منذ بداية شهر آذار، نشهد أحداثا استثنائية على صعيد القضاة والمحامين، بعضها هو حصيلة تراكمات لسنوات طويلة. فمنذ انتهاء الحرب، ينتظم العاملون في هاتين المهنتين في أطر هرميّة تتحكم بهم، من دون أن يكون لهم أيّ دور مباشر أو فعّال في إدارة شؤونها أو حتى في مراقبة القيمين عليها، سواء في مجلس القضاء الأعلى أو في مجلس نقابة المحامين. وعليه، بدت هاتان المهنتان اللتان تتوليان جهاز العدالة وكأنهما تُداران من فوق، وبمنأى عن أي مساءلة وبشروط تبقى فيها الشفافية بحدها الأدنى. ولهذه الغاية، تطوّرت خلال هذه الفترة الكثير من الممارسات والمفاهيم، بعضها مرتبط بتقاليد هي في طور الزوال عالميا كموجب التحفظ، وبعضها صُنع في لبنان، لمنع أي حراك قد ينشأ داخل هاتين المهنتين كمنع المحامين من إنشاء لجان أو جمعيات مهنية. هذا الأمر لقي مؤخرا تحولا كبيرا في كلا المهنتين. فما أن أنهى القضاة بنجاح معركتهم ضد تعديّات السلطات السياسية على حقوقهم والتي اضطروا خلالها إلى مواجهة مجلس القضاء الأعلى ومعارضته، أعلن عدد من محامي بيروت أنهم سيقتدون بالقضاة للدفاع عن حقهم بالتأمين الصحي، في مواجهة السياسات المتبعة من مجلس نقابة بيروت والتي أدت إلى تحميلهم أعباء كبيرة. وعدا عن أهمية هذه الخطوة، فإنها تشكل حالة مميزة بدا فيها المحامون وكأنهم يستمدون مشروعية حراكهم من حراك القضاة.
في هذا المقال، سنستعيد أبرز معالم هذين الحراكين، لنبين من ثم التأثيرات الإيجابية التي قد تنجم عنهما وعن إمكانية التفاعل بينهما على إصلاح منظومة العدالة في لبنان.
الحراك القضائي 2017-2018:
استقلالية القضاة "الداخلية"
يعود الحراك القضائي إلى آذار 2017. فعلى خلفية مقترح يتيح للحكومة المسّ بتقديمات صندوق تعاضد القضاة، أنشأ القضاة مجموعتي واتساب ضمّتا مئات القضاة لتعزيز التواصل والتنسيق فيما بينهم، والأهم لتشارك المعلومات والتداعي لاجتماعات عامة.
واللافت أن القضاة أبقوا على هاتين المجموعتين رغم صدور تعميم من مجلس القضاء الأعلى بوجوب الانسحاب منهما تحت طائلة المسؤولية التأديبية (وهذا ما وصفته المفكرة بالوقفة الجميلة). وتعززت وسائل عمل القضاة مع استخدام "الواتساب" لإطلاق عرائض، أهمها العريضة التي وقعها أكثر من 352 قاضيا بالطريقة الالكترونية للمطالبة بتعزيز ضمانات استقلاليتهم. ويلحظ أن من أهم عناوين الإصلاحات المطالب بها في العريضة هو تعديل كيفية تعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى، مما يؤشر إلى اقتناع القضاة أن الطريقة المعتمدة حاليا (والتي تولي الحكومة حق تعيين 8 من أصل أعضاء المجلس العشرة) إنما تؤدي إلى إنشاء مجلس مرتبط عضويا بالسلطة السياسية وتاليا مجلس أكثر ميلا لحماية مصالح السلطة السياسية منه إلى حماية حقوق القضاة.
في الاتجاه نفسه، وبعد أيام من توقيع العريضة، عمد القضاة إلى تغيير تسمية مجموعتي الواتساب من "قضاة لبنان" إلى "نادي قضاة لبنان"، بما يؤشر إلى إرادة القضاة في الدفاع عن حقوقهم مباشرة من دون الاكتفاء بالمراهنة على مجلس القضاء الأعلى. أمام هذا الواقع الجديد، لم تجد الهرمية القضائية ممثلة بمجلس القضاء الأعلى وهيئة التفتيش القضائي حرجا في ممارسة ملاحقات تأديبية أو التلويح بها بحق العديد من القضاة منظمي مجموعتي الواتساب أو الفاعلين فيها، أو القضاة الذين انتقدوا تسييس التشكيلات القضائية (تشكيلات الأحزاب الثلاثة) وشخصنتها بمعزل عن مبادئ الكفاءة أو أيضا القضاة الذين لوحوا بمقاطعة مراقبة العملية الانتخابية في حال عدم تحقيق مطالبهم المالية.
وما أن تسرّب مضمون مشروع قانون الموازنة العامة 2018 الآيل إلى تخفيض التقديمات الاجتماعية لصندوق تعاضد القضاة، حتى أعلن القضاة في منتصف آذار أنهم سيعتكفون عن العمل حتى تحقيق مطالبهم. وقد فاجأ القضاة الجميع بإصرارهم على الاستمرار باعتكافهم رغم معارضة مجلس القضاء الأعلى له والضغوط التي مارسها لثنيهم عنه. وهم بذلك دخلوا للمرة الأولى منذ 1982 في مواجهة مباشرة مع مجلس القضاء الأعلى. وتأكيدا على توجههم هذا، وقع عشرات القضاة خطيا ومن ثم إلكترونيا على موافقة مبدئية على إنشاء نادٍ للقضاة يتولى الدفاع عن حقوقهم. فضلا عن أن العشرات منهم أعلنوا خلال جمعية عمومية دعا إليها مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 19 آذار 2018 إلى التوجه جماعيا إلى هيئة التفتيش القضائي، بما يعكس إصرارا استثنائيا على مواجهة سلاح الهرمية القضائية التقليدي الذي هو التهديد بالملاحقة التأديبية لضمان الصمت. وقد تطورت المواقف في هذا المجال انطلاقا من شعار أساسي: "كيف نحمي حقوق الناس إذا كنا عاجزين عن حماية حقوقنا؟"
في اليوم التالي، سيشهد لبنان تبادلا غير مألوف للرسائل بين وزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى (20 و21 آذار). فبعدما حمّل الأول الثاني مسؤولية عجزه عن ضبط القضاة الذين خرجوا عن سلطته، تنصل الثاني من هذه المسؤولية من خلال الاعتراف للمرة الأولى أن القضاة مستقلون بحكم الدستور وليس لهم أي رئيس يأتمرون به. بعد أيام (26 آذار)، انضم مجلس القضاء الأعلى للحراك القضائي متبنيا اعتكافهم الذي سعى في البداية إلى إحباطه. وبعد أيام (29 آذار)، رضخ المجلس النيابي لمطالب الحراك القضائي، الذي سجل بذلك انتصارا ثمينا سيبقى علامة فارقة في تاريخ القضاء، ومدعاة لتطوير حراك يضمن للقضاة بيئة عمل أفضل.
حراك المحامين ينطلق على خلفية شبهة فساد:
لننتصر كما انتصر القضاة
الأثر الأول لانتصار القضاة لم ينتظر طويلا. فبعد أقل من أسبوع من انتصار القضاة، انعقدت همة المحامين على الاقتداء بهم، أملا بانتصار مشابه. وقد حصل ذلك تبعا لإعلان نقابة المحامين في 4 نيسان 2018 بيروت تعديلا جذريا على الشروط المالية المفروضة على المحامين لتأمين صحتهم وصحة عائلاتهم وموظفيهم. وقد تم تبرير ذلك بحصول عجز في صندوق استشفاء النقابة نتيجة إنشاء الصندوق الاستشفائي تجاوز الثمانية ملايين دولارا أميركيا وفق ما أعلنه نقيب محامي بيروت اندريه الشدياق في جمعية عمومية دعا إليها بتاريخ 29/3/2018 وأنه يتعين تاليا على المحامين تمويل هذا العجز من خلال زيادة اشتراكاتهم ورسوم التأمين خلال السنوات القادمة.
فما أن سرى الإعلان، حتى تداعى عدد من المحامين إلى اجتماع في بيت المحامي، والأهم إلى إنشاء مجموعتين، الواحدة على الواتساب تحت تسمية "دفاعاً عن كرامة المحامي" وصفحة على الفايسبوك تحت تسمية "نادي الحقوقيين"، وذلك بهدف تعزيز التواصل والتضامن فيما بينهم. وسرعان ما قارب عدد المنضمون إلى صفحة الفايسبوك 450 محاميا فيما زاد عدد المنضمين إلى مجموعة الواتساب على 200 محاميا. والأرقام آخذة بالتصاعد. وقد استند حراك المحامين على شعار أساسي يستلهم من الشعار الذي تحرك القضاة على أساسه. ففيما تساءل القضاة عن كيفية حماية حقوق الناس في حال كانوا عاجزين عن حماية حقوقهم، تساءل المحامون عن كيفية الدفاع عن حقوق الناس إذا كانوا عاجزين عن الدفاع عن حقوقهم.
وأكثر ما يستهجنه المحامون هو أن مجلس النقابة ما زال يعتّم على الأسباب الحقيقية لتراكم العجز، في موازاة تحميلهم تسديد فاتورته الكبيرة. وعليه، وبمعزل عن الاختلافات بين أسباب حراكي القضاة والمحامين، فإن ما يجمعهما هو أن كلاهما يستمد سبب وجوده من قناعة بعدم قدرة المجلس المعني بتنظيم المهنة (مجلس القضاء الأعلى ومجلس نقابة المحامين) أو عدم رغبته بحماية مصالح أعضاء المهنة المعنية لأسباب مختلفة، الأمر الذي يستوجب تنظيم تحركات اعتراضية مباشرة.
وفيما تبدو معركة المحامين أسهل من معركة القضاة طالما أنها تتمحور حول عقد مع شركة خاصة ولا تتطلب أي تعديل تشريعي، فإنها في الواقع لا تقل عنها تعقيدا لأسباب عدة، أبرزها الآتية:
- أنها المعركة الجماعية الأولى التي يخوضها المحامون للدفاع عن مصلحة مهنية بمعزل عن مجلس النقابة، أقله منذ انتهاء حرب 1975-1990، وذلك بخلاف الحراك القضائي الذي ثابر عليه القضاة طوال سنة متواصلة (آذار 2017-آذار 2018)، قبلما تصلب إرادتهم الجماعية وينجحون في فرض مطالبهم. وما يزيد من صعوبة المعركة هو أنه يتعين عليهم إنضاج التواصل والتضامن فيما بينهم وتوحيد استراتيجية المعركة وأولياتها في زمن قياسي تحت طائلة فقدان امكانية تجديد عقود التأمين الصحي. وقد جاء تأخير إعلان مجلس النقابة لرسوم التأمين الجديدة وتقصير مهلة تجديدها (مجرد أيام) ليحدّ من امكانية الاعتراض في هذا المضمار ويضعضع أي امكانية لتنظيم مقاطعة فعلية،
- أن المعركة لا ترمي فقط لتجاوز عجز مجلس النقابة أو تقصيره عن التحرك كما حصل مع القضاة، ولكنها تأخذ في عمقها معركة ضد مجلس النقابة نفسه على خلفية تستره على حقيقة أسباب العجز، وربما تستره على أعمال فساد. هذا فضلا عن أن العديد من أعضاء المجلس الحاليين كانوا أعضاء في المجلس السابق الذي أقر الانتقال من التأمين العادي إلى إنشاء الصندوق الاستشفائي، أو يرتبطون بعلاقات وطيدة مع الأشخاص الذين عرّبوا هذا القرار،
- أن لمجلس النقابة وسائل وأسلحة كثيرة تمكنه من كبح هذا الحراك. يكفي أن نشير إلى الممارسات المعتمدة منه بشطب المحامين بقرار إداري من دون محاكمة وتاليا من دون تمكينهم من ممارسة حق الدفاع (الذي انوجدت النقابة أصلا من أجله)، وهي ممارسة استخدمت مؤخرا ضد عدد من المحامين لأسباب متفرقة، كما تم التلويح بها ضد عدد من المحامين الناشطين. كما يسجل سعي إلى التعتيم على المسألة وإخراجها من الخطاب العام. وهذا ما نتبينه من طرد الصحافيين (ومنهم مراسل قناة المنار ومراسلة المفكرة القانونية) من اجتماع المحامين في "بيت المحامي". كما نتبينه من التعميم الصادر عن النقيب الشدياق بتاريخ 13 آذار 2018 على المحامين ب "التوقف فوراً عن تناول أي موضوع من أي نوع كان متعلّق بشؤون نقابة المحامين على وسائل التواصل الإجتماعي وأي وسيلة إعلامية أخرى". هذا فضلا عن أن حادثة شطب المحامي محمد مغربي من جدول عام المحامين على خلفية انتقاده لمجلس النقابة ومداعاتها بقرار تأديبي ما تزال حاضرة في ذاكرة المحامين كشاهد على خطورة انتقاد مجلس النقابة.
أي أبعاد إيجابية لحراكي القضاة والمحامين؟
ليس بإمكان أحد أن يتنبأ اليوم بمآل حراكي القضاة والمحامين، وتحديدا فيما إذا كان القضاة سينجحون في إنشاء ناديهم أو إذا كان المحامون سينجحون في تسجيل أي مكاسب على صعيد ضمان الاستشفاء وشبهة الفساد التي تحوم حوله. إنما يبقى هذان الحراكان بحد ذاتهما عامل أمل، لأسباب عدة، أبرزها الآتية:
- أنهما يسهمان في نشوء فضاءات عامة لأصحاب هاتين المهنتين تخولهم تطوير الروح المهنية وآدابها، مما يعزز مشاعر التضامن فيما بينهم، وتصوراتهم لأدوارهم الاجتماعية، فتنحسر الهيمنة الحزبية والولاءات وما يستتبعها من قرارات تفرض من فوق لصالح تقدم القيم والمسؤوليات المهنية. وهذا ما سينعكس إيجابا على منعة القضاة إزاء أي تدخل خارجي أو أيضا على انتخابات نقابة المحامين، وبشكل أعم على البيئة المحيطة لكلا المهنتين،
- نشوء تفاعل ولو غير مباشر بين حراكي القضاة والمحامين، على نحو يقوّي كلاهما ويعكس صورة حقيقية عن أحوال منظومة العدالة، وهو شرط تمهيدي أساسي لمعالجتها. ولتبيان أهمية ذلك، يكفي التدقيق في العلاقة الحالية بين مجلس نقابة المحامين ومجلس القضاء الأعلى والتي تقوم على المجاملة واحترام اختصاصات الآخر على قاعدة (هذا لكم) و(هذا لنا) من دون أي مساءلة أو تفاعل أو نقاش جدي حول عوامل الخلل داخل القضاء أو سبل معالجتها. وعليه، تصبح مسألة إصلاح القضاء واستقلاله من منظور مجلس النقابة اختصاصا حصريا لمجلس القضاء الأعلى ليس له التدخل فيه، وينتفي إذ ذاك أي دور للمحامين في إصلاح القضاء، وهي طبعا مسألة عبثية طالما لا يعقل أن يمارس المحامي مهنته بشكل موافق لآدابها بغياب قاضٍ مستقل وفاعل.
وهذا ما يؤكده ليس فقط استقالة مجلس النقابة عن دوره في هذا الشأن بشكل دائم ومتواصل، إنما أيضا رؤية أعضائه والتي غالبا ما تختزل العمل على استقلال القضاء بإنشاء هيئة مشتركة مع مجلس القضاء الأعلى تنتهي إلى معالجة جوانب لوجستية أو إجرائية ثانوية، دون التطرق أبدا إلى جوهر المشكلة. وعليه، يبقى الحديث عن استقلال القضاء وإصلاحه من باب الأدبيات العامة من دون أن يكون للنقابة أي دور أساسي فيه. وفي هذا السياق، ورغم تشديد نقيب المحامين اندره شدياق في تصريح سابق للمفكرة عن وجوب وضع قانون لاستقلال القضاء، فإن موقفه المعلن في الجمعية العمومية المنعقدة في آذار 2018 من اعتكاف القضاة والذي رفض فيه إبداء أي رأي بشأن مطالب القضاة خشية أن تنجرّ النقابة إلى ما أسماه "حربا أهلية" جاء ليعكس مجددا استقالة النقابة من دورها في هذا الخصوص.
ولعل مرد ذلك هو أن عددا كبيرا من أعضاء كلا المجلسين يحصلون على بطاقة دخولهم إليهما، سواء حصل ذلك بالتعيين أو بالانتخاب، من الأحزاب الممثلة في السلطة الحاكمة. وبفعل ذلك، يصبح المجلسان في عمقهما بدرجة أو بأخرى، بمثابة ذراعين لجسم واحد تحركه إرادة واحدة. وبالطبع، يؤمل أن يتغير هذا الوقع بقدر ما تنحسر هيمنة المصالح السياسية أمام امتداد القيم المهنية، فيعود المحامي كما يفترض أن يكون، المدافع والحصن الأول للقاضي الفاعل والمستقل.
فإلى الأمام. آن للعدلية أن تستعيد الأمل بمستقبل أفضل.