الناقورة دمّرت في هدنة: آخر الأدلّة على جريمة نسف القرى


2025-01-09    |   

الناقورة دمّرت في هدنة: آخر الأدلّة على جريمة نسف القرى
التجريف والتدمير في الناقورة

تقف مريم محدّقة في الأفق، ترصد بلدتها الناقورة من على شاطئ صور، حيث يدوّي صوت تفجير ضخم يضيء سماء البلدة الساحلية، ويسافر صداه 17 كيلومترًا إلى حيث تقف. “نسف”، تهمس لنفسها قبل أن تغرق في صمت طويل، مسمّرة نظرها نحو البلدة التي تُخفيها الظلمة مجددًا. انتصف الليل هنا، ومريم ما زالت تميّز الناقورة من خلال الأضواء الباهرة التي تنير المقرّ العام لقوّات اليونيفيل عند مدخل البلدة. “ماذا أحكي عن نسف البلاد؟ رؤية الوطن يُدمّر أمام عينيك، خارج إطار أي معركة، بل في غدر صريح”، تقول قبل أن يقطع صمتها دويّ عملية نسف ثانية.

ما تخفيه المسافة عن ناظري مريم، يتكشّف جزئيًا من خلال الفيديوهات التي يسرّبها وينشرها الجنود الإسرائيليّون وتتداولتها منصّات إسرائيليّة بشكل غير رسميّ. هذه الفيديوهات التي تصل إلى أهل الناقورة، توثّق عمليات هدم المنازل وتجريف الطرق والبساتين، بينما يبحث الأهالي عن معالم بلدتهم أو يرونها تمحى. تأتي تاليًا صور الأقمار الاصطناعيّة لتعطي صورة عن الواقع.

خلال فترة وقف إطلاق النار، استمرّت أعمال التوغّل والنسف الإسرائيلية، ممثّلة انتهاكات جسيمة ومتواصلة للاتفاق المُعلن. بدأ التوغّل الإسرائيليّ في 12 كانون الأوّل 2023 وتمّ الانسحاب من داخل القرية في 6 كانون الثاني 2025.

تبرز الناقورة كأحد الأمثلة البارزة على خطورة هذه الانتهاكات، حيث جاء كامل التدمير تحت غطاء اتفاق الهدنة. كما تُقدّم حالة تدمير الناقورة أدلّة واضحة وأخيرة على النيّة التدميريّة الإسرائيليّة البحتة وراء استراتيجيّة نسف قرى المنطقة الحدوديّة، بدءًا من التقدّم نحو القطاع الشرقي تحت غطاء المعارك، وصولًا إلى استمرارها رغم انتهاء المعارك. 

يتناول هذا التحقيق التدمير الممنهج لبلدة الناقورة، من خلال تحليل صور الأقمار الاصطناعية والفيديوهات المسرّبة من الجنود، ويسرد من خلال شهادات أهلها قصة بلدة حدودية استهدفت بعمرانها وكامل الوجود الإنساني والثقافي فيها، لكنّ قصّتها تظلّ راسخةً في وجدان أهلها الذين باتوا شهودًا على العنف والجريمة، ينتظرون العودة، ويصمّمون على إعادة البناء.

“منطقة منكوبة”

خلال التوغّل الإسرائيلي في الناقورة الذي استمرّ 26 يومًا، وثّقت “المفكّرة” عمليّات نسف من خلال التفخيخ وثمّ التفجير نفّذها الجيش الإسرائيلي خلال 12 يومًا متفرّقة، وأثّرت بشكل جذري على البلدة. وبالاستناد إلى صور الأقمار الاصطناعيّة، دمّرت إسرائيل خلال الهدنة ضعف ما تمّ تدميره خلال الحرب نفسها. 

أحصت “المفكّرة” تدمير 87 مبنى بالقصف الإسرائيليّ خلال الحرب، وتضرُّر 32 مبنى آخر، وذلك بحسب تحليل صور الأقمار الاصطناعيّة العائدة إلى تاريخ 10 كانون الأوّل 2024. وتعني هذه الأرقام أنّ 32% من مباني الناقورة الـ 370، تضرّرت في الحرب. لكنّ الصور التي عاينّاها والمأخوذة في تاريخ 6 كانون الثاني 2025، ستسمح بتقدير أنّ نصف مباني الناقورة اليوم باتت مدمّرة بالكامل، فيما النصف الآخر أصابه تدمير جزئيّ أو يحتاج لمعاينة ميدانيّة للتثبّت من حجم الأضرار فيه. ومع صعوبة حسم نطاق الأضرار الناتجة عن الهدم الجزئي لبعض المنازل بالجرّافات، أو حرقها، يمكن تقدير أنّ 90% من مباني الناقورة اليوم تحمل أضرارًا متفاوتة. وشمل التدمير الكلّي والجزئيّ خلال فترة الهدنة، مباني سكنيّة وخدميّة وتجاريّة. 

ومن بين المباني المستهدفة، البلديّة والمسجد والمدرسة الابتدائية الوحيدة في البلدة، ومستوصف حكوميّ يخدم الناقورة و12 قرية مجاورة. وتظهر صور الأقمار الاصطناعيّة بوضوح تجريفًا واسع النطاق لأحياء كاملة. والأحياء الأكثر تضررًا جرّاء الغزو الإسرائيليّ في فترة الهدنة، هي حيّ وسط البلدة، وحي أم سعد الدين، وحي الكسارة، والحي الشمالي، وحي الطباسين جنوبًا، كما شملت الأضرار تدميرًا لعدد من القبور في مقبرة القرية.

مشاهد توثّق توغّل الجنود الإسرائيليّين إلى داخل الأحياء السكنيّة في الناقورة

وتكشف صور الأقمار الاصطناعيّة التسلسل الزمني والمكاني للتجريف، وبمقارنة الصور المتوفّرة في 7 تواريخ مختلفة خلال فترة التوغّل، بين 12 كانون الأوّل 2024 و6 كانون الثاني 2025، يتّضح أنّ القوّات الإسرائيليّة تمركزت في أقصى الناحية الجنوبيّة الشرقيّة، وتوغّلت بجرّافاتها ناحية الجنوب الغربي في الأيام الأولى، ثمّ عادت أدراجها وانطلقت بعمليات نسف وتجريف شمالًا، واتّجهت شرقًا لتصل إلى مركز اليونيفيل الرئيسيّ قرب البحر، قبل أن تتوغّل في قلب أحياء البلدة. واستمرّ النسف والتجريف مع كلّ متر جديد تدخله هذه القوّات. 

صورة جويّة لبلدة الناقورة عقب وقف إطلاق النار وقبل الغزو (القمر OnGeo™ Intelligence الاصطناعيّ – 4 (12 2024
صورة جويّة لبلدة الناقورة توضح بدء مسارات التجريف شرقًا وشمالًا (القمر OnGeo™ Intelligence الاصطناعيّ – 24 (12 2024

وتأتي هنا الفيديوهات لتوثّق جانبًا من الارتكابات خلال حدوثها. عاينت “المفكّرة” 9 فيديوهات، وتحققت من زمانها ومكانها، باللّجوء إلى تحديد المكان الجغرافيّ ومقارنة الدمار الموثّق في الفيديو مع ذلك الذي تظهره صور الأقمار الاصطناعيّة. وتوثّق هذه الفيديوهات أعمال هدم وتجريف يقوم بها جنود إسرائيليّون وتطال البيوت والمرافق العامة والطرقات، في كافّة أنحاء القرية، بما فيها المواقع المحاذية للمقرّ العام لليونيفيل ونقاط الجيش اللبناني. وتُظهر هذه الفيديوهات حجم الأضرار التي لحقت بالمنازل المدنية، بما في ذلك إحراق منازل عدّة.

وبخصوص أثر التجريف على البنية التحتيّة، تظهر صور الأقمار الاصطناعيّة تدمير مشروع يضمّ 250 لوحًا للطاقة الشمسيّة مخصّصًا لجر المياه من أحد الآبار الرئيسيّة في القرية، وكذلك تدمير خزّان المياه الرئيسيّ ويظهر تخريبًا ظاهرًا عند البئر الارتوازي الذي يغذّيه. بدورها تظهر الفيديوهات حجم التخريب في الطرقات، بما يؤدّي إلى تدمير الإمدادات تحتها، وكذلك يظهر تخريبًا كبيرًا في شبكات الكهرباء وتدمير أعمدتها.

ويحدّد رئيس بلديّة الناقورة عبّاس عواضة موقع الخطّ الرئيسيّ لمياه الصرف الصحّي، وكذلك مواقع خطوط الاتصالات، تحت الأرض، ليظهر من خلال الفيديوهات ومراجعة صور الأقمار الاصطناعيّة أنّها قد جرّفت بدورها. ويؤدّي تجريف الطرقات إلى تخريب الإمدادات تحتها. ويقول عواضة في حديثه لـ “المفكّرة” إنّه يستعدّ لإعلان البلدة “منطقة منكوبة” مع العودة والتثبّت من الأضرار على الأرض.

توثّق هذه المعطيات نمطًا من “التدمير الشامل” في الناقورة نتج بشكل مباشر عن غزو القوّات الإسرائيليّة للبلدة بعد وقف إطلاق النار.

مشاهد توثّق هدم وتجريف أحد المنازل في الناقورة

مواقع مهدّدة

قابلت “المفكّرة” أفرادًا وأسرًا من أهالي الناقورة المهجّرين عنها، وجمعت شهاداتهم هذه أثناء التقدم العسكري الإسرائيلي واستمرار أعمال النسف والتجريف فيها.

وفي الناقورة، 80 صيّادًا يعتاشون على الصيد، عطّلت أعمالهم لـ 15 شهرًا، ولا يزالون محرومين من العودة إلى بحرهم. أعرب الصيّادون عن مخاوف كبيرة تتعلّق بمراكبهم في ميناء الناقورة، وهم حرموا رغم وقف إطلاق النار من التوجّه إلى الميناء. في 28 كانون الأوّل الماضي، توجّه عدد من الصيّادين إلى الميناء بعد أن استحصلوا على إذن، بالتنسيق مع اليونيفيل، للاطّلاع على الأضرار أو إخراج المراكب، إلّا أنّهم وُوجهوا بإطلاق نار باتجاههم، بحسب ما روى عدد منهم لـ “المفكّرة”، ممّا اضطرّهم إلى الانسحاب.

وقال الصيّاد عاطف جهير إنّه رصد غرق 5 مراكب جرّاء الإهمال الطويل ومنع الصيّادين من إخراج مراكبهم قبل دخول الطقس العاصف. وأضاف في شهادته لـ “المفكّرة” أنّ أحد المراكب فقد من الميناء. وتابع: “ننتظر السماح لنا بالعودة إلى البحر اليوم قبل الغد. البحر حياتنا وليس فقط مصدر دخلنا الوحيد، لكنّ العودة إليه اليوم لا تزال خطرة”. 

وأعرب معظم من قابلتهم “المفكّرة” عن قلقهم العميق تجاه مواقع ذات أهمية تاريخية وثقافية، بما في ذلك الموقع الأثري “أم العمد”، وهو موقع أثري يعود بناؤه إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، يضمّ معبدين فينيقيًّين ويزخر بشواهد تحمل نقوشًا فينيقيّة (حفظت لوحات عبادة اكتشفت فيه في المتحف الوطني في بيروت ومتحف اللوفر في باريس). ويعدّ المكان من أهمّ الشواهد على الثقافة الفينيقية خلال حكم اليونانيّين.

واجه هذا الموقع، الذي نجا من التاريخ، خلال العدوان ومع فترة الهدنة، تهديدات مباشرة وغير مباشرة نتيجة الضربات الإسرائيلية على البلدة الصغيرة واستخدام الأسلحة الثقيلة التي قد تُسبّب أضرارًا جسيمة لهياكله الهشّة ومحتوياته الأثرية، وهو ما سيحتاج إلى تقييم الخبراء.

وبالإضافة إلى غناها الأثري، تحتضن الناقورة أيضًا، نظرًا لموقعها الاستراتيجيّ وطبيعتها شبه الجبليّة، نفق سكك حديد تاريخيّ يشقّ المنحدرات الصخرية من الحجر الجيري الأبيض، ويربط لبنان بفلسطين، أنشئ تحت إشراف الجيش البريطاني في أربعينيات القرن الماضي. هذا النفق، تعرّض الجزء اللبنانيّ منه لتجاوزات إسرائيلية متكرّرة تاريخيًّا، شملت قضم أراض فوقه من خلال بناء جدار اسمنتيّ شمالي الخط الأزرق.

ملاك، ابنة الناقورة المقيمة في بيروت، تشارك مخاوف الأهالي قائلة: “البيوت القديمة دمّرت، والأشجار المعمّرة جرّفت، لكن لنا في الناقورة أماكن لا نزال نخاف عليها ولا نعرف عنها شيئًا. من هذه الأماكن الموقع الأثريّ، والنفق التاريخيّ، وسكّة الحديد التي لا تزال تذكّرنا بماضٍ عاشه أجدادنا مع جيرانهم الفلسطينيّين من دون احتلال ومن دون حدود ومناطق عازلة وتدابير عسكريّة ومفاوضات”. 

فيديو سجّله أحد أبناء الناقورة فور انسحاب الجيش الإسرائيلي في 7 ك2 الجاري، عند مدخل البلدة ويظهر الدمار والتجريف الهائلين والساتر الترابي الذي أقامه الإسرائيليون

أبعد من الذرائع الإسرائيلية

التوغّل الإسرائيلي في الناقورة، الذي بدأ بعد 15 يومًا من إعلان وقف إطلاق النار، وما تبعه من تدمير ممنهج للبلدة الساحلية، ترك صدمةً عميقةً بين السكان. فيما كانت سناء النازحة إلى البازروية تكاد تنتهي من تنخيل زعتراتها، وتحرّك كرسيًّا بلاستيكيًّا للجلوس، كانت تصغي إلى أسئلة زوجها علي مليجي وهي تتزاحم لكنها تدور حول معنى واحد: كيف تدمّر الناقورة تحت غطاء وقف إطلاق نار؟ 

يقول الطرف الإسرائيلي  في حكاية التدمير هذه، إنّ هذه الأعمال تقع ضمن “عمليات تمشيط”، أو “مصادرة أسلحة” أو “تدمير بنى تحتية لحزب الله”.

وفقًا للنصوص الصريحة لاتفاق وقف إطلاق النار، يُفترض أن توقف إسرائيل كلّ العمليات العسكرية الهجومية ضدّ لبنان فورًا. يؤكّد القرار 1701 بشكل لا لبس فيه على “سلامة أراضي لبنان وسيادته واستقلاله السياسي”. ومن هذا المنطلق، يحدّد الإعلان أنّ القوّات الرسمية اللبنانية هي الجهة الوحيدة المخوّلة التعامل مع أيّ بنى عسكرية تحتية طبقًا للقرار، ويعدّدها.

تصاعد الدخان من منازل في الناقورة جرّاء إحراقها خلال التوغّل الإسرائيليّ بعد الهدنة

إلى هذا، فإنّ الدلائل المستقاة من صور الأقمار الصناعية والفيديوهات التي راجعتها “المفكّرة”، تؤكّد فداحة النتائج المترتّبة عن العدوان الإسرائيليّ الذي يتمّ في ظلّ هدنة وضدّ دولة ذات سيادة. ويأتي  العدوان مع سقوط مزاعم “الدفاع عن النفس” و”حرية الحركة” كما تظهر قراءة قانونيّة لـ”المفكرة” بعنوان بدعة “حرّية الحركة” لإسرائيل في لبنان: تشويه لحقّ الدفاع عن النفس، في تاريخ 24 كانون الأوّل 2024. 

وقد وضع الجيش اللبنانيّ أعمال التوغّل والتجريف الإسرائيليّة في مناطق عدّة على طول الحدود في سياق “خروقات العدو الإسرائيلي المتمادية لاتفاق وقف إطلاق النار واعتداءاته على سيادة لبنان ومواطنيه”.

وشمل التجريف برميلًا أزرق اللون يمثّل خط الانسحاب عند تحرير عام 2000 في اللبونة المحاذية، وكذلك برج مراقبة تابعًا للجيش اللبنانيّ بجوار موقع لليونيفيل في المنطقة. وقد حذّرت اليونيفيل على إثر هذه الحادثة من أنّ “تدمير الممتلكات والبنية الأساسية المدنية” من شأنه أن “يعرّض وقف الأعمال العدائية للخطر”. 

أنماط التدمير تكذّب الادّعاءات

يدحض التدمير الشامل الذي تظهره الصور الجويّة والفيديوهات، النمط الشامل للتدمير، أي ادّعاءات عن “استهدافات محدّدة” ويضع عمليات التدمير هذه كسياسة متعمّدة تهدف إلى إلحاق الأذى بالناقورة ككل، ما يعدّ خرقًا فاضحًا لقوانين الحرب التي تمنع استهداف البنى التحتيّة والمنشآت المدنية العزلاء وتطالب بالتمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية. 

يقول علي طاهر، الشاب الثلاثينيّ ابن بلدة الناقورة: “لقد جرّفوا بستان الحمضيّات الذي أملكه، وقضوا على أشجاره وعلى مصدر رزق أساسيّ لنا”، ويسأل في شهادته لـ “المفكّرة”: “هل كانوا يبحثون عن نفق؟ أتحدّاهم أن يعثروا على نفق، فهذه أرضي وأنا أعرف كلّ شبر فيها”. وتظهر صور الأقمار الاصطناعيّة تجريف ما يقدّر بـ 700 شجرة في بستان علي، كما اكتشف الشاب نسف منزله من خلال فيديو نشرته صفحة إسرائيليّة.

تقارن فاطمة، البنت البكر لأسرة مليجي، بين صور الناقورة اليوم، وصور الخراب الآتية من غزّة، وتقول في شهادتها لـ”المفكّرة”: “كنت أصلّي من مدرسة النازحين في بيروت كي نعود إلى الناقورة، وكنت أقول لنفسي إنّه حتى لو دمّر البيت بغارة أو بقذيفة، سأنقذ أشيائي من تحت الردم: آلات الرياضة التي اشتريتها حديثًا، ملابسي الشتويّة، ومستحضرات التجميل التي أستوردها وأعتاش من العمل فيها”. 

وإن كانت صلوات فاطمة لم تتحقّق بعد، وتقول إنّه من المستبعد تحقّقها بعد ما شهدته البلدة من أعمال تجريف وحرق، فإنّها تشير في شهادتها إلى معطى مهم يرتبط بكيفية إدارة القوّات الإسرائيليّة لحربها ضدّ غزّة (حيث تتكّرر عمليات النسف بعد أن قضت الغارات على نسبة كبرى من المشهد العمراني والبنية التحتية في القطاع)، وكذلك في الضفّة الغربية المحتلة (حيث تهدم منازل أهل وأقارب من تتّهمهم إسرائيل بالعمل ضدّها) وفي الشريط الحدودي اللبناني طوال فترة الحرب، حيث شملت عمليات النسف معظم قرى الشريط الحدودي التي دخلتها القوات الإسرائيلية وسوّيت عشرات القرى التي شهدت معارك بريّة مثل عيتا الشعب وكفركلا والبلدة القديمة في بليدا، أرضًا. لكنّ ما شهدته الناقورة، والذي أتى بعد انقضاء الحرب، يؤكد بشكل حاسم عدم ارتباط هذه الأنماط من التدمير بأيّ ضرورات عسكريّة مزعومة خلال المعارك. 

مشاهد توثّق تجريف البساتين في الناقورة خلال التوغّل الإسرائيليّ بعد الهدنة

“بيتي قميصي”

تساعد شهادات السكّان من أبناء الناقورة على فهم أكبر للأثر النفسيّ والوجدانيّ العميق لهذا النوع من الجرائم، وتتوضّح هويّة القرية وارتباطهم بها من خلال رواياتهم عنها. 

في منزل ابنتها في الحوش، تستقبلني السيّدة هدى يزبك على ما بات كنبتها بفعل تهجيرها الطويل عن بيتها في الناقورة. وتظهر السيّدة السبعينيّة تعلّقًا بمنزلها المهدّم اليوم، وبأرضها ومزروعاتها التي تناوب عليها التدمير والتجريف، وتأخذ الناقورة في حديثها مكانتها كقرية حاضنة لحياة أجيال من السكّان أهل الأرض: “لا أحبّ إلا الناقورة”، تقول، وتردف: “لا يستوعب عقلي أن أعود ولا أجد بيتي ومزروعاتي”.

“بيتي قميصي.. مأواي”، تقول، وهي عبارة تعكس بعمق، الصلة الوثيقة بين الإنسان ومسكنه، وتعبّر عن فقدان شديد ليس فقط للمسكن، بل للحماية والهوية التي يوفّرها هذا المسكن. تسأل السيّدة هدى باستنكار: “أحقًّا يهدم تعب العمر برمشة عين؟” 

بالأساس، بنت السيّدة هدى منزلها من كدّها في بداية التسعينيات، حين كانت أمًّا ثلاثينيّة ومعيلة لأسرتها من خلال وظيفتها في المقر العام لليونيفيل: “بالتقسيط، عمّرت المنزل غرفة بعد أخرى، وبيديّ وبأيدي أولادي، كنا ننقل البحص والرمل والحجارة كي نوفّر أجرة العمّال”. وعلى مدى 3 عقود لاحقة، ظلّ البيت في ورشة دائمة، رغم أنّه اكتمل وازدهر. تُرينا صور منزلها قبل الحرب، وقد ارتفع مبنى من طابقين، تحيطه أراضٍ زراعيّة مجلّلة. القنطرة عند المدخل، أحضرت الابنة خشبات قالبها بنفسها، والشرفة، أحضر ولدها بنفسه قوالب لزخرفتها، وهذه الأشجار، زرعتها الأسرة شجرة بعد أخرى، وجلّل الأولاد وأمّهم الأرض جلًّا بعد آخر. وفي المزرعة التابعة للمنزل: 100 طير من الحمام والدجاج، وعشرات أشجار الزيتون والقِشْطيَّات والحمضيات، وزهور الياسمين والكولونيا والجوري. 

كان منزل السيّدة هدى من أوّل المنازل التي عمّرت حي الطباسين المدمّر اليوم، وهو حيّ يقابل موقع جل العلام الإسرائيليّ، أخذ اسمه من حيوان الطبسون، وهو حيوان الوبر الصخري وينتشر في هذا الجزء من البلدة نظرًا لقرب الناقورة من المناطق الحرجية وطبيعتها شبه الجبلية الصخرية. ويتميّز الحيّ بإطلالة يحبّها أهله ويتفاخرون بها، إذ تجمع بين الجبل والبحر. لم تغادر السيّدة السبعينيّة منزلها وحيّها إلّا بعد ليالٍ طويلة قضتها تختبئ تحت الدرج وتصلّي ريثما تنقضي موجات القصف الإسرائيليّة، وذلك في تشرين الأوّل 2023. ومع اقتراب القصف إلى الأحياء والمنازل، غادرت السيّدة هدى نزولًا عند رغبة أولادها، وتنتظر عودتها اليوم لتعيد البناء من جديد: “بناء استغرق عمري، سأعود لأعيد بناءه وأنا في السبعين”.

رغم كلّ ذلك تدمع عينا السيّدة هدى فقط عند ذكر شهداء البلدة، فيظهر أنّهم “حرقتها” الأكبر. كذلك علي مليجي، يتمنّى لو اقتصر الأمر على “تدمير كلّ بيوتنا من دون أن يستشهد شخص واحد”. 

شهادة عن القتل 

في حناويه، على كتف القرية الرابضة على بعد 6 كلم جنوب شرق صور، وفي منزل يجاور قبر حيرام الجاثم على الطريق العام أوّل البلدة، منزل متواضع تحيط به صور عملاقة للشهداء. وفي داخل المنزل، أمّ وضعت في غرفة استقبال الضيوف حذاء رياضيًّا ملطّخًا بالدم من أثر ابنها الشهيد حسين مهدي مهدي، وقد شاهدت استشهاده أمام عينيها، وكان زوجها يجمع الأشلاء عن إسفلت طريق عام صور – الناقورة عند منطقة الإسكندرونة حينما كانت هي تقف مشدوهة من ثقل الموقف صباح 2 أيلول 2023. 

وكان الشهيد حسين شابًا يعمل في شركة متعاقدة مع اليونيفيل، وكان مع ابن عمّه المغترب علي يوسف مهدي (عاد من السفر قبل يومين من الغارة) في سيّارته البيضاء ذاتها التي يتردّد فيها إلى مكان عمله داخل مركز القوات الدولية طوال فترة سنة من الحرب، وتحمل السيّارة تصريحًا من اليونيفيل للدخول إلى مركزها. وكانت الطريق التي استهدفت عليه السيّارة، هي عينها الطريق التي يسلكها يوميًّا في ذهابه وإيابه من مركز عمله. 

وفي حين كان الوالدان في طريق عودتهما من زيارة إلى الناقورة مستفيدين من هدوء الاشتباكات، شاهدوا سيّارة تشتعل في وسط الطريق، وقد توقّفت عندها قوة من الجيش اللبنانيّ. تعرّفا على سيارة ولدهما، وتقدّما إليها. وهما يصفان في شهادتهما لـ “المفكّرة” أنّهما وجدا جثمان ابنهما وقد تناثر القسم العلويّ منه أشلاء على الأرض، ما يؤشّر إلى أنّ الصاروخ استهدفه مباشرة، فحمل الرجل ما تبقى من الجثمان داخل السيّارة المشتعلة، مجرّد قدمين اثنين، وأنقذهما من الاحتراق. في المقابل، كان جسد ابن عمّه الشهيد علي مهدي سليمًا، وقد أنقذاه بدوره من النار. 

وقد علمت “المفكّرة” من مصادر في اليونيفيل أنّ رسالة وجّهت إلى الجانب الإسرائيليّ من قبل قيادة المقرّ العام حول استهداف حسين لكن “ظلّت من دون جواب”. فيما قالت نائبة مدير مكتب اليونيفيل الإعلامي كانديس ارديل في بيان إنّ “الهجمات على المدنيين تشكّل انتهاكات للقانون الإنساني الدولي، ويجب أن تتوقف”. 

ويندرج هذا القتل ضمن نمط من الجرائم التي استهدفت المدنيّين طوال فترة العدوان قبل توسّعه إلى مستوى الحرب الشاملة في تشرين الأوّل الماضي، وما كان يتسبّب به من ضغوط نفسيّة وخسائر بشريّة باهظة على السكان المهجّرين عن قراهم، والذين كانوا يستهدفون على أية حال إذا ما عادوا أو سلكوا طرقات قراهم حتى كموظّفين لدى قوّة أمميّة محميّة. سترتفع الخسائر البشريّة، لكن ستصمد الناقورة خلال الحرب في وجه الغزو، ليعود هذا الغزو وينال منها بعد وقف إطلاق النار تدميرًا، وتشريدًا مستمرًّا، وفي كلّ هذا، تشتد وطأة الجريمة على السكّان، وعلى أرواحهم وممتلكاتهم. 

جذور الجريمة وآفاقها

تمثّل حكاية قرى الجنوب وأهلها شاهدًا على الطبيعة غير المتناسبة والمدمّرة للضربات الإسرائيليّة، بما في ذلك التي تستهدف الهياكل المدنية والبنية التحتية، والرفض الإسرائيليّ الصريح للتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، بهدف إلحاق أكبر أذى ممكن بالسكان، وكسر معنوياتهم وإخضاعهم، بوصف هذه الأهداف ترجمة لـ “عقيدة الضاحية”، وهو ما كانت وصفته “المفكّرة بـ “مأسسة جريمة الحرب” في الرؤية السياسية والعسكريّة الإسرائيليّة (إقرأ: حرب الجنوب، مجلة المفكرة القانونية – لبنان العدد 73). 

وتتّضح هذه الرؤية في تصريح قائد المنطقة العسكرية الشمالية الإسرائيليّة غادي أيزنكوت في تشرين الأول 2008: “.. أي قرية (لبنانيّة) يُطلق منها النار على إسرائيل سنستهدفها بقوّة غير مُتكافئة (أو مُتناسبة)، وسنُلحق بها ضررًا ودمارًا هائلين”، وهو إعلان نيّة واضحة بانتهاك قوانين الحرب وتحديدًا مبدأ التناسب الذي يحظر الهجوم الذي قد يكون مفرطًا في تجاوز ما يُنتظر أن يُسفر عنه من ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة. (القاعدة 14 من قواعد  القانون الدولي الإنساني العرفي وفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر).

وإن كانت هذه الاستراتيجيّة قد نفّذت على مساحة الجنوب والضاحية والبقاع خلال الحرب الأخيرة، فإنّها استمرّت بعد الحرب من خلال التدمير الممنهج للقرى الجنوبية الحدوديّة كتدبير انتقامي واضح. 

ويتردّد في الشهادات التي جمعتها “المفكّرة” أن الاستراتجيّة الإسرائيلية أرادت أن تدفّع الناقورة وأهلها ثمن أنّ نيرانًا أطلقت منها خلال الحرب، ويأتي “تدفيع الثمن” هذا ولو في مرحلة متأخّرة، ولو بعد انقضاء الحرب وإعلان وقف إطلاق النار، بما ينسجم مع العقيدة الإسرائيليّة الآنفة الذكر.

ولا تغفل الشهادات الحديث الإسرائيليّ عن منطقة عازلة على الحدود، وشكل هذه المنطقة وعمقها، وحقيقة القدرة الإسرائيليّة على فرضها سواء عسكريًّا أو من خلال سائر أشكال الضغوط، فضلًا عن فرض أمر واقع بحكم التدمير الممنهج ما سيؤخّر أيّة قدرة على عودة الإعمار، ويعرقل لسنوات قادمة قدرة الناس على استعادة حياتهم واستقرارهم على طول الشريط الحدوديّ الذي سبق واحتل لعقدين ونيّف بين اجتياح آذار 1978 وتحرير أيار 2000. وفي وجه هذه التهديدات، وهذه المخاوف، يقول السكّان ممّن قابلتهم “المفكّرة” إنّ الأساس بالنسبة لهم اليوم هو عودتهم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، فلسطين ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني