في 4 كانون الأول 2024، مثل الصحافيان فراس حاطوم ونانسي السبع أمام المحامية العامة في النيابة العامة التمييزية القاضية ميرنا كلّاس للتحقيق معهما في الشكوى المقدمّة ضدّهما من قبل صاحب شركة “سيرتا” Serta رئيس مجلس إدارتها هشام عيتاني بشبهة القدح والذمّ والتحريض وتلفيق الأخبار وتعريض المؤسسات الأمنية للخطر وتهديد علاقة لبنان مع الدول. وجاءت الشكوى على خلفية تقرير مصوّر أعدّه حاطوم ونشره على منصة “تفاصيل” بعنوان “غزوة البيجرز”، وتضمّن معلومات تتّصل بشبهات حول علاقة شركة “سيرتا” باستيراد أجهزة النداء “بيجرز” التي انفجرت بشكل متزامن في 17 أيلول 2024 في أيادي آلاف الأشخاص في لبنان، من ضمنهم مدنيون وعناصر من حزب الله، في عملية نفذتها إسرائيل وأدت إلى مقتل العشرات، من ضمنهم طفلين، وجرح الآلاف. وفيما سجّل الصحافيّان تحفظهّما على صلاحية النيابة العامة بالتحقيق معهما حول عملهما الصحافي، خضعا لتحقيق امتّد لثلاثة ساعات، من دون أن تعلن أيّ من النيابات العامة لغاية الآن ما إذا كانت فتحت تحقيقًا حول جريمة “البيجرز” ومدى علاقة شركة “سيرتا” التي تناولها التقرير الصحافي، بها.
رفض المثول أمام المباحث الجنائية
وكان حاطوم قد تلقى اتصالًا في 20 تشرين الثاني من رئيس المباحث الجنائية العميد نقولا سعد يستدعيه للمثول إلى التحقيق، كما طلب سعد حضور الإعلامية نانسي السبع رغم أنّها لم تشارك في إعداد التحقيق، إنّما استضافت حاطوم في مُقابلة حول قضية “البيجرز” على منصة “تفاصيل”.
على إثرها، رفض حاطوم تلبية الاستدعاء “تمسّكًا بقناعتي بأنّ الصحافي يمثل إن كان الأمر متعلّقًا بعمله، أمام محكمة المطبوعات وليس أمام الضابطة العدلية”. وتقدّم وكيلهما المحامي فاروق المغربي بمذكّرتين إلى النيابة العامّة التمييزية، الأولى للتأكيد على عدم جواز مثول الصحافيين أمام الأجهزة الأمنية، والثانية للتأكيد على عدم اختصاص النيابات العامّة بالتحقيق مع الصحافيين.
وأصدر تجمّع نقابة الصحافة البديلة بيانًا في 20 تشرين الثاني 2024، أكدّ فيه دعمه للصحافيين فراس حاطوم ونانسي السبع، مشددًا على أنّ استدعاء الصحافيين أمام المباحث الجنائية “يُعتبر مخالفة للمادة 29 من قانون المطبوعات لجهة حصرية التحقيق في القضايا المتعلّقة بالصحافة، بقضاة التحقيق”. وأكدّ التجمّع أنّ “استدعاء الصحافيين أمام الضابطة العدلية بما فيها النيابات العامّة، لا يُخالف قانون المطبوعات فحسب بل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والمبادئ العامّة لحرية التعبير والإعلام أيضًا”.
وبعد تسجيل تحفظّهما على صلاحية النيابة العامة للتحقيق معهما، عاد الصحافيان وقررا المثول أمامها بعد قرار المحامية العامّة ميرنا كلّاس أنْ تستمع شخصيًا إليهما، من دون أن يكون لجهاز المباحث الجنائية أي دور في ذلك.
ويلفت حاطوم في اتصال مع “المفكرة القانونية” إلى أنّ “النيابات العامّة لها صلاحية التوقيف، ولهذا لا يمثل الصحافيون إلّا أمام محكمة المطبوعات”. ويؤكد أنّ “ضمان هذا المبدأ يتطلّب خوض معارك وحشد التأييد من قبل الجسم الصحافي، إلّا أنّي رأيت أنّ ظروف الحرب التي يمرّ بها لبنان ليست ملائمة لخوض هذه المعركة”. ويؤكدّ حاطوم أنّه حضر إلى التحقيق رغم قناعته بعدم مثول الصحافي أمام النيابات العامّة وتمسّكه بأنّ محكمة المطبوعات هي الجهة الوحيدة المختصّة بالتحقيق مع الصحافيين. ويلفت إلى أنّ التحقيق الذي أجرته القاضية كلّاس كان هادئًا، واستمرّ لنحو ثلاث ساعات، أصدرت القاضية كلّاس في ختامه قرارًا بتركهما لقاء سند إقامة.
ما علاقة “سيرتا” بـ “البيجرز”؟
وكان حاطوم ذكر في منشور على منصة “إكس” أنّ “الدعوى كان قد سبقها محاولة تواصل وعرض مبلغ مالي لقاء وقف العمل على هذا الملف”. ولفت في مقابلة مع موقع “درج” إلى أنّه بعد رفضه تلقى اتصالًا ثانيًا يُهدّده باللجوء إلى القضاء، ولكنّه تمسّك برفضه التعاون مع الجهات التي تواصلت معه والتي يعتبر أنّها تابعة لهشام عيتاني.
وشرح حاطوم في فيديو جديد نشره بعد التحقيق معه، أنّ عيتاني رجل أعمال لُزّمت شركاته مُعظم المشاريع الخاصّة بالاتصالات والمعلومات لصالح وزارة الداخلية والبلديات ولمؤسسات أمنية. وأكدّ أنّ شركة “سيرتا” لُزّمت بتركيب برنامج شبكة الاتصالات “تيترا” لجهاز قوى الأمن الداخلي والجيش اللبناني والأمن العام. وأوضح أنّ “تيترا” هو نظام تُصنّعه شركة “إيرباص” الأوروبية التي هي نفسها تُنتج مسيّرات لصالح إسرائيل.
وبحسب حاطوم، “سيرتا” هي شركة يملكها هشام عيتاني ويرأس مجلس إدارتها وتُمثل شركة “إيرباص” في لبنان، وقامت هذه الشركة باستبدال الشبكة القديمة لجهاز الأمن العام عام 2015 بشبكة “تيترا” واستوردت أجهزة الاتصال “البيجرز” ليستخدمها آلاف من عناصر أمنيين، ومن بينهم عناصر من حزب الله، وذلك بشكل غير مُعلن. ورجّح حاطوم أنّ تكون هذه هي الثغرة التي مكّنت إسرائيل من خرق أجهزة النداء التي يستخدمها أعضاء من حزب الله.
أين التحقيق في جريمة “البيجرز”؟
يأتي التحقيق مع حاطوم والسبع في إطار ممارسات تتّبعها النيابة العامّة التمييزية بإخضاع الصحافيين الذين يكشفون عن شبهات جرائم خطيرة لتحقيقات مخالفة لقانون المطبوعات، ومن دون أن تعلن عن بدء أيّ تحقيق حول هذه الجرائم رغم خطورتها، كما حصل مؤخرًا مع الصحافي الاقتصادي منير يونس الذي خضع للتحقيق من قبل المباحث الجنائية على مدى ستّ ساعات على وقع الغارات الإسرائيلية على بيروت، رغم أنّه كان سبق وكشف عن العديد من شبهات الفساد المالي في تقارير صحافية.
ولم تعلن النيابة العامة التمييزية أو مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية لغاية الآن عن أي تحقيق حول جريمة تفجير أجهزة “البيجرز” واللاسلكي في 17 و18 أيلول 2024 التي سبقت توسّع العدوان الإسرائيلي على لبنان أو عن أي تحقيق حول علاقة شركة “سيرتا” التي رفع صاحبها الشكوى في حق حاطوم والسبع في هذه الجريمة. من جهة أخرى، قدّمت وزارة العمل بتكليف من الحكومة اللبنانية في 5 تشرين الثاني شكوى أمام منظمة العمل الدولية حول هذه الجريمة التي أسفرت عن استشهاد وإصابة آلاف الأشخاص، لا سيما فئة العمّال وأصحاب العمل الذين أصيبوا أثناء تواجدهم في مواقع عملهم، ما يشكل انتهاكًا للاتفاقيات الدولية التي تكفل حماية العمّال وتوفير بيئة عمل آمنة لهم.
وكان مفوّض الأمم المتحدّة لحقوق الإنسان قد عبّر عن خوفه الشديد من هذه الجريمة معتبرًا أنّها تطوّر جديد في أساليب الحرب لا يجوز التطبيع معه كونه يشكّل انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي الإنساني وجريمة حرب، وطالب بتحقيق دولي شفاف حولها. كذلك اعتبرت منظمتا “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش” أنّ هذه التفجيرات غير المسبوقة تشكّل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني وتستوجب التحقيق.