يكرّس الفصل 39 من الدستور التعليم حقا “لكل من هم في سن الدراسة” ويفرض على الدولة أن تضمنه “بالمجان” في مؤسسات التعليم العمومي. وتدفعنا لغة الأرقام التي تحدثنا عن نسب تمدرس تناهز الإكتمال للإعتقاد بنجاح دولة الاستقلال في تحقيق هذا الإلتزام. إلا أن تصنيف التلاميذ باعتبار قدرتهم على تلقّي التعليم يبيّن لنا أن هناك فئة واسعة من الأطفال يُصطلح على تسميتها بذوي الاحتياجات الخصوصية لا زالت تسأل عن حقها في الإنصاف وتكافؤ الفرص[1] الذي بشّر به القانون المتعلق بالتعليم[2] وعما وُعدوا به من “توفير الظروف الملائمة للتمتع بحق التعليم”[3] لما يعترضهم من عوائق في الوصول للتمدرس. وهذه مسألة تهمّ منهم الأشخاص المعوّقين وذوي طيف التوحّد لكون ما لهم من صعوبات تظهر قبل بلوغهم سنّ الدراسة أو بسبب ما يتسلّط على عموم من يعانون من صعوبات تعلّم من ضغط في مؤسسات تربوية لم يفكر من صنع تصوراتها فيهم.
الوصول للتعلم: سؤال عن حق التعلم لذوي الإعاقة والمصابين بطيف التوحّد
تغيب الإحصائيات الرسمية الدقيقة عن عدد المعوقين بتونس إذ قدّرته بداية سنة 2019 وزارة الشؤون الاجتماعية بالإستناد لبطاقات الإعاقة التي تسندها ب 249900 معاقا بينما يتحدّث المجتمع المدني المعني بشؤون هذه الفئة عن كونها تشكّل ما نسبته 13,5% من العدد الجملي للسكان. كما لا يتوفّر أيّ إحصاء لعدد الأطفال الذين هم في سنّ التمدرس من هذه الفئة بما يمنع تبيّن نسبة وصولهم للدراسة أو للتأهيل الدراسي المخصوص بهم وبالتالي تحديد درجة إلتزام الدولة بما فرضه عليها الفصل 39 من الدستور من الإمتناع عن أي تمييز ضدهم ومن توفير ما يلزم لضمان إندماجهم في المجتمع.
لا يمنع التقصير في رصد درجة تمتّع الأشخاص المعوقين بحقهم في الوصول للتعليم الجهات الرسمية من إبراز نجاحها في توفير مسلكين تعليميين لهما الأول يخصّ من لهم إعاقة عميقة أو درجة توحّد متوسطة أو كبيرة ويتمثل في مسالك التكوين الخصوصية والثاني يخص غيرهم ويتمثل في التعليم العمومي.
مسالك التأهيل الخصوصي
تعدّ تونس 310 مؤسسة تربية خصوصية[4] تُدار النسبة الأكبر منها من جمعيات. كما أنها تعدّ عددا هاما من مراكز رعاية المتوحدين، منها واحدة فقط مؤسسة عمومية والبقية مؤسسات خاصة. ويلعب هذا النسيج المؤسساتي دورا محوريا في التأهيل والتكوين وإن رشح عن نقائص عدة من أهمها الآتية:
-
ضعف الحوكمة بالجمعيات وتعرّض عدد منها لأزمات مالية أثرت بشكل مباشر على نوعية الخدمات التي تسديها لمنظوريها وتمثلت في تداعي مقرّاتها أو في نقص المعدات التربوية الخصوصية زيادة على ضعف التأطير البيداغوجي لنقص عدد المختصين بها.[5]
-
ضعف نسبة تكفّل الدولة في تغطية الحاجيات الخصوصية لتأهيل المتوحدين بما يؤدي لإثقال كاهل الأسر وعجز نسبة كبيرة منهم عن توفير ما يحتاجه أبناؤها من رعاية خصوصية[6].
تظهر هذه النقائص كنتيجة مباشرة لاعتماد الدولة مقاربة تعتبر تأهيل المعوقين والمتوحّدين يندرج في إطار التكافل الاجتماعي. وهو الأمر الذي يكرّسه ضمنيا القانون التوجيهي المتعلق بالنهوض بالأشخاص المعوقين وحمايتهم بالفصل 20 منه والذي ورد فيه أنه “يتم التعهّد المبكّر والتأهيل اللازم وكل ما يتعلق بــالإعــداد والتحضير للمرحلــة قبــل المـدرسيـّـة مــن قبـل الـدولــة والمجتمع” وبالفصل 21 الذي ينص على أن “تـؤمـّـن المـدرسـة للتــلاميــذ المعــوقيــن تكـوينـا متوازنا وذلــك بـالتعـاون مـع الأولياء والجمعيات ذات العلاقة”[7]. ويتعين بالتالي أن تعلن الدولة تنفيذا لالتزاماتها المذكورة تكفلا كاملا بمستلزمات تأهيله هؤلاء بما يقطع مع التمييز غير الدستوري بينهم وغيرهم من الأطفال. وربما كانت فكرة المدرسة الدامجة مدخلا جيدا لهذا الأمر.
المدارس الدامجة: الحق في إطاره الطبيعي
بداية من السنة الدراسية 2004-2005[8]، مكّنت الحكومة التونسية فئات من الأشخاص المعوقين ومن ذوي طيف التوحد الذين قدرت أن لهم قدرة على التعلم الاعتيادي من الترسيم في مدارس التعليم العمومي. وخلال مرحلة أولى استمرت لغاية السنة الدراسية 2015-2016، كانت الحكومة تحصر حق هؤلاء بالتسجيل بمدارس إبتدائية ومدارس إعدادية ومعاهد ثانوية معينة بذاتها سميت مدارس دامجة وذكر أنها هيئت لتكون قادرة على استقبالهم وتمّ تكوين إطارها التربوي لهذه الغاية أيضا. لاحقاً، تمّ التراجع عن هذا الاختيار بحيث تم إعلان جميع المؤسسات التربوية التونسية دامجة مع تكريس حق هؤلاء في الترسيم الاعتيادي بها.
وتبيّن إحصائيات وزارة التربية[9] أن من التحقوا بالمدارس الإبتدائية في هذا الإطار للسنة الدراسية 2018 -2019. بلغ عددهم 4326 تلميذ 34,67% منهم فقط من الإناث، ويمثل هؤلاء في مجموعهم ما نسبته 1,16% من عموم تلاميذ المرحلة الإبتدائية المقدر عددهم خلال ذات السنة الدراسية ب374231.
|
إعاقة خفيفة
|
إعاقة متوسطة
|
إعاقة عميقة
|
ذكور
|
698
|
1025
|
665
|
إناث
|
338
|
497
|
665
|
المجموع
|
1036
|
1522
|
1768
|
ونستنتج مما تقدم المعطيات الآتية:
-
أن ثمة تفاوتا كبيرا بين الأطفال المعوقين المستفيدين من حق التعليم وفق جنسهم. وفيما يخشى أن يكون مرد هذا التفاوت هو التمييز الجنسي، فإن فهمه وتجاوزه يستدعيان بالتأكيد تحليلا اجتماعيا عميقا،
-
أن نسبة التلاميذ من المعوقين من عموم التلاميذ تبقى أقل من نسبة الأشخاص المعوقين في المجتمع. ويستشفّ من ذلك أن هذه الفئة تظلّ بعيدة عن نسبة التمدرس العام وأن ثمة ضرورة في العمل على سياسة خاصّة لتطوير مؤشّرات التمدرس تتجاوز مجرد فتح باب الترسيم بالمؤسسات التربوية لتصل للحث عليه وتذليل الصعوبات الموضوعية التي قد تعيقه.
داخل أسوار المدرسة: سؤال عن حقوق من لهم صعوبات تعلّم
ينتج عن اللقاء بين المتعلّم والمادة التعليمية بروز صعوبات تعليم لم تكن معلومة قبل ذلك. ومن أهمّ مظاهرها:
-
تلاميذ لهم صعوبات تعلّم إما لإعاقة غير ظاهرة تجعلهم يستعصون استيعاب الأحرف أو الأعداد وإما بسبب إشكاليات نفسية،
-
تلاميذ يعجز البرنامج المدرسي والمستوى التعليمي العام عن تلبية حاجياتهم الفكرية بسبب تميزهم الخارق للعادة بما يكون من أثره ضعف تركيزهم في ساعات الدرس وتاليا تعثرهم.
ينتظر تاليا أن تكون للمؤسسة التربوية القدرة على رصد تلاميذها ممن يعانون صعوبات التعلم تلك توصلا في الختام لإيجاد آليات تعاطي تربوي معهم يلائم خصوصياتهم ويساعدهم على تجاوز تعثرهم الدراسي.
الرصد المبكر لصعوبات التعلم: إخفاق كبير
يفترض نظريا أن يكون المربي قد اكتسب في مراحل تكوينه النظري معارف تؤهله لاكتشاف العلامات الدالة على صعوبات التعلم. ويتوقع أن تسانده في ذلك مؤسّسات أعدّت لهذا الغرض وتتمثل أساسا في خلايا مرافقة التلميذ في الوسط المدرسي، لينتهي الأمر بتدخّل فني من الأخصائي النفسي يرسم خارطة طريق التعامل. وبعيدا عن النصوص ومقتضياتها، تكشف الممارسة تعطّلا شبه كامل لهذه الآليات مرده الأمور الآتية:
-
أن النسبة الأكبر من المدرّسين تمّ انتدابهم من دون أن يكونوا مختصين في المجال التربوي وباشروا التدريس من دون أن يتلقوا أي تكوين مسبق في هذا الخصوص.
-
أن خلايا مرافقة التلميذ بالوسط المدرسي[10] والتي حدد كهدف لها “المساهمة فى إنجاح المسار الدراسي للتلميذ والوقاية من سوء التكيف المدرسي”[11] ظلت قاصرة عن الاضطلاع بدورها لضعف تفاعل الإطار التربوي معها ولانعدام الإمكانيات اللازمة للقيام بعملها. وهو ما وثقه تقرير الرقابة لدائرة المحاسبات المتعلق بالمندوبية الجهوية للتعليم بسوسة والمنشور بتقريرها السنوي عدد 31.[12]
-
أن الإطار التربوي لا يضم إلا 63 أخصائيا نفسيا. وقلة العدد هذه تجعلهم عاجزين عن العمل الميداني الذي يشمل كل المدارس الإبتدائية والإعدادية والمعاهد الثانوية[13]. ويدفعهم لحصر الجانب الأكبر من تدخلهم في دراسة الملفات التي تقدم لهم من الأولياء لطلب الإعتراف بكون أبنائهم يعانون صعوبات تعلم.
يؤول هنا عجز المؤسسة التربوية عن فهم تلاميذها لتحوّل صعوبات التعلّم إلى سبب اتهام للتلميذ بعدم القدرة على الفهم وإلى أن يكون موضوع تنمّر من مدرسيه وزملائه وربما ضغط نفسي وجسدي من أوليائه بما يعمّق الأزمة. ولا ينجو من هذا المصير إلا من كان ينحدر من أسرة يمكّنها مستواها الإجتماعي والثقافي من الإستعانة بالخبرة الطبية من خارج المدرسة لتشخيص حالة ابنها ولتكوّن له ملفا تفرض عليها البيروقراطية الإدارية تقديمه طلبا لرعاية مدرسية خصوصية وهو طلب يشاركهم فيه ذوو الإعاقة الظاهرة.
الرعاية المدرسية الخصوصية: المعلن دون المنجز
توصي وزارة التربية المشرفين على المؤسسات التربوية باعتماد ما تسميه المرونة مع ذوي الاحتياجات الخصوصية و تدعوهم إلى:
-
الحرص على احترام نسق تعليمهم وتمكينهم من الوقت الضروري لإنجاز الأعمال الموكلة إليهم داخل الفصل حسبما تقتضيه ظروف العمل،
-
تمكينهم من فرص المشاركة في مختلف الأنشطة البيداغوجية كلما كان ذلك ممكنا،
-
التعاون مع المرافق المدرسي لمن تتطلب وضعياتهم حضوره متى تكفل الولي بتوفيره لمساعدة ابنه أو ابنته على أن يكون ذلك تحت إشراف المدرس.
وتتيح الوزير إمكانية إعفاء بعض التلاميذ من بعض المواد حسب الحالة بعد التنسيق مع وزارة التربية والسماح باستعمال التكنولوجيا الحديثة (الحاسوب- الآلة الحاسبة …) للتلاميذ الذين يعانون من اضطرابات تعلم “اضطراب الكتابة” و”اضطراب الرياضيات”. وهي تسند لهم وحسب نوع حاجة كل منهم الحق في اعتماد إحدى الوسائل التالية في الامتحانات (إضافة الوقت الضروري المخصص لكل حصة من حصص الامتحان وإمكانية الاستعانة بتلميذ كاتب مستواه دون مستوى التلميذ المعني وتوفير قاعة خاصة بالمترشح وتضخيم الخط).[14]
كما توصي الوزارة بتمكين الأطفال الموهوبين بعد اجتياز اختبار، من القفز من مستوى دراسي لآخر يلائم نبوغهم الفكري[15].
تبدو هذه التوصيات والإجراءات وكذلك الوعود بتهيئة المنشآت التربوية في هندستها العمرانية لتكون مدمجة للمعاقين عضويا هامة وتحقق لو طبقت إلى حدّ بعيد المصلحة المطلوبة. لكن يبقى أنها ترشح عن إشكالات عدة، أبرزها الآتية:
-
أن المؤسسة التربوية تحمّل الولي مسؤولية توفير الوسائل المساعدة للتلميذ وهو أمر لا يتوفر للجميع ويخلق تمييزا بين التلاميذ في موقع كان المطلوب فيه الإنصاف والتكافؤ،
-
أن العناية البيداغوجية المطلوبة للتلميذ ربطت بالقدرة على ذلك دون أي طابع إلزامي. وفي الواقع يمنع ضغط الدرس وأهمية عدد التلاميذ في الأقسام من تنزيلها على أرض الواقع بما قد يجعلها مجرد إعلانات نوايا،
-
أن هندسة أغلب المؤسسات التعليمية وخصوصا منها الثانوية غير دامجة للتلميذ ذي الإعاقة العضوية.
-
أن إعفاء التلميذ من إحدى المواد بغاية تخفيف ضغط المواد عليه ربط بموافقات من وزارة التربية وبالنظر لما يفترضه وصول مثل تلك التأشيرة من حيّز زمني، فيبدو هذا الإجراء مفرغاً من محتواه.
نقدّر بالتالي أن الإجراءات الخصوصية المطبقة فعليا تنحصر في غالبية الحالات في تلك الخاصة بورقة الإمتحان وتوقيته. ومن شأن هذا الأمر أن يجعل المؤسسة التربوية عاجزة عن تحقيق ما تطمح له من إصلاح وأن يدفع الجانب الأهم من الأطفال الذين يعانون صعوبات تعلم إلى التسرب من الدراسة.
- نشر هذا المقال بالعدد 18 من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
التعليم، قلعة تونس المتصدعة
[2] القانون التوجيهي للتربية والتعليم عدد 80 لسنة 2002
[4] تصريح وزير الشؤون الاجتماعية السابق محمد الطرابلسي بتاريخ 10-02-2020 – وكالة تونس افريقيا للأنباء .
[5] تراجع محاضر جلسات لجنة شؤون ذوي الإعاقة والفئات الهشة بمجلس نواب الشعب للمدة النيابية الثانية والتي تضمنت زيارات ميدانية لعدد من مراكز التربية المتخصصة تمت معاينة نقائصها خلالها علاوة على سماعات لأهم الجمعيات الناشطة في المجال .
[7] القانون التوجيهي عدد 83 لسنة 2005 المؤرخ في 15 أوت 2005 المتعلق بالنهوض بالأشخاص المعوقين وحمايتهم.
[8] بمقتضى المنشور المشترك الصادر عن وزراء التربية والتعليم والشؤون الاجتماعية والصحة العمومية بتاريخ 01-04-2004 والخاص بالسنة الدراسية 2004-2005 والذي تقرر صلبه فتح المدارس العمومية في وجه المعوقين والمنشور المشترك بين ذات الوزراء بتاريخ 09-09-2004 والخاص بفتح الأقسام التحضيرية لفائدة نفس الفئة.
[9] معطيات مستقاة من الإحصاء المدرسي للسنة الدراسية 2018-2019 منشور بموقع وزارة التربية والتعليم.
[10] يبلغ عددها 287 وهي في تصورها خلية تدخل تربوي بيداغوجي وإجتماعي وصحّي ونفسي في الوسط المدرسي ويؤمنها فريق متعدد الاختصاصات وتهدف إلى توحيد آليات التدخل وتصويب الخدمات لفائدة التلاميذ المستهدفين.
[11] وزارة التربية: خلية مرافقة التلميذ تنطلق في مرحلة تجريبية بداية من الثلاثي الثالث من هذه السنة الدراسية -24-03-2015 وكالة تونس إفريقيا للأنباء.
[12] ورد به “إلى حدّ السنة الدراسية 2015-2016، خلايا مرافقة التلميذ بالوسط المدرسي التي تخدم أهدافا بيداغوجية وسلوكية واجتماعية هامة، ظلت مقتصرة على نصف المؤسسات التعليمية العمومية الراجعة بالنظر إلى المندوبية (139 مؤسسة من مجموع 254 مؤسسة) والتي لا تضم سوى ثلث العدد الجملي للتلاميذ المرسمين بمرحلتي التعليم بالجهة. ولم يتم تثمين دور الخلايا المركزة بسبب ضعف تفاعل الوسط التربوي معها وعدم إعلامها بكل الحالات الاجتماعية التي تستوجب تدخلها” .
[13] في مرحلة أولى كان مرجع نظر هؤلاء الأخصائيين المدارس الابتدائية لكن بتاريخ 16-06-2017 أصدر وزير التربية منشورا يوسع في مرجع نظره ويسند له خطة منسق جهوي.
[14] مذكرة صادرة عن وزارة التربية حول التعهد بالتلاميذ ذوي الاحتياجات الخصوصية بتاريخ 19-10-2015 .
[15] منشور وزير التربية بتاريخ 01-11-2017 .