لم تكُن النظريّة السياسيّة إلى زمن قريب تطرح مُشكلة طبيعة النظام السياسي من زاوية القواعد الداخلية النّاظمة للعلاقة بين السُلط وكيفيّة ممارسة السُلطة، بل من وجهة نظر الجهة التي تَحوز السُلطة وكيفيّة تحقيقها. لذلك تُحدّثنا التنظيرات الفلسفيّة منذ أرسطو عن ثلاثة أنواع للأنظمة السياسيّة؛ هي الديمقراطية والأرستقراطيّة والمَلكيّة. ويقوم هذا التقسيم -كما هو بيّن- على أساس الجهة التي تُمارس الفعل السياسي. فعندما يكون جميع المواطنين مشاركين في الفعل السياسي نكون إزاء نظام ديمقراطي، أمّا إذا اقتصرت المُمارسة السياسيّة على فئة خاصّة من المواطنين نكون في نظام أرستقراطي، وإذا كانت السُلطة تحت تصرّف شخص واحد نكون في نظام ملكي.
مع ترسّخ المثال الديمقراطي في الفترة الحديثة باعتباره أفضل النُظم المُمكنة لإدارة الشأن العام والتداول سلميّا على السُلطة، ظهرت إشكاليات تتعلّق بكيفيّة تنظيم السُلطات داخل النظام السياسي ذاته والعلاقات المُمكنة بينها. وتكثّفت هذه الإشكاليات أكثر في الأنظمة الجمهوريّة بسبب غياب جهة مرجعيّة ثابتة تضمن العمليّة الديمقراطيّة من خارجها، كما هي الحال مع الأنظمة الملكية البرلمانية. ولإدارة العمليّة الديمقراطيّة بآلياتها دون الحاجة إلى جهة ضامنة متعالية على مؤسساتها (الملك مثلا)، أنتج العقل الجمهوري الحديث النظام الرئاسي الذي طُبّق لأوّل مرّة في الولايات المتحدة الأمريكية سنة [1]1789، وذلك باعتباره مثالا مُقابلا للديمقراطية المَلكيّة البرلمانية القائمة في بريطانيا.
اعتُبر المثال الرئاسي الأمريكي ناجحا عند تطبيقه، إذ على الرغم من جمع الرئيس بين المهام الشرفية والتمثيلية للملوك في الأنظمة الملكيّة البرلمانية والمهام التنفيذية لرؤساء الحكومات، إلاّ أنّ الفصل الصارم بين السُلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ومنح الأخيرتين دورا رقابيا مُهمّا على الرئيس جَعلَ من هذا النظام متوازنا، إذ يُمكن فيه للمؤسسات أن تُتابع أعمالها إلى حدّ ما دون تعطيل، وذلك في إطار واضح من تقسيم العمل. ومع تطوّر الممارسة السياسية واستنساخ المثال الأمريكي وترسيخه في دول أخرى ظهرت بعض الهنات التي تُصاحب الأنظمة الرئاسية الديمقراطيّة.
الأنظمة الرئاسيّة والنزوع نحو الدكتاتوريّة
تُشير الأبحاث التي قام بها خوزي أنتونيو شيبوب، والتي دَرسَ فيها الأنظمة السياسية الديمقراطية التي نشأت وانهارت خلال الفترة ما بين 1945 و2002 إلى مُعطيات في غاية الأهميّة، لسببين على الأقلّ: الأوّل هو أنّ البيانات المطروحة تُقدّم صورة إضافيّة عن حقيقة التحوّلات والانهيارات التي تَعيشها الأنظمة الديمقراطية على أساس نظامها السياسي (رئاسي أو برلماني)، والثاني هو أنّ هذه البيانات تَنسِف بعض الأساطير الرائجة في المخيال السياسي التونسي مثل الطابع المُستقرّ للأنظمة الرئاسية وقُدرتها على تحقيق نسب أعلى من النمو الاقتصادي، ذلك أنّ متوسّط الدخل الفردي كما معدّل النموّ في الديمقراطيات البرلمانية أرفع بنسبة 1.5 بالمائة منه في الديمقراطيات الرئاسيّة[2]. وعلى الرغم من أنّ شيبوب يُرجِع سبب انهيار الديمقراطيّة أساسا إلى التاريخ العسكري للدولة وليس إلى طبيعة النظام السياسي الرئاسي في ذاته إلاّ أنّه يقول بصراحة ووضوح كافييْن إنّ المُعطيات تقود إلى استنتاج أنّ: “الدّيمقراطيّات الرئاسيّة لا تزال أكثر عرضةً للتحوّل إلى دكتاتوريّات مقارنة بالديمقراطيّات البرلمانيّة.[3]“
يعود نزوع الديمقراطيات الرئاسيّة إلى الانهيار والتحوّل إلى ديكتاتوريات عسكريّة أو مدنيّة حسب تقديرنا إلى عدّة عوامل؛ منها التاريخين السياسي والعسكري للدولة وأعرافها الاجتماعية والمؤسساتية. إلاّ أنّ الدور الذي يلعبه شكل النظام مُهمّ إلى حدّ بعيد في تكريس الثقافة الديمقراطيّة وعدم الذهاب في خيار الاستبداد. وهو ما يخفق النظام الرئاسي في تحقيقه بالنظر إلى أنّ السياسة الرئاسيّة هي عمليّة ذات مُحصّل صفري zero-sum process. أي أنّ المتنافسين في سياق رئاسي لا يُمكنهم تحصيل جزء من السُلطة، ويبقى رهانهم الفعلي هو تحصيل السُلطة كاملة، فهُم إمّا مُنتصرون بالكامل أو منهزمون بالكامل. وعبر تكريس ثقافة المُغالبة السياسية ورفض التعاون ونبذ المعارضين يشدّد النظام الرئاسي على منطق السُلطة التنفيذية القوّية، والتي عندما يكون للفرد فيها الدور الأهمّ تتحوّل إلى استبداد ديمقراطي، ومن ثمّ إلى استبداد قمعي، لتنتهي إلى الديكتاتوريّة.
النظام السياسي في تونس حتّى الثورة
تَشَكّلَ النظام السياسي، في تونس ما بعد الاستقلال، إثر الدعوة لانتخابات المجلس القومي التأسيسي، والتي فاز فيها ممثلو “الجبهة الوطنية” بكافة المقاعد. كانت الغاية السياسية الواضحة والمباشرة من هذه الجبهة، التي تشكّلت بزعامة الحزب الدستوري الحرّ في 15 مارس 1956 وضمّت الاتّحاد العام التونسي للشغل واتّحاد الصناعة والتجارة والاتّحاد القومي للمزارعين وبعض المستقلّين القريبين من الحزب[4]، إحداث مجلس بتركيبة متجانسة ومنضبطة للخطّ البورقيبي وإنهاء احتمال أن يكون هناك صوت معارض، بخاصة وأنّ جماعة صالح بن يوسف كانوا قد أعلنوا مقاطعتهم لها.
كانت نيّة أعضاء الجبهة القوميّة مُتّجهة في البداية نحو إقامة نظام ملكي برلماني على شاكلة النظام البريطاني يكون الباي فيه رئيسا شرفيّا للدولة ويكون فيه لرئيس الحكومة كافة الصلاحيات التنفيذيّة، وهو ما تأكّد في استبدال حكومة الطاهر بن عمّار بحكومة الحبيب بورقيبة بُعيد انتخابه رئيسا للمجلس التأسيسي، وذلك باعتباره رئيسا للأغلبيّة النيابيّة. إلاّ أنّ هذا التوجّه الذي مُورِسَ بشكل عُرفي في مرحلة أولى ثُمّ صيغ في مسودّة دستور عُرفت باسم مشروع 9 جانفي 1957، وقعت الاستعاضة عنه بعد إعلان الجمهوريّة في 25 جويلية 1957.
تُوضح مداولات المجلس القومي التأسيسي ظهور خلاف سياسي داخله يتمحور حول العلاقة المُمكنة بين السُلطتين التنفيذية والتشريعية وصلاحيات كُلّ منهما. وفيما ذهب الموالون للحبيب بورقيبة نحو تبنّي تصوّره الذي يوسّع قدر الإمكان من صلاحيات رئيس الجمهوريّة ويُضعِف رقابة مجلس النواب على الحكومة، اتخذت أقليّة من النواب موقفًا رافضًا لهذا التوجّه محاولة تحقيق نوع من التوازن بين السلطات. مع ذلك، نجحَ بورقيبة بحُكم سُلطته الكاريزماتيّة وزعامته التاريخيّة للحركة الوطنيّة -إضافة إلى الظروف السياسيّة لتلك المرحلة والمتمثّلة في إنهاء المعارضة اليوسفية وإلحاق أحمد بن صالح بالحكومة وتحييده باعتباره أهمّ صوت داعم للنظام البرلماني- في تثبيت رغبته التي تُعبّر عن طموحه في قيادة جهاز تنفيذي غير محدود القوّة، ومجلس تشريعي ضعيف إلى حدّ العجز.
تُوِّجَ هذا المسار بدستور 1 جوان 1959، الذي أقرّ نظامًا رئاسيا لا يَسمح للسلطة التشريعية حتى بإحداث لجان رقابة تُتابع أعمال الحكومة أو تسمَح بمساءلتها[5]. وتَمثّل التبرير الأساسي لشكل النظام الذي صِيغَ في دستور 1959 في أنّ النظام البرلماني يُمثّل خطرا على عمل السُلطة التنفيذية ونجاعَتها، وهو ما عبّر عنه بورقيبة في خطابه بمناسبة الإعلان عن هذا الدستور، مُستشهدًا بما آلت إليه الأمور مع الجمهوريتين الفرنسيتين الثالثة والرابعة في ظلّ أنظمة برلمانيّة[6]. وثُبِّتَ هذا النظام شيئا فشيئا ليصل قمّة تطبيقاته مع إعلان بورقيبة رئيسًا مدى الحياة، حيث أضحتْ رئاسة الجمهوريّة مركز العمليّة السياسيّة وتعبيرا عن الاستبداد السياسي الذي تعيشه تونس، وترسّخت بذلك أسطورة أنّ الشعب التونسي لا يُدَار إلاّ عبر نظام رئاسي. لم تتغيّر الأمور مع إزاحة بن علي لبورقيبة من على رأس السُلطة عبر انقلابه الناعم، بل على العكس ترسّخ النظام الرئاسي أكثر في الوعي السياسي الجمعي. وهو الأمر الذي سمح لبن علي بإقامة دكتاتوريّة رئاسيّة هي امتداد لديكتاتوريّة بورقيبة، وقد اعتمد في ذلك سرديّة مغايرة لا تقوم على فكرة الاستقلال بقدر ما تقوم على فكرة “التغيير”.
التأسيس للجمهوريّة الثانية والنظام السياسي لدستور 2014
مع سقوط بن علي سنة 2011، أُحدثَت في نفس السنة بموجب المرسوم عدد 6 لسنة 2011 الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، والتي ترأّسها أستاذ القانون العام عياض بن عاشور وضمّت في تركيبة مجلسها “شخصيات سياسية وطنية وممثلين عن مختلف الأحزاب السياسية والهيئات والمنظمات والجمعيات ومكونات المجتمع المدني”[7] كما كان لها مجلس خبراء عيّنهم رئيس الهيئة[8]. وصاغت الهيئة قانونا انتخابيّا الغاية منه انتخاب مجلس تأسيسي يقطع مع “النظام السابق المبني على الاستبداد وتغييب إرادة الشعب بالبقاء غير المشروع في السُلطة وتزوير الانتخابات”[9]. لكن الهاجس السياسي لم يكُن مقصورا على القطع مع الاستبداد وإنّما تمثّل أيضا في محاولة إيجاد صيغة انتخابيّة تمنع أيّ جهة سياسيّة من الفوز بالانتخابات بالأغلبية بالنظر إلى أهميّة فعل التأسيس. وبما أنّ القانون الانتخابي أقصَى بشكل واضح كافة المسؤولين السابقين في نظام بن علي الذين انتمُوا لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي باعتبارهم مساهمين مباشرين في الاستبداد، فإنّ مكونات الهيئة كانت على وعي تامّ أنّ الإسلاميين المُمثّلين في حركة النهضة يُعتبرون الجهة السياسية الأكثر تنظّما وقُدرة على الحشد الانتخابي. لذلك تمّ الاعتماد على “التصويت على القائمات في دورة واحدة، ويتمّ توزيع المقاعد في مستوى الدوائر على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا”[10]. رأت الهيئة في هذا القانون الانتخابي ضمانة ديمقراطيّة تسمح للأقليات السياسية بالتواجد داخل المجلس التأسيسي وذلك حتى لا يُنتِج المجلس دستورا حزبيّا لا يحظى بشبه إجماع وطني.
تميّز الظرف السياسي قبل الانتخابات التأسيسية بغياب المشروعيّة القانونيّة واستندَ في الغالب إلى مشروعيّة الثورة على الرغم من صدور المرسوم عدد 14 لسنة 2011 مؤرخ في 23 مارس 2011 الذي يتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية، والذي يُعتَبر تواصلا مُباشرا للنظام السياسي الرئاسي المُضمّن في دستور جوان 1959 مع حلّ كافة مؤسساته التمثيلية وإضفاء صفة المؤقت على مؤسستي الرئاسة والحكومة. لم يكُن مُمكنا الخروج من مأزق الشرعيّة التي كانت تعيشه تونس إلاّ بالاحتكام إلى الانتخابات العامّة وهو ما تضمّنته أحكام الفصل الأوّل من المرسوم عدد 14 لسنة 2011. لذلك أصبحَ المجلس التأسيسي مع الإعلان النهائي عن نتائج الانتخابات، في أكتوبر 2011، وحده قادرا على تحديد شكل النظام السياسي، وقد أضاف المجلس التأسيسي بحُكم القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر إلى جُملة مهامه التأسيسيّة مهامّ تشريعية وانتخابيّة كانتخاب رئيس الجمهورية وانتخاب حكومة، وأخرى رقابيّة تتمثّل أساسا في مراقبة عمل الحكومة، ليتّخذ النظام السياسي في تونس صيغَة برلمانيّة صرفة خلال السنوات الممتدّة بين 2011 و2014 تاريخ الإعلان عن دستور الجمهوريّة الثانية.
وعلى الرغم من أنّ تلك المرحلة لم تكُن استبداديّة إلاّ أنّ البعض ذهب إلى القول إنّ الممارسة السياسيّة للتحالف الأغلبي داخل المجلس الذي قادته حركة النهضة لم تكُن ممارسة ديمقراطيّة، بل كانت تنزَع نحو المغالبة والاستبداد. فقد اعتبر أستاذ العلوم السياسيّة حمّادي الرديسي النظام السياسي في تونس خلال المرحلة التأسيسية من قبيل “النُظم التسلطيّة التنافسيّة” أو “النُظم التسلطيّة الانتخابيّة”[11] التي تَعمَل على تركيز استبداد يستند إلى مشروعية انتخابيّة. رغم ذلك، لم تنجح حركة النهضة وحلفاؤها في إرساء نظام سياسي من هذا النوع بشكل دائم. وهذا ما تُبيّنه مُخرجات دستور 26 جانفي 2014 الذي أنشأَ نظاما مُختلطا أقرب إلى النظام البرلماني، حيث يُقَسّم السُلطة التنفيذية إلى رأسين. في هذا النظام يتمتع رئيس الحكومة المُنتخبة من البرلمان بصلاحيات واسعة كما في الأنظمة البرلمانيّة، ولكن لرئيس الجمهورية المُنتخب مباشرة من الشعب بعض الصلاحيات المتعلقة بالدفاع والسياسة الخارجيّة.
شهدت المرحلة التي طُبّق فيها هذا النظام بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2014 وحتّى تعليق العمل بالدستور في سبتمبر 2021 عديد الأزمات السياسيّة المُرتبطة أساسا بثلاث معضلات: أوّلا عدم إمكانيّة تحقيق أغلبية برلمانية تنتخب رئيس حكومة إلاّ عبر تحالفات رأى فيها الناخبون خيانة لخياراتهم الانتخابية مثل تحالف حركة النهضة مع حركة نداء تونس. ثانيا، حدّة الانقسامات الحزبيّة وتذرّي الأجسام السياسيّة مثل انقسام حركة نداء تونس التي فقدت جزءا مهمّا من نوابها لصالح الحزب الجديد الذي أنشأه مُحسن مرزوق الأمين العام السابق لنفس الحركة. ثالثا، تفاقم ظاهرة “السياحة الحزبيّة والبرلمانية” التي تمثّلت في تغيير نواب كُتلهم النيابيّة وأحزابهم بعد انتخابهم. ونتَجَ عن هذه المُعضلات مُشكلات جوهريّة أهمّها غياب جهة واضحة تتحمّل مسؤوليّة الإخفاق السياسي الحكومي، حيث سمَحَت الصيغ التوافقيّة للأحزاب المُشكّلة للأغلبية الحكوميّة بالتهرّب من المسؤوليّة بدعوى انعدام إمكانية تطبيق برنامجها الحزبي الخاصّ في ظلّ هذه التحالفات الأمر الذي زاد من منسوب انعدام الثقة في الأحزاب في صفوف الناخبين.
كما ساهمت الثقافة السياسيّة للتونسيين التي تشكّلت خلال عقود الاستبداد الرئاسي في نبذ مثل هذا النظام الذي لا وجود فيه لسُلطة مرجعيّة مُشخصَنَة، كما هو الحال في الأنظمة الرئاسية. لكن أزمة النظام السياسي لدستور 2014 لم تبلغ ذروتها إلاّ بعد انتخابات 2019 التي أنتجت مجلس نواب مُفكّكا ومنقَسمًا إلى كُتل سياسيّة صغيرة جدّا. أخفَق المجلس في أولى مهامه وهي انتخاب حكومة، لذا انتقَلَت المبادرة إلى رئيس الجمهوريّة قيس سعيد الذي يُخوّل له بعد التشاور مع الأحزاب والائتلافات والكُتل النيابيّة تكليف الشخصيّة الأقدر لتولّي المنصب. لكن هذا التمشّي المُسقّف زمنيّا بأربعة أشهر والذي قد يقود إلى حلّ المجلس من قِبل رئيس الجمهوريّة في حال عدم انتخاب حكومة، دفع الأحزاب والكُتل النيابية إلى التعامل بشكل انتهازي مع مسار تشكيل الحكومة وذلك لتفادي إعادة الانتخابات التشريعية.
ولا ترغب الأحزاب القويّة ذات التمثيل الدائم في البرلمان في ذلك بالنظر إلى الكُلفة الماليّة المُرتفعة للمشاركة في الانتخابات، لذلك فإنّها تفضّل تقديم تنازلات مؤقتة حتى تستعيد عافيتها الماليّة بشكل يسمح لها من المشاركة في الانتخابات بحظوظ أوفر. أمّا الأحزاب السياسيّة الصغيرة ذات التمثيل الضعيف والمفاجئ فإنّها لا ترغب في المخاطرة بتمثيليتها دون ظهور بعض المؤشرات التي تضمن لها إعادة انتخابها في المجالس القادمة.
سمح هذا النظام السياسي للكُتل السياسية الأكثر تمثيلية مثل كتلة حركة النهضة في البقاء في السُلطة من دون تحمّل أوزارها. لكن هذا النظام الذي صِيغَ لمنع مركزة السُلطة التنفيذية وشخصنَتها كما في الأنظمة الرئاسيّة خَلقَ حالة من التململ والتعطيل خاصّة وأنّ القانون الانتخابي حافظ على الصيغة الأولى التي تقدّمت بها الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وهو نظام القائمة المُغلقة على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا.
إنّ احتداد أزمة النظام السياسيّ في تونس إثر انتخابات 2019 كانت تجسيدا عمليّا لمساوئ هذا النظام الانتخابي المدروسَة نظريّا، والتي تتمثّل أوّلا في ظهور حكومات ائتلافية لا تشترك في قاعدتها الفكرية والاجتماعية والانتخابية ما يؤدي بدوره إلى تعطيل سير الأعمال التشريعية، وثانيا في تشرذم الأحزاب السياسيّة، وثالثا إعطاء الأحزاب الصغيرة دورا سياسيا لا يتناسب مع قاعدتها الانتخابيّة وحجمها الفعلي، وأخيرا عدم قدرة الناخبين على تطبيق مبدأ المساءلة[12]. ويُمكن الجزم أنّ نفور التونسيين من النظام السياسي المُختلط لدستور 2014 لم يَكُن نتيجة مباشرة لطبيعة النظام بقدر ما يُعبّر عن عدم تماشي النظام الانتخابي مع رغبة التونسيين في الاستقرار ورغبتهم في محاسبة المسؤولين الحكوميين بشكل صارم.
دستور الاستثناء وجمهوريّة الفرد الجديدة
أعلن رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد في 22 سبتمبر سنة 2021 في الأمر الرئاسي عدد [13]117 تعليق العمل بدستور 2014 ما عدَا بَابَي المبادئ العامّة والحقوق والحريات، وأنهى بذلك العمل وفق مقتضيات النظام السياسيّ لدستور 2014، ليمنح نفسه وضعيّة فوق دستوريّة سُوّقَت على أنّها “تدابير استثنائية”. أطلق بذلك قيس سعيّد مسارا دستوريّا جديدا المُراد منه وفق الدعاية الرسميّة تجاوز هنّات النظام السياسي لدستور 2014. لكن النصوص الدستوريّة التي تُعتبر صياغتها عمليّة استثنائيّة لا يُمكن أن تحصل في حالة الاستثناء، لأنّ الاستثناء لا يُمكن أن يؤسّس للقاعدة إلاّ في حالة يتيمة هي تحويل حالة الاستثناء ذاتها إلى قاعدة عامّة، مما يعني أن نعيش في حالة استثناء دائمة. وعلى الرغم من الواجهة الديمقراطيّة التي حَاوَل سعيّد أن يغلّف بها مساره السياسي والدستوري من خلال تنظيم الاستشارة الوطنيّة وتشكيل الهيئة الوطنية الاستشاريّة من أجل جمهورية جديدة، إلاّ أنّ المُخرجات النهائيّة لدستور سعيّد جاءت مُعبّرة عن تصوّره الفردي ومُرسّخة لحالة الاستثناء التي يتمتع فيها بصلاحيات مُطلقة. يُمكن تبيّن هذه الحقيقة من خلال نتائج الاستشارة القانونيّة نفسها ومن تصريحات أعضاء الهيئة الوطنية الاستشارية، حيث عبّر 38% من المشاركين وعددهم 543 ألف و915 عن رغبتهم في تعديل دستور 2014، فيما طالب 36.5% فقط بصياغة دستور جديد. وقد أعرب رئيس الهيئة الوطنية الاستشاريّة الصادق بلعيد عن استغرابه من نُسخة الدستور التي تقدّم بها قيس سعيّد قائلا: “إن النص المقترح الذي نشره سعيّد هذا الأسبوع لا يمتّ بصلة للمسودة الأولى”، وأضاف أنّ “الخطر الداهم يسمح (له) بتمديد ولايته وتمهيد الطريق لديكتاتورية مشينة”.
تُقدّم هذه المؤشرات دليلا كافيا على اعتباطيّة المسار الذي يقوده قيس سعيّد ونزوعه الاستبدادي الواضح من خلال تكريس سُلطة الفرد. وإذا ما تجاهلنا حقيقة أنّ المشاركين في الاستشارة الوطنيّة هُم أساسا من المدافعين عن حالة الاستثناء الذي أقرّها سعيّد، فإنّ هؤلاء أيضا ليسوا موافقين في أغلبهم على صياغة دستور جديد، وهو ما لم يقع الاستجابة له من خلال إقرار دستور كتبه سعيّد بمفرده من دون الأخذ حتى بآراء الخبراء القانونيين الذين عيّنهم بنفسه.
تتجلّى بذلك أزمة النظام السياسي الحالي في تونس، إذ ليست المُشكلة أنّه نظام رئاسي حيث يُمكن للأنظمة الرئاسية على مساوئها المذكورة في الجزء الأول من التحليل أن تكون ديمقراطيّة. لكن المُعضلة أنّ هذه المؤسسات التي وُضِعَت في ظرف سياسي استثنائي لم تَعمل على تجاوز هذه الحالة وإنّما دعّمتها لتصنع منها القاعدة التي تسير وفقها. هذا الأمر يعني أنّ الفرد الذي حاز صلاحيات استثنائية بموجب انقلاب ناعم رسّخ صلاحياته في شكل قواعد دستورية. تُشير كافة المُعطيات السياسيّة إلى أنّ الفرد بموجب ما منحه لنفسه من حقّ أصبح سابقا للمؤسسات التي صاغها وفق تصوّره الشخصي، مما جعل إمكانيّة الانتماء لهذه المؤسسات التي يُفترض أنّها ديمقراطيّة وتمثيلية أمرا مقصورا على الأشخاص الذين يوافقون على رؤيته للنظام السياسي وليست تعبيرا عن الحياة السياسيّة في البلاد. ومع غياب أيّ آلية دستورية أو قانونيّة لمراقبة عمل الفرد أو محاسبته أصبح الفرد هو الضامن الوحيد لسير المؤسسات، وأصبح القانون نابعا من إرادة الفرد أمّا الجماعة فلا دور لها إلاّ خدمة تصوّره، وهو أحد أقبح أشكال شخصنة السُلطة وأخطر أشكال النُظم السياسيّة إذ كما يقول أرسطو: “من الخطأ الكبير أن يُستبدَل بسيادة القانون سيادة فرد هو دائما محلّ لآلاف الشهوات التي تضطرب في كُلّ نفس إنسانيّة[14].”
نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية – تونس العدد 31
لقراءة وتحميل العدد 31 بصيغة PDF
[1] تمّ اعتماد النظام الرئاسي في دستور الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1787 إلاّ أنّه لم يُطبّق عمليّا إلاّ سنة 1789.
[2] Cheibub, José Antonio, Presidentialism, Parliamentarism and Democracy, Cambridge University Press, Cambridge, 2007. P. 137.
[3] Cheibub, José Antonio, Ibid. P. 138.
[4] بوقرة، عبد الجليل، المجلس القومي التأسيسي التونسي: الولادة العسيرة لدستور جوان 1959، الطبعة الثانية، دار آفاق- برسبكتيف للنشر بتونس، تونس، 2012. ص27.
[5] بوقرّة، عبد الجليل، نفس المصدر. ص 63.
[6] بوقرّة، عبد الجليل، نفس المصدر. ص 63.
[7] الفصل 3 من المرسوم عدد 6 لسنة 2011 مؤرخ في 18 فيفري يتعلق 2011 يتعلق بإحداث الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.
[8] نفس المصدر.
[9] ديباجة المــرسـوم عدد 35 لسنة 2011 مؤرخ في 10 ماي 2011 يتعلق بانتخاب المجلس الوطني الـتأسيسي.
[10] الفصل 32 من المرسوم عدد 35 لسنة 2011 مؤرخ في 10 ماي 2011 يتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي.
[11] الرديسي حمادي، التحول السياسي في تونس 2011-2014 المسار والرهانات، مبادرة الإصلاح العربي، 23 أغسطس 2018.
[12] جماعي، أشكال النُظم الانتخابية: دليل المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، ترجمة أيوب أيمن، سلسلة منشورات المؤسسة الدوليّة للديمقراطية والانتخابات، السويد، 2010. ص 85-86.
[13] أمر رئاسي عدد 117 لسنة 2021 مؤرخ في 22 سبتمبر 2021 يتعلق بتدابير استثنائية
[14] أرسطوطاليس، السياسة، ترجمة السيّد، أحمد لطفي، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، مصر، 1947. ص 207.