ذُهل الرأي العام قبل أيام قليلة (10/3/2020) بخبر جديد صدر في الوسائل الإعلاميّة مفاده إيجاد حلّ يضمن حماية المودعين وسلامة القطاع المصرفي على حدّ سواء. للوهلة الأولى، يفترض المودع أنّ المجلس النيابي أقرّ تشريعا عادلا ومتوازنا حول الكابيتال كونترول. ولكن عند التدقيق في الخبر، نفهم أنّ الحلّ المذكور جاء تبعا لاجتماع عُقد في مكتب المدعي العام التمييزي غسان عويدات. وقد حضر الاجتماع عدد من القضاة (أبرزهم النائب العام المالي علي ابراهيم) والمصرفيين (أبرزهم رئيس جمعية المصارف سليم صفير)، فضلا عن محامين وكلاء لمصارف. ويتّضح من المستند المُسرّب إلى الإعلام أن الإجتماع اتّخذ منحًى غير اعتيادي، حيث أنه لم يجرِ في إطار تحقيق قضائي في دعوى معينة، إنما في إطار التباحث حول شروط تنظيم العلاقة بين المصارف وعملائها، في مشهدٍ يصعب تخيّله في أي نظام قضائي. وقد جاءت تسمية الوثيقة بمحضر اجتماع (وليس محضر تحقيق) جدّ معبرة في هذا الخصوص. ورغم أن المحضر المسرب لم يحمل أي توقيع رسمي، إلا أن أيا من المعنيين لم يكذبه رغم سعة انتشاره.
وبالعودة إلى مضمونه، نتبيّن أنه يوثّق استجابة جمعية المصارف لطلب المدّعي العام التمييزي بالإلتزام بنقاط عدة بما يتصل بالمودعين فضلا عن أنه يوثّق اتفاق الطرفين على إجراء اجتماع لاحق مع حاكم مصرف لبنان، لإيجاد آلية في ما يتعلّق بحسابات المودعين بالعملات الصعبة وبالرواتب الشهرية المدفوعة بالعملات الصعبة.
ويجدر التذكير هنا بجملة من المعطيات الضرورية لتفسير خلفيات هذا الاجتماع:
- أن ثمّة جهودا تُبذل منذ أوائل السنة الحالية لتشريع الممارسات غير القانونية التي انتهجتها المصارف في تقييد حقوق المودعين، وذلك بهدف تحصينها بوجه الدعاوى القضائية التي أُقيمت ضدّها على خلفية هذه الممارسات. ومن أبرز هذه الجهود، الكتاب الذي وجهه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بتاريخ 9 كانون الثاني 2020 لوزارة المالية مطالبا إياها باستصدار القرارات اللازمة لتفويضه بتنظيم العلاقة بين المودعين والمصارف. وقد تزامن الإعلان عن محضر الاجتماع لدى النيابة العامة مع تسريب مسودة مشروع قانون كابيتال كونترول ذهب في اتجاه تكريس مقررات مشابهة.
- أن النيابة العامة كانت باشرت التحقيق في عدد من الملفات ضد المصارف، منها الشكوى المتصلة بالتحويلات المالية إلى الخارج والحاصلة بعد 17 تشرين الأول أو بيع اليوروبوند أو أيضا الشكوى التي قدمتها جمعية المستهلك- لبنان والمفكرة القانونية على خلفية ما اعتبرتاه تحوّلا لجمعية المصارف إلى جمعية أشرار سندا للمادة 335 من قانون العقوبات. وكانت النيابة العامة المالية أصدرت في 5 آذار الماضي إشارة بمنع تصرف المصارف وأعضاء مجالس إدارتها بأموالهم، وهي إشارة سارع النائب العام التمييزي إلى تجميدها في اليوم نفسه في إثر لقاء مع جمعية المصارف على خلفية ما اعتبره “تهديدا للمصلحة العامة”، بمعزل عن مدى صوابية قرار تجميد الأموال حسبما جاء في قراره. وفيما أن محضر الاجتماع لم يتطرّق إطلاقا لهذه الإشارة المجمّدة أو الشكوى التي انبنت عليها، فإن البعض لوّح في عدد من وسائل الإعلام أن “الإتفاق” هو المقابل الذي على المصارف الإلتزام به مقابل رفع قرار تجميد أصولها.
وعليه، وفيما يطرح “محضر الاجتماع” أسئلة هامة حول مدى توافقه مع طبيعة الوظيفة المناطة بالنيابة العامة وتحديدا لجهة وظيفتها بوضع أسس التعامل بين المودعين والمصارف، فإنه يطرح أيضا إشكال تعارض العديد من بنوده مع أحكام القانون الملزمة أو حتى مع مبادئ العدالة والمعايير المعتمدة في هذا المجال. فبمعزل عن مدى قانونيته (وهي مسألة بالغة الأهمية بالنظر لما ترسيه من سوابق)، هل هدف الاجتماع حقيقة إلى إجراء توازن عادل ومتناسب بين الهدفين المعلنين منه، وهما حقوق المودعين وسلامة القطاع المصرفي، أم فقط إلى تشريع ممارسات المصارف التعسفية وتغطيتها إزاء الملاحقات التي قد تنشأ ضدها؟ هذا ما سنبحثه على طول هذا المقال.
الأقوياء يُفاوضون ولا يُحاسبون
تتمثل الوظيفة الأساسية للنيابة العامة في تحريك الدعاوى العامة، دفاعا عن الحق العام أي حقوق المجتمع. وبالنظر إلى “محضر الاجتماع”، يتبيّن أنّ النيابة العامة انكفأت عن ممارسة صلاحياتها تلك في مقابل اندفاعها من جهة أخرى لممارسة صلاحيات تنظيمية تخرج تماما عنها. وهذا ما يتبدى بوضوح كلي من اجتماع الأمور الآتية:
أولا، أنّها لم تكن في معرض النظر في أي جرم بعينه، أقله وفق ما جاء في محضر الإجتماع حيث خلا من أي إشارة إلى أي شكوى قائمة أو أي جرم معزو للمصارف، رغم كثرة الشكاوى والملفات المفتوحة لديها وأبرزها الشكوى القائمة على خلفية تحوّل جمعية المصارف إلى “جمعية أشرار” والمشار إليها أعلاه. وقد بدَتْ من خلال ذلك وكأنها ترفض اعتماد المقاربة العقابية مع المصارف وتؤْثر في المقابل اعتماد المقاربة التفاوضية، فلا يفرض على المصارف تطبيق القانون إلا بالحدود التي تقبل بها. ومن النافل القول أن من شأن هذه المقاربة أن تحوّلها من جهاز يهدف لحماية المجتمع والأفراد من الاعتداءات ضدّهم إلى ما يشبه الوسيط الإجتماعي[1]. وبذلك، نشهد وجها آخر من أوجه إفلات أصحاب النفوذ من العقاب.
ثانيا، أنها سعت إلى وضع قواعد تنظيميّة للعلاقة بين المودعين والمصارف. ومن شأن هذا التوجّه أن يشكل مسا بمبدأ فصل السلطات والذي يفترض أن تتولى السلطة السياسية (البرلمان والحكومة) وضع القواعد التنظيمية في مقابل تولّي النيابة العامة والقضاء ضمان تطبيق هذه القواعد. فكيف للسلطة نفسها أن تصدر القواعد التنظيمية وتراقب تطبيقها؟ ويبدو عند التدقيق في محضر هذا الاجتماع والإطار العام الذي جرى فيه، كأنما تطوعت النيابة العامة في أداء الدور التنظيمي الذي ما تزال سائر السلطات السياسية أو الإدارية الأخرى منكفئة عنه وقاصرة عن القيام به لأسباب ليس هنا المكان المناسب لمناقشتها. وما يؤكّد ذلك هو التشابه إلى حدّ التطابق بين البنود السبعة التي وردت في محضر الإجتماع ومسودة رياض سلامة المرسلة إلى وزير المالية السابق في 9 كانون الثاني 2020 أو مشروع القانون الذي تم تسرييه بالتزامن معه. وما يؤكد ذلك أكثر فأكثر هو أن المحضر بدا وكأنه جزء من تنظيم أوسع وأشمل يتم بالتنسيق مع حاكم مصرف لبنان وفق ما نستشفه من الإعلان عن اجتماع لاحق يعقد مع هذا الأخير ويتعلّق بكيفية التصرف بالحسابات بالدولار.
ثالثا، أن قرار النيابة العامة بالتخلي عن المقاربة العقابية وممارسة دورها التنظيمي لم يحصل بقرار منفرد منها، إنما بحضور “المشتكى منها” جمعية المصارف التي طالما شكّلت أداة اللوبي المصرفي، والأهم بغياب جمعية المستهلك (المشتكية) أو أي ممثل عن المودعين لأي جهة كانت. ومن شأن هذا الأمر أن يعكس انحيازا ظاهرا للنيابة العامة للمصارف، وهو انحياز يظهر بوضوح عند النظر في مضمون القرارات التي رشح عنها “الإجتماع”.
القفز فوق القانون
الأمر الثاني الذي نستشفّه من اجتماع النيابة العامة يتصل بمضمونه. فهل خالفت النيابة العامة في سياق تجاوزها لصلاحياتها وفق ما سبق بيانه، أحكام القانون أم أفتت بما يتوافق معه؟
وبالعودة إلى البنود السبعة، أمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
- أن أهمية البنود الواردة في محضر الاجتماع لا تقتصر على ما تنصّ عليه صراحة، بل أيضا على ما نستشفه منها عن طريق قراءتها بطريقة معكوسة a contrario. وهكذا، نستشفّ من التزام جمعية المصارف بتسديد مبلغ شهري للمودع لا يقل عن 25 مليون ليرة لبنانية مثلا تفهّما من النيابة العامة لامتناع أيّ مصرف عن تسديد ما يتجاوز هذا المبلغ. وكذلك الأمر بما يتصل بترك مسألة سحب الدولار الأميركي لاجتماع يعقد لاحقا مع حاكم مصرف لبنان، حيث يستشفّ من ذلك تفهّم النيابة العامة لامتناع أي مصرف عن إعطاء الأشخاص من ذوي الحسابات بالدولار أي مبلغ بهذه العملة، وما إلى ذلك من أمثلة،
- إن المحضر يحدّد عمليا القيود التي يُسمح للمصارف فرضها على المودعين لديها، بما يتعارض مع حقهم بالملكية والحرية التعاقدية فيما بينهم. بالمقابل، لا شيء يمنع المصارف من التصرف بأموالها الخاصة أو بيع العقارات المملوكة منها أو اليوروبوند أو أي سند دين ولا حتى التمييز بين المودعين من خلال السماح لبعضهم بإجراء سحوبات أو حوالات تتجاوز المبالغ المحدّدة في محضر الاجتماع. في ظلّ كل ذلك، يتّضح أن البنود تهدف قبل كل شيء إلى تغطية المصارف وتبرير تنصّلها من معظم التزاماتها تجاه المودعين، من دون أن تتضمن أي تدبير احترازي لمنع المصارف من تهريب أموالها أو من التمييز أو المحاباة لمصلحة أي من هؤلاء. وبذلك، تصبح القيود التي سمح بها محضر الاجتماع على حقوق المودعين غير مبررة بأي مصلحة، سوى المصلحة الخاصة للمصارف،
- إنطلاقا مما تقدّم، يشكل فرض القيود الواردة في محضر الاجتماع على المودعين مخالفة قانونية واضحة، يصعب علاوة على ذلك تبريرها بأي ضرورة أو مصلحة اجتماعية. ومن أبرز المخالفات على هذا الصعيد، عدم ضمان حق المودع بسحب ودائع أكثر من 25 مليون ليرة لبنانية شهريا أو حقه بإجراء حوالات خارجية أو سحب وديعته أو حتى راتبه بالدولار الأميركي. ومن شأن هذا الأمر الأخير أن يُرغم المُودع بالدولار الأميركي على تحويل ودائعه أو جزء منها إلى الليرة اللبنانية بسعر الصرف المحدد من مصرف لبنان وأن يخسر تبعا لذلك حوالي 50% إلى 60% من قيمتها في السوق الحرة للصرف. وقد بدت النيابة العامة التمييزية من هذه الزاوية وكأنها تتواطأ مع المصارف ليس فقط لتبريرها في تقييد حقوق المودعين وتجميدها، بل أيضا لتمكينها من اقتناص حقوق هؤلاء.
التوازن المختلّ
أخيرا، بمعزل عن مخالفة النيابة العامة لصلاحيتها أو لأحكام القانون، فإن التوازن بين حماية المودعين وسلامة القطاع المصرفي والذي أعلن المجتمعون نيتهم بالإلتزام به يبقى مختلا إلى حد كبير، بما يفضح انحياز النيابة العامة الواضح لصالح المصارف. وهذا ما نتبينه من أمور عدة، أبرزها الآتية:
- أن البنود الواردة في محضر الاجتماع بدت تكريسا لواقع فرضته المصارف من تلقاء نفسها، وبإرادتها المنفردة، بحيث يظهر التدقيق فيها أن التحسينات على هذه الممارسات طفيف جدا. بل أن العديد منها يبدو متراجعا عن هذه الممارسات نفسها كعدم تضمينها أي بند يضمن للمودع سحب دولارات ولو بالحد الأدنى المعمول به حاليا في غالبية المصارف. ومن هنا، بدت النيابة العامة وكأنها سلمت بواقع غير متكافئ مفروض عليها من دون بذل أي جهد لإجراء أي توازن.
- أنّ نصّ المحضر إنّما يحدّد مدة الإلتزام بهذه البنود بسنة على الأقلّ ممّا قد يسمح للمصارف بتمديد فترة القيود إلى أجل غير مسمّى وهو ما يتعارض مع الطبيعة الإستثنائية للقيود على الودائع التي يجب أن تكون محدّدة زمنيا لكونها تمسّ بحقوق المودعين خاصة حق الملكية.
- أنّ محضر الاجتماع يوفّر للمصارف الغطاء الذي كانت تبحث عنه كما سبق بيانه، بما يحسّن وضعيتها أمام المحاكم ويقيها كمّاً من الدعاوى التي قد يقدمها ضدها المودعون. فلن تتوانى المصارف عن إثارة هذا المحضر في وجه أي مودع يتجرأ على مداعاة أي منها أمام النيابات العامة، على خلفية إساءة الأمانة أو أي جرم آخر، وذلك بفعل الصلاحية الواسعة المعطاة للنائب العام التمييزي بفرض توجهاته على مجمل النيابات العامة. الأمر نفسه يرجّح حصوله أمام القضاء المستعجل، حيث ينتظر أن يستخدم المحضر على علّاته كحجة لإضعاف الطابع البديهي لحق المودع، والذي يبقى شرطا لقبول هذه الدعاوى. بالمقابل، يصعب استخدام هذا المحضر لضمان أيّ من حقوق المودعين تجاه المصارف، حيث أنه لا يشكل لا قرارا قضائيا ولا سند دين ولا تعاقدا لمصلحة الغير، إنما مجرّد التزام لجمعية المصارف (التي لا تتعاقد مع المودعين مباشرة وليس لها سلطة هرمية على المصارف) من جانب واحد، ورد في سياق اجتماع قادته النيابة العامة خارج صلاحياتها، وغلب عليه الطابع الودّي ورفعت عنه الكلفة.
- أن المصارف بدت وكأنها تستفيد من تعليق موجباتها تجاه المودعين بالنظر إلى أوضاعها المالية (وهي عادة من مزايا التوقف عن الدفع)، من دون أن تتحمّل بالمقابل أيا من نتائج التوقف عن الدفع، بفعل خلوّ المحضر من أي إجراءات احترازية على أموالها. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للإنتقاد هو تنظيم هذا المحضر بعد أيام من تجميد الإجراء الاحترازي ضد المصارف بهذا المعنى. فكأنما النيابة العامة انتقلت خلال أيام من موقع التشدد إزاء المصارف والتوجس منها، إلى موقع التماهي معها إلى حد التواطؤ، كل ذلك من دون أي تعليل ومن دون إيلاء مواقف المودعين أي اهتمام في هذا الخصوص.