النزاع حول تمديد ولاية مفتي الجمهورية: بين سيادة الدولة وسيادة السلطات الطائفية


2024-07-26    |   

النزاع حول تمديد ولاية مفتي الجمهورية: بين سيادة الدولة وسيادة السلطات الطائفية

تقدم كل من القاضيان الشرعيان همام الشعار وعبد العزيز الشافعي بمعيّة الشيخ جميل العيتاني بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة من أجل إبطال القرار رقم 55 الصادر عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى بتاريخ 9 أيلول 2023 والقاضي بتعديل بعض مواد المرسوم الاشتراعي رقم 18 الصادر في 13 كانون الثاني 1955 حول الإفتاء والأوقاف الإسلامية بحيث يتم تمديد سنّ ولاية مفتي الجمهورية القانونية حتى السادسة والسبعين وتمديد سنّ ولاية المفتي المحلي القانونية حتى الثانية والسبعين.

وقد اعتبر الطعن أن القرار المذكور صدر من دون احترام الأصول الشكلية التي ترعى عمل المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى إذ جرى اتخاذه في جلسة لم يكتمل نصابها القانوني، إضافة إلى عدم استناده على اقتراح صحيح متّخذ وفقا للأصول صادر عن اللجنة التشريعية التي يتوجب عليها إبداء رأيها في كل اقتراحات تعديل المرسوم الاشتراعي رقم 18. هذا فضلا عن أنّ قرار التعديل تمّ طرحه من خارج جدول الأعمال ولم يتمّ إبلاغه إلى الأعضاء قبل انعقاد الجلسة كما تفرضه النصوص القانونية. لذلك خلص الطعن إلى ضرورة إبطال قرار تمديد سنّ نهاية ولاية مفتي الجمهورية ومفتي المناطق لا سيما وأنه “لم يظهر بعد من أسباب تدلّ على أن هذا التعديل له فائدة عامّة ويتوخى المصلحة العامة تتجاوز مصلحة بعض الأفراد المستفيدين منه”.

وقد ردّ المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى على مراجعة الطعن طالبا ردها لعدم الصلاحيّة كون القرار رقم 55 صدر بناء على قانون 28 أيار 1956 الذي منح المجلس المذكور تفويضا تشريعيا إذ خوله تعديل المرسوم الاشتراعي رقم 18 عبر قرارات نافذة بحد ذاتها من دون العودة لمجلس النواب ما يعني أن هذه القرارات لها صفة النصوص التشريعية التي لا تدخل في اختصاص مجلس شورى الدولة كون صلاحياته تنحصر في الأعمال الإدارية فقط. وقد استفاضت اللائحة الجوابية في تفسير استقلالية الطوائف لدرجة أنها اعتبرت أن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى هو “سيد نفسه في كل ما يتعلق بالمرسوم رقم 18” وأن الطائفة السنّية تتمتع بالحرية الكاملة بإدارة أمورها “مستقلة عن الدولة” كونها “وحدة سياسية قائمة بذاتها” وأن قانون 1956 “منحها السيادة التشريعية ولم يعيّن المرجع المختصّ للبتّ بالتعارض الذي قد يحصل من قرارات المجلس الشرعي وأحكام القوانين المتعلقة بالانتظام العامّ”.

وكان المدير العامّ لرئاسة مجلس الوزراء قد وجّه بتاريخ 14 آذار 2024 كتابا إلى هيئة القضايا في وزارة العدل أكد فيه على الأمر نفسه ومفاده أن قانون 1956 منح الطائفة السنية سيادة تشريعية حقيقية ما يعني أن القرارات التي يتخذها المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى تدخل في عداد الأعمال التشريعية التي لا يجوز الطعن بها أمام القضاء الإداري ما يحتم بالتالي رد المراجعة ضد القرار رقم 55. والخلاصة نفسها يصل إليها محامي الدولة في لائحته المقدمة إلى مجلس شورى الدولة بتاريخ 14 أيار 2024 إذ أشار إلى أن قرارات المجلس الشّرعي الإسلامي الأعلى هي صادرة “استنادا إلى ترخيص وإجازة تشريعية فلا تكون لها صفة القرارات الإدارية حتى يجوز الطعن بها، بل هي تنزل منزلة القانون وتكون لها الصفة التشريعية” ما يعني أنّ المرجع المختصّ للنظر في تلك القرارات هو المجلس الدّستوري الذي يتولى النظر في دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون.

واللافت أن  قضاة الشّرع في المحاكم السنيّة أصدروا في تاريخ 12 كانون الأول 2023 بيانًا رفضوا فيه الطعن بتمديد السنّ القانونية لمفتي الجمهورية وبلغ مستوى عاليا من التهويل. وقد أعلن القضاة في بيانهم عدم جواز “كسر هيبة سماحة المفتي” أو المسّ “بالسيادة المطلقة” للمجلس الشرعي الاسلامي الأعلى كون قبول السلطة القضائية بالنظر في هذه القضية من شأنه “إثارة النعرات الطائفية” وتهديد “السلم الأهلي وزعزعة وحدة صف هذه الطائفة السنية المؤسسة للكيان اللبناني”. ورغم اللغة التهويلية التي شابت البيان، فإن كلا من المجلس الشّرعي الإسلامي الأعلى والمدير العامّ لرئاسة مجلس الوزراء أبرزاه دعما لرفضهما للطعن. 

جرّاء ما تقدم، يتبين أن النزاع حول القرار رقم 55، بغض النظر عن ملابساته وكيفية اتخاذه، يثير مسألة بالغة الأهمية تتعلق بطبيعة الدولة في لبنان وعلاقتها مع الطوائف المعترف بها. والأمر يصبح أكثر إلحاحا عندما تتبنى المديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء موقفا يفضي إلى التخلّي عن صلاحيّات الدولة والتسليم بكل بساطة للطوائف بسيادة تشريعية مزعومة لدرجة قد تدفع المرء إلى تخيّل هذه الأخيرة ككيانات مستقلة كليّا عن الدولة التي تجد نفسها خاضعة لها، إذ ينحصر دورها في تنفيذ مشيئة السلطات الطائفية لا أكثر.

لذلك كان لا بد من تفنيد هذا الادّعاء من أجل شرح العلاقة الدستورية الحقيقة التي تربط الدولة اللبنانية بالطوائف والتأكيد على أنّ استقلاليّة الطوائف في إدارة شؤونها المتعلقة بالأحوال الشخصية والمكرسة في المادة التاسعة من الدستور لا يمكن أن تعني إطلاقا منح تلك الطوائف سيادة تشريعية وفقا للفهم الذي انطلق منه المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى والمديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء المبين أعلاه.

المرسوم الاشتراعي رقم 18 وحقيقة التفويض التشريعي

بعد الاستقلال، قامت الدولة بتنظيم شؤون الطوائف المسيحية والإسلامية وفقا لمعايير مختلفة. ففي حين كرّست الدولة انفصال الطوائف المسيحيّة عن جهازها المركزي عمدت بخصوص الطوائف الإسلامية إلى إصدار تشريعات تؤدّي إلى دمج السلطات الطائفية الإسلامية الإدارية والقضائية في البناء القانوني للدولة اللبنانية. وكانت الطائفة السنّية أول طائفة إسلامية خضعت للتنظيم بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 18 تاريخ 13/1/1955 الذي يعتبر النص الأساسي كونه يمنح هذه الطائفة جهازها الإداري الذي بموجبه تتولّى إدارة شؤونها. وقد نصّت المادة الأولى من هذا المرسوم الاشتراعي على التالي: “المسلمون السنيون مستقلّون استقلالًا تامًا في شؤونهم الدينية وأوقافهم الخيرية يتولّون تشريع أنظمتها وإدارتها بأنفسهم طبقًا لأحكام الشريعة الغرّاء والقوانين والأنظمة المستمدّة منها بواسطة ممثّلين منهم من ذوي الكفاءة وأهل الرأي بالطرق المبينة في المواد التالية”.

وقد أثار هذا المرسوم الاشتراعي حين صدوره جدلًا واسعًا في مجلس النواب الذي شكّل لجنةً برئاسة عبدالله اليافي لدراسة جميع المراسيم الاشتراعية التي أقرّتها الحكومة. وقد وضعت هذه اللجنة بتاريخ 13 أيار 1955 تقريرًا اعتبرت فيه بخصوص المرسوم الاشتراعي رقم 18 “أن الحكومة قد تجاوزت فيه الصلاحية المعطاة لها” لذلك فإن اللجنة توصي بعدم التصديق عليه “واعتبار جميع أحكامه وجميع التدابير المتّخذة بالاستناد إليه كأنها لم تكن.”[1] وقد ردّ رئيس مجلس الوزراء سامي الصلح على اللجنة معتبرًا أن الحكومة لم تتجاوز التفويض الذي منحها إياه مجلس النواب قائلًا “أن الأكثرية الساحقة في الطائفة الإسلامية قد ارتاحت لهذا المرسوم الاشتراعي وارتضت به ونفّذت أحكامه فأقرّت بذلك حسن صنيع الحكومة بإصداره”. لكن الذي لم يكن بالحسبان هو إقدام مجلس شورى الدولة على إبطال المرسوم الاشتراعي رقم 18 كون الحكومة ضمّنته أحكامًا تتعلّق بتنظيم الإفتاء والأوقاف “من دون أن تكون مفوّضة بذلك من السلطة التشريعية فتكون قد قامت بعملٍ يخرج عن دائرة صلاحيتها ويكون عملها باطلًا لصدوره من غير ذي ولاية.”[2]

وقد أثار هذا القرار ردّة فعلٍ قوية من عددٍ كبير من نواب الطائفة السنية كونه يلغي كلّ التدابير التي سبق وأن تمّ اتّخاذها عملًا بالمرسوم الاشتراعي المذكور الذي جرى تطبيقه منذ لحظة صدوره. وكي يتّم تدارك الأمر أقرّ مجلس النواب بطلبٍ من رئيس الحكومة الجديد عبدالله اليافي القانون التالي الذي صدر في 28 أيار 1956 ونصّ في مادته الوحيدة: “يحق للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى أن يعيد النظر في جميع أحكام المرسوم الاشتراعي المذكور وأن يعدّل ما يراه ضروريًا منها لتحقيق الغاية الأساسية منه، وتكون قراراته في هذا الصدد وفي كلّ ما يتعلّق بالإفتاء وبتنظيم شؤون الطائفة الدينية وإدارة أوقافها نافذة بذاتها على أن لا تتعارض مع أحكام القوانين المتعلّقة بالانتظام العام”. أي أن هذا القانون أعاد إحياء المرسوم الاشتراعي رقم 18 مصدّقًا كافة التدابير التي اتّخذت بناءً عليه وهو أيضًا منح الهيئة المخوّلة إدارة شؤون الطائفة السنية صلاحية تعديل المرسوم الاشتراعي من دون الرجوع إلى مجلس النواب، أي أنه منحها تفويضًا تشريعيًا[3] لكنه قرنه بشرط احترام الانتظام العام. ومن البديهي أن يكون مجلس شورى الدولة، وهو القاضي الإداري الطبيعي المخول البت في مشروعية الأعمال الإدارية، صالحا للتأكد من أن هذا التفويض التشريعي يحترم الانتظام العام.

وكان النائب حميد فرنجية قد اعترض في الجلسة ذاتها على ذلك معتبرًا أن المجلس يتنازل عن صلاحياته التشريعية فما كان من سامي الصلح إلّا وأن رّد عليه قائلًا: “إن الصلاحية التي نطلبها للمجلس الإسلامي تنحصر في قضية الإفتاء والأوقاف، وجميع الطوائف الأخرى حائزة على هذه الصلاحيات التي تنظّم شؤونها الداخلية تنظيمًا داخليًا وإجراء تعديل ما تراه مناسبًا، إذن يجب أن يكون للطائفة الإسلامية نفس الحقوق التي للطوائف الأخرى”. وفي ظلّ استمرار الاعتراض على تنازل مجلس النواب عن صلاحياته التشريعية، أعلن رئيس الحكومة “أن الاعتراض الذي تقدم به الزميل الأستاذ حميد فرنجية وجيه لو كان ينطبق على الواقع، الحقيقة هي أن المرسوم رقم 18 ينظم شؤون الأوقاف، وليس في النصّ الحاضر أي حقّ في إجراء التشريع، والسلطة الوحيدة في التشريع عائدة للمجلس النيابي، ولا يجوز أن نتنازل عن هذا الحقّ لأحد ولذلك نحن بعد دراسة هذا الموضوع مع الدوائر المختصة، احتفظ في آخر المادة أن للمجلس الإسلامي أن يعدل ما يراه ضروريا شرط أن لا يتعارض هذا التعديل مع أحكام القوانين المتعلق بحق الانتظام العام، ومن البديهي أن يقال ذلك ومن البديهي أن ليس للمجلس الشرعي أن يشرع، له أن يعدل، أما التشريع فهو من الحق العام”. ومن ثمّ، يكرر رئيس الحكومة هذا الموقف بشكل أكثر وضوحا فيقول: “إني أصرّح هنا ، وأرجو تسجيل تصريحي هذا في محضر الجلسة، بأننا لا نرغب في إعطاء المجلس الإسلامي الأعلى صلاحيّات تشريعية. ومن البديهي ألا يتنازل المجلس النيابي عن سلطته التشريعيّة لأية هيئة خاصّة، أن هذه الصلاحيات التي يمنحها المجلس الإسلامي الأعلى هي صلاحية تنظيمية، أي لتنظيم الأوقاف فقط، كما هو الأمر بالنسبة لأوقاف الطوائف الأخرى”.

وهكذا يتبيّن أن قانون 1956 الذي تذرّع به جميع من طالب بردّ الطعن لم يكن الهدف منه إعلان السيادة التشريعية للطائفة السنية بل جاء كردة فعل على إبطال المرسوم الاشتراعي رقم 18، أي المرسوم الاشتراعي نفسه الذي يعلن استقلال الطائفة السنية في إدارة شؤونها، كون الحكومة تجاوزت التفويض التشريعي الذي منحها إياه مجلس النواب عندما خولها سلطة إصدار وتعديل مراسيم اشتراعية بموجب القانون الصادر في 18 تشرين الأول 1954.

فالدولة اللبنانية لم تكن ملزمة بمنح السلطات الطائفية هذا التفويض التشريعي علما أن المادة التاسعة من الدستور اللبناني التي تضمن “للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية” أقرت سنة 1926 ما يعني أن قانون 1956 لم يمنح هكذا تفويض إلا بعد مرور ثلاثين سنة على الاعتراف الدستوري باستقلالية الطوائف، الأمر الذي يؤكد أن الاستقلالية قد توجد من دون منح الطوائف تفويضا تشريعيا كما حصل وبشكل عرضي سنة 1956 بسبب إبطال الطبيعة التشريعية للمرسوم الاشتراعي رقم 18.

الطبيعة القانونية للقرار رقم 55

عمد المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى على مرّ السنين، عملًا بقانون 1956[4]، إلى تعديل المرسوم الاشتراعي رقم 18 أكثر من مرة عبر قرارات أصدرها وتمّ نشرها في الجريدة الرسمية. وهكذا نلاحظ أن مصدر صلاحية المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى هو القانون، ما يعني أن للمجلس إمكانية تعديله وسحب هذا التفويض في حال قرّر ذلك عملا بسلطانه التشريعي.

ولا شكّ أن كل الجهات التي طالبت بردّ الطعن بسبب الطبيعة التشريعية لقرارات المجلس الإسلامي الشرعيّ الأعلى انطلقت من فهم مغلوط للقانون في القانون الوضعي الحديث. فالقانون من الناحية الدستورية هو العمل الذي أقره مجلس النواب وأصدره رئيس الجمهورية وفقا للآلية المحددة في الدستور ما يعني أن المعيار المتّبع لتحديد القانون هو معيار شكليّ بحت إذ إن مضمون العمل لا يكفي من أجل منحه صفة القانون. إذ أنّ المراسيم الاشتراعية مثلا تحتوي على مضمون تشريعي، أي أنها ماديا شبيهة بالقانون لكنها وفقا للمعيار الشكلي لا تدخل في فئة القوانين كون مجلس النواب لم يقرّها بل هي صدرت عن رئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس الوزراء عليها. فالمضمون التّشريعي للمراسيم الاشتراعيّة لا ينزع عنها صفتها الإدارية كونها تظلّ من الناحية الشكليّة أعمالا إدارية اتّخذتها السلطة التنفيذية بمفردها. وهذا ما أكّده مجلس شورى الدولة الفرنسي وتبعه في ذلك مجلس شورى الدولة في لبنان الذي أكّد في العديد من القرارات[5] على صلاحيته للنظر في المراسيم الاشتراعية وإبطالها في حال مخالفتها لقانون التفويض.

وقد أخطأت اللائحة الجوابية للمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى عندما اعتبرت ليس فقط أن المراسيم الاشتراعية لا يجوز الطعن بها أمام مجلس شورى الدولة بل هي أضافت المراسيم المتخذة وفقا للمادة 58 من الدستور التي تجيز لرئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس الوزراء وضع موضع التنفيذ مشاريع القوانين المعجلة بمرسوم في حال لم يبتّ بها مجلس النواب خلال 40 يوما. فمجلس شورى الدولة سبق له وفي قراره الشهير رقم 8 تاريخ 9 كانون الأول 1970 أن اعتبر أن المراسيم الصادرة بناء على المادة 58 من الدستور “هي أعمال صادرة برمّتها عن السلطة التنفيذية (…) وبما أنها وبهذه الصفة لا تدخل في نطاق الأعمال التشريعية إذ أن هذا النطاق يشتمل كل عمل يصدر عن النواب بينما المراسيم المذكورة هي أعمال إدارية محضة صادرة عن الحكومة فتكون لذلك قابلة للطعن بسبب تجاوز حدّ السلطة”.

لكن هذا المنطق القانوني السليم والواضح بات يصطدم باجتهاد حديث نسبيا ومستغرب لمجلس شورى الدولة[6] الذي اعتبر أن قرارات التعديل التي يتّخذها المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى عملا بقانون 1956  لها صفة النصوص التشريعية ولا يمكن الطعن بها. ولا شكّ أن هذا الموقف يمكن انتقاده لجهة اعتبار تلك القرارات غير قابلة للطعن بسبب طبيعتها التشريعية، كون اجتهاد مجلس شورى الدولة بخصوص المراسيم الاشتراعية ومراسيم المادة 58 من الدستور كان من المفترض أن ينسحب أيضًا على قرارات المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى. إذ أن المعيار الشكلي الذي يسمح بتحديد القانون واستبعاد المراسيم الاشتراعية ومراسيم المادة 58 هو ذاته ينطبق بكليته على تلك القرارات التي لا يقرّها مجلس النواب وبالتالي لا يمكن إطلاقا اعتباره بمثابة القانون العادي حتى لو كان مضمونه يدخل في الحقل التشريعي.

والأغرب أن اللائحة الجوابية للمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى استشهدت بمقال لكاتب هذه السطور من أجل التأكيد على “سيادته التشريعية” بينما كان هدف هذا المقال نقيض ذلك بالكامل إذ هو أنكر هذا السيادة. فقد اعتبرت اللائحة الجوابية أن مجلس النواب “أكد مجددا على الطابع التشريعي لقرارات المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى” عندما وسّع صلاحيات هذا الأخير بموجب القانون رقم 177 الصادر سنة 2011 عبر تعديل المادة 242 من قانون تنظيم القضاء الشرعي السني والجعفري الصادر بتاريخ 16/7/1962 بحيث بات القاضي السني يصدر حكمه بناء على قرارات المجلس المذكور بينما المادة القديمة كانت تحصر دور القاضي بإصدار “حكمه طبقًا لأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة إلّا في الأحوال التي نصّ عليها قانون حقوق العائلة” العثماني.  إذ أنّ توسيع صلاحيات المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى سنة 2011 ليس حجة في صالح السيادة التشريعية للطائفة السنية بل على العكس هو حجة ضدها لأن هذا المجلس لم يكن يستطيع تعديل المادة 242 كونها ليست جزءًا من المرسوم الاشتراعي رقم 18 الذي يحق للمجلس تعديله من تلقاء نفسه كما شرحنا، بل هي مادة في قانون مختلف صدر سنة 1962 وبالتالي كان على مجلس النواب أن يتدخّل ويمنح المجلس الإسلامي صلاحية إقرار الأحكام القانونية التي ستطبّقها المحاكم، بينما كان ذلك لا يدخل في اختصاصه قبل سنة 2011 وهو ما يؤكّد مرة أخرى أن التفويض التشريعي للطوائف يجد مصدره في القانون ويمكن تعديله عبر توسيعه أو الحدّ منه عندما تقتضي الضرورة ذلك.

وقد اعتبر مجلس شورى الدولة أنّه “من المتفق عليه علما واجتهادا أن تجاوز الحكومة لحدود نطاق التفويض يشكل اغتصابا للسلطة وتعديا من السلطة التنفيذية على صلاحيات السلطة التشريعية” ما يجعل المرسوم الاشتراعي المتخذ خلافا لقانون التفويض “عديم الوجود وباطلا من أصله” (قرار رقم 14 تاريخ 19/11/1993). فإذا كانت مخالفة الحكومة، وهي سلطة أوجدها الدستور، لقانون التفويض يجعل المراسيم الاشتراعية عديمة الوجود، فكم بالحري قرارات المجلس الاسلامي الشرعي الأعلى وهو جهة أنشأها قانون عادي مع التسليم بالتناقض الذي ينطوي عليه منح تفويض تشريعي لهيئة لا وجود دستوري لها؟ فمجلس الوزراء لا يستطيع تعديل نصابه وكيفية اتخاذه للقرارات كون تلك المواضيع حددها الدستور نفسه، بينما الأصول التنظيمية التي ترعى عمل المجلس الاسلامي الشرعي الأعلى محددة في المرسوم رقم 18 الذي يمكن تعديله بقرار من المجلس ذاته، أي أن لهذا الأخير تعديل كيفية ممارسته للتفويض التشريعي وهو تناقض خطير يصبّ في اعتباطية السلطة ولا يمكن اعتباره من باب احترام السيادة التشريعية للجهة التي منحت هكذا تفويض.

من جهة أخرى، اعتبر مجلس شورى الدولة أنّ علاقة الدولة القانونية بالطوائف الإسلامية هي مماثلة لعلاقتها بالمؤسسات العامة: “وحيث أن الاستقلال الإداري والمالي الذي تتمتع به إدارة الإفتاء والأوقاف لا يزيل عنها الصفة الإدارية الرسمية العامّة بل يجعلها من المؤسسات العامة التي ليست في الواقع إلا إدارات فصلت عن مصالح الدولة لتعطي استقلالا إداريا ملحوظا خارج الدولة وتمنح الشخصية المعنوية تأمينا لهذا الاستقلال فيكون لها ميزانية خاصة وممتلكات مستقلة وحق التقاضي لدى المحاكم” (قرار رقم 399 تاريخ 18 حزيران 1956). فالمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى وسائر السلطات الطائفية الإسلامية ليست مؤسسات دستورية أو سلطات مستقلّة استقلالا تامّا عن الدولة، بل هي شبيهة بالمؤسسات العامة التي تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلالية الذاتية التي تسمح لها بإدارة شؤونها الخاصة، ما يعني أن القرارات التي تصدر عنها تظلّ خاضعةً لمبدأ المشروعية ولا بد من وجود سلطة قضائية مختصة بمراقبة  حسن احترام هذا المبدأ[7]

وهذا تحديدا ما كان قد أكده مجلس شورى الدولة إذ اعتبر أن القرارات التي يتخذها المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى عملا بالتفويض التشريعي الممنوح له بموجب قانون 1956 لا تخضع لرقابته “إلا لجهة صدورها ضمن نطاق التفويض التشريعي وعدم مخالفتها للأحكام المتعلقة بالانتظام العام، مما يجعل القرار المطعون فيه قابلا للطعن أمام هذا المجلس وخاضعا لرقابته ضمن الحدود المبينة آنفا” (قرار رقم 182 تاريخ 13/12/2004)، الأمر الذي يدحض بالكامل مزاعم السيادة التشريعية، وينقض اجتهاد مجلس شورى الدولة اللاحق الصادر سنة 2006 والذي اكتفى بالقول أن تلك القرارات لا يمكن الطعن بها بسبب صفتها التشريعية.

وقد عاد وأكد مجلس شورى الدولة مجددا على صلاحيته بالنظر في قرارات المجلس الاسلامي الشرعي الأعلى عندما استفحل الخلاف بين مفتي الجمهورية السابق محمد رشيد قباني والمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، إذ أصدر قرارا اعتبر بموجبه أن المجلس الاسلامي الشرعي الأعلى يعتبر “هيئة دينية مستقلة تتولى مهمة تحقيق وتسيير مرفق عام وهو يتمتع في سبيل تحقيق أهدافه بامتيازات السلطة العامة التي تتمثل في اتخاذ التدابير اللازمة لتنظيم الشؤون الدينية للطائفة السنية وإدارة جميع أوقافها الخيرية والمحافظة على مصالحها الدينية، فتعتبر بالتالي التدابير الصادرة عنه في المواضيع والمسائل المذكورة (…) أعمالا إدارية وتقبل بهذه الصفة الطعن بطريق الإبطال (قرار رقم 544 تاريخ 15 نيسان 2014).

وقد كرر مجلس شورى الدولة في قراره هذا اجتهاده السابق الذي اعتبر “أن قرارات المجلس الشرعي الإسلامي الاعلى لا تخضع لرقابة مجلس شورى الدولة الى لجهة صدورها ضمن نطاق التفويض التشريعي وعدم مخالفتها للأحكام المتعلقة بالانتظام العام” ما ينفي مجددا مقولة “السيادة التشريعية” أو أن المجلس الشرعي “سيّد نفسه” إذ كيف يعقل أن يكون سيدا ومصدر صلاحياته هو تفويض من مجلس النواب، ولا يمكن له أن يمارسه إلا تحت رقابة القضاء الإداري الذي يعود له التأكد من أن هذا التفويض يتم تطبيقه من قبل السلطة المختصة وفقا للأصول الشكلية القانونية. فصحيح أن قانون 1956 منح تفويضا واسعا لهذا المجلس لكن هذا التفويض لم يكن مطلقا ولا يمكن أن يكون مطلقا كونه بكل بساطة وضع مجموعة من الضوابط تتمثل في النقاط التالي:

-التفويض منح لجهة واحدة أي المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى الذي يتوجب عليه ممارسة صلاحياته وفقا للأصول المحددة في المرسوم الاشتراعي رقم 18. لا بل أن هذا الأمر يشكك حتى في قدرة المجلس على تعديل الأصول القانونية التي تتعلق بتكوينه ونصابه وكيفية اتخاذه للقرارات.

-التفويض منح ضمن نطاق محدد يتعلق بالإفتاء والأوقاف ولا يمكن بالتالي تجاوز نطلق هذا التفويض لتحقيق غايات مغايرة عن الغاية القانونية التي أرادها المرسوم الاشتراعي رقم 18.

-التفويض يجب أن يمارس ضمن قواعد الانتظام العام التي حددها اجتهاد القضاء الإداري على مرّ السنوات.

وهكذا يتبين أن الحصانة المطلقة لقرارات المجلس الاسلامي الشرعي الأعلى لا وجود قانوني لها، ولا يمكن أن تكون موجودة أصلا في دولة تقوم على بناء قانوني موحد رأسه الدستور.

المجلس الدستوري وتكريس سيادة الدولة التشريعية

حاولت كل الجهات التي تقول بالطبيعة التشريعية للقرار رقم 55 الاستناد إلى قرارات المجلس الدستوري التي تؤكّد على الاستقلال الذاتي للطوائف من أجل تبرير عدم اختصاص القضاء الإداري للنظر في مراجعة الطعن. لكن التدقيق في هذه القرارات يظهر حقيقة مغايرة كون المجلس الدستوريّ أكّد صراحةً أن المادة التاسعة من الدستور وإن كانت تعطي “للطوائف استقلالًا ذاتيًا في إدارة شؤونها ومصالحها الدينية، فإنه لا يحجب حق الدولة في سن التشريعات المختلفة والمتعلّقة بتنظيم أوضاع هذه الطوائف وفقًا لأحكام الدستور. وبما أن حق الدولة في التشريع هو حق من حقوق السيادة التي تستمد مصدرها من الشعب وتمارسها الدولة عبر مؤسّساتها الدستورية (…) وبما أن سلطة التشريع هي سلطة أصيلة ومطلقة وقد حصرها الدستور بهيئةٍ واحدة دون غيرها هي مجلس النواب.”[8]

لا بل أكثر من ذلك، اعتبر المجلس الدستوري أن لمجلس النواب سلطة شاملة في التشريع وبالتالي له صلاحية “وضع القوانين التي تنظّم شؤون الطوائف، وصلاحية تعديلها، شرط عدم المساس باستقلاليتها في إدارة شؤونها.”[9] وذهب المجلس الدستوري في القرار نفسه إلى اعتماد تمييز أساسي بالغ الأهمية في التفريق بين شؤون الطائفة الإدارية التي تختلف في جوهرها عن شؤونها الدينية ما يجعل من الشؤون الإدارية قضية تنظيمية تخضع لتقدير مجلس النواب “صاحب الصلاحية الأصلية والمطلقة في التشريع في كلّ ما يتعلّق بتنظيم الإدارة الذاتية للطوائف تطبيقًا للمادتَين 9 و10 من الدستور شرط ضمان ممارسة الحرّيات والشعائر الدينية”.

فالمجلس الدستوري في القرار المذكور لاحظ أنّ مراجعة الطعن حينها تضمّنت “التباسا حول مجال الاستقلالية الذاتية للطائفة” عبر الإنكار على السلطة التشريعية لحقها في التدخل كون النقاط التي كان يدرسها المجلس الدستوري انحصرت في الشؤون الإدارية للطائفة العلوية (تشكيل الهيئة العامة والهيئة الشرعية والهيئة التنفيذية وانتخاب الرئيس ونائب الرئيس) وهي أمور لا علاقة لها بالشؤون الدينية ما يجيز لمجلس النواب تنظيمها وفقا لصلاحياته التشريعية الحصرية التي منحه إياها الدستور.

فالقرار رقم 55 بتمديده ولاية مفتي الجمهورية والمفتي المحلي يكون قد عالج شأنا إداريّا بحتا لا يدخل في الشؤون الدينية، وبالتالي يحق لمجلس النواب تنظيمه بنفسه أو عبر تفويض ذلك إلى السلطات الطائفية، ما يعني أن ما منحه مجلس النواب يمكن له أن يسترده خاصة إذا كان هذا التفويض يتعلق بشؤون الطائفة الإدارية.

وما يؤكد هذا المنحى هو أن التفويض التشريعي الواسع الذي منحه مجلس النواب سنة 1956 للطائفة السنية لم يتم تكراره بالطريقة ذاتها بخصوص الطوائف الشيعية والدرزية والعلوية. فقد نصّت المادة 31 من القانون المتعلّق بتنظيم الطائفة الشيعية الصادر سنة 1967 على التالي: “باستثناء المواد الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة من هذا القانون ومع مراعاة أحكام المادة السادسة والعشرين منه يحق للهيئتَين الشرعية والتنفيذية مجتمعتَين أن تعيدا النظر في أحكامه وأن تبدّلا ما تريانه ضروريًا منها لتحقيق الغاية الأساسية منه ويكون قرارهما في هذا الصدد وفي كلّ ما يتعلّق بشؤون الطائفة الدينية وإدارة أوقافها نافذًا بذاته شرط أن يقترن بموافقة الهيئة العامة وأن لا يتعارض مع أحكام القوانين المتعلّقة بالنظام العام”. من الملاحظ أن التفويض التشريعي الممنوح هنا ليس مطلقًا كما هي الحال مع الطائفة السنية إذ هو يشمل فقط إمكانية تعديل بعض مواد هذا القانون وليس جميعها.

إذا كان مجلس النواب قد ارتأى منح السلطات الدينية للطائفتَين السنية والشيعية تفويضًا تشريعيًا صريحًا فهذا لم يمنعه من حجب هذه الصلاحية عن الطائفة الدرزية إذ جاءت القوانين المتعلّقة بتنظيم الطائفة، القديمة كما الجديدة، خالية من هكذا تفويض، بينما نصّت المادة 31 من القانون المتعلّق بتنظيم شؤون الطائفة العلوية الصادر سنة 1995 على منح هكذا تفويض لكن بطريقة ملتبسة وغير مباشرة وفقًا للتالي: “يحق للهيئتَين الشرعية والتنفيذية مجتمعتَين أن تعيدا النظر بالمواد المتعلّقة بحسن سير العمل بقصد تحقيق الغاية الأساسية من هذا القانون ويكون قرارهما في هذا الصدد وفي كلّ ما يتعلّق بشؤون الطائفة العلوية الدينية وإدارة أوقافها نافذًا بذاته شرط أن يقترن بموافقة الهيئة العامة وأن لا يتعارض مع أحكام القوانين المتعلّقة بالنظام العام”.

إذ أنّ التفويض التشريعي في الشؤون الإدارية اختلف بين طائفة وأخرى ما يعني أنه لم يكن يستند إلى موجب دستوري يحتم منح هكذا تفويض وإلا كان من الضروري منح التفويض نفسه لكل الطوائف، لا تبني نصوص مختلفة في تواريخ متباعدة كانت نتيجة الظروف السياسية التي أملتها وهذا ما ظهر جليا بخصوص قانون 1956 المتعلق بالطائفة السنية الذي صدر كردّة فعل، ولا يمكن الاستناد عليه من أجل منح الطوائف “سيادة تشريعية” مطلقة وشاملة لا يمكن أن توجد في الدولة الحديثة حيث الشعب هو مصدر السيادة الوحيد. هذا فضلا على أن قانون 1956 صدر في ظل غياب الرقابة على دستورية القوانين بينما بعد 1990 باتت هذه الرقابة موجودة مع إنشاء المجلس الدستوري، ما يعني أن هذا القانون لو صدر اليوم كان يمكن الطعن به أمام المجلس الدستوري الذي كان سيتولى رسم حدود هذه الاستقلالية التشريعية للطوائف. 

في اختصاص المجلس الدستوري

نصّت المادة 19 من الدستور اللبناني على إنشاء مجلس دستوري “لمراقبة دستورية القوانين” بينما نصت المادة 18 من قانون انشاء المجلس الدستوري الصادر سنة 1993 على صلاحية المجلس الدستوري للنظر في “دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون”. ولا شك أن المادة 18 هي مستغربة جدّا كونها تمنح المجلس الدستوري صلاحية لم يمنحه إياها الدستور.

والأخطر من ذلك أن الفقرة الثانية من المادة 18 تضيف التالي: ” خلافا لأي نصّ مغاير، لا يجوز لأي مرجع قضائي أن يقوم بهذه الرقابة مباشرة عن طريق الطعن أو بصورة غير مباشرة عن طريق الدفع بمخالفة الدستور أو مخالفة مبدأ تسلسل القواعد والنصوص”. فمنع سائر السلطات القضائية من النظر بدستورية القوانين العادية هو أمر متّبع في دول تتبع النظام الفرنسي حيث الرقابة على دستورية القوانين تتسم بالحصرية والمركزية أي بوجود سلطة واحدة مخولة للبت في دستورية القوانين التي يقرها مجلس النواب. لكن منع سائر السلطات القضائية من النظر في النصوص التي لها قوة القانون هو مستهجن ليس فقط لأن الدستور لم يولِ المجلس الدستوري هكذا صلاحية لكن أيضا لأن مؤدى ذلك هو حجب اختصاص مجلس شورى الدولة عن النظر في المراسيم الاشتراعية ومراسيم المادة 58 من الدستور. فهذه المراسيم، حتى لو توقفت عن الصدور بعد 1990 لأسباب سياسية لا مجال لشرحها الآن، تتناول مجموعة كبيرة جدا من المسائل التي تهمّ المواطنين على اختلافهم. فبينما كان يحقّ لأيّ فرد لديه الصفة والمصلحة الطعن بتلك المراسيم أمام القضاء الإداري، يشكّل القبول بالتفسير الذي يعطيه المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى والمديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء للمادة 18 من قانون إنشاء المجلس الدستوري حائلا دون تمكين الأفراد العاديين من الطعن بهذه المراسيم، كون المادة 19 من الدستور تحصر حق مراجعة المجلس الدستوري برؤساء الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء وعشرة نواب وبرؤساء الطوائف المعترف بها في الأمور المتعلقة حصرا بالأحوال الشخصية والحريات الدينية.

فالأمر لا يتعلق فقط بتضييق هامش الطعن أمام القضاء الإداري لكن أيضا بحرمان المتضرّر من الطعن، ما يشكّل انعداما مطلقا للعدالة. فقرارات المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى التي تتمتع “بقوة القانون” تصدرها السلطات الطائفية برئاسة مفتي الجمهورية الذي يحقّ له الطعن بها عملا بهذا المنطق أمام المجلس الدستوري، وهو أمر متناقض لا يستقيم إذ لا يعقل أن يطعن المفتي بقرار أصدره هو بينما المتضرر وصاحب المصلحة الفعلية بالطعن يجد نفسه محروما من حقه الطبيعي بمراجعة القاضي الإداري، ما يعني تحرير السلطات الطائفية من أي رقابة جدية، علما أن مجلس شورى الدولة الفرنسي يعتبر نفسه صالحا للنظر في المراسيم الاشتراعية التي لم يصدقها البرلمان الفرنسي وطالما أنها لم تكتسب بعد الصفة التشريعية النهائية.

وما يفاقم من شذوذ المادة 18 هو غياب أي طعن جرى تقديمه بنص يتمتع بالقوة القانونية من قبل المراجع المحددة في المادة 19 من الدستور أمام المجلس الدستوري منذ استحداثه وحتى اليوم، هذا فضلا على أن الدستور حصر اختصاص المجلس الدستوري في الحريات الدينية بينما القرارات التي تصدرها السلطات الطائفية الإسلامية لتعديل نصوص قانونية يتوجب إخضاعها للرقابة ليس فقط لناحية مضمونها لكن أيضا لكيفية اتخاذها والأصول الشكلية الواجب اتباعها قبل صدورها.  فهل سيعلن المجلس الدستوري اختصاصه للنظر في هذا الجانب أيضا من هذه القرارات؟ وهل يوجد رئيس طائفة من الطوائف الإسلامية التي منحها القانون تفويضا تشريعيا سيقوم بالطعن بقرارات أصدرها هو أو وافق عليها على أقل تقدير أمام المجلس الدستوري؟

في الخلاصة، يتبين أن النزاع حول القرار 55 يتخطى بأشواط الملابسات التي رافقت صدوره ومدى احترامه للأصول الشكلية التي يوجبها القانون، إذ هو في حقيقته نزاع على سيادة الدولة وطبيعتها المدنية التي باتت تتعرض لتشكيك متزايد عبر تصويرها كمجرد أداة تهدف إلى تنفيذ إرادة السلطات الطائفية، الدينية منها والسياسية. وما فاقم من هذا الخلل في فهم طبيعة الدولة المدنية في لبنان هو اجتهاد مجلس شورى الدولة الذي تخلى عن دوره في رقابة قرارات المجلس الاسلامي الشرعي الأعلى (أقله لناحية احترامها الانتظام العام والأصول الشكلية التي ترعى اتخاذها) علاوة على المادة 18 الملتبسة من قانون انشاء المجلس الدستوري والتي لا محل لها في النظام القانوني اللبناني. فالدولة في لبنان مدنية وعلاقتها بالطوائف تحكمها سيادة الدولة التشريعية، لكن انسحاب الدولة التدريجي وتراجعها عن تأكيد دورها لأسباب سياسية تتعلق بالسلطة الحاكمة أدخلا مفاهيم غريبة عن المنطق الدستوري السليم أدّت في نهاية المطاف إلى تزايد مزاعم السلطات الطائفية التي باتت تنظر لنفسها ككيانات سياسية تتمتع بحصانة مطلقة وما على الدولة سوى الخضوع لها، بينما هي فقط مجرد سلطات أوجدها القانون لممارسة مجموعة من الاختصاصات المحصورة بمسألة الأحوال الشخصية وإدارة المصالح الدينية ولا شرعية تمثيلية لها كي تدعي تمثيل الطائفة سياسيا. 


[1]تلي تقرير اللجنة في جلسة مجلس النواب بتاريخ 26 أيار 1955.

[2] قرار رقم 522 تاريخ 9/11/1955.

[3]  وسام اللحام، لبنان دولة مدنية:حقيقة دستورية، دار سائر المشرق، 2023، ص. 60.

[4] وقد تراجع مجلس شورى الدولة عن قراره بإبطال المرسوم الاشتراعي بعد صدور قانون 28 أيار 1956 معتبرًا أن هذا الأخير “قد أقرّ شرعية المرسوم الاشتراعي رقم 18 ووضعه في مصاف القوانين النافذة” (قرار رقم 339 تاريخ 18 حزيران 1956).

[5]  على سبيل المثال القرار رقم 125 تاريخ 12 أذار 1970.

[6]قرار رقم 16 تاريخ 12/10/2006.

[7] لا بد من التذكير أنه وفي ظل الصراع السياسي الذي كان قائما بين مفتي الجمهورية السابق محمد رشيد قباني وأعضاء المجلس الاسلامي الشرعي الأعلى قام مجلس شورى الدولة سنة 2013 بإصدار مجموعة من القرارات التي تقضي بوقف تنفيذ قرارات المفتي المتعلقة بانتخابات المجلس الشرعي الإسلامي أو تكليف مفتين جدد للمناطق.

[8]قرار رقم 2 تاريخ 8/6/2000

[9]قرار رقم 22 تاريخ 19/8/2019.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني