تعتبر الحملة الأمنية المكثفة التي تشنها السلطات المصرية حاليًا ضد كافة أشكال التجمع والاحتجاج، والتي تستهدف الجميع دون تمييز، هي الأعنف والأشرس منذ تولي رئيس الجمهورية الحالي سدّة الحكم في 2014. فمنذ دعوات التظاهر في 20 سبتمبر من هذه السنة، تم القبض على ما يقارب 2000 شخص من أماكن متفرقة بجميع المحافظات تقريبًا، بحسب الإحصائيات الواردة من المنظمات الحقوقية التي تتابع سير التحقيقات مع المقبوض عليهم. وهو الأمر الذي دفع المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة لإصدار بيان أعربت فيه عن قلقها إزاء تلك الاعتقالات الموسعة تجاه المتظاهرين، كما دعت الحكومة المصرية إلى ضبط النفس، واحترام حق المواطنين في التظاهر السلمي، وفقاً للمعايير الدولية[1].

وفقًا لبيان النائب العام الصادر في 26 سبتمبر 2019، فإن عدد من استجوبتهم النيابة العامة خلال تلك الأحداث لم يتجاوز الألف متهم، وهو الرقم الذي ارتفع بالتأكيد نظرًا لظهور أعداد جديدة من الموقوفين يوميًا أمام النيابات المختلفة. ووجهت النيابة العامة إليهم مجموعة من الاتهامات، وهي مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها، ونشر أخبار وشائعات كاذبة، وإساءة استعمال وسائل التواصل الاجتماعي لتنفيذ الغرض الإجرامي، وأيضًا تنظيم تظاهرات بدون ترخيص. تلك الاتهامات التي دأبت النيابة العامة على اللجوء إليها في كافة القضايا ذات الطابع السياسي خلال الأعوام الماضية.

وبرز خلال التحقيقات، من خلال شهادات المحامين، تعامل مختلف من النيابة العامة حيث أن الأعداد كانت كبيرة[2]، كما أشرنا، هذا العدد الذي لم تستطع نيابة أمن الدولة وحدها، وهي المختصة بالتحقيق، في التعامل معه، واضطرت إلى انتداب عدد من المحققين من النيابات المختلفة كنيابة الأموال العامة ونيابة الشؤون المالية والتجارية. بالإضافة إلى أن كثيرا من المقبوض عليهم ليس لديهم أي خلفية أو انتماء سياسي. كما أن الكثيرين منهم لم يقوموا بالتظاهر من الأساس وتم القبض عليهم بطريقة عشوائية.

وستلقي كل هذه الأمور بظلالها خلال التحقيق، كما نناقش في هذا المقال.

تراتبية تنظيم النيابة العامة في ظل التعيينات الجديدة

في البداية، يجب أن نشير أنه حسب المادة 26 من قانون السلطة القضائية، يكون وكلاء النيابة “تابعين لرؤسائهم بترتيب درجاتهم ثم للنائب العام”؛ وهو الأمر الذي يعني أن وكيل النيابة لا يمكن له، مخالفة تعليمات رئيس النيابة التابع لها الذي لا يستطيع مخالفة تعليمات المحامي العام، وكلهم لا يستطيعون مخالفة تعليمات النائب العام. وهو الأمر الذي يعصف باستقلالية المحققين، ويتعارض مع المعايير الدولية للمحاكمة العادلة[3]. كما تجدر الإشارة أن النائب العام كان يتم تعيينه بقرار من رئيس الجمهورية بناءً على ترشيح المجلس الأعلى للقضاء الذي كان يجب الالتزام به[4]؛ مما كان يمثل حد أدنى لضمان عدم سيطرة السلطة التنفيذية على النيابة العامة. ولكن بعد التعديلات الدستورية الأخيرة، فإن مجلس القضاء الأعلى أصبح يرشح ثلاثة قضاة ليختار بينهم رئيس الجمهورية؛ مما وسع صلاحيات الرئيس في اختيار النائب العام؛ وسهل سيطرة السلطة التنفيذية على النيابة العامة. وبناءً على هذه التعديلات تم تعيين المستشار حمادة الصاوي نائبًا عامًا[5]، والذي قام بدوره باختيار كلٍ من نجل النائب العام الأسبق هشام بركات ونجل المستشار أحمد السيسي، نائب رئيس محكمة النقض، وشقيق الرئيس عبد الفتاح السيسي، وأبناء مسؤولين آخرين ضمن مكتب نيابة أمن الدولة العليا، وذلك بعدما عيّن نجله في المكتب الفني للنائب العام[6]. وهو الأمر الذي يعكس بصورة واضحة اتخاذ خطوات جدية لسيطرة السلطة التنفيذية بشكل كامل على هذا الجهاز؛ ليتم استخدامه لتحقيق أهدافها، وهنا، على سبيل المثال، لتقنين وشرعنة قمع التظاهرات أو الاحتجاجات شعبية.

كيف أثرت تراتبية النيابة العامة على التحقيقات في هذه القضية؟

قضية تظاهرات 20 سبتمبر هي أول قضية ذات طابع سياسي[7] تتولى النيابة العامة التحقيق فيها منذ تولي النائب العام الجديد منصبه. ونلاحظ أن تعامل النيابة كان مختلفا هذه المرة، فإصدار بيان من النائب العام بشأن قضية أمر ليس معتادا، ولا يتم عادة في مثل هذه القضايا، بل قد يتم في قضايا كبيرة تهم الرأي العام. كما أن تراتبية النيابة العامة ظهرت بصورة واضحة في هذه القضية، كما سنوضح.

فكما أشرنا في المقدمة، تتميز تلك القضية بأن أغلب الموقوفين هم مواطنون عاديون بلا أي توجهات سياسية أو خلفيات أيدولوجية أو حتى أصحاب رأي معارض، بل أن الغالبية العظمى منهم لم تشارك في أي تظاهرات من الأساس، وذلك حسب الشهادات الواردة من محامي المُتهمين. وبالتالي، فإن هذا العدد الضخم وغير المسبوق من المقبوض عليهم ما هو إلا دليل على عشوائية القبض والاستيقاف، وعدم ارتباطه بالمشاركة في تظاهرة من عدمه.

وألقت هذه العشوائية في القبض والاستيقاف بظلالها على إجراءات التحقيق أمام النيابة العامة، حيث وثقت شهادات المحامين الذي تابعوا التحقيقات تعاطف المُحققين مع عدد كبير من الموقوفين، إما نظرًا لأعمارهم أو وضعهم الاجتماعي أو حالتهم الصحية أو عدم معقولية مشاركتهم في تظاهرات لم تكن موجودة من الأساس. ذلك التعاطف الذي لم يستطع أعضاء النيابة العامة تحويله إلى واقع ملموس بالإفراج عن أي من المقبوض عليهم، حيث جاء القرار بحبس جميع من تم عرضهم على ذمة هذه القضية 15 يوم. وهو الأمر الذي يوحي بورود أوامر من النائب العام بحبس كل من يتم التحقيق معهم في هذه القضية؛ مما يعكس بشكل فج كيف يمكن لهذه “التراتبية” أن تطيح باستقلالية المحققين في اتخاذ قراراتهم مما يؤثر على عدالة التحقيق؛ والذي يطيح بدوره بعدالة المحاكمة.

الهوس بمواقع التواصل الاجتماعي

أشار النائب العام في بيانه بإصدار أوامره بفحص صفحات وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بالمتهمين، للتحقيق في تهمة “إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي” التي أشرنا إليها. ولكن ذلك دون وضوح القيد والوصف القانوني الذي تبنته النيابة عند توجيهها تهمة “إساءة استعمال وسائل التواصل الاجتماعي لتنفيذ الغرض الإجرامي“؛ حسب شهادات المحامين.

ويعكس هذا الأمر هوس الدولة المصرية في الفترة الأخيرة بوسائل التواصل الاجتماعي والمحتوى الذي يتشاركه المواطنون عليها، إيمانًا منها بأن تلك المواقع هي الخطر الأكبر على أمن واستقرار النظام الحالي، وخوفًا من تكرار سيناريو يناير 2011 الذي لعبت فيه تلك المواقع دورا بارزا.

كما تجدر الإشارة إلى أن القضاء المصري اعتبر في وقت سابق أن “”إساءة استعمال وسائل التواصل الاجتماعي” هي جريمة في حد ذاتها، وليس مجرد وسيلة لارتكاب جريمة أخرى[8]. وقد اعتبرها إحدى جرائم الارتباط، وهي الجرائم التي ترتبط ببعضها البعض ارتباطا لا يقبل التجزئة، حيث إنهما مترتبتان على بعضهما البعض بحيث ما كانت تُرتكب الجريمة التالية لولا وقوع الجريمة الأخرى[9]. مما قد يجعلنا أمام سيناريو مشابه عند إحالة هذه القضية إلى المحكمة التي قد تشدد العقوبة المقررة لجريمة مثل مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها، أو جريمة نشر أخبار وشائعات كاذبة، لاقترانها بجريمة “إساءة استعمال وسائل التواصل الاجتماعي“.

من ناحية أخرى، أشار بيان النائب العام إلى اعتراف بعض المتهمين باشتراكهم في عدد من التظاهرات بعد خداعهم من قبل صفحات أُنشئت على مواقع التواصل الاجتماعي منسوبة لجهات حكومية ورسمية تدعو المواطنين للتظاهر. وهو الأمر الذي كان يستوجب القبض على منشئي تلك الصفحات، وليس الأمر بحبس المقبوض عليهم 15 يومًا أخرى. فوفقًا لقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تتجاوز ثلاثين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من اصطنع بريدا إلكترونيا أو موقعا أو حسابا خاصا ونسبه زورا إلى شخص طبيعي أو اعتباري”، وإذا وقعت الجريمة على أحد الأشخاص الاعتبارية العامة كما هو الحال في تلك القضية “فتكون العقوبة السجن، والغرامة التي لا تقل عن مائة ألف جنيه، ولا تزيد على ثلاثمائة ألف جنيه”[10].

خاتمة

ألقت تراتبية النيابة العامة بظلالها بشكل واضح على تحقيقات هذه القضية، فبين توحيد قرار الحبس لكل المقبوض عليهم بغض النظر عن اقتناع وكيل النيابة من عدمه من ارتكاب “المتهم” للفعل المنسوب إليه؛ إلى توحيد التهم الموجهة إلى المتهمين وآلية فحص الحسابات الالكترونية دون أن يكون لوكيل النيابة أي استقلالية في إجراء التحقيق نفسه. ولعل هذه القضية تدلل بشكل واضح أن النيابة العامة تحولت بفعل التعيينات الجديدة والتراتبية الشديدة داخلها إلى جهاز منسجم مع السلطة التنفيذية ومهيّأ لتسخير القوانين خدمة لمصالحها.

  • لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:

Egypt’s Public Prosecution: The Hierarchy of Putting Down Protests


[1] Egyptian protests: Concerned by widespread arrests, Bachelet urges restraint, The UN Human Rights Office of the High Commissioner, GENEVA, 27 September 2019. https://bit.ly/2mGNCKU

[2] فبالعودة إلى العام 2016، ومقارنة تلك التظاهرات مع أضخم موجة احتجاجات واجهها النظام الحالي، تلك التي اندلعت بعد توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية، والتي على إثرها تنازلت الحكومة المصرية عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح المملكة، لم يصل عدد الموقوفين إلى أكثر من 450 شخص، على الرغم من كثافة وتأثير تلك التظاهرات على المشهد السياسي المصري، كونها كانت أكبر موجة احتجاجات شهدتها البلاد منذ تولي الرئيس السيسي منصبه في 2014: راجعقضايا الأرض: قراءة تحليلية في وقائع القبض والاحتجاز والتحقيق والمحاكمة لمتظاهري ابريل 2016، صادر عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. 2016.

[3]  راجع “مبادئ توجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة” اعتمدها مؤتمر الأمم لمتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المعقود في هافانا من 27 آب/أغسطس إلى 7 أيلول/سبتمبر 1990. راجع أيضًا: PRINCIPLES AND GUIDELINES ON THE RIGHT TO A FAIR TRIAL AND LEGAL ASSISTANCE IN AFRICA , African Commission on Human & Peoples’ Rights, ROLE OF PROSECUTORS, P.6.

[4] راجع المواد (44) و (119) من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 قبل أن يتم تعديله.

[7] للمزيد حول أداء النيابة العامة قي قضايا سياسية أخرى، راجع: حسن مسعد، “انحياز النيابة العامة المصرية في القضايا السياسية”، المفكرة القانونية، 29-11-2017.

[8] ننشر حيثيات أول حكم قضائي لإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي – موقع أخبارك. أيضًا: الدعوى رقم 428 لسنة 2017 جنح اقتصادي بنى سويف.

[10]  مادة (24) من القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات.