بتاريخ 11 أكتوبر 2022 أصدر وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالداخلة (جنوب المغرب) إذنا معللا بإعادة تسجيل طفلة بالمدرسة التي يتواجد فيها بيت الزوجية، بعدما عمل زوج على تنقيلها الى مدرسة أخرى في مقر إقامته، بعد دخوله في خلاف مع الأم. اللافت في الإذن القضائي الذي تنشره المفكرة القانونية أنه اعتمد على مقتضيات اتفاقية حقوق الطفل التي تكرس مبدأ المصلحة الفضلى للأطفال، وعلى قانون إجبارية التعليم الذي يلزم بتوفير التعليم الأساسي للأطفال في أقرب مؤسسة تعليمية لمكان إقامتهم، على خلاف مقتضيات مدونة الأسرة التي تعطي الزوج الحق في اختيار مقرّ بيت الزوجية. كما أن أهمية هذا الإذن القضائي تكمن في كونه يكرس دور النيابة العامة في السهر على تنفيذ حقّ الطفل في التعليم بشكل فوري باعتبارها طرفا رئيسيا من دون حاجة لتكليف الأمهات باللجوء إلى القضاء الاستعجالي.
ملخص القضية
تعود وقائع القضية إلى شكاية تقدّمت بها أمّ لوكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالداخلة. وقد عرضت فيها أنها تعيش في خلاف مستمرّ مع زوجها الذي غادر بيت الزوجية وأمسك على الإنفاق عليها وعلى ابنتهما، كما تقدم بدعوى للتطليق للشقاق. ومن أجل الضغط عليها، قام بالحصول على شهادة المغادرة الخاصة بطفلتهما قصد تنقيلها من المدرسة التي تتابع فيها دراستها بمدينة الداخلة حيث يتواجد بيت الزوجية، إلى مدرسة أخرى بمدينة العيون. وقد أكدت الشاكية أن زوجها وإلى حدود تاريخ تقديم الشكاية لم يعمل على تسجيل الطفلة في أي مدرسة ملتمسة تدخل النيابة العامة بشكل استعجالي لحماية حق ابنتها في التعليم والتمدرس وتمكينها من إرجاعها وتسجيلها بمؤسسة التعليم العمومي بمدينة الداخلة نظرا لاستقرارها فيها. هذا فضلا عن أن الشاكية هي الحاضنة الأصلية للطفلة التي تقيم معها، خاصة وأن زوجها أضحى يسكن بمدينة العيون وكثير التنقل إلى مدينة أكادير، مما قد يعرض مستقبل تمدرس الطفلة التي تدرس بالمستوى الرابع ابتدائي إلى الخطر.
موقف النيابة العامة
في معالجته للشكاية، عمل وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالداخلة على اتخاذ إجراءات مستعجلة تتمثل فيما يلي:
إحالة الشكاية على خلية التكفل بالنساء ضحايا العنف إعمالا لقانون 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء؛
التنسيق مع المديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بالداخلة إعمالا لاتفاقية الإطار للشراكة والتعاون الموقعة بين رئاسة النيابة العامة ووزارة التربية الوطنية المتعلق بمحاربة الهدر المدرسي، حيث توصل منها بجواب يؤكد منح ولي أمر الطفلة من خلال وكالة مفوضة تحمل إسم أخيه شهادة مغادرة الطفلة (المقصود بها شهادة الانتقال) بتاريخ 25/07/2022، وأنه إلى حدود تاريخ 12/09/2022 لم يبادر الأب إلى تسجيل الطفلة بالمدرسة؛
مراجعة منظومة مسار وهو تطبيق إلكتروني لتتبع تمدرس الأطفال، حيث تبين أن الأب قام بتاريخ 14/09/2022 بتسجيل الطفلة بالمدرسة الأوروبية بمدينة العيون، أي بعد مرور أكثر من شهرين على حصوله على شهادة المغادرة. وتبعا لهذه الإجراءات أصدر وكيل الملك إذنا للمديرية الإقليمية لوزارة التربية الوطنية بمدينة الداخلة بتمكين الأم المشتكية من إعادة تسجيل طفلتها بالمؤسسة التعليمية المناسبة بمدينة الداخلة -محل إقامتها– والتنسيق في ذلك مع المديرية الإقليمية للتعليم بالعيون، مع الحرص على حماية حق الطفلة في التمدرس القارّ والمستمرّ بكافة الإجراءات والتدابير المناسبة مع موافاة النيابة العامة بما يفيد تنفيذ هذه الإجراءات. وقد كان لافتا في هذا الاذن أنه جاء معللا بمقتضيات من الواقع ومن القانون ومن الاتفاقيات الدولية. فمن حيث الواقع ثبت للنيابة العامة ما يلي:
الطفلة تقطن مع والدتها الحاضنة بمدينة الداخلة وليس بمدينة العيون ولا يمكن الانتقال إليها لوجود بيت الزوجية والاستقرار الأصلي ومحل الإقامة بمدينة الداخلة، علما بأن الفصل 1 من القانون رقم 00.04 حول إلزامية التعليم يلزم بتوفير التعليم الأساسي للأطفال في أقرب مؤسسة تعليمية لمكان إقامتهم.
إحجام الأب عن الحرص الفعلي على استفادة ابنته من التمدرس الأساسي وعدم تسجيل الطفلة إلا بعد بدء الدراسة بمدة، و كذلك عدم قيامه بجميع المساعي التي من شأنها استفادة طفلته فعليا من التمدرس وعدم تهييئه لها الظروف الملائمة لمتابعة دراستها هو أمر يجعله مخلا بأهم التزاماته الأبوية المنصوص عليها في المادة 54 من مدونة الأسرة والتي جاء فيها: “للأطفال على أبويهم الحقوق التالية: التعليم والتكوين الذي يؤهلهم للحياة العملية وللعضوية النافعة في المجتمع وعلى الآباء أن يهيئوا لأولادهم قدر المستطاع الظروف الملائمة لمتابعة دراستهم حسب استعدادهم الفكري والبدني….” .
العبرة في حماية حق الطفلة في التمدرس ومحاربة الهدر المدرسي هي الاستفادة الفعلية من التعليم وليس فقط التسجيل بالمدرسة دون حضور والذي يعد إجراء شكليا لتتبع المسار الإداري للتلميذ. ومن حيث المقتضيات الدستورية والتشريعية والاتفاقيات الدولية المصادق عليها اعتمد الاذن على ما يلي:
مقتضيات الفصل 32 من الدستور الذي ينص على أنه: “تسعى الدولة لتوفير الحماية القانونية والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الاطفال بكيفية متساوية بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية …التعليم الأساسي حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة”.
مقتضيات الفصول 17 19 ،28 ، 29 من اتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الطفل لسنه 1989 والتي صادق عليها المغرب بموجب ظهير 14 يونيو 1993.
مقتضيات المادة 19 من القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي التي تنص على أنه: “يعتبر الولوج إلى التعليم المدرسي من قبل جميع الأطفال إناثا وذكورا والبالغين سن التمدرس إلزاميا على عاتق الدولة والأسرة أو أي شخص مسؤول عن رعاية الطفل قانونا.
مقتضيات الفصل الأول من قانون رقم 00.04 المتعلق بإلزامية التعليم الذي ينص على أن “التعليم الأساسي حق وواجب لجميع الأطفال المغاربة ذكورا وإناثا البالغين ستّ سنوات؛ تلتزم الدولة بتوفيره لهم مجانا في أقرب مؤسسة تعليمية لمكان إقامتهم ويلتزم الآباء والأولياء بتنفيذه إلى غاية بلوغهم تمام الخامسة عشرة من عمرهم”.
مقتضيات المادة 54 من مدونة الأسرة التي ألزمت الدولة بضمان وصيانة حقوق الأطفال وحمايتها وأوجبت على النيابة العامة السهر على مراقبة تنفيذ الأحكام والحقوق الواجبة للأطفال على أبويهم.
دور النيابة العامة كجهاز قضائي يحمي الحقوق والحريات.
تعليق على إذن النيابة العامة
تكمن أهمية هذا الإذن القضائي في عدة مستويات:
يكرس توجها جديدا للنيابة العامة في التدخّل الفوريّ في النزاعات بين الزوجين أثناء قيام العلاقة الزوجية لحماية حق الأطفال في التمدرس، فبعدما كان البتّ في هذه النزاعات يعود الى القضاء الاستعجالي، عمدت عدد من النيابات العامة إلى تفعيل أدوارها كأطراف رئيسية في قضايا الأسرة للتدخل قصد حماية حقوق الأطفال.
يكرس دور قضاء النيابة العامة في إعمال الاتفاقيات الدولية المصادق عليها التي تسمو على التشريع الداخلي، وذلك من خلال الإجراءات والأوامر والأذون التي يصدرها القضاء الواقف، وهو دور لا يقلّ أهميّة عن دور القضاء الجالس في إعمال الاتفاقيات الدولية والذي تمّ تجسيده سابقا في عدد من الأحكام القضائية.
يعتبر هذا الإذن القضائي من بين التطبيقات النادرة لقانون إجبارية التعليم حيث يلزم في مادته الأولى بتسجيل الأطفال في أقرب مؤسسة تعليمية لمكان إقامتهم.
يعتبر هذا الإذن من بين التطبيقات القضائية لمبدأ المصلحة الفضلى للطفل والتي تعلو عن سائر الاعتبارات الأخرى من قبيل اعتبار الزوج هو المختص في اختيار بيت الزوجية، وتحديد محل إقامة الأطفال في محل سكنى والدهم، وهي مقتضيات ما تزال موجودة في مدونة الأسرة وتتعارض مع مبدأ جعل الأسرة تحت الرعاية المشتركة للزوجين مثلما هو منصوص عليه في المادة الرابعة من المدونة المتعلقة بتعريف عقد الزواج، والمادة 51 منها المتعلقة بالحقوق والالتزامات المشتركة بين الزوجين.
إذا كانت أغلب الأذون السابقة الصادرة عن النيابة العامة في هذا المجال تهدف إلى تمكين الأمهات من الحصول على شهادة المغادرة لأطفالهن لتسجيلهن في مدرسة أخرى بعد مغادرة الأزواج إلى مكان مجهول، فإن هذا الإذن الصادر عن النيابة العامة بالداخلة يتعلق بحالة معاكسة بحيث أن الزوج هو من قام بالحصول على شهادة المغادرة لطفلته لتسجيلها في إحدى المدارس التي تبعد حوالي 600 كيلومتر على محل تواجد بيت الزوجية، ولجأت الأم إلى النيابة العامة للاعتراض على ما قام به زوجها، وذلك من أجل إعادة تسجيل طفلتها في نفس المدرسة التي تتابع فيها دراستها وفي مقر بيت الزوجية.
اعتمدت النيابة العامة في إصدارها لهذا الإذن بالإضافة إلى مقتضيات الدستور والقانون والاتفاقيات الدولية على أبحاث موازية بالتشارك مع نيابة التعليم بكل من مدينة العيون والداخلة بهدف استجلاء مصلحة الطفلة الفضلى، وهو ما يكرس الأدوار المناطة بخلايا التكفل بالمحاكم في دعم التنسيق بين السلطة القضائية وكافة المتدخلين في شتى القطاعات الحكومية، كما أن ذلك يعد تجسيدا لاتفاقية تعاون بين النيابة العامة وبين نيابة التعليم لمحاربة الهدر المدرسي المعروفة بإعلان وبروتوكول مراكش. وتجدر الإشارة إلى أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان سبق أن أوصى في تقريره السنوي بإقرار حقّ الزوجين معا في القيام بالأمور المتعلقة بالنيابة القانونية على أطفالهما، تزامنا مع دعوته إلى تعديل مدونة الأسرة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.