في حلقة جديدة من سلسلة المبادئ القانونية المثيرة للجدل التي دأبت محكمة النقض على إقرارها مؤخرًا[1]؛ أقرّت الدائرة العمالية بالمحكمة مبدأ قضائيا جديدا قررت فيه اعتبار جريمة التجمهر كإحدى الجرائم المُخلة بالشرف[2]؛ في أحد الطعون المنظورة أمامها والمتعلق بتعويض أحد العاملين بشركة الإسكندرية للبترول عن فصله من العمل[3]. فوفقًا لوقائع هذا الطعن، أنهت الشركة خدمة هذا الموظف بعد إدانته بجريمتي التجمهر واستعراض القوة في إحدى القضايا عام 2014، على اعتبار أن تلك الجرائم تُعدّ خيانة للوطن، وخروجًا عن المسلك اللائق للحفاظ على كرامة العمل، وهي بذلك تعدّ من الجرائم المخلّة بالشرف التي تتيح للشركة إنهاء خدمة العامل حال إدانته بها[4]. وهو الأمر الذي دفع الموظف المُشار إليه إلى إقامة دعوى عمالية يطالب فيها بالتعويض عن فصله من العمل، وذلك بعد أن تمت تبرئته لاحقاً من كافة التهم المنسوبة إليه. ولكن، وعلى الرغم من حصوله على البراءة، قضت المحكمة العمالية برفض دعوى التعويض؛ بحجة أن صحة قرار الفصل من عدمه يرجع إلى وقت صدوره. إلا أن محكمة الاستئناف كان لها رأي آخر، وقضت بإلزام الشركة بتعويض الموظف عما اعتبرته المحكمة فصلًا تعسفيًا. وعليه، قامت الشركة بالطعن على هذا الحكم أمام محكمة النقض، التي أيدت في حكمها المسلك الذي اتخذته الشركة باعتبار التجمهر كإحدى الجرائم المخلة بالشرف، التي يجوز فصل العامل حال إدانته بها، مع عدم أحقيته في الحصول على أي تعويض.
حقيقة، يثير الحكم الصادر من محكمة النقض العديد من النقاط والإشكاليات القانونية. ولكن من جانبنا، سوف يركز هذا المقال على ماهية الجريمة المخلة بالشرف، وعدم ملاءمة إصباغ جريمة التجمهر بهذا الوصف. فضلًا عن تسليط الضوء على إشكالية تضارب المبادئ القضائية الصادرة من دوائر النقض المختلفة، والتي ظهرت بوضوح بعد صدور الحكم واعتماد ما انتهت إليه المحكمة باعتبار التجمهر جريمة مخلة بالشرف كمبدأ قضائي، على الرغم من وجود حكم آخر صادر من محكمة النقض في 2017 يتعارض مع هذا المبدأ جملة وتفصيًلا.
لماذا لا يُعتبر التجمهر جريمة مخلّة بالشرف؟
استند قرار إنهاء خدمة الموظف المُشار إليه في الحكم الصادر من محكمة النقض، إلى اللائحة الداخلية للشركة والتي تنظم شؤون العاملين وطرق مساءلتهم تأديبيًا، وتحديدًا فيما تضمنته من جواز إنهاء خدمة العامل إذا ما حُكم عليه بعقوبة مقيدة للحرية في جريمة مخلة بالشرف والأمانة[5]. لذلك يعتبر الفصل فيما إذا كان التجمهر هو إحدى الجرائم المخلة بالشرف أم لا هو السؤال الرئيسي الذي واجهته المحكمة، لتقرير مدى مشروعية قرار الفصل من عدمه، على الأقل من الناحية الشكلية أو الإجرائية. لذلك، يجدر التطرّق إلى ماهية الجريمة المخلة بالشرف، وتعريف جنحة التجمهر[6]، لبيان كيف جانب المحكمة الصواب في اتجاهها الذي أوضحناه أعلاه.
في الوقت الذي خلت فيه كافة القوانين المصرية من أي تعريف للجريمة المخلة بالشرف، تشكلت بعض ملامح تلك الجرائم من خلال عدد هائل من الأحكام القضائية المختلفة الصادرة من محكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا على مدار عدة عقود[7]. فعلى سبيل المثال، تواترت الأحكام الجنائية والإدارية على أنه لا يمكن تسمية “جريمة” أو “فعل” بعينه واعتباره مخلا بالشرف، بل أن نوع هذا الفعل والظروف المصاحبة لارتكابه هي العامل الفاصل في هذا الشأن. وهو الأمر الذي أيدته محكمة النقض في أحد أحكامها حينما قررت أن “تكييف الجريمة وإصباغ صفة الإخلال بالشرف عليها من عدمه سلطة القاضي الإداري وحده، وفقاً لنوع الفعل المُعاقب عليه وظروف ارتكابه“[8]. بالإضافة إلى ما انتهت إليه المحكمة الإدارية العليا بأنه “يمكن تعريف هذه الجرائم بأنها تلك التي ترجع إلى ضعف في الخلق وانحراف في الطبع مع الأخذ في الاعتبار نوع الجريمة والظروف التي ارتكبت فيها والأفعال المكونة لها ومدى كشفها عن التأثر بالشهوات
والنزوات وسوء السير“[9]. وهو ما كررته محكمة النقض في الحكم محل التعليق، عندما ذهبت إلى أنها “تلك الجرائم التي ترجع إلى ضعف في الخلق وانحراف في الطبع“[10]. وبالتالي، فإننا نرى أنه وفقًا لما انتهت إليه السوابق القضائية المشار إليها، لا يمكن اعتبار التجمهر بأي حال من الأحوال جريمة مخلة بالشرف، لعدم ارتباطه بضعف الأخلاق أو الأمانة أو سوء الخلق الذي يكون واضحًا بشكل قاطع في جرائم أخرى مثل النصب أو السرقة[11].
حقيقة، لم تكن جريمة التجمهر هي الجريمة الوحيدة التي أصبغ عليها الحكم وصف الإخلال بالشرف، بل شمل أيضًا عدداً من الجرائم الأخرى، دون ذكر الأسباب التي تجعل من تلك الأفعال، كلًا على حدة، موصومة بهذا الوصف. ففي ارتباط غير مبرر، قرر الحكم أن جرائم (التجمهر، واستعراض القوة، وقطع الطريق، وإطلاق النار وسفك الدماء)، هي جرائم مخلة بالشرف، كونها تمثل تعطيلًا لأحكام الدستور والقوانين، وتمنع مؤسسات الدولة والسلطات العامة من ممارسة أعمالها، بالإضافة إلى اعتدائها على الحريات الشخصية للمواطنين، وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي كفلها الدستور والقانون[12]. وهو ما يدفعنا إلى تسليط الضوء على نظرة المحكمة إلى جريمة التجمهر، وربطها بجرائم أخرى ذات طابع تخريبي، بالإضافة إلى التعامل معها على أنها بالخطورة التي تمثل تعطيلًا لأحكام الدستور والقانون.
كيف تنظر المحكمة إلى جريمة التجمهر؟
حقيقة، إن نظرة محكمة النقض إلى فعل التجمهر – بما يحمله من طابع احتجاجي- بذات الطريقة التي يُنظر إليها مع أفعال شديدة الخطورة كاستعراض القوة وإطلاق النار وسفك الدماء، هو أمر في غاية الخطورة ويعكس نظرة المحكمة للمُدانين في جرائم التجمهر إلى حد كبير. في الوقت نفسه، تمثل تلك الرؤية التي تنظر إلى التجمهر باعتباره تعطيلًا لأحكام الدستور وإعاقة لمؤسسات الدولة عن القيام بأعمالها، تحميًلا لفعل التجمهر أكثر مما يحتمل من نتائج، مما يعبر عن تحيّز سياسي من قبل المحكمة تجاه المُدانين في تلك الجرائم.
لذلك، فإنه بالنظر إلى جريمة التجمهر التي غالبًا ما يكون المتهمون بها سواء معارضين سياسيين تم القبض عليهم في إحدى التظاهرات أو التجمعات[13]، أو عمالا يطالبون بحقوقهم ومستحقاتهم[14]، أو مشجعين كرة[15]، أو حتى في بعض الأحيان مجموعات خارجة عن القانون. بالفعل[16]، نجد أنه من الصعب بل من غير المعقول وصف تلك الأفعال على أنها ضعف في الخلق أو انحراف في الطبع كما انتهت إليه المحكمة. كما أنها بالتأكيد ليست ناتجة عن التأثر بالشهوات أو النزوات، التي تجعل من الشخص موصوما بسوء الخلق والسمعة. لذلك، كان على المحكمة الالتفات إلى السياق السياسي والزمني الذي تصدر فيه مثل هذا الحكم، والأخذ في الاعتبار العدد الكبير للمتهمين في قضايا تجمهر خلال السنوات السبع الماضية، وما يتتبعه إقرار التجمهر كجريمة مخلة بالشرف على حياتهم من تبعات قد تؤثر على مستقبلهم الوظيفي[17].
من ناحية أخرى، تجاهلت محكمة النقض الحكم الصادر من ذات الدائرة القضائية في إبريل 2017، والذي انتهى إلى أن جريمة التجمهر ليست من الجرائم المخلة بالشرف[18]. وهو الطعن الذي تعود وقائعه إلى أحداث مماثلة إلى حد كبير بالحكم الصادر في 2019، كونه يتعلق بفصل أحد الموظفين من عمله بعد إدانته في إحدى قضايا التجمهر. ولكن على النقيض تمامًا، انتهت المحكمة في هذا الحكم إلى أن “جريمة التجمهر لا تعتبر من الجرائم الماسة بالشرف أو الأمانة أو الآداب العامة، كما لا تعد إخلالاً من العامل بالتزاماته الناشئة عن عقد العمل. وبالتالي، لا يجوز فصله من العمل بسبب إدانته بهذه الجريمة“[19]. وهو الأمر الذي يدفعنا بضرورة الحال إلى مناقشة إشكالية أخرى، وهي إشكالية تضارب المبادئ القضائية الصادرة من دوائر النقض المختلفة، وما يترتب على ذلك من آثار، وما يتوجب على المحكمة أن تقوم به للقضاء على تلك الظاهرة التي تزايدت حدتها في الفترة الأخيرة.
عندما تتضارب المبادئ القضائية الصادرة من محكمة النقض: عن أي حجية نتحدث؟
إن الأصل في المبادئ القضائية الصادرة عن محكمة النقض هو الثبات والاستقرار، نظرًا لما تمثله من أهمية بالغة وتأثير نافذ على مصائر الناس وحوائجهم. في الوقت نفسه، قد تظهر الحاجة إلى العدول عن أحد المبادئ وتبني مبدأ مخالفا أو حتى مناقضا تمامًا بين الحين والآخر، وقد يكون السبب وراء هذا العدول هو تعديل تشريعي، أو تطور مجتمعي يفرض فهما جديدا لبعض الظواهر والأفعال، أو أن تهتدي محكمة النقض إلى خطأ تبنته من قبل وتشرع في تصحيحه[20]. وهو الأمر الذي تحسب له قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1976، حين نظم إجراءات وضوابط العدول عن أحد المبادئ القضائية سواء الصادرة من نفس الدائرة القضائية أو من دوائر أخرى، حيث نص على أنه “إذا رأت إحدى دوائر المحكمة العدول عن مبدأ قانوني قررته أحكام سابقة أحالت الدعوى إلى الهيئة المختصة بالمحكمة للفصل فيها وتُصدر الهيئة أحكامها بالعدول بأغلبية سبعة أعضاء على الأقل. وإذا رأت إحدى الدوائر العدول عن مبدأ قانوني قررته أحكام سابقة صادرة من دوائر أخرى أحالت الدعوى إلى الهيئتين مجتمعتين للفصل فيها، وتصدر الأحكام في هذه الحالة بأغلبية أربعة عشر عضواً على الأقل“[21].
وبالتالي، فإنه بالنظر إلى ما أقرته محكمة النقض في حكمها الصادر في 2019 باعتبار التجمهر جريمة مخلة بالشرف، نجد أنه كان يجب على المحكمة أن تحيل الدعوى إلى هيئة المواد المدنية بالمحكمة للفصل في صحة تبني هذا المبدأ الجديد أم الثبات على المبدأ الصادر في 2017 المقضي فيه بأن التجمهر ليس من الجرائم الماسة بالشرف أو الأمانة، وهو الأمر الذي لم يحدث على الإطلاق. من ناحية أخرى، نشر المكتب الفني للمحكمة المبدأ الصادر في 2019 في إصداره شبه الدوري “المُستحدث” الذي يتضمن أجدد المبادئ التي تقررها الدوائر المختلفة، بينما ما زال المبدأ الصادر في 2017 منشورا على الموقع الرسمي للمحكمة، دون أي إشارة أو تنويه عن الحكم الصادر في 2019. حقيقة، إن مثل هذا التضارب يشكل خطورة واضحة على حجية المبادئ الصادرة من محكمة النقض، كما يفتح الباب أمام التنازع بين مؤيدي كلا وجهتي النظر المتعارضتين، وهو ما يتعارض مع الغرض الأساسي لتبني المحكمة لمبادئ قانونية مستقرة تهدف إلى توحيد التفسيرات القانونية المتعارضة وتطبيقاتها.
خاتمة
لعل أبرز ما قد يسفر عنه الحكم الصادر من محكمة النقض في أبريل 2019، والمتضمن اعتبار التجمهر كجريمة مخلة بالشرف، هو الوصم المجتمعي للمُدانين في تلك القضايا، ومساواتهم مع من ارتكبوا جرائم بشعة مثل إطلاق النار وسفك الدماء، واعتبارهم ذا خلق ضعيف ومنحرفي الطبع. وهو الأمر الذي يأتي تزامنًا مع خطوات تشريعية تحط من النظر إلى المُدانين في جرائم التجمهر، مثل ما انتهى إليه البرلمان بالموافقة على إلغاء الإفراج الشرطي في جرائم التجمهر مع جرائم أخرى مثل الإتجار في المخدرات وغسيل الأموال[22]. في الوقت نفسه، أصبح من الواضح أن على دوائر محكمة النقض تفعيل مواد قانون السلطة القضائية المتعلقة بإجراءات العدول عن المبادئ القضائية المستقرة، والوصول إلى آلية تضمن الإلتزام بتلك المبادئ من دون مصادرة الحق في الرجوع عنها، إذا ما ظهرت من الأسباب ما يبرر هذا العدول.
لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه
Egyptian Court of Cassation Deems Assembly a “Crime That Violates Honor”
[3] الطعن رقم 2527 لسنة 88 قضائية – محكمة النقض – الدائرة العمالية – جلسة 16 أبريل 2020.
[6] حسب المادة الأولى من قانون التجمهر رقم 10 لسنة 2014، فإن التجمهر مؤلف من خمسة أشخاص على الأفل ومن شأنه الإخلال بالسلم العام.
[8] الطعن رقم 1413 لسنة 07 مكتب فني 10 صفحة رقم 1113- محكمة النقض – جلسة 24/4/1965.
[9] حكم المحكمة الإدارية العليا رقم 5086 لسنة 24 قضائية عليا – بتاريخ 22/9/1996.
[10] راجع المرجع رقم (3).
[11] راجع المرجع رقم (1).
[12] راجع/ المرجع السابق.
[17] لمزيد من التفاصيل، راجع المرجع رقم (1).
[19] راجع/ المرجع السابق.
[20] راجع/ د. عوض محمد – تعليقات على أحكام القضاء: دراسة نقدية لبعض أحكام محكمة النقض – دار الشروق – 2017. ص11-12.
[21] راجع/ نص المادة (4) من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 وتعديلاته.