مقدمة
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تغيّرت الأهداف السياسية والاقتصادية وراء عمليات التبني جذرياً. شكّل التبني قبل ذلك التاريخ وسيلة لتأمين عمال بالسخرة (وهو ما يتبدى اليوم في نظام التبني بالكفالة في بعض مناطق جنوب شرق آسيا وشمالي أفريقيا)، ليتمحور من بعدها حول تكوين أسرة. ولقد شجعت الدول الغربية كثيراً التبني بوصفه طريقة لتعزيز سطوتها في الخارج، وكخطوة سابقة على ما نصفه اليوم بـ”الامبريالية الإنسانية”.
أولا، مقاومة التبني
لا يمكن النظر إلى مقاومة التبني على أنه أمر مستجد. فتاريخياً، كان الأشخاص الذين يجدون أنفسهم عرضة للتبني يقاومون مقاومة حاسمة نقلهم، وتجريدهم وحرمانهم من هوياتهم. وجاءت هذه المقاومة في سياق انتفاضة من لا يُسمع صوتهم من أطفال وأمهات ومجموعات مهمشة.
i. مقاومة مقاطعات وأقاليم ما وراء البحار الفرنسية
كان الانفصاليون والقوميون وحركات التحرر في مقاطعات وأقاليم فرنسا الاستعمارية مستهدفين مباشرة عبر جلب الأطفال من أجل “زيادة السكان” في مناطق ريفية في فرنسا. وتظهر الغرافيتي (رسومات على الجدران) من ذلك الوقت أنّ مقاومة هذه العملية كانت فاعلة محلياً.
ii. مستشفى اللقطاء
في نهاية القرن التاسع عشر، كان يُسمح للأمهات اللواتي يجدن أنفسهن مضطرات للتخلي عن أبنائهن بسبب الفقر أو كونهن أنجبنهم خارج إطار الزواج بوضع قطعة من القماش حول أيدي هؤلاء بعد التخلي عنهم من أجل التعرف عليهم إذا تم اللقاء بعد سنوات كثيرة. ويظهر التناقض الساخر أنّه منذ قرن، سُمح للأمهات بفعل ذلك أكثر من اليوم. وكان من حقهن أن يبقى القماش حول أيدي أطفالهن وعدم التخلص منه، وهو فعلياً أمل باللقاء من جديد رغم أنّه من أكثر الروابط ابتذالاً بالمعنى الحرفي للكلمة.
iii. أمهات الأرجنتين
تجهد نساء الأرجنتين من أجل الكشف عن مصير أبنائهن المفقودين وأحفادهن المتبنين.
ثانيا، الإصلاح القانوني
مع ازدياد المعارضة للتبني، كان هناك مساع لإرساء ممارسات تساهم في جعل التبني نهائياً بأي شكل من الأشكال. تضمن ذلك اعتبار بعض بيانات وثيقة الولادة كهوية الأم أو كلها سرية، وعدم السماح بكشف المعلومات في سجلات التبني، والتعامل مع التبني على أنه “حق إنساني”، إلخ. ورداً على ذلك، برزت جمعيات عدّة للدفاع عن حقوق الأمهات والأطفال والمجتمعات.
· مناهضة تجارة الأطفال)Against Child Trafficking (ACT)
تم تأسيس هذه الجمعية كرد على الإتجار بالأطفال في رومانيا. فبمفهوم مؤسسي هذه المنظمة، “التبني هو تشريع للإتجار بالأطفال”.
· أمة اللقطاءBastard Nation
وتأسست هذه المنظمة رداً على ختم وثائق الولادة بالسرية. وتؤمن هذه المنظمة إحصائيات داخل الدول وجهوداً لفتح وثائق الولادة وجعلها متاحة أمام المتبنين. ولا يقتصر نشاطها على ذلك، بل تقول المنظمة إنّه يجب إنهاء التبني كممارسة، مثلما أنهيت العبودية.
· جمعية حركة تحرير المتبنين Adoptees Liberation Movement Association (ALMA)
تأسست في الولايات المتحدة الأميركية لمساعدة المتبنين على لمّ الشمل مع عوائلهم البيولوجية. وتعمل هذه المجموعة منذ العام 1972 وتصرح بأنّها نجحت في جمع حوالي 8000 شخص، بين أشخاص متبنين وأهاليهم البيولوجيين منذ العام 1971.
ثالثا، الإصلاح الاجتماعي
يعتبر الإصلاح الاجتماعي جبهة أخرى من جبهات مقاومة التبني، في ما يخص المعايير الثقافية والاجتماعية التي تتحول، حين يتم إساءة استخدامها، إلى محفزات ومبررات وغطاء لتشريع التبني.
وعلى مستوى دولي، يظهر ذلك بوضوح في وصمة العار التي تلحق الأم العزباء والأطفال الذين يولدون خارج إطار الزواج. ولقد نشطت مجموعات عدّة لمعالجة هذه المخاوف في الدول التي يتم التبني فيها. مثال: جمعية “الحقيقة والمصالحة لمجموعات المتبنين في كوريا” (تراك) وهي مجموعة تعمل من أجل كشف كل ممارسات الماضي والحاضر في موضوع التبني في كوريا من أجل حماية حقوق الإنسان الخاصة بالمتبنين البالغين والأطفال والعائلات.
رابعا، مساعدة المتبنين على العودة
يواجه المتبنون الذين يرغبون بالعودة إلى أماكن ولادتهم صعوبات بالغة. فهم يواجهون ضغطاً كبيراً للهرب من طبقة الكومبرادور التي سعت بشدة لطردهم من بلدهم. تبرز كوريا من بين الأماكن التي تعالج هذه المسألة عبر تأمين تأشيرات “عودة” خاصة بالمتبنين. ويقف وراء هذه الخطوة الجمعيات المحلية التي تؤوي وتساعد المتبنين العائدين وخصوصاً في مسألة التأقلم.
خامسا، ملائكة البحث
“ملاك البحث” هو شخص يعمل داخل جمعيات التبني في الدول الأنغلو – ساكسونية ويستخدم “ما يعرفه من داخلها” لمساعدة متبنين للحصول على معلومات، أو حتى للوصول إلى عوائلهم مباشرة. وبما أنّهم يعملون غالباً في السر أو في متخفين فلن أسميهم هنا. لكن عملهم أساسي في قضايا عديدة تخص المتبنين كي يتخطوا الانقسام الثقافي الذي يفصلهم عن عوائلهم البيولوجية وكي يعرفوهم.
سادسا، النشاط التعبيري
غالباً ما ينطلق الدعم النفسي للمتبنين من إشكالية عدم تأقلمهم maladjustment. ومن الصعوبة بمكان إيجاد منافذ مناسبة للتعبير عن مشاعر الغضب والحزن والحداد والأسى.. إلخ. وقد قام المتبنون بمساعدة أنفسهم في هذا المجال.
أمثلة:
· مليارات الأصوات (الولايات المتحدة الأميركية) Gazillion Voices
“لخلق منصة للمتبنين وأصدقائهم للحديث عن مسائل مهمة لجماعات التبني ولتصفح مواد غنية ومهمة وتثير النقاش ومتوفرة للجماعة الكبرى، وستقوم في النهاية بإعادة تأطير وتشكيل النقاش حول التبني”.
· مجموعات التبني (هولندا) Adoption Constellations
“ترغب هذه المجموعة في تأمين مساحة للجميع، مع إدماج العائلات البيولوجية وإعطاء تاريخها والديناميات التي تتخلله الأهمية نفسها. إذ يلقى المتبنى في مرات عديدة ذاته في سياقات تقوده إلى مناطق وجود مجهولة بالنسبة اليه، ومن دون فهم الاختلافات الثقافية ومكانتها وموقعها داخل الحياة الحقيقية، فتضيع منه معلومات هامة. لذلك تطور هذه المجموعة مقاربات مختلفة للحياة، والروابط العائلية ولطرق إعادة التواصل مع كل التعقيد المتعلق بشخص المتبنى وما يمثلونه من أبعاد ثلاثية (العائلة الأصلية، المتبنى، العائلة المتبنيّة)”.
سابعا، النشاط الأكاديمي
يجد المتبنون أنفسهم أمام العديد من الدراسات الأكاديمية المرتبطة مباشرة بالتبني: العمل الاجتماعي، العلاج النفسي، علم النفس والطب النفسي، الجنس، العرق والدراسات الطبقية، .. إلخ. وقد ولج بعض هؤلاء عالم الأكاديميا فباتوا يشاركون في صناعة العلوم تلك. ومن أبرز هؤلاء، طوبياس هوبينيت، (واسمه الكوري لي سام دول)، وهو سويدي كوري، وحائز دكتوراه في الدراسات الكورية، وأستاذ مساعد في البرامج التربوية المتعددة الثقافات. وله أبحاث منشورة بشأن العنصرية والفترة (ما بعد) الكولونيالية، وأيضاً بشأن عمليات التبني العابرة للحدود والمتبنين من أعراق مختلفة عن العائلات المتبنيّة لهم. كما نذكر جون رايبل (الولايات المتحدة الأميركية) الحائز الدكتوراه من جامعة آمهرست ماساشوستس في التعليم ودراسات المناهج. وقد تناولت أطروحته تجربة الأبناء البيض غير المتبنين والذين يربون في عائلات تبنت إخوة وأخوات سوداً أميركيين أو كوريين.
ثامنا، محاولات تصحيحية
يعمل المتبنون على إيصال أصواتهم في المجالات الشعرية، أو المسرحية، أو الموسيقية، أو الأدبية، أو الفنية، ليعبّروا عن حالة معترضة ليس فقط على ما حصل لهم شخصياً، بل على الظلم اللاحق بهم كمجموعة، كما أيضاً بحق كل من تم تهجيره أو تجريده من كل شيء. في ما يلي عرض لبعض الأعمال الفنية التي تعمل على إيصال صوت المتبنين:
· ياز: يستخدم “ياز” موسيقى الراب الشعبية لتوصيف “الطفل المتبنى”. يحكي ياز عن الأثر النفسي الذي عانى منه كونه متبنى. الاطلاع على أعمال أخرى في موسيقى الراب منحته توازناً معيناً وجعلته على صلة من خلال هذا الفن بالمقاومة الثقافية للسود في الولايات المتحدة الأميركية. وهو في الوقت نفسه، يتحدث أيضاً عن قضايا مشتركة مع نظرائه أي أطفال المهاجرين من شمال أفريقيا في فرنسا.
· كتب لمتبنين مثل: “أرض التبني” Adoptionland و”الغرباء بيننا”Outsiders Within،
بدأت سردية “وجهة النظر” الناقدة للتبني مع كتاب “المتبنى يكسر الصمت” (The Adopted Break Silence) لكاتبه جان باتون في 1954. وقد جاء الرد عليه سريعاً عبر وصم هذه الآراء بـ”الأصوات الشاذة”. فهي تعبّر عن عمليات التبني “الفاشلة” و”الممزقة”، وليس حالات التبني العادية التي يفترض أنها ناجحة.
· عذراء مالاوي
هذه المسرحية المصاغة في لغة العائلة المتبنية (الكولونيالية) تعطينا لمحة صغيرة عما هو خاص وسري إلى حد ما بسبب الاختلافات اللغوية، واختلاف طرق التعبير، والغياب عن “واقعية فايسبوك”، إلخ. وهي شهادة فاقعة على ردة الفعل العالمية المتزايدة ضد التبني، التي تكشف عن المعاناة وعمليات السلب التي تحصل في كنف الإمبريالية، والكولونيالية، والاستشراق والنيو – ليبرالية.
الخاتمة
لقد ولّت أيام مشاركة المتبنين في قمع ألمهم. هم يعبّرون اليوم عن مشاعرهم وينشطون للتأكيد على استيائهم من الأنظمة الاجتماعية والثقافية نفسها التي من المفترض أنّها “أنقذتهم” من أقدارهم الكئيبة. وهم يعودون إلى أماكن ولادتهم، في محاولة لتصحيح الأخطاء التي ارتُكبت بحقهم. وبذلك، هم يفعّلون وسائل لردم الهوة مع حركات أخرى تتحدث باسم المحرومين والمهمشين. مساهمتي هذه ليست سوى نافذة صغيرة تضيء على نشاط مماثل.
* مدون وخبير في شؤون التبني، جمعية بدائل
نشر هذا المقال في العدد | 24 |كانون الثاني /يناير/ 2015 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
حق المعرفة لألشخاص المٌتبنّين