملك حقّ الفيتو على قرارات عدّة للمجلس، وهذا ما يتحصّل من منح القانون إيّاه الحقّ في اتّخاذ القرار في مسائل أساسية، وإن بعد الحصول على موافقة المجلس. ومن أهمّ المسائل في هذا الخصوص، قرارات توزيع الأعمال وتشكيل غرف ووضع نظام داخلي للمُوظَّفين. ويلاحَظ أنّ مشروع القانون الذي أحالته الحكومة للمجلس النيابي في العام 2012 أضاف حالة جديدة يُتَّخَذ القرار بشأنها، وفق الآلية نفسها، وهي حالة انتداب القضاة رئاسةَ الغرف في حال غياب رئيس غرفة، لأيّ سبب.

فضلًا عن تحكُّمه في مجلس الديوان، يتحكّم رئيس الديوان في هيئته العامة أيضًا، ذلك أنّه يحتكر هو أيضًا الدعوة إلى انعقادها ووضع جدول أعمالها، من دون وجود أيّة طرق بديلة أو مُوازية لضمان انعقادها. ومن شأن هذا الأمر أن يفسّر ربط صدور التقرير السنوي بإرادة رئيس الديوان، الذي يبدو صاحب القرار، ليس فقط في إنشاء لجنة لصياغته إنّما أيضًا في دعوة الهيئة العامة لإقراره، من دون أن يكون لأيّ جهاز محاسبته من جرّاء ذلك. 

ثانيًا: صلاحيات رئاسية ذاتية واسعة ومطّاطة 

بالإضافة إلى ما تقدّم، يتمتّع رئيس الديوان بصلاحيات رئاسية ذاتية بموجب النصّ القانوني، علمًا أنّ بعضها حُدِّد بعبارات مُبهَمة ومطّاطة، بما يُسهِّل توسيع الصلاحيات. تتمثّل أبرز هذه الصلاحيات في ما يأتي:  

  • ينظّم رئيس الديوان الإدارة الداخلية للديوان وكيفيّة ممارسة عمله. 

نلحظ هنا أنّ القانون استخدم عبارة “الإدارة الداخلية”، من دون أن يكون هناك أيّ تفسير للمقصود من هذه الإدارة. ومن شأن استخدام هذا التعبير أن يفتح الباب أمام التوسُّع في تحديد صلاحيات الرئيس، بما يشمل أيّ تنظيم لأعمال الديوان أو أيّ من أجهزته، من دون أن تقتصر بالضرورة على أعمال الإدارة اليومية. وعلى هذا الأساس، دأب رئيس الديوان إلى إلحاق المُراقِبين والمُدقِّقين على الغرف بقرار منفرد منه، وهي الممارسة التي كرّسها مشروع القانون الذي أحالته الحكومة إلى البرلمان في العام 2012. كما دأب على تعيين لجنة لوضع التقرير السنوي من دون العودة إلى مجلس الديوان.  

  • يتمتّع رئيس الديوان بصلاحية مالية شاملة كالوزير (المادّة 18 من قانون تنظيم الديوان). 

بفعل هذه الصلاحية، يتحكّم رئيس الديوان، عمليًّا، في كيفيّة صرف الموازنة المُخصَّصة للديوان، مع ما يستتبع ذلك من تأثير على عمل الديوان، كما على غُرَفه والموارد التي بإمكان هذه الأخيرة الاعتماد عليها من أجل القيام بأعمالها (مثال: الأموال المُخصَّصة لتعيين خبراء)، بحيث يتولّى الرئيس عقد نفقات الديوان ومُراقَبة عقدها وتصفيَتها، من دون الخضوع لأيّ رقابة. 

  • يتمتّع رئيس الديوان بصلاحية إدارية شاملة كالوزير (المادّة 18 من قانون تنظيم الديوان). 

يفسَّر ذلك، بالممارسة، أنّه يتولّى بنفسه البتّ في الأذونات للمشاركة في ندوة أو نشر مقالة أو السفر. وبالطبع، تقبل ممارسة هذه الصلاحية الانتقاد، وبخاصّة في ما يتّصل بممارسة القضاة حرِّية التعبير، نظرًا إلى تعارُض العمل القضائي مع فكرة وجود رئيس تسلسلي. هذا فضلًا عن كون رئيس الديوان يتحكّم، من خلال هذه الصلاحية، في تحديد القضاة أو المُراقِبين الذين يشاركون في ندوات داخل لبنان أو خارجه، أو الذين يمثّلون الديوان فيها.

  • يوافق رئيس الديوان على تعيين جميع المُوظَّفين الإداريّين في الديوان (المادّة 8 من المرسوم 118/1959 من قانون تنظيم الديوان). 

ثالثًا: دور مباشر في ممارسة وظائف الديوان والتأثير فيها 

فضلًا عمّا تقدّم، يتمتّع رئيس الديوان بصلاحيات إضافية تخوّله ممارسة وظائف الديوان مباشرةً أو التأثير فيها. وقد وسّع هذه الصلاحيات، بصورة كبيرة، من خلال فرض تفسير خاص لبعض موادّ قانون تنظيم الديوان، وبخاصّة المادّتان 37 و87 منه. ولعلّ أبرز المجالات التي يقع تأثيره على عمل الديوان فيها، الآتية:

  • مهامّ إبداء الرأي في القضايا المالية: 

إذ تنصّ المادّة 87 من تنظيم الديوان على أنّ الآراء الاستشارية تصدر عن الغرفة المُختصَّة، يُثار السؤال حول ما إذا كان يُقصَد الغرفة القضائية المُختصَّة بمراقبة الإدارة المعنيّة وفق قرار توزيع الأعمال، أم غرفة مختلفة عن سائر الغرف القضائية. وبالمُمارسة، كُرِّسَت فكرة إنشاء هيئة استشارية مستقلّة برئاسة رئيس الديوان، ممّا سمح له عمليًّا بالتأثير في عملها بشكل كبير. 

  • مهامّ الرقابة المُسبَقة: 

هنا، يتجلّى التأثير المباشر لرئيس الديوان من خلال أمور ثلاثة: 

  • الأوّل: إنشاء غرفة خاصّة للنظر في طلبات الموافقة المُسبَقة

نصّت المادّة 37 على أنّ “الرئيس” يتولّى “إحالة المعاملة (أي طلب الموافقة المُسبَقة) إلى القاضي المُختَصّ وفقًا لقرار توزيع الأعمال، وله أن يتولّاها بنفسه عند الاقتضاء أو في الحالات التي تعين في قرار توزيع الأعمال”. وإذ رأى رئيس الديوان محمّد بدران أنّ المقصود بـ “الرئيس” هو رئيس الديوان وليس رئيس الغرفة، فإنّه اعتبر أنّه يقتضي إنشاء غرفة خاصة إضافية تكون برئاسته للنظر في المعاملات التي ينوي أن يتولّاها بنفسه. وهذا ما حصل للمرّة الأولى في قرار توزيع الأعمال للعام 2019. إلّا أن هذه القراءة لَقِيَت اعتراضًا من بعض قضاة الديوان (أبرزهم رئيسة الغرفة الأولى في الديوان جمال محمود)، فهي ترى أنّ المادّة 37 إنّما تقصد رئيس الغرفة وليس رئيس الديوان، وهي تستدلّ على ذلك من تتمّة الجملة حيث نقرأ أنّ له إحالتها إلى القاضي المُختَصّ وفق قرار توزيع الأعمال (أي القاضي الذي هو ضمن غرفته)، وأنّه يتولّى درسها في الحالات التي تعين في قرار توزيع الأعمال (علمًا أنّ رئيس الديوان لا يتولّى درس أيّ حالة في قرار توزيع الأعمال). ويشير القضاة المُعترِضون على هذه الممارسة أنّ مُؤدّاها هو تمكين رئيس الديوان من الاحتفاظ بأيّ معاملة حسّاسة حتّى من دون إعلام القاضي المُختَصّ بورودها، واتِّخاذ القرار الذي يريده في هذا الشأن من دون تمكين أيٍّ كان من الاطِّلاع عليها. 

كما يدعم بعض القضاة قراءتهم المادّة 37 بأنّ إنشاء غرفة خاصة يشكّل أصلًا خروجًا عن القاعدة التي كانت حدّدت عدد الغرف بثمانٍ، وفق ما جاء في الأسباب الموجِبة لتعديل ملاك الديوان الحاصل في العام 2012، على أن تخضع رئاساتها لمعادلة المُناصَفة، وهي معادلة تختلّ عند إنشاء غرفة خاصة إضافية. 

وبمراجعة قرارات توزيع الأعمال السابقة (وتحديدًا الحاصلة في عهد الرئيس أحمد حمدان وعوني رمضان، يتبدّى أنّ هذَين الرئيسَين قد ترأّسا الغرفة الأولى وليس غرفًا خاصة، وأنّ ذلك تمّ في ظلّ شغور رئاسات الغرف، وهو أمر لم يُعالَج إلّا في العام 2019.    

  • الثاني: طلبات إعادة النظر

يولي القانون الحالي رئيسَ الديوان صلاحية طلب إعادة النظر في قرارات الموافقة المُسبَقة مرّةً أو أكثر من دون أيّ حدود. وقد قدّم رئيس الديوان فعليًّا طلبات إعادة نظر مُتعدّدة في بعض الملفّات، علمًا أنّ العديد من طلبات إعادة النظر يَرِد إلى الغرف المعنيّة من دون أيّ تعليل. 

  • الثالث: حضور اجتماعات مجلس الوزراء في معاملات الموافقة المُسبَقة المُعترَض عليها

يحضر رئيس الديوان اجتماع مجلس الوزراء للاستماع إليه عند طلب إحالة المعاملة من الوزير أو الإدارة المُختَصَّة إلى مجلس الوزراء، في حال جاء قرار الديوان ضمن إطار الرقابة المُسبَقة مخالفًا لرأي هذه الإدارة أو الوزير، سندًا للمادّة 41 من تنظيم الديوان. وعليه، يحضر الرئيس وحده جلسة مجلس الوزراء المُخوَّل تخطّي قرار ديوان المحاسبة، من دون تخويل الغرفة مُصدِرة القرار حضور الجلسة وتبيان وجهة نظرها القانونية والدفاع عنها. 

  • التقرير السنوي للديوان

فضلًا عمّا تقدّم، لا توجد لجنة أو هيئة دائمة لصياغة التقرير السنوي. وقد ذهب رئيس الديوان، في ظلّ صمت القانون، إلى تعيين لجنة برئاسته. مُؤدّى ذلك التحُّكم لا ينحصر فقط في فحوى التقرير، ولكن يشمل أيضًا تواريخ صدوره، مع ما يستتبع ذلك من تقاعس الديوان عن إصدار أيّ تقرير في سنوات عدّة، وتأخُّره في إصدار تقرير عن سنوات أخرى.  

  • المهامّ الرقابية كافّة

كذلك، يتجلّى التأثير المباشر لرئيس الديوان على المهامّ الرقابية كافّة من خلال الأمور الآتية: 

  • التحكُّم في مراسلة الجهات الخارجية وربط قلم الديوان المركزي به من دون أن تكون للغرف أقلام خاصة. ومن شأن هذا الأمر أن يخوِّل رئيس الديوان التحكُّم في تواريخ إبلاغ القرارات على اختلافها، بما فيها القرارات الإعدادية. وبالفعل، عاينت المفكّرة أوراقًا تفيد بوضوح كلِّي حصول تفاوُت زمني كبير بين تاريخ القرارات الصادرة عن غرف قضائية وتاريخ توقيعها وإرسالها من قبل رئيس الديوان. 
  • تفرُّد رئيس الديوان في قرار إلحاق المُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات بغرف الديوان ونقلهم منها وإليها. ومُؤَدّى هذا التوجُّه، التحكُّم في مساراتهم المهنية وفي أداء غرف الديوان برمّتها. 

يُضاف إلى ذلك أنّ للرئيس وحده دعوة الهيئة العامة لقضاة الديوان إلى توحيد الاجتهاد، ما يمنحه صلاحية عدم حسم التباين في الاجتهاد إذا شعر أنّ التصويت لن يكون في مصلحة رأيه. 

رابعًا: دور مُؤثِّر في مسارات القضاة وسائر مُوظَّفي الديوان المهنية

فضلًا عمّا تقدَّم، يتمتّع رئيس الديوان بصلاحيات هامة من شأنها التأثير على المسارات المهنية للقضاة. وفيما هو يستمدّ بعض هذه الصلاحيات من النصّ القانوني، شهدنا توسُّعًا لهذه الصلاحيات بفعل الممارسة، أو عملًا بالمُقايَسة مع الصلاحيات التي يتمتّع بها رئيس مجلس شورى الدولة في إدارة المسارات المهنية للقضاة الإداريين. 

ومن أهمّ هذه الصلاحيات، الآتية: 

  • بالرغم من أنّ قانون ديوان المحاسبة لم يتضمّن أيّ مادّة تتّصل بانتداب قضاة المجلس للعمل في الإدارات العامة لفترات مُحدَّدة، سجّلت المفكّرة مُؤخَّرًا حصول انتداب لأحد قضاة الديوان لمهامّ خارجه، وذلك قياسًا وعملًا بموادّ نظام شورى الدولة في هذا الخصوص، بناء على الرأي الاستشاري الصادر عن شورى الدولة رقم 2826 تاريخ 2009/11/16، الذي تضمّن أنّه ينطبق على قضاة الديوان ما ينطبق على قضاة الشورى في ما خصّ القيام بأعمال إدارية تتّفق مع مؤهّلاتهم لدى الإدارات والمُؤسَّسات. ومُؤدّى هذا الرأي الاستشاري الذي تبنّاه رئيس الديوان، توسيع صلاحيات رئيس الديوان لتشمل الموافقة على انتداب أحد قضاته للعمل في إدارات عامة. ولئن تتيح الاستشارة لرئيس ديوان المحاسبة تكليف قضاة للقيام بمهامّ استشارية في الإدارات العامة لقاء بدلات في موازاة أعمالهم سندًا للمادّة 15 من نظام مجلس شورى الدولة على القضاة الماليين، فإنّ الرئاسة الحالية للديوان رفضت العمل بهذه الآليّة بالنظر إلى اصطدامها بمبدأ تضارُب المصالح. ومن شأن هذه الصلاحية، في حال إقرارها، أن تمنح رئيس الديوان سلطة واسعة في اتِّخاذ ما يراه من تدابير تمييزية بين القضاة، وفق قربهم منه أو رضاه عليهم. وعدا عن “المَوْنة” التي تمنحه إيّاها هذه السلطة على جميع قضاة المجلس، فإنّها تخوّله أيضًا التمتُّع بعدد من الامتيازات لدى كمّ كبير من الإدارات العامة من خلال القضاة الذين يعيّنهم كمستشارين لديها. 
  • يتحكّم رئيس الديوان، بدرجة كبيرة، في الملاحقات التأديبية بحقّ القضاة والمُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات). فعدا عن أنّه يتمتّع بسلطة الحكم من خلال ترؤُّس المجلس التأديبي المُختَصّ بملاحقة رؤساء الغرف ومستشاريها، أو انتداب أحد رؤساء الغرف رئيسًا للمجلس التأديبي المُختَصّ بالمُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات، يتمتّع أيضًا بسلطة الملاحقة. فلئن حصر القانون إحالة القاضي إلى المجلس التأديبي بقرار يصدر عن مجلس الديوان، فإنّ هذا القرار يُتَّخَذ فقط بناءً على طلب رئيس الديوان بنفسه. ويسجّل أنّ مشروع القانون الذي أحالته الحكومة إلى البرلمان في العام 2012 رمى إلى نزع صلاحية التحقيق والملاحقة منه في اتّجاه حصرها بهيئة التفتيش القضائي.  

يُضاف إلى ذلك تحكُّمُه في إلحاق المُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات بغرف الديوان على اختلافها. 

خلاصةً، يسجَّل أنّ القانون الحالي قد اعتمد نظامًا يمنح رئيس الديوان صلاحيات واسعة جدًّا في تنظيم شؤون الديوان، والمسارات المهنية للقضاة والمُراقِبين والمُدقِّقين، كما في أعمال الديوان الرقابية والقضائية؛ وقد فسّرت رئاسة الديوان إلى الصلاحيات الممنوحة قانونًا على نَحوٍ يؤدّي إلى توسيعها، وتاليًا إلى ترسيخ النظام الرئاسي. وفيما تضمَّن مشروع القانون الذي أحالته الحكومة إلى البرلمان في العام 2012 موادّ من شأنها التخفيف من هذه الهرميَّة، وبخاصّة في مجال تأديب القضاة، إلّا أنّ التنظيم العام للديوان ما يزال رئاسيًّا بشكل كبير، فضلًا عن أنّ مشروع القانون كرّس في أحيانٍ كثيرة الممارسات، مثل كيفيّة إلحاق المُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات بالغرف، أو كيفيّة توزيع معاملات الموافقة المُسبَقة. وما يزيد من إشكالات هذا النظام الرئاسي أمورٌ ثلاثة: (1) تحكُّم السلطة التنفيذيّة في تعيين أعضاء المجلس، ممّا يحدّ من قدرة أعضائه على مواجهة أيّ تعسُّف من رئيس الديوان في ممارسة صلاحياته أو التوسُّع فيها، (2) النقص في ضمانات استقلالية القضاة، و(3) النقص في ضمانات الشفافية الخارجية كما الداخلية للديوان.  

نشر هذا المقال في الورقة البحثية: “ديوان المحاسبة المتعثرة”

لقراءة وتحميل الورقة البحثية بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم إدارية ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني