في تقريرها السنوي الأخير حول واقع حرية الصحافة الذي أصدَرته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، في 3 ماي 2024، أشارت إلى أن “السنة الحالية (2023-2024) تُعدّ الأخطر من حيث المحاكمات والتتبّعات القضائية في حقّ الصحفيين، على مَعنى مراسيم جائرة وقوانين زَجريّة معادية لحرية الصحافة والإعلام…وباتت لدى الصحفيين وهياكلهم المهنية قناعة بأن الهدف واضح وهو التشفي والتنكيل لكل صحفي يسمح لنفسه الخوض في مواضيع حارقة تشغل الرأي العام فضلا عن سرعة تحرّك النيابة العمومية في إثارة الدعاوي والمضي في الإجراءات كلما تعلق الأمر بصحفيّ أو صحفيّة”.[1]
هذه الإشارات الواردة في التقرير، تأتي في ظلّ سَنَة انتخابية -من المرتقب إجراء الانتخابات فيها يوم 06 أكتوبر 2024- ولكن الواضح فيها أن قطاع الصحافة والإعلام يشهد أكبر موجاته الزجرية والرقابية، كان آخرها إعلان العديد من مقدّمي البرامج السياسية الإذاعية نهاية برامجهم أو نهاية تجاربهم الإذاعية، على غرار الإعلامي إلياس الغربي في “برنامج ميدي شو” الذي تبثه إذاعة موزاييك أفم، والإعلامي معز بن غربية في برنامج “هنا تونس” على إذاعة ديوان أفم. وقد سبقَهم بأسابيع إعلان الصحفية خلود المبروك انتهاء برنامج “90 دقيقة” على إذاعة إي أفم، بعد أن تم استدعاؤها أواخر أفريل الفائت للمثول أمام الفرقة المختصة للحرس الوطني بالعوينة وإطلاق سراحها لاحقا، بسبب حوار أجرته مع الوزير السابق مبروك كورشيد. وحسب ما أكدته مصادر قريبة من هذه البرامج للمفكرة القانونية، فإن الضغوطات السياسية والرقابة الإدارية ومناخ التخويف؛ كلّها عوامل ساهمت في إنهاء هذه التجارب.
هذا الانسِحاب الإعلامي القَسري -رغم أنه يقدّم أحيانا بوصفه إجازة صيفية- يندرج ضمن سياق سياسيّ، يتّجه شيئا فشيئا نحو “الواحِدية الإعلامية”، التي تسعى إلى تأسيسها السلطة السياسية القائمة بقيادة الرئيس قيس سعيّد. لأنّها راكمت منذ 25 جويلية 2021 -وحتى قبلها- سياسة اتصالية يقودها منطق: أُخاطِب ولا أحَاوِر. تلاها إقصاء ممنهج للمعارضات السياسية والحقوقية والفكرية داخل الإعلام. من أبرز الأمثلة على ذلك مصادرة حقّ الأحزاب السياسيّة في النفاذ إلى التلفزيون العمومي. إضافة إلى التدخّل المُقنَّع في البرمجة السياسية للإذاعات والتلفزات من خلال الضغط لاستبعاد بعض الوجوه الإعلامية. وقد تطوّرت هذه السياسة لتأخذ طابعا أكثر انغلاقا وزجرية، من خلال الملاحقة الأمنية والقضائية لعدد من الصحافيين والإعلاميين وإيداعهم السجون.
الإعلام في قلب مواجهة استراتيجيا “اللاّوَسائط”
عَبّرت السياسة الإعلامية الرسميّة عن نفسها من خلال المنطق الاختزالي القائل: القائِد ليس في حاجة إلى وسائل الإعلام لمخاطبة الجماهير، بإمكانه محادثتهم مباشرة عبر منّصة اتصالية سائلة بإمكانه التحكّم في مضمونها ومساحتها الزمنية ومونتاجها (صفحة رئاسة الجمهورية في هذه الحالة). وهكذا شكّلَت سياسة إلغاء الوسيط، المُجادِل والمعلِّق والناقد، تحدّيًا لجلّ وسائل الإعلام والصحافة، ليس فقط لأنها تُشكّل سياسة اتصالية موازية تسير بمحاذاة الجسم الإعلامي “التقليدي” القائم، بل لأنها وفّرَت مدخلا مُناسبا للضغط والرقابة على حرية الصحافة والإعلام، من خلال التشكيك في الآراء والبرامج المخالفة للسلطة، والضغط على وسائل الإعلام (الأكثر نسب مشاهدة) من أجل تبنّي سياسات تحريريّة أكثر ولاءً وأقلّ نقدًا. وقد عبَّر الرئيس نفسه في أكثر من مناسبة عن امتعاضه من بعض البرامج الإعلامية الناقدة أو التي تَسمح بمساحات للمعارِضين.
هذه السياسة تطورت لتأخذ شكلا عقابيا (ملاحقات، سجن، رقابة…) أربَك كل القطاع الإعلامي، الذي لا يخلو من هشاشة مضمونية واجتماعية. ويُشكّل استمرارها اليوم، بشكل مثابر وممنهج، تحدّيا وجوديًا لمستقبل حرية الصحافة والتعبير في تونس. ويتطلّب مواجهة هذا النهج السلطوي مجابهة سياسية أكثر وضوحا من خلال التركيز على لجم هذه السياسة والضغط أكثر على المتسبب المباشر فيها، عوضا عن مسايرتها والتضحية بمساحات التعددية الإعلامية إرضاءً لخيار السلطة. وهذا يتطلب من الهياكل المهنية والتعديلية (نقابة الصحفيين، نقابة الثقافة والإعلام، الهايكا…) التي تجرّ وراءها بلا شك إرث هشاشة مؤسساتية ومضمونية واقصادية داخل القطاع، التزاما سياسا أكثر بقضية الحرية، والانفتاح على الفضاءات المدنية والسياسية والنقابية الأخرى المتضررة بدورها من سياسات القمع والتّخويف.
برلمان الرئيس و”العَجز الديمقراطي”
راهَنَت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وبعض منظمات المجتمع المدني، أول السنة الحالية، على إمكانية دور مرتقب للبرلمان الحالي، من أجل الضغط في اتجاه تعديل المرسوم 54 الصادر في سبتمبر 2022 والمتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، والذي وصفه التقرير السنوي لنقابة الصحفيين بأنه “يؤكد (المرسوم 54) توجّه السلطة نحو تكريس منظومة تشريعية وسياسية تضرب الحقوق والحريات، وتحرم المواطنات والمواطنين من حقّهم في التعبير والنشر وتهددهم في أي لحظة، خاصة وأن المرسوم يضمن أي حقوق ولم يضع في اعتباره ضرورات الدولة الديمقراطية المدنية التي ضبطها الدستور”.[2]
في هذا السياق، تمَّ إيداع مبادرة تشريعية لتنقيح بعض فصول المرسوم، في 20 فيفري 2024 (وقَّعها 40 نائبا) ولكنها لم تلقَ طريقها إلى حدّ الآن إلى لجنة الحقوق والحريات. وقد اتّهِم رئيس البرلمان، إبراهيم بودربالة، بتعطيل هذه المبادرة. ولكن اتّضح لاحقا أن الرئيس سعيّد لم يكن موافقا على تنقيح المرسوم أو تعديل بعض فصوله، وأخطرهَا الفصل 24. إذ أنه بالتزامن مع مسيرة احتجاجية انتظمت، يوم 24 ماي الفائت وسط العاصمة التونسية، للتنديد بانتهاك الحقوق والحريات وعودة سياسة التعذيب الممنهج، استقبل الرئيس سعيد -في اليوم نفسه- وزيرة العدل ليلى جفّال وعبّرَ لها بشكل واضح عن رفضه المساس بالمرسوم 54، وبخاصة الفصل 24، الذي أعاد تلاوته واعتبر أنه وُضِع لـ”مكافحة الإشاعة”.
الفَشَل البَرلماني في تنقيح المرسوم 54، الذي تحوّلَ إلى مُبادرة تشريعية ميّتَة بقوة الضغط الرئاسي، يُشكّل ملمحًا عن طبيعة النظام السياسي والعلاقة بين مؤسساته، وبخاصة العلاقة بين الرئيس وبرلمانه. كان واضحا منذ البداية التأسيس “الدستوري” والسياسي لنظام سياسي تُمنح فيه صلاحيات مطلقة لرئيس الجمهورية، ويُجرّد فيه البرلمان من صلاحياته الرقابية والتعديلية، ويُصبح مجرّد “وظيفة تشريعية” خاضعة لوظيفة أخرى تتمتع بصلاحيات ونفوذ أكبر منه: الوظيفة التنفيذية. وكان برَزَ توجه من داخل السلطة يهدف إلى عزل البرلمان سياسيا والحدّ من الصلاحيات القليلة التي يتمتع بها النواب. من الأمثلة على ذلك المُذكرة التي أرسلها وزير الداخلية الأسبق كمال الفقيه إلى الولاة[3]، في أفريل 2023 (بعيد تنصيب البرلمان الجديد) يُشير فيها إلى أن دور النائب “تشريعي” بالأساس وفقا لدستور 2022، وأن المهام الرقابية ومتابعة مخططات التنمية معهودة إلى مجلس الجهات والأقاليم. وامتثالاً إلى هذه المذكّرة، رفض العديد من الولاة إجراء جلسات مع النواب (مثلما كان معمولا به في البرلمانات السابقة).
الانحسار باتجاه “الوظيفة التشريعية الدنيا” خيّم على مجمل العمل البرلماني طيلة سنة كاملة، منذ تنصيبه في 13 مارس 2023. وهو ما لاحظه تقرير الجمعية التونسية للدفاع عن الحقوق الفردية من خلال الإشارة إلى أن البرلمان “ركّزَ على إصدار القوانين المتعلقة بالموافقة على الاتفاقيات واتفاقيات القروض التي أبرمتها الجمهورية التونسية مع دول أخرى لتمويل مشاريع التنمية أو الموافقة على اتفاقيات التعاون مع الدول الأوروبية أو الآسيوية أو المنظمات الدولية”.[4] كما أنه انخرط في التضييق على وسائل الإعلام، من خلال اتخاذ قرار يقضي بحرمان وسائل الإعلام الخاصة والأجنبية من مواكبة الجلسة العامة المخصصة للتصويت على النظام الداخلي للمجلس.
“اللاّحرية” والهشاشة الاقتصادية
يسحَبُ قطاع الإعلام في تونس وراءه تركة ثقيلة من الهشاشة الاقتصادية والرقابة والتوظيف السلطويّ، امتدّت على أكثر من نصف قرن في ظلّ حكم الرئيسين بورقيبة وبن علي. وظلّت هذه التّرِكَة تُلاحق القطاع رغم مناخ الانفتاح السياسي وحريات النشر والصحافة والتعبير والحق في العمل النقابي التي توفّرت في السنوات التي أعقبت الثورة. ولكن التحوّل الكبير نحو إنتاج وضع أكثر هشاشة اقتصادية وأقل حرية، ستأتي به سنوات الحكم الفردي بعد 25 جويلية 2021. ما زال المئات من الصحفيين التونسيين يعملون في ظروف اقتصادية وقانونية هشة، في ظل عدم الالتزام الحكومي والمؤسساتي بتوفير أطر شغلية وتعاقدية تُوفر ظروف عمل لائقة لأصحاب المهنة، فما زالت حتى اليوم الجهات الرسمية تتملّص من تطبيق الاتفاقية الإطارية المشتركة للصحفيين الممضاة مع الحكومة منذ سنة 2019، رغم صدور حكم قضائي إداري يقضي بنشر الاتفاقية في الرائد الرسمي. بالإضافة إلى الأزمة الهيكلية التي يعاني منه الإعلام العمومي، على غرار التلفزة العمومية التونسية، التي عادت مجددا إلى سياسة “التوجيهات”[5] الحكومية والرئاسية، من خلال التدخل في مضامينها الإعلامية وسياستها التحريرية.
بالإضافة إلى هذا، فإن مناخ “اللاحريّة” السائد اليوم في تونس -بخاصة مع اقتراب موعد للانتخابات الرئاسية- يَعِد بحالة من الانغلاق أمام النفاذ إلى مهنة الصحافة ويُهدّد عددًا لا بأس به من الصحفيين بالإحالة على العَطَالة، بخاصة أولئك الذين يتعاطون مع الشأن السياسي العام. كما يُغذي نزعة استبدال الصحافة الجادة والحرفية والتعدديّة بـ”إعلام البروباغاندا” الذي يُسيطر عليه بروفايل “الكرونيكور” الملتزِم بالدفاع عن وجهة النظر الأحادية التي تطرحها السلطة السياسية. وفي سياق مسايرتها لهذا الوضع، عمدَت معظم القنوات الإذاعية والتلفزية إلى استجلاب هذا الفاعل الإعلامي، ليتشكَّلَ بذلك فضاء إعلامي يَسير على أرض خالية من التداول والتسامح، وأقل انفتاحا على مختلف الروايات والمصادر والآراء والشخوص. على هذا الأساس يَلوح تهافت منطق الرهان على التفاوض من أجل تحسين الشروط الاقتصادية والاجتماعية مقابل التنازل عن قدر من الجرأة والحرفية والحرية، لأن الحرية شرط ضروري من أجل الدفاع عن بقية المكتسبات المادية، والتنازل عن ضرورتها الوجودية لقطاع الإعلام، سيُدخله مجددا في نفق الماضي المظلم؛ الذي فُقِدت فيه الحرية والحقوق القطاعية مَعًا.
نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية- تونس العدد 30
لقراءة وتحميل العدد 30 بصيغة PDF
[1] النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، التقرير السنوي لواقع الحريات الصحفية في تونس، 03 ماي 2024.
[2] المرجع نفسه.
[3] كوثر زنطور. مُذكرة من وزارة الداخلية تمنع الولاة من لقاء النواب وتسحب منهم دورهم الرقابي، جريدة الشارع المغاربي، العدد 407، 21 ماي 2024.
[4] سنة من العمل التشريعي (13 مارس 2023- 13 مارس 2024): وظيفة تشريعية دنيا. تقرير الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، تونس، أفريل 2024.
[5] ياسين النابلي. التلفزة التونسية وأشباح العودة إلى توجيهات الرئيس، المفكرة القانونية، 07 مارس 2022.