“عبدالله مش حرامي ولا مجرم، عبدالله استردّ أمواله يلي سرقها البنك”. (عبارة تكررت في التغريدات المتضامنة مع عبد الله الساعي). حظي المواطن عبد الله الساعي بإقدامه على اقتحام فرع مصرف بيروت والدول العربية في جب جنين في تاريخ 18 كانون الثاني 2022 بتعاطف كبير عبرت عنه وسائل التواصل الاجتماعي. وقد تداولتْ وسائل الإعلام أنه كان حائزا على كمية من البنزين (وربّما وفق بعض وسائل الإعلام مسدس وهو أمر نفتْه شقيقته، فاطمة لافتة إلى أنه “لم يكن يحمل أيّ قنابل أو سلاح بخلاف ما هو شائع، وأضافت أن “كلّ ما كان بحوزته هو شنطة تحتوي على قارورات بنزين”.) كما نقل أنه هدد بإحداث حريق لما في المصرف وبمن فيه في حال عدم الوصول إلى غايته. تبعا لذلك، نجح الساعي في الحصول على وديعته البالغة قيمتها 50 ألف دولار أميركي والتي يبدو أنه سارع إلى تسليمها لزوجته قبلما يُسلم نفسه.
وما أن أعلن النّائب العامّ في البقاع منيف بركات قراره بتوقيفه وإشارته باسترداد المبلغ الذي حصل عليه من المصرف، حتى انتشرتْ مواقف متعدّدة انبنَتْ على سرديّات مختلفة. بعض هذه السرديات حصرَتْ الحادثة في وقائعها في مسعى منها لحجب إطارها الاجتماعيّ بالكامل. بعضها الآخر ذهبتْ على العكس من ذلك تماما إلى وضعها في إطار ما تعرّض له المودعون من عصف المصارف أو هيمنة منظومة الإفلات من العقاب. وفي حين ركّزت بعض المواقف الناشئة عن هذه السرديّة على تبرئة الساعي عملا بالضرورة، فإنّ بعضها الآخر ذهب أبعد من ذلك في اتجاه استشراف الوظيفة الاجتماعية لهذا الفعل كعامل محفز لحراك عام ضد المصارف. وقد بدا ملفتا وسط ذلك أن قلة من المسؤولين العامين علّقوا على الحادثة بما يعكس حرجا معينا وصعوبة في اتّخاذ مواقف ضدّ المصارف أو ضدّ السّاعي.
وينتظر أن تتفاعل هذه السرديات أكثر في الفترة القادمة بعدما ادّعى النائب العام عليه في تاريخ 24/1/2022 بجرم “استيفاء الحق بالذات وحجز حرية وتهديد وحيازة أسلحة”.
السردية الأولى: الغاية لا تبرر “الاعتداء”
عمدتْ هذه السرديّة إلى تشويه السياق العام للأحداث مرة، وإلى عزل الحدث عن السياق العام مرة أخرى. فلم تلحظ السرديّة وجود أي اعتداء من قبل المصارف أو من سياسات الدولة المالية على أموال المودعين والناس بعامة. والبعض ذهب أبعد ليرسّم صورة مجتمع متخيّل، صوّر الناس فيه على أنهم المعتدون على المصارف، مقابل تظهير المصارف بمظهر الضحيّة.
وقد صدر الموقف الأكثر تنديدا بالحادثة كما هو متوقّع عن جمعيّة مصارف لبنان، حيث رفضت في بيانها ما أسمتْه “الاعتداءات المتكرّرة التي طالتْ مؤخرا عددا من الفروع”، وعبّرت عن إدانتها لما أسمتْه “أعمال العنف بكافّة أشكالِها وتحت أيّ ظرف”. كما أغلقتْ فروع المصارف العاملة في جب جنين.
كذلك استنكر المجلس التنفيذي لاتحاد نقابات موظفي المصارف في بيان ما أسماه “التعدي السافر الذي تعرض له الزملاء في بنك بيروت والبلاد العربية ش.م.ل. فرع جب جنين من قبل أحد المودعين”. ورأى أنه “كان يمكن أن يتطور إلى مجزرة”. كما تساءل: “هل نحن في دولة قانون أم في مزرعة تُدار من قبل الأقوياء والمتسلّطين والخارجين عن القانون؟” واعتبر أن “إعادة الودائع إلى أصحابها هي في الأساس من واجبات الدولة التي استدانتْ من المصارف ودائعها من أجل تسيير شؤونها”. وأدرج الحادثة ضمن سياق “اعتداءات متكررة”. وختم الاتحاد بيانه بالقول بأنهم لن يرضوا “أن يكون مستخدمو المصارف مكسر عصا وضحية تعديات لا يحاسب مرتكبوها وفق القوانين اللبنانية”.
أطراف أخرى بنت على هذه السردية، وركزت على طرف واحد من القصة، أي موظفي المصرف، ثمّ قاربت الحدث وكأنه “ابن ساعته” ومنفصل عن السياق العام لتطوّر الأحداث.
من الأمثلة على ذلك، التصريح الذي أدلى به خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي، لموقع “أساس” حيث صرّح أنّ “الغاية لا تبرر الوسيلة”، معتبرا أنّ ما قام به الساعي هو “اعتداء على أملاك خاصة، وخَلَق الرعب في نفوس مواطنين آمنين لا ناقة لهم ولا جمل في الحادثة”.
من جهته، المحامي ألكسندر نجّار (العضو في مجلس نقابة المحامين في بيروت وقد برز في دفاعه عن شركة مكتّف) لم يكتفِِ بوصف الفعل بأنه “استيفاء الحق بالذات جرم يعاقب عليه في قانون العقوبات”، بل عبّر عن موقف جد متشدّد حيال الساعي انتقد فيه المزايدات الشعبوية، معتبراً أن أرواح الأبرياء أغلى بكثير من وديعة مقترف الجرم”. المحامي وديع عقل (وهو من قيادات التيار الوطني الحرّ) دافع عن قرار القاضي منيف بركات معتبرا أن “ودائع الناس لا تُسترد بتهديد الموظفين والإعتداء عليهم! بل بالقانون.” وقد أضاف أن “حق المودع عند صاحب المصرف والسياسي الذي انتخبه وعند رياض سلامة.
فيما عدا هذه المواقف، نجد مواقف قليلة منددة بما فعله الساعي على وسائل التواصل الاجتماعية . من ضمنها، “إذا دولة ما أخدت فيه أقصى العقوبات وأخدت منو المصاري وحاسبتوا لح كل مودع يروح يعمل نفس شي”، أو أيضا “أن الساعي في قراءة أولية هو بطل استوفى حقه ولكنه في قراءة أكثر تعمقاً “عرّض حياة موظفين في المصرف لا ناقة لهم ولا جمل بسرقة أمواله إلى خطر الموت، وهم موظفين بسطاء”.
السردية الثانية: السّاعي مش حرامي
مقابل ما تقّدم من سلخ للحادثة عن إطارها الاجتماعي، انتشرت مواقف مناقضة تماما ذهبت إلى تبرئة الساعي الذي فعل ما كان مضطرا على فعله لاسترداد حقّه. وقد تمّ إبراز هذه السردية من خلال حملات هاشتاغ (#عبدالله_الساعي) (#كلنا_عبد_الله_الساعي) (#الحرية_لعبدالله_الساعي). كانت جميعة المودعين أبرز المتضامنين مع الساعي محذّرة من ملاحقته بجرم الخطف والاحتجاز. وقد عبّرت عن موقفها هذا في بيان جاء فيه أنه “لولا إقدام السيّد عبد الله الساعي على المبادرة لإنقاذ حقوقه التي سلبت بالتعنت والغطرسة والوقاحة، بالاشتراك تكافليا وتضامنيا مع القضاء والسلطة السياسية، لكان قد قضى عمره ينتظر إعادة أمواله المسلوبة.” كما أعلنت الجمعية أن “عائلة عبدالله الساعي أصبحت داخل مقرّ الجمعية وبحماية أعضائها، وأنّ أي محاولة لسرقة مبلغ ال 50 ألف دولار من العائلة لصالح بنك BBAC سنواجهها بالقوة شاء من شاء وأبى من أبى”. وقد اعتصم عدد من المحتجّين أمام سراي جبّ جنين احتجاجاً على توقيف السّاعي مُطالبين باطلاقه فوراً. كما اعتصم آخرون أمام فرع مصرف BBAC.
وقارب رئيس جمعية المودعين حسن مغنية أهميّة إنصاف “الحالة الخاصة” بالرغم من تأكيده على أن الحل يكون حلاً إقتصادياً، فصرح لإذاعة “صوت لبنان” أنّ “الذي دفع المودع عبد الله الساعي للقيام بما قام به هو شعور كل مواطن بأننا أصبحنا نعيش بشريعة غاب وبنظام أشبه بنظام المزرعة”، واعتبر أن “الحلّ هو بخطة تعافي اقتصادية والقضاء مطالب بإنصاف الحالة الخاصة”.
أصحاب هذا الموقف ندّدوا عموما باستنسابية النيابة العامة التي تحرّكت بحماسة ضدّ السّاعي متّخذة بحقه قرارات سريعة، في حين أنها كانت تقاعست من قبل عن ملاحقة المصارف وكأنها رائم غير مرئية. وهذا ما عبّرت عنه الناشطة سحر غدار متحدثة عن “وقاحة النيابة العامة طلبت المصاري الي أخذهم البطل عبد الله الساعي من البنك مبارح بالقوة.. لان قضاءنا وأجهزتنا الأمنية شاطرة عالمعترّ مش عالمصارف”. وهذا أيضا ما أشار إليه الصحافي سلمان العنداري حيث قال أنّ “القضاء سارع الى اتخاذ قرار بضبط المبلغ. القضاء يحمي المصارف ومصالحها. علما أن أموال عبدالله ملكه. لم يسرقها ولم ينهبها.”
وخلال مؤتمر عقده تحالف “متحدون” وجمعية “صرخة المودعين” في تاريخ 19/1/2022، طالب المحامي رامي علّيق بإطلاق سراح المودع الساعي فورا (اليوم) وعدم التعرّض للمبلغ المُستوفى والعودة عن قرار ضبطه لأن هذا المال ناتج عن جرم ارتكبه البنك وهو إساءة الأمانة واسترداد بلاغ البحث والتحري بحق زوجته وعدم التعرض لأي فرد من عائلته”. كما أدلى بأن ما فعله الساعي إنما يأتي في سياق دفع الاعتداء والضرورة مما يكسبه أسبابا تبريرية. وأشار عليق إلى أن “المسار الطبيعي في هذه الحالات هو تجريم المودع، إنما بالتمحيص قانونا وإعمالا لحق الدفاع العام المشروع سندا للمادة 184 عقوبات، خاصة أن الساعي استخدم الشدة بالحد المطلوب لتحصيل الحق، فهذا يسقط الجرم وفق ضوابط محددة لا سيما استعمال الشدة بالمقدار المطلوب كما فعل الساعي”.
من جهته، عبر النائب العضو في تكتل الجمهورية القوية جورج عقيص على صفحته الفايسبوك عن حيرته حيال الموقف القانوني الواجب اتخاذه، تبعا للتعقيدات الناشئة عن وضع أنتجته “المنظومة السياسية المصرفية”. وإذ استذكر موانع العقاب في “حالة الضرورة” سارع إلى التساؤل: “كلّ اللبنانيين اليوم في حالة ضرورة وفق التعريف القانوني، فما عسانا نفعل؟ هل نشجّع الناس على التصرف كما تصرف عبدالله؟ هل نلوم القاضي إذا حاول تطبيق القانون بحقّه؟” واعتبر بالتالي أنه “إذا كان هناك من تشجيع واجب فهو للقضاء لكي يتحرك ضد المافيا التي أفقرت الناس”.
السردية الثالثة: انتفاضة ترسم لنا الطريق
لم يكتفٍ أصحاب هذه السرديّة بربط الحادثة بسياقها الاجتماعيّ بل ذهبوا أيضا إلى إبراز ما تعكسه من أبعاد ومحفّزات أو تفرضه من استحقاقات. أبرز من عبر عن هذا الأمر هو الخبير الاقتصادي والمالي توفيق كسبار خلال مقابلة معه ضمن برنامج “هنا بيروت”، حيث رأى أن كلّ أعباء الانهيار في لبنان يتحمّلها المودع فقط. واعتبر أنّ “ما قام به المودع الموقوف عبدالله الساعي “انتفـاضة” ويجب أن نتوقّع انتفاضات كثيرة مثلها لاسترداد الحقوق وليس للسرقة”. وقد ذهب في الاتجاه نفسه الكاتب أسعد أبو خليل قال في تغريدة أن الساعي رسم لنا الطريق وأنه “لا وسيلة لاستحصال الحق من المصارف بالحُسنى”. وأضاف “تريدون محاسبة رياض سلامة وأصحاب المصارف؟ بسواعدكم وأقدامكم.” كما صبّ تعليق عضو المكتب السياسيّ في حزب تقدّم مارك ضو في نفس اتجاه هذه السرديّة. فقال على نحو أوضح: “لازم يكون في أكثر من #عبدالله_السّاعي. المصارف لن تتراجع عن سرقة أموال الناس أو تحمّل المسؤولية ما دام ليس هناك من يأخذ حقه بالقوة. إذا اليوم عشرين حالة استرداد بتصير هذا يساعد بحماية الناس”.
وقد تميزت في هذا الخصوص لجنة حماية حقوق المودعين في نقابة المحامين في بيروت حيث أشارت في البيان الصادر عنها إلى أن “لجوء المواطن عبدالله الساعي الى الأفعال المنسوبة إليه واسترجاع وديعته على الوجه الذي ذكر في وسائل الاعلام قد أتى في إطار محدّد لا يصحّ قانوناً التغاضي عليه وهو ضرب وتهديد المواطنين في سبل عيشهم ومدخّراتهم وتعريض كرامتهم للذل والعوز، ممّا ومع استمراره، يقودنا تدريجياً إلى كارثة اجتماعية تتحمّل مجالس إدارة المصارف مسؤوليتها.” وقد خلصت اللجنة إلى القول بأن استمرار ممارسات المصارف على ما هي عليه سيؤجج السبل غير المقبولة لاستيفاء الحقوق ويضرب أسس دولة القانون قبلما تؤكد أنها لن تألو جهدا لدعم المودعين والمطالبة بحقوقهم صونا لكرامة المواطن وحرصا على أمنه وأمانه.
وقد ذهبت مداخلات أخرى إلى تفسير الحادثة على أنها انعكاس لخلل يتجاوز مسألة حقوق المودعين أو تجاوزات المصارف ويتمثل في تعميم نظام الإفلات من العقاب. بذلك، يأتي فعل الساعي تعبيرا عن انهيار المنظومة القانونية برمتها. هذا ما ذهبت إليه أيضاً المفكرة القانونية في مقال نشرته تحت عنوان: “مشاهد “استيفاء الحقّ بالذات”: نظام الإفلات من العقاب يُعيدنا إلى زمن ما قبل الدولة” وقد جاء فيه تفنيداً لأبرز محطات الإفلات من العقاب، ليخلص إلى أن “مشهدية جب جنين وما قد تحفزّه من مشهديات مشابهة هي نتائج شبه حتمية لمشهدية تدخلات القوى النافذة في جرائم المصارف كما في جرائم الاحتكار والانهيار والتفجير. وهي مشهديّة تؤكد أن المسؤولية الكبرى عن هذه الحادثة يتحملها كل من يدعم عن قصد أو غير قصد منظومة الإفلات من العقاب.” وهذا أيضا ما عبر عنه الصحافي رامي الأمين الذي كتب على موقع درج مقالاً قال فيه أن “كل ما فعله الرجل، الذي حاز تضامن آلاف اللبنانيين العاجزين عن تحصيل أموالهم المنهوبة من المصارف، و”فشّ خلق” كل من أذلّتهم الطبقة السياسية والمنظومة المصرفية في جنى أعمارهم ومدّخراتهم، أنه لجأ إلى شيء من القوة، وشيء من مخالفة القانون في بلاد الظلم والفوضى.” ثمّ ذهب الأمين إلى تسليط الضوء على المخالفات الكبرى التي تنتهي غالباً ب”الإفلات من العقاب”، وهو ربما الأمر الأكثر قهراً للمواطنين وكرامتهم.