لم يعد أمر التضييق على الحرّيات العامّة، مقتصرًا على حرّية النشر والتعبير والتظاهر، ولم تعد استدعاءات النيابة العامّة مقتصرة على الصحافيين والناشطين وكاشفي الفساد، بل امتدّت لتطال العمل النقابي مباشرة، وبالأخص نقابات العمال التي هدرت السلطة السياسية الكثير من حقوقها ومكتسباتها، وعملت على مدى أعوام على شرذمتها وتفريغها من مضمونها وفعاليتها، وتحديدًا عندما جعلت الاتحاد العمالي العام مرتعًا خصبًا للتدخلات والتجاذبات السياسية، وباتت قياداته مطية للساعين للوصول إلى السلطة والتمتّع بمكتسباتها.
ففي سابقة تعتبر فريدة من نوعها، استدعت النيابة العامّة الاستئنافية في بيروت أمس الثلاثاء في الثالث من تشرين الأول، رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان (FENASOL) ورئيس نقابة عمال البناء ومشتقاتها في بيروت وجبل لبنان (C.W.S.L) كاسترو عبدالله أمام فصيلة النهر، للتحقيق معه في شكوى مقدمة من شركة “مان إنتربرايز” Man Enterprise المتعّهدة بناء مبنى السفارة الأميركية الجديد في منطقة عوكر. أمّا التهمة فهي “القدح والذم” و “تحريض العمّال على أعمال الشغب”، في إشارة إلى التحرّكات الاحتجاجية التي قاموا بها، للمطالبة بحقوقهم، بعد أن طردت الشركة 200 عامل لبناني، يعملون في إنشاءات السفارة، بشكل تعسّفي.
اللافت أنّ الشركة استندت في اتّهام عبد الله بالتحريض على إثارة الشغب، إلى تصريحه في إحدى التظاهرات التي نظّمها العمّال المصروفون بأنّهم سيتّجهون إلى التصعيد في حال لم تستجب الشركة إلى مطالبهم. فاعتبرت أنّ التهديد بالتصعيد ينطوي على التحريض على أعمال الشغب، وذلك لمحاولة وصم أي تحرّك حقوقي ومطلبي وجماعي بطابع الشغب المخالف للقانون، وبالتالي إباحة قمعه وإخضاعه.
صحيح أنّه سبق استدعاء نقابيين وملاحقتهم في قضايا خارج نطاق العمل النقابي مثل قضايا القدح والذم، لكنّ المستهجن هذه المرة استدعاء النقابي عبدالله للتحقيق معه في قضية تتعلق بعمله النقابي، “وهي في صلب الحقوق التي كفلتها القوانين اللبنانية ومعايير العمل الدولية”، وفق ما ذكره بيان منظمة العمل الدولية. ودعا البيان الصادر في 3 تشرين الأول إلى التراجع عن الإجراءات التي تمسّ بالحرّيات والحقوق النقابية، كما دعا إلى احترام تطبيق قانون العمل اللبناني والعمل على تعزيز التفاوض والحوار الثنائي والثلاثي بين أطراف الإنتاج (وزارة العمل، ممثلو العمال وأصحاب العمل) من أجل تحقيق العمل اللائق والعدالة الاجتماعية.
عبد الله يعد بمواصلة المواجهة
النقابي عبدالله، حضر عند العاشرة صباحًا يرافقه عدد كبير من العمال المصروفين ونقابيون متضامنون معه، إلى مخفر فصيلة النهر بناء على استدعاء من النائب العام الاستئنافي في بيروت القاضي زياد أبو حيدر، للتحقيق معه في الشكوى المقدمة من شركة “مان انتربرايز” بتهمة تحريض العمال على أعمال الشغب والقدح والذم. وبعد الاستماع إلى إفادته في حضور وكيلي الدفاع عنه المحامي علي سويدان والمحامية فرح عبد الله، قرر القاضي أبو حيدر تركه بموجب سند إقامة، فخرج محمولًا على أكتاف رفاقه العمال وزملائه النقابيين، وسط تصفيق حار. وبصوته العالي قال عبد الله أمام العمال والنقابيين: “الدعوى عليي بتهمة تحريض العمال للمطالبة بحقوقهم… ليش شو شغلتنا كنقابات؟”. ووعد باستمرار المعركة والمواجهة حتى تحصيل حقوق العمال، قائلًا: “ستبقى راية العمل النقابي الديمقراطي المستقل مرفوعة. مستمرّون بمواجهة أي أحد يتعدّى على حقوقنا، وسنكون يدًا واحدة مع الحركة الشعبية بكلّ أطرافها ولن نترك الناس”.
وفيما أكد رفضه التوقيع على تعهّد بالامتناع عن تنظيم تحرّكات مطلبية في وجه الشركة المدعية، تمسّك عبد الله بحقه الدستوري والنقابي في متابعة مهامه دفاعًا عن الحريات النقابية وحقوق العمال. كما أكد توجّه الاتحاد الوطني للنقابات بتقديم دعوى قضائية على الشركة المدعية، على خلفية التشهير به وبالعمل النقابي، ودعوى قضائية ثانية والمسّ بالحريات النقابية.
هذا، وتأتي شكوى شركة “مان” بعد أن كانت نقابة عمّال البناء تقدمت بشكوى ضدها لدى وزارة العمل على خلفية طردها أكثر من 200 عامل لبناني بشكل تعسّفي بينهم مصابون في حوادث عمل، واتهمت النقابة في شكواها الشركة بالتحايل على العمال للتوقيع على فسخ عقودهم مع براءة ذمة من خلال وعدهم بإتمام عقود عمل في السعودية، وحرمانهم من دفع مستحقات العمل الاضافية التي كانت تصل إلى 11 ساعة عمل، إضافة إلى حرمانهم من التعويضات العائلية ومنح التعليم والطبابة وتعويضات حوادث العمل.
وفيما أكد عبدالله في المحضر التزامه بممارسة حقوقه الدستورية، في إبداء الرأي والتجمّع والدفاع عن حقوق العمال المكرّسة في المعاهدات الدولية والقوانين، لم يستغرب في حديثه لـ “المفكرة القانونية” قبل دخوله المخفر، استدعاءه، إلّا أنّه وصفه بالسابقة الخطيرة التي تأتي في إطار كمّ الأفواه، وبأنّها “عملية متواصلة لضرب الحركة النقابية، بدأت بالسيطرة على الاتحاد العمالي العام، وما تبقّى اليوم من حركة نقابية”. ووصف استدعاءه أيضًا بالكيدي، “أنا لم أفترِ على الشركة، وبصفتي النقابية أدافع عن حقوق العمال”، لافتًا إلى أنّ أخطاء “الشركة مثبتة من خلال محضر ضبط في وزارة العمل. لذا نحن من يجب أن ندّعي، وعلى الشركة إعطاء العمال حقوقهم”.
يريدون إخضاع العمال لشريعة الغاب
بات من الواضح أنّ المسار التي تسلكه السلطة بكلّ أجهزتها هو التصعيد في تضييق مساحات التعبير، وهو مسار خطير برأي عدد من النقابيين الذين التقتهم “المفكرة”، خلال الوقفة التضامنية التي رافقت استدعاء عبد الله أمام فصيلة النهر، كما ترى ممثلة المستأجرين في اللقاء التشاوري النقابي الشعبي ماري الدبس. تقول الدبس: “ارتفعنا إلى مستوى عال من التضييق والوقاحة، وهذا يعني إخضاع العمال لشريعة الغاب، حيث لا إمكانية للدفاع عن أنفسهم. لن نسمح بذلك، لأنّ مصير الوطن والشعب على المحك. لم يعد يمكننا السكوت بعد أن وصل 80 بالمئة من الشعب اللبناني إلى خط الفقر”.
بدوره، النقابي منذ العام 1955 فوزي أبو مجاهد وهو أمين عام سابق للاتحاد الوطني للعمال والمستخدمين في لبنان ونقيب سابق لنقابة عمال الأحذية، يقول لـ “المفكرة”: “خلال الفترة الطويلة التي أمضيتها في النضال النقابي لم أسمع ولا مرة عن شكوى أتت من مؤسسة أو شركة أو معمل احتجاجًا على نقابي يطالب بحقوق العمال. في تلك الفترة بالنظام السرّي والنظام العلني، أيام الانتداب وأيام الاستقلال لم نر غطرسة من أصحاب العمل أو وكلائهم تجرّأوا أن يدّعوا على عامل أو نقابي يطالب بحقوق العمال”.
ويتابع: “فوجئنا اليوم وفيما السلطة كلّها متّهمة بالفساد وبينما من واجب القضاء أن يسوق أركانها ويستجوبهم على سرقاتهم وتقصيرهم، وإهمالهم وخيانتهم، إذ بهم يستدعون نقابيًا يطالب بحقوق عمّال صرفوا من عملهم من دون أي إنذار وأي حقوق. عمّال يعملون في صرح سفارة تابعة لدولة تدّعي أنّها أكبر دولة في العالم الولايات المتحدة الأميركية وتتغنى بالديمقراطية، تكلف شركة بالعمل لديها، شركة لا تحترم حقوق عمالها”.
ويأسف ابو مجاهد أن يُستدعى قيادي نقابي للتحقيق، والاتحاد العمالي العام “نايم نومة أهل الكهف”.
حرية العمل النقابي في مقدمة الدستور والاتفاقيات الدولية
وبالرغم من أنّه لا يوجد نصوص قانونية واضحة حول الحرية النقابية بشكل خاص، إلّا أنّه يمكن استخلاصها من مقدمة الدستور اللبناني، في الفقرة “ب” التي تنص على أنّ لبنان عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي الفقرة “ج” التي تنصّ على أنّ لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامّة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد. وجاء في مضمون المادة “13” من الدستور أنّ حرية إبداء الرأي والاجتماع وتأليف الجمعيات مكفولة ضمن دائرة القانون، كما أشارت المادة 29 من قانون عقود العمل الجماعية والوساطة والتحكيم صراحة إلى اعتبار نزاع العمل نزاعًا جماعيًّا إذا كان يتعلّق بـ “ممارسة الحرية النقابية”، فضلًا عن المادة 84 من قانون العمل التي تعطي الحق للعمال في ممارسة العمل النقابي.
وفي هذا السياق، يؤكد رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال لبنان مارون الخولي لـ “المفكرة” أنّها المرّة الأولى في تاريخ العمل النقابي، نسمع بشكوى تحت مسمّى تحريض العمال على الشغب، معتبرًا أنّها سابقة خطيرة وتاريخية، وحصولها اليوم، يتطلّب منّا كنقابيين أن نتصدّى لهذا الاعتداء الجائر على حرية العمل النقابي ونعرف أسبابه.
ويضيف: “بحسب تجربتي الشخصية، هناك عشرات الدعاوى بحقّي وبحقّ عدد الناشطين والنقابيين، تقام ضدّنا للتخفيف من نشاطنا وحدتها، لكن لا يوجد دعوى في تاريخ حياتي النقابية تحرّكت، لأن المدعى عليه نقابي ويقوم بعمله النقابي، وبالتالي هذه الدعاوى كيدية ولا قيمة لها ويحفظها النائب العام”.
ويشير إلى أنّ مقدمة الدستور والمواثيق الدولية، بالإضافة إلى توصيات منظمة العمل الدولية، والاتفاقيات المصدقة من قبل لبنان عليها، تكفل حرية العمل النقابي، وما حصل اليوم، هو أكبر اعتداء على العمل النقابي، ويستدعي منّا كنقابيين استنفارًا كاملًا، داعيًا إلى اجتماع موسّع وأخذ قرارات، لمواجهة هذا الاعتداء”.
وإذ يضع الخولي ما يحصل من اعتداءات على الحريات العامة في البلد، في إطار سلسلة لا يمكن فصلها عن بعضها، بسبب تخوّف السلطة من إعادة إنتاج 17 تشرين، أعلن “التوجّه إلى تقديم شكوى لمنظمة العمل الدولية وشكوى للجنة الحريات، المنبثقة عن منظمة العمل الدولية، كي تستدعي الحكومة اللبنانية، وتجري تحقيقًا بما حصل”.
من جهته، يرى علي أيوب أمين سر نقابة عمال البناء ومشتقاتها أنّه كلما زاد الظلم يرتفع منسوب التضييق على الحريات النقابية، معتبرًا أنها الدعوى ضد عبد الله فارغة من دون مضمون. وهذا وسام على جبين كل نقابي يدافع عن حقوق العمال”.
ردود فعل محلية ودولية
وفي هذا السياق، اعتبر النائب الدكتور أسامة سعد هذا الاستدعاء تعديًا على الحريات النقابية والعمالية وتضييقًا على العمل النقابي الذي شرّع من قبل الاتفاقيات الدولية”، مشددًا على أنّ “المطالبة بحقوق العمال والدفاع عنهم هي من صلب وأولويات العمل النقابي”. وأكد أنّ “هذا التعدي على العمل النقابي يعتبر وصمة عار في تاريخ القضاء اللبناني الذي أصبح انعكاسًا لاهتراء مؤسسات الدولة اللبنانية المنهارة أصلًا”، مطالبًا “مختلف المراجع المحلية والدولية المختصة بحقوق العمال والدفاع عنهم، بمتابعة الموضوع”، كما طالب وزير العمل “بالوقوف عند موضوع الاستدعاء وإدانة هذا العمل”.
من جهته، أبدى مكتب الأنشطة العمالية لمنظمة العمل الدولية استغرابه واستنكاره لاستدعاء النقابي عبدالله للتحقيق في قضية تتعلق بعمله النقابي، وهي في صلب الحقوق التي كفلتها القوانين اللبنانية ومعايير العمل الدولية. ودعا إلى التراجع عن الإجراءات التي تمس بالحريات والحقوق النقابية وإلى احترام تطبيق قانون العمل اللبناني والعمل على تعزيز التفاوض والحوار الثنائي والثلاثي بين أطراف الإنتاج في مواجهة الصعوبات المتعددة التي أنتجتها الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان، بما يمكّن من إيجاد حلول تضمن للعمال حقوقهم من جهة، وتعزز من قدرة المؤسسات على الصمود والاستمرار من جهة أخرى.
وأكد مستشار الانشطة العمالية في المكتب الاقليمي للدول العربية في المنظمة مصطفى سعيد على دور منظمة العمل الدولية في تعزيز التعاون مع أطراف الانتاج في لبنان من أجل تحقيق العمل اللائق والعدالة الاجتماعية.
كما صدرت سلسلة من المواقف النقابية العربية، وأكدت تضامنها ووقوفها الى جانب النقابي كاسترو عبد الله في معركة استدعاءه الى التحقيق، منها: التجمع العمالي في الكويت، اتحاد نقابات العراق والمنبر العمالي العربي المناهض للامبريالية والصهيونية.