يُمثّل الفساد في تونس ظاهرة اجتماعية مُركّبة وضاربة بجذورها في الزمن. والتاريخ الاقتصادي-السياسي لتونس المعاصرة -عموما- هو تاريخ التحالف بين أجهزة الدّولة ورأس المال، ويتشابك فيه الانتماء السياسي والجهوي وعلاقات القرابة، إذ أن البورجوازيّة التونسيّة لم تُولد نتيجة صيرورة داخليّة وإنّما “أوجدتها” الدّولة[1]، لذلك هي لا تمتلك تصوّرات إقتصاديّة ولا تتمثّل مسار تطوّرها خارج منظومة الحوافز والرّخص وقوانين العمل الهشّة.
عرفَت سنوات السّتينات والسّبعينات تخطيطا إقتصاديّا برزَ من خلاله وجود نموذجين متناقضين للتّنمية أشرف عليهما نفس الحزب الحاكم. هاتان التّجربتان ستهيّآن أرضيّة خِصبة لنموّ الفساد وستحدّدَان خارطة توزيع الثّروة إلى حدّ الآن. ما ستشهده تونس بعد ذلك عبارة عن سياسات اقتصاديّة هجينة يَغيب عنها الخيط النّاظم، لأنّها ستُصبح خاضعة لمنظومة الفساد.
توفير القاعدة الماديّة لنمو الفساد الاقتصادي
كانت حِقبة السّتينات ممزُوجةً بتداخل الاقتصاد والسّياسية في إطار صياغة التوازنات السّياسيّة والمصالح الماليّة للدولة الاستقلالية. وضمن السياسة الاقتصادية الجديدة التي تمّ التّخطيط لها في وثيقة الآفاق العشريّة (1962-1972) و أطلِق عليها تسمية الاشتراكيّة الدّستورية أو التّعاضد، أوكِلَ للإداريين تسيير التّعاضديّات التجارية والفلاحيّة التي قامت على تعويض الملكيّات الصّغيرة الخاصّة في التّجارة والفلاحة بالملكيّة الجماعيّة، بينما استثنت كبار التجّار والفلاّحين. أنتَجت تلك التّجربة “الكثير من أثرياء ما بعد التعاضد” من بين الإداريّين الذين تمرّسوا في مؤسّسات التّعاضد والذين نقصتهم النّزاهة أحيانا، كما يُذكر أيضا جنوح الكثير منهم إلى اقتطاع أجور مرتفعة من ميزانيّات التعاضديّات. في المقابل تدهورت أوضاع الفلاحين المنتظمين في تعاضديّات، وكانت أجورهم ضئيلة أو منعدمة[2].
وفي سنة 1968 اتّخذ الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة قرار تعميم التّعاضد، بإيعاز من مسؤولين في الدولة والحزب كانوا يتمعّشون من هذه التّجربة. هم في الأصل لا يملكون وسائل الإنتاج، لكنّهم أصبحوا المسيطرين والمستحوذِين عليها فعليّا. يرى مهندس تجربة التعاضد أحمد بن صالح أنّه وقَعَ إجهاض التجربة في سياق تناقضات النّظام السّياسي حينها. فقد تمّت مجابهتها بسلوكيات تخريبيّة وتوظيف السّلطة العموميّة لفائدة المصالح الشّخصيّة والمضاربة بالعملة لتعميق الأزمة الماليّة[3]. وتجدر الإشارة إلى أنّ أحد أسباب تردّي منظومة الإنتاج عائد إلى التوظيف السّياسي للاقتصاد عبر منح المناضلين القدامى ضيعات فلاحيّة ومؤسسات تجاريّة وعقارات ورخص توريد وتصدير أو البعض من كنوز العائلة الملكيّة السّابقة على أساس الولاء السياسي[4]، في عمليّة إعادة تشكّل لمنظومة الزّبونيّة في “الدّولة الحديثة”.
ستكُون حقبة السّبعينات بمثابة ردّة الفعل على فشل تجربة التّعاضد. وستمثّل العبارة التي تقول: “الاشتراكيّة الدستوريّة لا تُضحّي بالجيل الحاضر لإسعاد الأجيال القادمة”[5]، الأرضيّة التي ستَعتمدها السّلطة السياسيّة لتوجيه عمليّة مراكمة رأس المال نحو القطاع الخاصّ المحلّي والأجنبي. ومهندس هذه العشريّة التي اتّسمت بـ”لبَرلَة” الاقتصاد هو الوزير الأوّل الهادي نويرة. وقع تقليص حضور الدّولة الاقتصادي لصالح اقتصاد السّوق، حيث تمّ حلّ التعاضديّات الفلاحيّة التي تشكّلت في فترة تعميم التّعاضد وحلّ التّعاضديّات التّجارية. وإلى حدود نهاية السّبعينات، تمّ التخلّي للخواصّ على حوالي الثلث من أراضي الدّولة الفلاحيّة المثاليّة (166 ألف هكتار على وجه البيع و61 ألف هكتار على وجه الكراء) التي كانت تمسح 801 ألف هكتار[6].
وفي قطاعيْ الصّناعة والخدمات، حوّلت الدّولة جزءًا من التّجارة الخارجيّة للخواصّ عن طريق منظومة الرّخص. وانطلقت في مسار التّفويت في الشركات العموميّة على غرار خوصَصَة جزء من رأسمال شركة الفولاذ والشركة التونسيّة للنزل والسياحة والشركة العامة لصناعة النّسيج[7]. سيُعطي النموذج التنموي لسنوات السّبعين الأولويّة للمبادرة الخاصّة، عبر سنّ قانون التشجيع على الاستثمار في السّلع المعدّة للتصدير المؤرّخ في 27 أفريل 1972، ومن ثمّ إصدار قانون يتعلّق بالاستثمار في الصّناعات التّحويليّة المؤرّخ في 3 أوت 1974. تقوم فلسفة هذين القانونين على منح ترسانة من الامتيازات الجبائيّة للمستثمرين المحليّين والأجانب (تمّ تمكينهم من تحويل أرباحهم إلى الخارج). بالإضافة إلى إنشاء وكالة النهوض بالاستثمار وصندوق النهوض باللامركزيّة للقيام بوظيفة التمويل في شكل منح وقروض بشروط ميسّرة جدّا تغطّي معظم كلفة المشاريع.
هذا الدّور المحوري للدّولة في عمليّة مراكمة الثروة وتوزيع الموارد، ستَستفيد منه أقليّة تتمثّل بالأساس في كوادر الإدارة والملاّك العقاريّين وكبار التجّار والمقاولين وأبناء الفلاحين الكبار “مستغلّين مواقفهم في النظام السياسي، أو استفادوا من تحكّمهم في وسائل الإنتاج في جهاز النظام التّعاضدي، إنّ الاقتصاد لا يزال في خدمة السّياسة بدرجة كبيرة وفي هذا هدر للكثير من الطاقات، فالكفاءة لم تتمكّن بعد من إزاحة الحظوة في المجتمع إلا بنسبة محدودة”[8]. كرّست السياسة الاقتصاديّة للهادي نويرة عدم إمكانيّة الإثراء خارج دائرة السّلطة السّياسيّة، كما عمّقت التداخل الوظيفي والمصلحي بين “نخبة الاقتصاد” و”نخبة الدّولة” و”نخبة الحزب”.
على سبيل الذّكر لا الحصر، كان الفرجاني بالحاج عمار في فترة السبعينات في الآن ذاته رئيس الاتحاد التّونسي للصناعة والتجارة ونائبا في مجلس الأمّة (البرلمان) وعضوا في الدّيوان السياسي للحزب الاشتراكي الدّستوري. في السياق نفسه أيضا قام وزير التّخطيط (1970-1974) منصور معلّى صحبة مختار الفخفاخ الذي كان عضوا بمجلس إدارة البنك المركزي (1967-1969) وكان يشغل في نفس الوقت مديرا للشركة القوميّة للاستثمار، بتأسيس بنك تونس العربي الدّولي سنة 1976، وتولّى منصور معلّى حقيبة وزارة التخطيط والماليّة (1980-1983) وهو في الوقت نفسه مستثمر في القطاع المالي من خلال البنك وشركة التأمين «GAT» التي ساهم في تأسيسها سنة 1975.
ستَتشكّل فئة جديدة من رؤوس الأموال، تتكوّن من عمّال الياقات البيضاء -وهم كوادر الحزب الحاكم في نفس الوقت- التي اتجهت للقطاع الخاصّ على غرار رجل الأعمال لزهر سطا الذي كان مهندسا بوكالة النّهوض بالصّناعة قبل أن يؤسّس شركة “المقاطع الكبرى بالشّمال” سنة 1985[9]. على نفس المنوال، وفي بداية السّبعينات، سيشهد قطاع السّياحة الذي كان قائما على الاستثمار العمومي توسّعا ملفتا في الاستثمار الخاصّ من قبل موظّفين سابقين في مؤسّسات وزارة السّياحة، ومن أبرزهم عزيز ميلاد الذي تحوّل من مدير تجاري إلى مالك لوحدات فندقيّة ووكالات أسفار وشركة طيران.
لم تَبنِ البورجوازيّة الجديدة ثرواتها “من الصّفر”، على نقيض الدّعاية التي تمّ الترويج لها لإعلاء قيمة العمل والمبادرة الخاصّة في إطار التوسّع الرأسمالي، إذ أن الأثرياء الجدد يتمتّعون في الآن ذاته بسلطة التخطيط والتّشريع والتّنفيذ بفضل مواقعهم السياسية والإداريّة “لأنّ الدّولة تقوم بوظيفة البقرة الحلوب التي تدرّ الخيرات على البورجوازيّة وتُحوّل لها الموارد وترعاها وتيسّر لها سبيل الإثراء”[10]. خلقَت الدّولة عبر منظومة الامتيازات والمحاباة أثرياء من “العدم” سيشكّلون النّواة الجديدة لاقتصاد الرّيع[11]. ستحتدّ تناقضات الاقتصاد التّونسي بين إيمان السّلطة بضرورة الانفتاح على الرأسماليّة من جهة، وبين احتكار أقليّة للاقتصاد المحلّي من جهة أخرى. وستتسرّع وتيرة “الإثراء غير المشروع” والتّوزيع المختلّ للثّروة، والذي سيؤدي إلى تعميق التّفاوت بين الأفراد والجهات وتغذية الاحتقان الاجتماعي.
الطبيعة البنيويّة للفساد الاقتصادي
انطلقت مرحلة الثّمانينات ببوادر أزمة شاملة، التجأت خلالها السّلطة بقيادة الوزير الأول الأسبق محمّد المزالي إلى إجراءات تقشفيّة حادّة قلّصَت من خلالها حضور الدّولة الاقتصادي والاجتماعي. في المقابل، وقع إصدار مجلّة الاستثمار الفلاحي التي انطوَت على مجموعة حوافز جديدة عينيّة -تعلّقت بخوصصة أراضي الدّولة- وجبائيّة استفادت منها البورجوازيّة الزراعيّة المحليّة والأجنبيّة.
ووقع شنّ حملة على المنشآت العموميّة التي أصبحت تُشكل عبءًا سياسيّا بحكم تطوّر الحركة النّقابيّة داخلها. وكان جزء منها يمرّ فعلا بصعوبات ماليّة ناتجة عن انتشار سوء تصرّف إطاراتها الذين يُنَصَّبون وفقا لولائهم السّياسي لا كفاءتهم. وقد كانوا ينفقون جزءًا من ميزانيّات المنشآت على الامتيازات ويوجّهون الانتدابات لصالح ذوي القربى (انتشار ظاهرة تشغيل أفراد العائلة في نفس المؤسّسة). كما شهدت عدّة مؤسّسات تضخّما في الموارد البشريّة لاعتبارات اجتماعيّة أو سياسيّة تتمثّل في وجود “عناصر مختصّة في الوشاية وتكسير الإضرابات، تتقاضى أجورا دون أن تنتج”[12]. وقع استثمار هذا الوضع للتّفويت في مجموعة جديدة من الشركات العموميّة بأسعار زهيدة على غرار بعض الوحدات السياحيّة، والتفويت في الشركة التونسيّة للبلّور من دون مقابل بدعوى الإفلاس. ثمّ ارتفعت وتيرة الخوصصة في إثر الاتّفاق مع صندوق النّقد الدّولي سنة 1986، وفق قوانين إطاريّة جديدة تَضبط كوكبة من التّسهيلات (الإعفاء من الأداء على الأرباح لمدة 5 سنوات، الإعفاء من الأداء على 80% من الأرباح المعاد استثمارها، جدولة ديون الدولة أو شطبها لدى الشركات التي تمت خصخصتها، إلخ)[13].
أصبحت البورجوازيّة المحليّة أكثر تنظيما في الدّفاع عن مصالحها بفضل نموّ وزنها الاقتصادي والسّياسي. وبرز ذلك من خلال رفضها تطبيق الإجراءات الجبائيّة التي تضمّنها قانون الماليّة لسنة 1983[14]. كما اعتمدت في مراكمة ثرواتها على التحيّل والتّهرب الجبائي الذي يُمثّل أكثر من نصف المبالغ المطلوبة في أواسط الثّمانينات حسب تقديرات صندوق النقد الدّولي[15]. بمعنى أوضح، إنّ الثروة التي راكمتها البورجوازيّة بسرعة وبطرق سهلة بفضل ما أغدقتْه عليها الدّولة من عطاء -ورغم أنها تتمتّع بترسانة كبيرة من الإعفاءات- يأتي حوالي نصفها من التهرّب الضريبي.
تميّزت هذ الفترة التّاريخيّة بلخبطة كبيرة في الأداء الاقتصادي الذي كان خاضعا بشكل شبه كلّي للتوازنات السياسيّة. حافظت الدّولة على جزء من منشآتها الناشطة في مجال تنافسي وبعض الإجراءات الاجتماعيّة، لكنها لم تعد “الدّولة الرّاعية”. الإجراءات التي تمّ تطبيقها، مثل تحرير الأسعار وخفض قيمة الدينار وإعطاء رُخَص النشاط في التجارة الدولية، ضربت مصالح الفئات الشعبيّة وعزّزت مصالح البورجوازيّة المحليّة في تحصيل فوائض ريع إضافيّة، خصوصا مع تجميد مشاريع نصوص قانونيّة كانت تستهدف مكافحة التهرّب الجبائي. من جهة أخرى، تحوّلت الزّبونيّة إلى أسلوب حكم لدى الحزب الحاكم، فقد أصبح الاستقطاب الحزبي مرتبطا بالقدرة على تحقيق الارتقاء السّريع في المناصب وحماية المصالح، وتمّ تجاوز الإطار المؤسساتي للمساعدات الاجتماعيّة وإخضاعها للوساطة والولاء والقرابة[16].
جاء انقلاب الوزير الأول الأسبق زين العابدين بن علي سنة 1987، ضمن سياق عامّ متدهور. أول الإجراءات التي اتخذها الرئيس المنقلب لشراء تأييد أصحاب المال والنفوذ، كان الإعلان عن أكبر عفو عام منذ الاستقلال في مجال التهرّب الضريبي وتهريب العملة. كان إعلانا صريحا من الرئيس بأنّه سيترك هامشا للتصرّف المالي خارج دائرة القانون مقابل الولاء السّياسي. كما واصَلَ بدوره الاستثمار السّياسي في المسألة الاجتماعيّة بإحداث صندوق 26-26 للتضامن الاجتماعي سنة 1992، بدعوى مكافحة الفقر والتفاوت الجهوي. وقعَ تمويل هذا الصّندوق بالأساس من قبل جميع الفئات الاجتماعية عن طريق التبرّعات الإجباريّة وتحويلات من الدولة، ولم يكن خاضعا لدائرة المحاسبات أو لأيّ مؤسّسة رقابيّة وإنّما إلى رئيس الجمهوريّة مباشرة. وقد أصدر القضاء سنة 2017 جملة من الأحكام تتعلّق بالرئيس السابق وبعض أفراد عائلته بخصوص الفساد المالي في التصرّف في مداخيل الصّندوق.
اتَّخَذ الفساد طابعا مؤسّساتيّا: فقد تمّ إخضاع جميع الأجهزة العموميّة لخدمة مصالح الرّئيس وعائلته وحاشيته، اشتدّ التّداخل بين الدّولة والحزب وانضاف لهما عنصر القرابة. وقد بيّنَ تقرير اللجنة الوطنيّة لتقصّي الحقائق حول الفساد والرّشوة سنة 2011[17]، منظومة الفساد المُحكَمَة التي تمّ تشكيلها والأساليب التي تعتمدها في السرقة والنهب بشكل مفضوح وفجّ. أدّت هذه المنظومة إلى تشكّل فئة جديدة من البورجوازيّة الطفيليّة فاحشة الثّراء، تتكوّن من الرّئيس وعائلته.
استعرض التّقرير المذكور جملة من الأساليب المعتمدة للإثراء غير المشروع. وكان المجال العقّاري من أبرز القطاعات التي تم استغلالها لمُراكمة الثروة بشكل سريع وسهل عن طريق تغيير صبغة الأراضي، والاستيلاء على الأراضي الصالحة للبناء التابعة للوكالات العقاريّة العموميّة التي يتمّ تقديمها أحيانا في شكل مكافأة على الطّاعة. بالإضافة إلى التصرّف غير القانوني في الملك العمومي (أراضي غابات، مباني، ضيعات فلاحيّة…) سواءً بالكراء أو التفويت بمبالغ رمزيّة. وكانت الصفقات العموميّة من أكثر القطاعات التي شهدت خروقات ماليّة وإداريّة بالجملة، وهذا عائد إلى حجم معاملاتها الذي يصل إلى 20% من الناتج الداخلي الخام (يساوي نقطتين في النموّ الاقتصادي)[18]. كان رئيس الجمهوريّة المشرف بشكل مباشر على توزيع الصفقات الكبرى، وقد تدخّل عدّة مرّات لإسناد الصّفقة لغير الفائز بها أو لصياغة كرّاسات شروط على مقاس من يُريد أن تؤول إليه الصفقة.
واصل الرئيس السابق مسار الخوصصة، وكانت عمليّة التفويت في الشركات العموميّة في بدايتها مرفوقة بجدل فكري وسياسي مرتبط بموضوع التّنمية حتى داخل نفس الحزب الحاكم. لكن هذه العمليّة ستتحوّل في عهد بن علي إلى عمليّة اقتناص فرص بحتة خالية من أي تصوّر اقتصادي. يَذكر تقرير اللجنة الوطنيّة لتقصّي الحقائق -الصادر سنة 2011- أنّ رئيس الجمهوريّة يُحدّد مسبقا الجهة التي ستَنتفع بعمليّة التّفويت بمبلغ أقلّ من القيمة الحقيقيّة للمؤسّسة. أمّا الإجراءات القانونيّة فلا تعدو أن تكون مسألة صوريّة، وفي عديد الحالات يعمد المستفيدون وأغلبهم من عائلة الرئيس إلى إعادة التّفويت فيها دون الخضوع للضّرائب.
ستَعرف هذه الحقبة تمدّدا كبيرا لاقتصاد الرّيع، إذ تمّت شَخصَنة قطاعات اقتصادية بأكملها عن طريق إخضاعها لنظام الرّخص الاداريّة. وبذلك احتكرت عائلة الرّئيس وأصحاب المال الموالون له معظم الأنشطة الاقتصاديّة التي توفّر أرباحا عالية، على غرار المساحات التجارية الكبرى وصناعة الإسمنت والسكّر ونقل المحروقات ورخص استغلال المقاطع وحصص تربية التن ورخص توزيع وتوريد السيارات ورخص بيع الكحول. بالتوازي مع ذلك، سينمو الاقتصاد الموازي الخاضع لنفس الأشخاص: فقد تمّ إغراق السّوق المحليّة بمختلف السّلع الصينيّة وفي مرحلة لاحقة التّركيّة، ممّا تسبّب في إفلاس عدّة شركات تونسيّة وارتفاع عجز الميزان التّجاري. لقد أصبحَت الدّولة راعية لشبكات الفساد، إذ أن جزءًا من المنتوجات التي تُروَّج في السوق الموازية يتمّ إدخالها عبر المعابر الرّسميّة من دون إخضاعها للتراتيب الجمركيّة والرّقابة على الجودة. أصبح الاقتصاد التونسي على درجة كبيرة من التعقيد، فقد تشكّلت فئة من أصحاب الأعمال التي تعمل في نفس الوقت في الاقتصاد الرّسمي والاقتصاد الموازي.
لقد أصبحت تونس في ظل حكم بن علي تحت “حكم اللّصوص” أو ما يعبّر عنه بالكليبتوقراطية، فقد أصبح الفساد ذا طابع بنيويّ متأصّل في العلاقات الاقتصاديّة، على نحو تحوّل فيه الفساد المالي والإداري إلى نمط اجتماعي، أي قضاء الحوائج اليوميّة عبر الوساطة والرشوة. انتشار هذا السلوك الذي يعبّر عنه بالفساد الصّغير جَعله يتمتّع بنوع من المقبوليّة الشعبيّة، فالذهنيّة الشعبيّة عموما ترى في الوساطة أمرا إيجابيّا وتُدين المرتشي لكنها لا تدين الرّاشي.
الاقتصاد والفساد في واجهة المساءلة
لم تفضِ الثورة إلى إحداث قطيعة مع المنظومة المهيمنة على المال والسّلطة والإدارة، رغم أنّ الحديث عن تغيير النموذج التنموي ومحاربة الفساد ظلّ ملازما للخطاب السياسي الرسمي منذ 2011. كان التعامل مع أصحاب المال خاضعا للتوازنات السّياسيّة انطلاقا من مرسوم المصادرة لسنة 2011، حين كان رئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السّبسي رئيسا للحكومة. تضمّنت قائمة المرسوم المذكور مصادرة أملاك 112 شخصا، وقد أصدرت لجنة المصادرة سنة 2013 تقريرا يفيد بأنّه وقع إسقاط 131 شخصا متورّطين في الفساد من القائمة وردت أسماؤهم في تقارير وقع إعدادها من قبل وزارة الداخليّة والبنك المركزي ولجنة مقاومة الفساد والمكلف العام بنزاعات الدّولة. من بين هذه الأسماء، صاحبا الأعمال لزهر سطا وشفيق جراية. منذ ذلك التاريخ سيُشكّل ملفّ المصادرة والذي تحوّل بدوره إلى ملفّ فساد ورقة ضغط وإبتزاز من قبل حزبي حركة النهضة ونداء تونس ضدّ رؤوس الأموال لكسب ولائهم السّياسي ودعمهم المالي.
برز تحالف المصالح بين المال والسياسة في تصعيد 25 نائبا من أصحاب الأعمال (من بينهم 14 نائبا ينتمون لنداء تونس و3 نواب ينتمون لحركة النهضة) في الانتخابات التشريعيّة لسنة 2014، من بينهم 5 نواب محلّ تتبّع قضائي في قضايا فساد مالي وإداري. تأكّد هذا التحالف من خلال المبادرة التّشريعيّة الرّئاسيّة لسنة 2015، المتمثّلة في مشروع القانون الأساسي المتعلّق بالمصالحة في المجال الاقتصادي والمالي بهدف القيام بتسوية إداريّة مع الموظّفين وأشباه الموظّفين (نوّاب البرلمان، سفراء، وزراء…) في الجرائم المتعلّقة بالاعتداء على المال العام، ومع أصحاب الأعمال في المخالفات الجبائيّة.
مثّلت هذه المبادرة منعرجا في مسار تبييض الفساد وجُوبِهت برفض واسع من قبل المعارضة البرلمانيّة والمجتمع المدني مسنود بضغط الشارع. رغم ذلك وقعت المصادقة عليها في صيغة معدّلة لتصبح قانون المصالحة الإداريّة سنة 2017. في خضم ذلك، صادق هذا البرلمان على أهمّ القوانين التي تهمّ المجال التّنموي على غرار قانون الاستثمار لسنة 2016 وقانون مراجعة الامتيازات الجبائيّة لسنة 2017، ووقع من خلالهما تعزيز منظومة الامتيازات والحوافز، لصالح رأس المال الخاصّ.
في إطار صراعه مع رئيس الجمهوريّة الباجي قايد السبسي سنة 2017، استخدم رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد ورقة الفساد للدّعاية لشخصه وتصفية البعض من خصومه، على غرار صاحب الأعمال شفيق جرّاية الذي وقع سجنه ومصادرة أملاكه بعد أن تمّ استغلاله ماليّا وسياسيّا من قبل حركة النهضة ونداء تونس مقابل إسقاط اسمه من قائمة المصادرة منذ 2011. نفس رئيس الحكومة أكّد أنّه يطوّع الاقتصاد لمصالحه الشخصيّة عبر استمالة بورجوازيّة الرّيع لدعمه في الانتخابات الرّئاسيّة 2019، من خلال تأجيل تطبيق الترفيع في الضريبة الموظفة على الفضاءات التجارية الكبرى ووكالات السيارات وشركات الامتياز التجاري، من 25% إلى 35% سنة 2020، في قانون الماليّة لسنة 2019.
أدّى عدم تفكيك منظومة الفساد والإفلات من العقاب إلى تمدّد شبكات الفساد، وكلما ازداد الفساد ازداد اختلال عمليّة توزيع الثّروة. لذلك ظلّ شعار محاربة الفساد ورقة سياسيّة رابحة استغلّها الرّئيس قيس سعيّد لنفس الغرض الدّعائي. واقتصرت التدخّلات بدعوى مكافحة الفساد على التّعامل مع المظاهر وليس على البنى المولّدة له والمؤثّرة فيه. فبعد ما يقارب 3 سنوات على انفراده بالسلطة لم يسّجل حصيلة في هذا الشأن باستثناء الخطابات السّائبة والزيارات الميدانية الدونكيشوتية.[19]
نشر هذا المقال في الملف الخاص بالعدد 29 من مجلة المفكرة القانونية – تونس
لقراءة الملف بصيغة PDF
[1] الهادي التيمومي، “خدعة الاستبداد الناعم في تونس، 23 سنة من حكم بن علي”، الطبعة الثانية 2013، دار محمد علي للنشر، ص 80.
[2] المرجع السابق، ص. 117-119.
[3] المرجع السابق، ص. 123-124.
[4] المرجع السّابق.
[5] اللائحة حول الاشتراكية الدستوريّة، مؤتمر الحزب الإشتراكي الدّستوري المنعقد في المنستير من 11 إلى 15 أكتوبر 1971.
[6] عبد اللطيف الهرماسي، “الدّولة والتّنمية في المغرب العربي: تونس أنموذجا”، سراس للنشر، 1993، ص 78.
[7] المرجع السابق، ص 78 ص 79.
[8] الهادي التيمومي، “تونس البورقيبيّة: 1956-1987″، دار محمد علي الحامي، 2020، ص 151.
[9] سنة 2008 تحوّلت إلى شركة اسمنت قرطاج، في شراكة بين لزهر سطا وبلحسن الطرابلسي صهر الرئيس السابق الذين تمّت إدانتهما في قضايا تتعلّق بنهب المال العام واستغلال النفوذ.
[10] عبد اللطيف الهرماسي، سبق ذكره، ص. 85.
[11] للوقوف أكثر حول ظاهرة اقتصاد الريع، انظر العدد 24 من مجلة المفكرة القانونية “الريع المخضرم”، 26 جانفي 2022,
[12] عبد اللطيف الهرماسي، سبق ذكره، ص. 204.
[13] المرجع السابق، ص 215.
[14] الهادي التيمومي، “تونس البورقيبيّة: 1956-1987″، دار محمد علي الحامي، 2020، ص 195.
[15] عبد الجليل البدوي، “النظام الجبائي التونسي ودوره في قيام العدالة الاجتماعية”، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، 2014، ص 46.
[16] عبد اللطيف الهرماسي، “الدّولة والتّنمية في المغرب العربي: تونس أنموذجا”، سراس للنشر، 1993، ص 215.
[17] رابط التقرير: https://urlz.fr/pZQ4
[18] المعهد التونسي للدراسات للقدرة التنافسية والدراسات الكمية، نشرية منبر، العدد 7، 2015.
[19] للوقوف أكثر حول أساليب الرئيس سعيد في محاربة الفساد: انظر في نفس الملف: أحمد نظيف، الشعبوية ومسرحة الحرب على الفساد (الهامش من وضع المحرر)