“
أجرى حزب النهضة في السنوات الأخيرة، تغييرات جدّية في مواقفه السياسية والأيديولوجية، لا سيّما في ما يتعلّق بحقوق النساء والحريات الشخصية. بغض النظر عن الأسباب الكامنة وراء تلك التغييرات وعلى الرغم من حقيقة أن هذه التغييرات “العصرية” لا تزال تواجه معارضة داخل الحزب من أعضائه رجالا ونساء على السواء، إلاّ أنها تلقى إشادة من أعضاء وعضوات آخرين ينوون السير بها أبعد من ذلك.
سوف تتناول هذه الورقة في جزئها الأول النهضاويات[1]، بشكل خاص اللواتي شاركن في صياغة وتبنّي دستور 2014 خلال ولاية المجلس الوطني التأسيسي الذي انتخب عام 2011. أما الجزء الثاني فسيعتمد على بعض الإجابات التي جُمعت خلال مقابلات شبه موجّهة أجرتها كاتبة المقال مع عدد من النهضاويات اللواتي يشغلن مواقع أساسية في المكتب السياسي للحزب. وقد اعتبرت الكاتبة هذه الإجابات بمثابة إضاءة على تطوّر النشاط الحقوقي للنساء الإسلاميات، السياسيات خصوصاً، بعد الثورات في العالم العربي والذي يشكل نواة قاعدة لبناء تعاون سياسي واجتماعي وحوار بشأن أجندة حقوق الإنسان بين ناشطين مدنيين ونظرائهم من أصحاب الفكر الإسلامي. يشار إلى أن مواقف بعض النهضاويين الرجال من حقوق الإنسان والحريات تشكّل إضاءة لا يمكن أن تمرّ من دون اعتراف، إلاّ أنها لن تكون في نطاق هذه الورقة.
لمحة تاريخية
في عشرينيات القرن الماضي، صاغ منظّر الجماعة حسن البنّا فكر الإخوان المسلمين في البداية على أسس تعتمد نظرة سلبية إلى وصول النساء إلى الميدان العام وإلى مشاركتهنّ في السياسية. نقرأ في رسائل البنّا إحدى توصياته بأن “علّموا المرأة ما هي بحاجة إليه بحكم مهمتها ووظيفتها التي خلقها الله لها: تدبير المنزل ورعاية الأطفال”[2]. يفسّر تأثير أفكار البنّا بهيمنته على خطاب الحركات الإسلامية[3] التى تعتبر أن مكان المرأة المناسب هو ضمن الإطار المنزلي كأم وزوجة، وينفي بشكل كبير أي وجود نشيط للمرأة في الميدان العام بما في ذلك مواقع صنع القرار السياسي.
غير أنّ تشكّل الأحزاب الإسلامية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين في العديد من الدول المسلمة[4] قاد إلى تحوّل في السياسات لما فيه تعبئة وتسييس النساء من خلال تجنيدهنّ كمناصرات مجردات من أي قوة أو سلطة داخل الحزب. إلّأ أنّه رغم خطاب هذه الأحزاب القائم على التمييز الجندري والحد من دور المرأة بالأنشطة الشعبية الاجتماعية والدينية، استطاعت تلك النساء القيام بأدوار نافذة بشكل متزايد وبمستويات مختلفة من الظهور والتأثير، لا سيما لدى تعرّض هذه الحركات للقمع من قبل الدولة.
رصد الباحثون العديد من التغييرات الأيديولوجية في بعض تلك الأحزاب السياسية الإسلامية في العقود الماضية، لا سيما لجهة المقاربة الجندرية. ووصف آصف بيات المرحلة الجديدة التي بدأت في إيران في نهاية ثمانينيات القرن الماضي بـ “ما بعد الإسلاموية” حيث بدأت المزاوجة بين الإسلام والقيم الديمقراطية وأوجه الحداثة. واعتبر “بيات” النساء لاعبات أساسيات في هذا التحوّل[5]. أما منى الغباشي[6] فكتبت في كتابها بعنوان “تحوّل الإخوان المسلمين المصريين” عن تطوّر الحركة من “منظمة عالية السرّية والرتاتبية ومناهضة للديمقراطية بقيادة مجموعة من القدماء” إلى حركة اعترفت في بداية القرن الواحد والعشرين بإمكانية وصول المرأة إلى المكتب السياسي ورشحت أول امرأة من الحركة للانتخابات هي جيهان الحلفاوي.
مثال آخر هو هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات التي أطلقتها المعارضة السياسية في تونس عام 2005 خلال حكم بن علي وكانت حركة النهضة التونسية الإسلامية أحد أبرز أعضائها. أصدرت هذه الهيئة في سنوات لاحقة ميثاقا أكّدت فيه على التزام جميع أعضائها بالعلمانية والدولة المدنية وقانون الأحوال الشخصية[7]، الذي يضم نصوصا تعتبر إشكالية في الفقه الإسلامي على غرار تحريم تعدد الزوجات. كما نص الميثاق على إلتزام الأعضاء بكافة حقوق المرأة والمساواة بين النساء والرجال. حاز الإعلان على موافقة النهضة وتأييدها الكامل آنذاك.
أتاحت هذه التحوّلات للنساء اللواتي دخلن الساحة السياسية كناخبات أو كمندوبات للحركة في الانتخابات، أن يشققن طريقهن إلى مواقع صنع القرار دعماً لهذه الحركات.
في الفترة التي تلت الانتفاضات العربية[8]، أصبح حزب حركة النهضة التونسي ظاهرة، كونه الحزب الإسلامي الوحيد في العالم العربي الذي حكم في فترة ما بعد الانتفاضات، لا سيما بعد إخفاق الإخوان المسلمين في مصر، وأظهر استعداداً لم يظهره أي من الأحزاب الإسلامية الأخرى لتحديث خطابه ليصبح جامعاً وأقل دغماتية، لا سيما لجهة المقاربة الجندرية والمشاركة السياسية للمرأة.
تسعى هذه الورقة إلى النظر في التأثير المتنامي للنهضاويات بعد الثورة والذي ذهب أبعد من مجرد الدعوة إلى المشاركة السياسية ليؤثر فعليا على سياسات الحزب ويدفعه نحو تبني مقاربة جندرية وتقويم سلوكه السياسي ليصبح أكثر إيجابية تجاه حقوق المرأة. كما وستحقق الورقة في الخطاب الناشئ لبعض النهضاويات والذي يمكنه أن يتقاطع مع ما يعرف ب “النسوية الإسلامية”[9].
النهضاويات: لاعبات سياسيات حقيقيات أم مجرّد استعراض؟[10]
تعتبر النظرة السائدة عن نساء الأحزاب الإسلامية والدراسات حولهنّ أنهنّ يعملن بموافقة القيادة الإسلامية المؤلفة من رجال ومن داخل السياق التقليدي الأبوي. إلا أنّ تلوين جميع نساء الأحزاب الإسلامية باللون ذاته لم يعد صالحاً. كما أن إرجاع الفضل للقيادة التي تضمّ رجالاً فقط، في تحديث خطاب هذه الحركات، يحجّم من جهود النساء وتأثيرهنّ في دفع هذه التحوّلات قدماً. دور النهضاويات في المجلس الوطني التأسيسيّ يشكّل مثالاً ملفتاً على ذلك.
كان من أبرز أسباب العودة الناجحة لحزب النهضة بعد الثورة التونسية في أواخر عام 2010 هو تنظيمه المحكم والذي تشكّل النساء جزءاً لصيقاً منه. فهنّ لم يكنّ فقط نساء الإسلاميين أو أخواتهم بل أيضاً نساء الطبقة الوسطى المتعلمات اللواتي انتمين إلى الاتّجاه الإسلامي في تونس (النهضة لاحقاً) في سبعينيات القرن الماضي أو كنّ عضوات في الاتحاد العام التونسي للطلبة الذي كانت لديه صلات وثيقة مع النهضة، حين كنّ طالبات جامعيات. إذاً حين حان وقت تطبيق كوتا التكافؤ بين الجنسين في وقت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في تونس، كان سهلاً على النهضة تجنيد نساء مؤهلات من داخل هيكلها. وبذلك إستطاعت النهضة حصد 42 من أصل 67 من النساء في المجلس التأسيسي الذي يضم 217 عضواً، على الرغم من انتخاب مرشحات أخريات من طيف أيديولوجي مختلف.
وهنا لا يجدر أن تمرّ قيادة النهضاويات للجهود المبذولة في وضع اللمسات الأخيرة على الدستور الذي يعتبر الأكثر تقدمية بين الدول العربية، من دون انتباه.
استرعى انتباهي في ذلك الدستور مادتان أسهمتا في تحقيق ضمانة للمساواة بين الجنسين من دون استثناء. ففي المادة 21 نقرأ: “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامّة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم”. وإذا حققنا في تركيبة الأصوات المؤيدة لهذه المادة يتبيّن لنا أنه من أصل 159 صوتاً 77 كانت من النهضة. كما أنّ تصويت النهضاويات كان ملفتاً، حيث شكّل 31 صوتاً من أصل 77 من أصوات النهضة و31 صوتاً من أصل ـ54 صوتاً للنساء العضوات في المجلس التأسيسي. كما أنّ أياً من النهضاويات لم تصوّت ضد المادة أو امتنعت عن التصويت[11].
للمادة 46 أيضاً أهمية كبرى: فهي تنصّ على أن الدولة هي الحامية لحقوق المرأة وداعمتها إذ هي تنص على ما يأتي: “تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها. تضمن الدولة تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمّل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات. تسعى الدولة إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة. تتخذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة”.
أما بخصوص الأصوات المؤيدة للمادة 46، يسجل أن 46 من أصل 116 منها كانت لأعضاء من حركة النهضة، 28 منهم تعود للنهضاويات. كما كانت أصوات النهضاويات 28 من أصل 49 من مجموع أصوات عضوات المجلس التأسيسي حول هذه المادة. ومن الملاحظ أنّ أصوات النهضة كانت حاسمة في تمرير هذه المادة. فبالنظر إلى نظام التصويت بالأغلبية التى كانت معتمدة بالتصويت على فصول الدستور في المجلس الوطني التأسيسي، شكلت أصوات النهضاويات 25.45% من الأصوات الـ 110 المطلوبة.
باختصار، كانت مشاركة النهضاويات في تبنّي دستور جديد داعم لحقوق المرأة عام 2014، ملفتة. قد يعتبر بعض الباحثين أن هذه المشاركة جاءت على أساس البراغماتية والمناورة السياسية وليس على أساس إرادة واعية من النساء. فمثلاً، أشارت مونيكا ماركس إلى أن “انتصار النهضة لا يمكن اعتباره أنه يفتح الباب للنساء، بل بدلاً من ذلك يمكنه أن يشنّ حرباً على الطراز الإيراني ضد حقوق النساء ويعيد النساء النسويات في النهاية إلى مطابخهنّ[12]“. ولكن تحليل العمل السياسي والخطاب الذي إعتمدته النهضاويات بعد تبنّي الدستور يظهر العكس. فمثلاً، بعد الانتخابات البرلمانية التونسية عام 2014، انخفض عدد النهضاويات ليصبح 27 من أصل 78 امرأة في المجلس النيابي، إلا أن تأثيرهن لم يتوقّف عن التنامي. ففي 26 يوليو 2017، مرر البرلمان التونسي قانوناً ملفتاً يحمي النساء والفتيات من جميع أشكال العنف. بدأ التزام النهضاويات بتعزيز ضمانات حقوق النساء يترجم قانونياً عبر مشاركتهنّ الكبيرة في صياغة القانون وتبنّيه. فبالنّظر إلى النقاشات البرلمانية حول مواد هذا القانون، نلاحظ أن بعض مداخلات النهضاويات كانت قيّمة. فعلى سبيل المثال، في المداولات البرلمانية في 21 يوليو 2017، قالت يمينة الزغلامي إن “الاغتصاب جريمة حتى وإن ارتكبت بين الأزواج”. وشددت منية إبراهيم أيضاً على أهمية حماية النساء من العنف السياسي، معتبرة أنّ “القوانين تفرض التناصف في حين أن الواقع لا يكرّسه، ألا يعدّ ذلك عنفاً؟”[13].
النسوية الإسلامية والنهضاويات: خطاب ناشئ؟
تخضع “النهضة” لعملية تحوّل أيديولوجي[14]. لذلك فإن التنوّع في المواقف ما زال هو السائد في الحركة فيما يتعلق بالحقوق والحريات. وعلى الرغم من مساهمتهنّ القيّمة في إرساء ضمانات دستورية وقانونية لحقوق النساء، ما زلنا نجد أيضاً بعض النهضاويات اللواتي يتبنّين مقاربة أبوية للحقوق والحريات. كما يمكن أن نجد أن بعضهنّ ينكرن أن مشاركتهنّ في تبنّي دستور منصف للنساء تعني أنّهنّ يتبنّين أي شكل من أشكال الأجندة النسوية على النمط الغربي. ولكن بناء على المقابلات التي أجريتها مع سبع نهضاويات، توصّل بحثي إلى أن بعض النهضاويات ما زلن أقلّية داخل الحركة يعتمدن خطاباً نسوياً إسلامياً. نذكر هنا أن تلك المقابلات جرت في سياق المبادرة الرئاسية التي تهدف إلى تحويل قانون الميراث الإسلامي إلى قانون مدني يضمن المساواة التامة بين الرجال والنساء. وبما أن النساء اللواتي أجريت المقابلات معهنّ برلمانيات لديهنّ مكانة وشرعية واحترام داخل “النهضة”، وبالتالي يشعرن بالتمكّن والثقة بالنفس، فإن مواقفهن تحتاج إلى انتباه دقيق.
حرية الاختيار مقابل قرار مجلس الشورى في النهضة
في 26 أوت 2018، أعلن مجلس الشورى حركة النهضة معارضته التامة لمبدأ المساواة في الميراث واعتبر أنّ “مبادرة المساواة في الإرث فضلا عن تعارضها مع قطعيات الدين ونصوص الدستور ومجلة الأحوال الشخصية فهي تثير جملة من المخاوف على استقرار الأسرة التونسية ونمط المجتمع”.[15] لهذا السبب، كان سؤالي الأول في المقابلات التى أجريتها هو “إلى أي مدى توافقين شخصياً على بيان مجلس الشورى؟”. لم تكن الإجابات التي حصلت عليها أقل مباشرة من السؤال. حيث تجيب سناء مرسني[16]: “نحتاج إلى الاعتراف بأن المساواة بين جميع المواطنين، رجالاً ونساءً، هو حق دستوري تبنّته جميع الأحزاب على أساس واعٍ. ومعارضة المساواة ستتم تسويتها في المحكمة الدستورية. الإسلام الذي أؤمن به يقوم على مفاهيم الحرية والمساواة ويؤكّد على التنوّع داخل المجتمع”. وتضيف: “بصراحة، لا يوجد اتفاق بين أعضاء النهضة بخصوص المساواة في الميراث والحريات الشخصية. إلا أنّي، أعتقد أن الحركة تشهد ارتفاع بعض الأصوات ‘النسوية'” التى تقبل المساواة الكاملة”. بدورها لا توافق جميلة كسيكسي[17] على اللغة الحازمة التي يستخدمها مجلس الشورى وتقول كعضو في مجلس شورى النهضة “عبرت عن قلقي تجاه بيان الشورى خلال الاجتماع إلا أن صوتي لم يسمع لأن القرار اتخذ على أساس الغالبية”. وتتابع كسيكسي “في تونس، لدينا مواطنون لا يؤمنون بالإسلام. وبما أن النهضة تؤمن بحرية الخيار والمعتقد، كضمانة دستورية، لا يمكننا إجبار جميع التونسيين على أن يلتزموا فقط بقانون الميراث الإسلامي”. وعلى غرار مرسني وكسيكسي تعتبر سعاد عبد الرحيم[18] أن “الخيار التشريعي هو ضمانة فعالة لرفع سقف الحريات أثناء تنفيذ أحكام الدستور […] صدّق أعضاء المجلس التأسيسي صراحة على حرية المعتقد والضمير والمساواة في دستور 2014″.[19]
في مقابلة سابقة مع يمينة الزغلامي[20] أبدت قناعة راسخة في تفوّق الدستور والمعاهدات الدولية التي وقعتها الدولة التونسية على أي مصدر آخر للتشريع. وتعتبر الزغلامي أن “اللوائح السياسية التي صدرت عن المؤتمر العاشر للنهضة عام 2016 تنص على أن النهضة هي حزب مدني يلتزم بدستور وقوانين الدولة. وبذلك، نشدد على ضرورة مراجعة القوانين عملاً بالدستور والمعاهدات الدولية”.[21]
لا بد من الإشارة هنا إلى أن المجلس التنفيذي لحركة النهضة وهي المؤسسة المسؤولة عن تنفيذ قرارات مجلس الشورى من الناحية العملية، امتنع عن ذكر سواء قرار مجلس الشورى أو مسألة المساواة في الميراث في بيانه الصادر في السادس من سبتمبر 2018. ويشير ذلك إلى اختلاف في وجهات النظر بين أعضاء النهضة حول موقف الحزب من المساواة في الميراث.
المساواة في الميراث: دعوة إلى اجتهادات جديدة؟
أثارت مسألة المساواة في الميراث الكثير من الجدل في تونس. وذهب كثيرون إلى درجة الدعوة إلى الحاجة إلى إجراء تفسيرات جديدة للآيات القرآنية ومراجعة الفقه التقليدي لضمان حقوق المرأة والمساواة بينها وبين الرجل. وهنا سألت “إلى أي مدى تعتقدين أنه يجب تحقيق النهوض بحقوق المرأة من خلال الترويج لتفسير جديد للقرآن والفقه؟”. فأجابت كسيكسي “أنا لا أؤيد نظام الفقه التقليدي وأفضّل عدم الالتزام به. ونحن في أمسّ الحاجة إلى مراجعة هذا النظام لا سيما في المسائل المرتبطة بالنساء”. وأضافت: “الآيات القرآنية قد تكون حازمة ولكن التفسيرات ليست كذلك. وفي تقاليدنا الأبوية، لا تشعر النساء بأنّ عليهنّ المطالبة بحقوقهنّ والعمل للحصول عليها. إلا أنّي اليوم أؤكد بأن هناك “نهضة” داخل حركة النهضة وهي حتما على يد النساء”. وجاءت إجابة مرسني مشابهة فقالت إنّ “العقلية الأبوية ليست فقط في مجتمعاتنا المسلمة والعربية، بل في العالم أجمع. وهي ليست مرتبطة فقط بالإسلام أو أي ديانة أخرى بل بالتفسير الأبوي لهذه الديانات. الحريات لا تجزّأ. فإما نقبل كحزب ما تنص عليه الاتفاقيات والمعاهدات التي صدّقت عليها تونس والدستور الذي تبنّيناه أو من الأفضل لنا إنكار التزامنا بالحريات والحقوق”. وشددت الزغلامي[22] أيضاً في المقابلة على أهمية مراجعة جميع القوانين لتكون متوافقة مع الدستور ومعاهدات حقوق الإنسان الدولية. وقالت “أؤمن بشدة في الحاجة إلى اجتهادات”[23] . وجاء موقف حياة العمري[24] مشابهاً حيث أشارت إلى أن “الاجتهادات إلزامية لضمان المساواة والحقوق لجميع النساء”.
هنا يجب الإشارة إلى أنه بالرغم من أن هذه التصريحات تبين عن وعي هؤلاء النسوة بأهمية التجديد الفقهي والمضي قدما بالمساواة إلا أنه يجب الأخذ بعين الإعتبار أنهن مجرد نائبات داخل حزب سياسي يعمل على أساس سياسي برغماتي وأولويته حماية قاعدته الشعبية في تونس والتي، بتحليل الخطاب الشعبي، يعارض قسم كبير منها فكرة المساواة في الإرث.
الحجاب وهوية النهضاويات المتحوّلة
“لا أمانع وصف نفسي بالنسوية”، بهذه العبارة ختمت مرسني المقابلة التي أجريتها معها في البرلمان التونسي في منطقة باردو قرب العاصمة التونسية.[25] ومع دخولي رواق البرلمان التونسي، كان لأمر واعد رؤية هذا العدد الهائل من النساء في المجلس المنتميات إلى أحزاب مختلفة. ولكن الأمر الملفت هو أنّ عددا كبيرا من هؤلاء النساء محجّبات. إلا أنّه ليس بالضرورة أن تكون النساء المحجبات ينتمين فقط إلى حركة النهضة. فبالنسبة إلى النهضاويات، حتى أهمية الحجاب الذي كان جزءاً حيوياً من هوية النساء الإسلاميات، تخضع للتحوّل. فحياة العمري وسعاد عبد الرحيم وأروى بن عباس من بين أسماء أخرى من النساء غير المحجبات اللواتي يقمن بدور أساسي داخل المكتب السياسي للحزب أو داخل البرلمان كونهن نائبات عن كتلة حركة النهضة، هذا من دون ذكر العدد الأكبر من النساء غير المحجبات في القاعدة الشعبية للنهضة.
“النساء المسلمات لسن فقط من يرتدين الحجاب”[26]، “سواء محجبة أم لا، ما يجعل المرأة شخصاً مؤهلاً هو قدراتها ومؤهلاتها”،[27] “نحتاج إلى تغيير النظرة إلى الأحزاب الإسلامية على أنها قمعية ومعارضة لحقوق الإنسان، وأن تكوني امرأة غير محجبة ضمن الحزب قد يكسر هذه النظرة النمطية”[28]. هذه بعض الإجابات التي حصلتُ عليها عندما سألت نهضاويات (محجبات وغير محجبات) عن موقفهن من الحجاب. “كامرأة مؤمنة محجبة، إن التزامي بالإسلام وواجبي الروحي هو ما يحرّكني لتحقيق العدالة وإنفاذ الحقوق والحريات للجميع من دون إقصاء على أساس الجنس والعرق والدين”[29] ، كان ذلك تصريحاً مثيراً جداً لمحرزية العبيدي[30] خلال مقابلتي معها.
أقلية بتأثير كبير ..
تعرّف مارغو بدران[31] النسوية الإسلامية بأنها أيديولوجيا تنص على أن التفسير الكلاسيكي للقرآن يقوم على تجارب الرجال وعلى مسائل تتمحور حولهم والتأثير العام للمجتمعات الأبوية التي يعيشون فيها. لهذا السبب عادة ما تؤمن النسويات المسلمات في الإسلام العادل والمنصف الذي يمكن بلوغه عن طريق تفسيرات جديدة للقرآن والفقه من أجل منح النساء حقوقهن وتحقيق المساواة الجندرية. وتهدف النسوية الإسلامية إلى إرساء ممارسات جديدة داخل الأسر والمجتمعات عبر إصلاح قوانين الأسرة المسلمة. وهذه الأيديولوجيا تقوم أيضاً على الحرية الدينية مع منح الأولوية لحرية الاختيار والضمير. ومن الواضح أن هذا التعريف يتقاطع مع مواقف النهضاويات في هذه المقالة. وعلى الرغم من أنّه لا يزال من غير الممكن التنبؤ بمدى قدرة هؤلاء النهضاويات على تبنّي أفكارهن وتطويرها، فلا شك أن مشاركتهن تلعب دوراً مهماً في تحديد نموذج جديد للنشاط السياسي أو حتى نوع من النسوية داخل حزب النهضة.
اجتماعياً، يرتدي هذا الخطاب الناشئ أهمية حيوية كذلك. فتاريخياً، نجحت الحركات الإسلامية في تقديم نفسها كأصوات أتقياء الطبقة الوسطى والدنيا في المجتمعات العربية/المسلمة وكمدافعة عن هويتهم الإسلامية. لهذا السبب، لاقت أيديولوجيتها المعادية للغرب آذاناً صاغية على نطاق واسع. وتذكر بدران أن “ترويج الإسلاميين الحثيث لفكرة أن العلماني غريب وأجنبي وغير أصلي، وبالتالي غير أصيل، وأن الديني محلي وأصلي وأصيل، هو مقاربة تقسيمية متعمّدة وتترتّب عليها تداعيات سلبية للحركات النسوية”. لذلك مع التطوّر الأيديولوجي الإيجابي الذي تشهده هذه الحركة حاليا بتبني حقوق الإنسان وسلوك مؤيد لمدنية الدولة وحقوق المرأة والمساواة وبتلقيه إستجابة وترحيب على الصعيد الاجتماعي يمكنه إستبدال الخطاب الشعبي القديم الإسلامي المعادي لهذه الحقوق بآخر يؤيد هذه الحقوق ويدعمها. وما يجعل التركيز على النهضاويات مهماً بشكل خاص هو أن “ناشطات النهضة يقدمن نموذجاً من النسوية الإسلامية من الأسهل على العديد من النساء التونسيات الريفيات والمحافظات اجتماعياً الوصول إليه من النموذج الذي تعتمده الأحزاب العلمانية”[32]، لأن النهضاويات قادرات على الوصول إلى النساء اللواتي تفشل الروابط النسائية العلمانية والمدعومة من الغرب والمنظمات غير الحكومية في الوصول إليهن. ولذلك يمكن لهذا الخطاب الناشئ للنهضاويات أن يكون مكسباً كبيراً للحصول على الدعم الشعبي المطلوب لتمرير أجندة تقدمية للمرأة في تونس وفي العالم العربي تاليا.
- نشر هذا المقال في العدد | 13 | ديسمبر 2018، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
العمران في تونس: أسئلة منسية في زمن البناء الفوضوي
- للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك/ي الضغط هنا
[1] سوف تستخدم هذه المقالة مصطلح النهضاويات للإشارة إلى النساء في حركة النهضة.
[2] حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، بيروت، دار الحضارة الإسلامية، 1999، ص. 371.
[3]تجدر الإشارة هنا إلى أن الحركات/الأحزاب الإسلامية متنوعة أيديولوجياً. وأركز في هذه المقالة في الغالب على الحركات/الأحزاب التي بدأت كجزء من جماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من أن العديد من هذه الحركات نأت بنفسها عن هذه المنظمة الدينية في سنوات لاحقة.
[4] نتحدث هنا عن الدول المسلمة بينها تونس وتركيا وإيران واليمن والأردن وغيرها.
[5] آصف بيات (1996) “قدوم المجتمع ما بعد الإسلاموي” The coming of a post‐Islamist Society، Critique: Critical Middle Eastern Studies، 5:9،43-52.
[6] منى الغباشي (2005) تحوّل الإخوان المسلمين المصريين the Metamorphosis of the Egyptian Muslim Brother، المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط International Journal of Middle East Studies، قسم النشر في جامعة كامبردج، المجلد 37، رقم 3، من صفحة 373 حتى صفحة 395.
[7] قانون (مجلة) الأحوال الشخصية التونسي هو الأكثر تقدمية بين جميع الدول العربية.
[8] الانتفاضات العربية هي الاحتجاجات الديمقراطية التي دعت إلى الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية. وبدأت الانتفاضة الأولى في تونس في أواخر عام 2010 وانتشرت في جميع أنحاء العالم العربي، بما في ذلك مصر وسوريا واليمن ودول أخرى.
[9] سوف نتناول تعريف النسوية الإسلامية في الفقرة الأخيرة. تعريف مارغو بدران.
[11] يلحظ أن موقف النهضويات قد تطور في هذا الخصوص بفعل الحراك الحقوقي والنسوي. ففي البداية، تمسكت النهضة ومن ضمنها النهضاويات بفكرة التكامل بين الرجال والنساء كبديل عن فكرة المساواة بين الجنسين. يراجع، جدل في تونس: المرأة مساوية للرجل أم مكملة له؟ الثلاثاء 14 أوت 2012.
[12] آيدا باري، “المشاركة السياسية للمرأة في الإخوان المسلمين بين مطرقة الغموض وسندان الإدماج – الاعتدال: الحالة المصرية والتونسية” Women’s Political Participation in Muslim Brotherhood between the Hammer of Ambiguity and the Anvil of Inclusion-Moderation: The Case of Egypt and Tunisia ، رسالة ماجستير، الجامعة النرويجية لعلوم الحياة، كلية العلوم الاجتماعية، قسم دراسات الشؤون الدولية والبيئية والتنموية، 2015 ، ص 15.
[14] ياسمين هاجر، : الإسلام الديمقراطي: عن أية ديمقراطية نتحدث؟. المفكرة القانونية ـ تونس. العدد 11. 29-5-2018.
[16] سناء مرسني، عضو في النهضة ونائبة في البرلمان.
[17] نائبة حالية عن حركة “النهضة” وعضو في مجلس الشورى لحركة النهضة.
[18] أولى امرأة تعيّن في رئاسة بلدية العاصمة تونس وعضو في المكتب السياسي لحركة النهضة.
[19] لقاء مع رئيسة بلدية تونس سعاد عبد الرحيم: أؤيد رفع سقف الحريات في تونس وانتخابي شاهد على نجاح المسار الانتقالي. المفكرة القانونية.
[20] نائبة وقيادية في حركة النهضة وعضو في المكتب السياسي.
[21] ياسمين هاجر، النائبة التونسية يمينة الزغلامي: الدعوة للاجتهاد حفاظاً على المجتمع. المفكرة القانونية ـ تونس. العدد 10. 14/3/2018.
[22] نائبة بارزة وعضو في المكتب السياسي للنهضة.
[23] ياسمين هاجر، النائبة التونسية يمينة الزغلامي: الدعوة للاجتهاد حفاظاً على المجتمع. المفكرة القانونية ـ تونس. العدد 10. 14/3/2018.
[24] نائبة عن حزب النهضة.
[25] مدينة جنوب العاصمة التونسية.
[26] حياة العمري، نائبة برلمانية.
[27] سناء مرسني، عضو في النهضة ونائبة في البرلمان.
[28] جميلة كسيكيس، عضو في مجلس شورى النهضة ونائبة في البرلمان.
[29] ياسمين هاجر، الإسلام الديمقراطي وفقاً للنهضة: التقييم الأول. المفكرة القانونية ـ تونس. العدد 11. 29-5-2018.
[30] هي رئيسة الشبكة الدولية: “نساء مؤمنات من أجل السلام” ومستشارة لدى مؤسسات تابعة للأمم المتحدة في شؤون المرأة والتنمية والسلام. أصبحت أول امرأة تتبوأ منصب نائبة رئيس المجلس التأسيسي في تونس. وهي شخصية بارزة في النهصة تخدم في مكاتبها السياسية وهي نائبة برلمانية.
[31] مارغو بدران (2009) النسوية في الإسلام: التقارب العلماني والديني Feminism in Islam: Secular and Religious Convergences، الفصل العاشر، منشورات ون وورلد OneWorld Publications أكسفورد.